أنا ضباب يا مي؛ أنا ضباب يغمر الأشياء ولكن لا يتحد وإياها؛ أنا ضباب وفي الضباب وحدتي، وفيه انفرادي ووحشتي، جوعي وعطشي. ومصيبتي هي أن الضباب وهو حقيقتي، يتوق إلى استماع قائل يقول: لست وحدك ونحن اثنان، أنا أعرف من أنت!
أخبريني يا مي، أفي ربوعكم من يقدر ويريد أن يقول لي: أنا ضباب آخر أيها الضباب؛ فتعال نخيم على الجبال وفي الأودية، تعال نسير بين الأشجار وفوقها، تعال نغمر الصخور المتعالية، تعال ندخل إلى قلوب المخلوقات وخلاياها، تعال نطوف في تلك الأماكن البعيدة المنيعة غير المعروفة؟ قولي يا مي: أيوجد في ربوعكم من يريد ويقدر أن يقول لي ولو كلمة واحدة من هذه الكلمات؟
أرأيت إلى هذا الأسلوب الجديد في الأدب والحب؟ أرأيت إلى جبران الإنسان تحترق في موقد العذاب خلجات نفسه، وإلى جبران الفنان تنتشر في متحف الإبداع لوحات أفكاره؟ إنه الرجل الذي يعيش في الضباب ويود أن يلمح من خلاله شبح أنثى، أو بارقة عطف، أو طيف أمل؛ وها هو ذا ينادي، ينادي أنثاه نداء الوحدة والغربة، والانفراد والوحشة، والجوع والعطش، ترى هل فهمت لغة نفسه، ووعت منطق شعوره، وتذوقت في النداء حرارة الدعاء؟ إن الأنوثة الخامدة تقدم إليك هذا الجواب:
لقد قصصت شعري؛ وعندما ترى من صديقاتك بعد اليوم يا جبران من هن في هذا الزي يمكنك أن تذكرني، وأن تقول لهن في سرك إنك تعرف من يشبههن! كنت إلى شهور راغبة في التخلص من هذه الذوائب، التي يقولون إن لطولها يدا في قصر عقل المرأة، وهو افتراء طبعا. ولكن عندما رأيت شعري بحلكته وتموجه الجميل وعقاربه الجريئة مطروحا أمامي، تداعبه يد المزين شعرت بأسف على هذه الخسارة! غير أن المزين طيب خاطري بعبارات، تكسرت فيها الكلمات الألمانية والإيطالية، وهو روماني على ما يقول، فهل كان في وسعي أن أضحك؟ لقد مضى يصف لي جمال الشعر القصير ومنافعه ومميزاته، لا سيما وأنه، على ما زعم المزين الصالح، يليق لي كثيرا؛ وسألته إلى كم امرأة يقول كل هذه الكلمات، فأجاب : «أنت فيلسوفة!» أرأيت هذه الفيلسوفة التي تسعى إلى قص شعرها ثم تحزن عليه، ثم تضحك لأن المزين يعزيها عن فقده بكلمات مسرحية؟!
هذه هي المرأة التي كان يخاطبها جبران؛ المرأة التي كان يخاطبها بلغة الشعر فتخاطبه بلغة الشعر، ويحدثها عن قلبه وهو بين يدي الأشواق، فتحدثه عن رأسها وهو بين يدي الحلاق، وإنه لحديث الأنوثة المكفنة بأثواب العدم، ومن حولها صرخة من أصدق صرخات الوجود!
أنوثة مقتولة ولو التمست لها مي شتى الأسباب والمعاذير، ولو حاولت أن تبرر شذوذها وهي تقول لجبران في رسالة سابقة، تمهد بها لهذا الشذوذ:
جبران! لقد كتبت كل هذه الصفحات ضاحكة لأتحايد كلمة الحب؛ إن الذين لا يتاجرون بمظاهر الحب ودعواه في السهرات والمراقص والاجتماعات، ينمي الحب في أعماقهم قوة ديناميتية رهيبة، قد يغبطون عليها الذين يوزعون عواطفهم في اللألاء السطحي؛ لأنهم لا يقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر، ولكنهم يغبطون الآخرين على راحتهم دون أن يتمنوها لنفوسهم، ويفضلون وحدتهم ويفضلون تضليل قلوبهم عن ودائعها، والتلهي بما لا علاقة له بالعاطفة.
ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكنني أعرف أنك محبوبي وأني أخاف الحب. إني أنتظر من الحب كثيرا، فأخاف ألا يأتيني بكل ما أنتظر! أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير، الجفاف والقحط واللاشيء في الحب خير من النزر اليسير؛ كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا، وكيف أفرط فيه؟ لا أدري! الحمد لله أنني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به؛ لأنك لو كنت الآن حاضرا بالجسد لهربت خجلا بعد هذا الكلام ولاختفيت زمنا طويلا، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى!
حتى الكتابة ألوم نفسي عليها أحيانا؛ لأني بها حرة كل الحرية؛ أتذكر قول القدماء من الشرقيين إنه خير للبنت ألا تقرأ ولا تكتب. إن القديس توما يظهر هنا، وليس ما أبدي هنا أثر الوراثة فحسب، بل هو شيء أبعد من الوراثة. قل أنت ما هو هذا؟ وقل لي ماذا كنت على ضلال أو هدى، فإني أثق بك وأصدق بالبداهة كل ما تقول.
أصدق ما يقال هنا عن هذا التمهيد أنه متعمد ومقصود، أو أنه حركة بارعة من حركات التغطية والتعمية والإيهام؛ تزعم مي أنها تخشى الحب، ولو صدقت لقالت إنها لا تستطيع أن تتذوقه؛ لأنها كما سبق القول قد فقدت أبرز الخصائص عند المرأة الطبيعية! تخشى الحب ولماذا تخشاه؟ ألأنه قد يأتيها بالنزر اليسير، وهي لا ترضى بما دون الكثير؟ وما هذا الكثير إن لم يكن هو الرباط المقدس في منظار حواء؟ لقد لوح لها جبران يوما بهذا الأمل المشتهى عند كل أنثى، فلم يلق منها غير الصد والإعراض؛ لقد أرادتها صداقة فكرية وأرادها جبران علاقة وجدانية، وها هي مي ترفض عرضه وتدور حول هذا المعنى بهذه الكلمات: ... لقد فهمت ما أريد وإنما في غير معناه الحقيقي، وفهمته على وجه لم أقصده! ثم سطت عليك الكبرياء، كبرياء الرجل، فنسيت أن السكوت لا يحسن بيننا على هذه الصورة، نحن اللذين تكاتبنا أبدا كصديقين مفكرين؛ آلمني سكوتك من هذا القبيل، وأرهف انتباهي، فأعلمني أنك لم تشاركني ارتياحي إلى تلك الصداقة الفكرية؛ لأنك لو كنت سعيدا بها مثلي لما كنت رميت إلى أبعد منها! وصار معنى سكوتك عندي: «إما ذاك وإما لا شيء»، وأنت أدرى بأثر هذا في نفسي!
Page inconnue