الثالثة: إذا أشكل على الناظر حكم شيء فلينظر إلى مفسدته وثمرته وغايته.
وأخيرًا حاكمَهم إلى الذوق، فذكر أن عبودية القلب في حالتَي الحزن والفرح هي الصبر والشكر، فصرفَه الشيطان عنهما إلى صوتين أحمقين فاجرين هما النوح والغناء، ومنافاتهما للصبر والشكر أمر معلوم من الدين بالضرورة، لا يشك فيه إلّا أبعد الناس من العلم والإيمان. ومعلوم عند الخاصة والعامة أن فتنة سماع الغناء والمعازف أعظم من فتنة النوح بكثير.
وفي الموضع الثاني من "المدارج" ذكر أن القلب يتغذى بالسماع كما يتغذى الجسم بالطعام والشراب، فإن كان العبد محبًّا صادقًا طالبًا لله عاملًا على مرضاته كان غذاؤه بالسماع القرآني، وإن كان منحرفًا فاسد الحال مغرورًا مخدوعًا كان غذاؤه السماع الشيطاني. والسرّ في ذلك أن الله جعل للقلب نوعين من الغذاء: نوعًا من الطعام والشراب الحسي، وللقلب منه خلاصته وصفوه، والنوع الثاني: غذاء روحاني معنوي من السرور والفرح، والابتهاج واللذة، والعلوم والمعارف. وبهذا الغذاء كان سماويًّا علويًّا، وبالغذاء المشترك كان أرضيًا سفليًا، وقوامه بهذين الغذاءين، وله ارتباط بكل واحدة من الحواس الخمس. وتعلق القلب بالسمع وارتباطه به أشدّ من تعلقه بالبصر، ولذا كان تأثُّره به أشدّ. وقد يكون المسموع شديد التأثير في القلب، ولا يشعر به صاحبه لاشتغاله بغيره، ولمباينة ظاهره لباطنه ذلك الوقت، فإذا حصل له نوع
المقدمة / 37