آثار الإمام ابن القيم الجوزية وما لحقها من أعمال (٨)
الكافية الشافية في الانتظار للفرقة الناجية
تأليف
الإمام أبي عبد الله محمد أبي بكر بن أيوب بن قيم الجوزية (٦٩١ - ٧٥١)
تحقيق وتعليق
محمد بن عبد الرحمن العريفي - ناصر بن يحيى الحنيني - عبد الله بن عبد الرحمن الهذيل - فهد بن علي المساعد
تنسيق
محمد أجمل الإصلاحي
إشراف
بكر بن عبد الله أبو زيد
دار عطاءات العلم - دار ابن حزم
المتن / 1
رَاجَع هَذَا الجُزْءَ
محمد عزير شمس
سُعُود بن عَبْدِ العَزِيزِ العرِيفي
المتن / 3
تصدير
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فكان من فضل الله ﷿ أن وفّق لإصدار نشرة علمية لكتاب «الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية» المعروف بنونية ابن القيم ﵀. وقد اعتُمد في تحقيق الكتاب على سبع نسخ خطية منها نسخة نفيسة نقلت عن نسخة سمعها الحافظ ابن رجب الحنبلي بقراءة والده على الناظم ﵀ قبل وفاته بستة أشهر. وقد جاء هذا العمل مع الشروح والتعليقات والمقدمة والفهارس في ثلاثة مجلدات استغرقت نحو ١٤٥٠ صفحة.
أما هذا المجلد الذي يحتوي على متن الكتاب فقط دون الشروح والتعليقات وغيرها، فقد توخينا به تقريب النونية على وجه آخر، فإن من قرائها من يرغب في حفظها واستظهارها، فيحتاج إلى استصحابها في حله وترحاله، ومنهم من يحب قراءة الأبيات قراءة متصلة، ومنهم من يريد تصفحها ومراجعتها على عجل. فمن أجلهم رأَينا أن نشر المتن وحده كاملًا في مجلد واحد يخف حمله ويسهل تناولُه.
والمأمول من القاريء الكريم - إذا خفي عليه معنى النص، أو استشكل شيئا من ضبطه وتحريره، أو رآه مخالفة لما في الطبعات الأخرى
المتن / 5
من الكتاب - أن يرجع إلى النشرة المطوَّلة التي هي أصل هذه النشرة المجرَّدة.
نسأل الله أن ينفع بهذا العمل، وأن يتقبل سعي العاملين في هذا المشروع المبارك - إن شاء الله - والقائمين عليه، إنه قريب مجيب.
المتن / 6
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي شهدتْ له بالربوبيةِ جميعُ مخلوقاته. وأقرَّتْ له بالعبوديةِ جميعُ مصنوعاتِه. وأدّت له الشهادةَ جميعُ الكائنات أنّه الله الذي لا إله إلّا هو بما أودعها مِن لطيفِ صُنْعِه وبديع آياته. وسبحان الله وبحمده عددَ خلقِه، ورضا نفسِه، وزِنةَ عرشِه، ومِدادَ كلماتِه. ولا إله إلَّا الله، الأحد
الصمد، الذي لا شريك له في ربوبيته، ولا شبيه له في أفعالِه ولا في صفاتِه، ولا في ذاته. والله أكبر، عددَ ما أحاط به علمُه، وجرى به قلمُه، ونفذ فيه حكمُه من جميع بريّاته. ولا حول ولا قوة إلا بالله، تفويضَ عبدٍ لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا، ولا حياةً، ولا نشورًا، بل هو بالله وإلى الله في مبادئِ أمره ونهاياتِه. وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، ولا صاحبة له، ولا ولد له، ولا كفؤ له، الذي هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه أحدٌ مِن جميع بريّاتِه.
وأشهد أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وأمينُه على وحيه، وخِيرتُه من بريّته، وسفيرُه بينه وبين عباده، وحجّتُه على خلقِه. أرسله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا. أرسله على حينِ فَترةٍ من الرّسُل، وطُموسٍ من السّبُل، ودُروسٍ من الكتب. والكفرُ قد اضْطَرَمت نارُه، وتطايرَ في الآفاق شرارُه. وقد استوجبَ أهلُ الأرضِ أن يَحِلَّ بهم العقابُ، وقد نظر الجبّارُ ﵎ إليهم فمَقَتَهم عربَهم وعجمَهم إلّا بقايا من أهل الكتاب. وقد استند كلُّ قوم إلى ظُلَم آرائِهم، وحكموا على اللهِ سبحانه بمقالاتهم الباطلة وأهوائهم. وليلُ الكفرِ مُدْلَهِمٌّ
المتن / 7
ظلامُه، شديدٌ قتامُه. وسبيلُ الحقِّ عافيةٌ آثارُه، مطموسةٌ أعلامُه. ففلَقَ اللهُ سبحانه بمحمّد ﷺ صبحَ الإيمان، فأضاء حتى ملأ الآفاقَ نورًا، وأطلع به شمسَ الرسالة في حَنادِسِ الظُّلَمِ سراجًا منيرًا، فهدَى به من الضلالة، وعلَّم به من الجهالة، وبصَّرَ به من العمَى، وأرشدَ به من الغيّ، وكثَّرَ به بعد القلّة، وأعزَّ به بعد الذلّة، وأغنَى به بعد العَيْلة، واستنقذ به من الهَلَكة، وفتح به أعيُنًا عُمْيًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلْفا.
فبلّغَ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصَحَ الأمّة وجاهدَ في الله حقَّ جهاده، وعَبَد اللهَ حتى أتاه اليقين من ربّه. وشرح الله له صدرَه، ورفع له ذكرَه، ووضع عنه وِزرَه، وجعل الذلّةَ والصَّغارَ على من خالف أمرَه.
وأقسم بحياته في كتابه المبين. وقرَنَ اسمَه باسمِه، فإذا ذُكِر ذُكِر معه، كما في الخطب والتشهد والتأذين. فلا يصحّ لأحد خطبةٌ ولا تشهدٌ ولا أذانٌ ولا صلاةٌ، حتى يشهد أنه عبده ورسوله شهادة اليقين. فصلّى اللهُ وملائكتُه وأنبياؤه ورسلُه وجميعُ خلقِه عليه، كما
عرّفنا بالله وهدانا إليه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإنّ الله جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه إذا أراد أن يكرم عبده بمعرفته، ويجمع قلبه على محبته، شرح صدره لقبول صفاته العلا، وتلقيها من مِشكاة الوحي. فإذا ورد عليه شيء منها قابله بالقبول، وتلقّاه بالرضا والتسليم، وأذعن له بالانقياد. فاستنار به قلبه، واتسع له صدره، وامتلأ به سرورًا ومحبة. وعَلِم أنه تعريف من تعريفات الله تعالى، تعرَّفَ به إليه على لسان رسوله، فأنزل تلك الصفة من قلبه منزلةَ الغذاء أعظمَ ما كان إليه فاقة، ومنزلةَ الشفاء أشدَّ ما كان إليه حاجة. فاشتدّ بها فرحُه، وعظم بها غناه، وقويت بها معرفته، واطمأنّت إليها نفسه، وسكن إليها قلبه. فجال من المعرفة في ميادينها، وأسام عينَ
بصيرتِه بين رياضها وبساتينها، لِتيقّنه بأنّ شرفَ العلم تابعٌ لِشرفِ معلومِه، ولا معلومَ أعظمُ وأجلُّ ممّن هذه صفتُه، وهو ذو الأسماء الحسنى والصفات العلا؛ وأنَّ شرَفه أيضًا بحسب الحاجة
المتن / 8
إليه، وليست حاجةُ الأرواح قطُّ إلى شيء أعظمَ منها إلى معرفة بارئها وفاطرها، ومحبته، وذكره، والابتهاج به، وطلب الوسيلة إليه، والزلْفى عنده. ولا سبيل إلى هذا إلّا بمعرفةَ أوصافه وأسمائه، فكلّما كان العبد بها أعلَم كان بالله أعرَف، وله أطلَب، وإليه أقرَب. وكلّما كان لها أنكَر كان بالله أجهَل، وإليه أكرَه، ومنه أبعَد. والله تعالى يُنْزِل العبد من نفسه حيث يُنزِله العبدُ من نفسه.
فمن كان لذكر أسمائه وصفاته مبغضًا، وعنها مُعرضًا نافرًا ومنفِّرًا، فالله له أشدُّ بغضًا، وعنه أعظمُ إعراضًا، وله أكبرُ مقتًا، حتى تعود القلوب على قلبين:
قلبٌ ذكرُ الأسماءِ والصفاتِ قوتُه وحياتُه، ونعيمُه وقُرّةُ عينِه، لو فارقه ذكرُها ومحبّتُها ساعةً لاستغاث: يا مقلِّبَ القلوب ثبِّت قلبي على دينك. فلسان حاله يقول:
يُرادُ مِن القلبِ نسيانُكم ... وتأبَى الطباعُ على الناقل
ويقول:
وإذا تقاضيتُ الفؤادَ تناسِيًا ... ألفيتُ أحشائي بذاك شِحاحًا
ويقول:
إذا مرِضنا تداوَينا بذكركم ... فنتركُ الذكرَ أحيانًا فننتكِسُ
ومن المحال أن يذكر القلب مَن هو محاربٌ لصفاته، نافرٌ من سماعها، معرضٌ بكلّيته عنها، زاعمٌ أنّ السلامة في ذلك. كلّا والله، إنْ هو إلّا الجهالة والخِذْلان، والإعراض عن العزيز الرحيم، فليس القلب الصحيح قطُّ إلى شيء أشوقَ منه إلى معرفة ربه تعالى، وصفاته وأفعاله وأسمائه، ولا أفرحَ بشيء قطُّ كفرحه بذلك. وكفى بالعبد خِذلانًا أن يُضرَبَ على قلبه سُرادِقُ الإعراضِ عنها والنَّفرةِ والتنفيرِ، والاشتغالِ بما لو كان حقًّا لم ينفع إلا بعد معرفة الله تعالى والإيمان به وبصفاته وأسمائه.
المتن / 9
والقلب الثاني: قلبٌ مضروبٌ بسِياط الجهالة، فهو عن معرفة ربه ومحبّته مصدود، وطريقُ معرفةِ أسمائه وصفاته كما أُنزِلتْ عليه مسدود، قد قَمَشَ شُبَهًا من الكلام الباطل، وارتوَى من ماءٍ آجن غير طائل، تَعُجُّ منه آياتُ الصّفاتِ وأحاديثُها إلى الله عجيجًا، وتضِجُّ منه إلى مُنْزِلها ضجيجًا، مما يسومها تحريفًا وتعطيلًا، ويُولي معانيها تغييرًا وتبديلًا. قد أعدّ لدفعها أنواعًا من العُدَد، وهيّأ لردّها ضروبًا من القوانين، وإذا دُعي إلى تحكيمها أبى واستكبر، وقال: تلك أدلّة لفظية لا تفيد شيئًا من اليقين. قد اتّخذ التأويلَ جُنّةً يَتترَّسُ بها من مواقع سهام السنّة والقرآن، وجعل إثباتَ صفاتِ ذي الجلال تجسيمًا وتشبيهًا يَصُدُّ به القلوبَ عن طريق العلم والإيمان. مزْجَى البضاعة من العلم النافع الموروث عن خاتمِ الرسل والأنبياء، لكنه مليء بالشكوك والشُّبَه والجدال والمِراء. خلع عليه الكلامُ الباطلُ خِلعةَ الجهلِ والتجهيل، فهو يتعثرّ في أذيالِ التكفير لأهل الحديث والتبديع لهم والتضليل. قد طاف على أبواب الآراء والمذاهب، يتكفّفُ أربابَها، فانثنى بأخسِّ المواهِب والمطالِب. عَدَلَ عن الأبواب العالية الكفيلة بنهاية المراد وغاية الإحسان، فابتلي بالوقوف على الأبواب السافلة المليئة بالخيبة والحرمان. قد لبس حُلّةً منسوجةً من الجهل والتقليد والشبه والعناد، فإذا بُذِلت له النصيحةُ، ودُعِيَ إلى الحقّ، أخذته العزّة بالإثم، فحسبه جهنم ولبئس المهاد.
فما أعظم المصيبةَ بهذا وأمثاله على الإيمان! وما أشدَّ الجنايةَ به على السنّة والقرآن! وما أحبَّ جهادَه بالقلب واليد واللسان إلى الرحمن! وما أثقلَ أجرَ ذلك الجهاد في الميزان!
والجهاد، بالحجّة والبيان مقدّم على الجهاد بالسيف والسنان. ولهذا أمر به تعالى في السور المكية حيث لا جهاد باليد إنذارًا وتعذيرًا. فقال تعالى: ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (٥٢)﴾ [الفرقان: ٥٢]. وأمر تعالى بجهاد المنافقين والغلظة عليهم مع كونهم بينَ أظهُرِ المسلمين في
المتن / 10
المقام والمسير، فقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣)﴾ [التوبة: ٧٣]. فالجهادُ بالعلم والحجّة جهادُ أنبياءِ الله ورسله وخاصّته من عباده المخصوصين بالهداية والتوفيق والاتفاق، ومن مات ولم يغزُ، ولم يحدِّثْ نفسَه بغزو مات على شعبة من النفاق.
وكفى بالعبد عَمًى وخِذلانًا أن يرى عساكرَ الإيمان، وجنودَ السنّة والقرآن، قد لبِسُوا للحرب لأمتَه، وأعدُّوا له عُدّتَه، وأخذوا مصافَّهم، ووقفوَا مواقفَهم، وقد حمِي الوطيسُ، ودارت رحى الحرب، واشتدّ القتال، وتنادت الأقرانُ نَزَالِ نَزَالِ، وهو في المَلْجأ والمغارات والمُدَّخَل مع الخوالف كمين. وإذا ساعد القدرُ وعزم على الخروج قعد فوق التل مع الناظرين، ينظر لمن الدائرة ليكون إليهم من المتحيزين، ثم يأتيهم وهو يقسم بالله جَهدَ أيمانه: إنّي كنتُ معكم وكنت أتمنى أن تكونوا أنتم الغالبين.
فحقيق بمن لنفسه عنده قَدْر وقيمة أن لا يبيعَها بأَخسِّ الأثمان، وأن لا يعرضها غدًا بين يدي الله ورسوله لمواقف الخزي والهوان، وأن يثبِّت قدمَه في صفوف أهل العلم والإيمان، وأن لا يتحيّزَ إلى مقالةٍ سوى ما جاء في السنّة والقرآن.
فكأنْ قد كُشِف الغِطَاء، وانجلى الغبار، وأبان عن وجوه أهل السنة مسفرة ضاحكة مستبشرة، وعن وجوه أهل البدعة عليها غَبَرة، ترهقها قَتَرة، يوم تبيضُّ وجوه وتسودُّ وجوه. قال ابن عباس ﵄: تبيضُّ وجوهُ أهل السنة والجماعة، وتسودُّ وجوهُ أهل البدعة والفرقة.
فوالله لَمُفَارَقةُ أهلِ الأهواءِ والبدع في هذه الدار أسهلُ مِن مرافقتهم إذا قيل: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ [الصافات: ٢٢]. قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁ وبعده الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أزواجهم: أشباههم ونظراؤهم. وقد قال تعالى:
﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧)﴾ [التكوير: ٧]، فجُعِل صاحبُ الحق مع نظيره في درجته، وصاحبُ الباطل مع نظيره في
المتن / 11
درجته. هنالك والله يعضُّ الظالم على يديه، إذا حصلت له حقيقة ما كان في هذه الدار عليه ﴿يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (٢٧) يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (٢٩)﴾ [الفرقان: ٢٧ - ٢٩].
فصل
وكان مِن قدر الله وقضائه أن جمع مجلسُ المذاكرة بين مُثبتٍ للصفات والعلو ومعطّلٍ لذلك، فاستطعم المعطّلُ المثبتَ الحديثَ استطعامَ غيرِ جائعٍ إليه، ولكن غرضه عرض بضاعته عليه، فقال له: ما تقول في القرآن ومسألة الاستواء؟ فقال المثبت: نقول فيهما ما قال ربنا ﵎ وما قاله نبينا محمد ﷺ. نصف الله تعالى بما وصف به نفسَه وبما وصفه به رسولُه من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل. بل نثبت له
﷾ ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، وننفي عنه النقائص ومشابهة المخلوقات، إثباتًا بلا تمثيل وتنزيهًا بلا تعطيل. فمن شبه الله تعالى بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسَه أو وصفه به رسولُه تشبيهًا. فالمشبّه يعبد صنمًا، والمعطّل يعبد عدمًا، والموحّد يعبد إلهًا واحدًا صمدًا، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١].
والكلام في الصفات كالكلام في الذات، فكما أنا نثبت ذاتًا لا تشبه الذوات، فكذا نقول في صفاته إنّها لا تشبه الصفات. فليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. فلا نشبّه صفاتِ الله بصفات المخلوقين.
ولا نزيل عنه سبحانه صفةً من صفاته لأجل شناعة المشنِّعين، وتلقيب المفترين. كما أنّا لا نبغض أصحابَ رسولِ الله ﷺ لتسمية الروافض لنا نواصب، ولا نكذّب بقدر الله تعالى ونجحد كمال مشيئته وقدرته لتسمية
المتن / 12
القدرية لنا مُجْبِرة، ولا نجحد صفاتِ ربنا ﵎ لتسمية الجهمية والمعتزلة لنا مجسّمةً مشبّهةً حَشْويةً، كما قيل:
فإن كان تجسيمًا ثبوتُ صفاتِه ... تعالى فإنّي اليومَ عبدٌ مجسِّمُ
ورضي الله عن الشافعي إذ يقول:
إن كان رفضًا حبُّ آلِ محمَّدٍ ... فَلْيشهدِ الثَّقلانِ أنّي رافضي
وقدَّس الله روح القائل [وهو شيخ الإسلام ابن تيمية] إذ يقول:
إن كان نَصْبًا حبُّ صَحْبِ محمّدٍ ... فَلْيشهَدِ الثَّقَلانِ أنّي ناصبي
وأما القرآن فإني أقول إنّه كلام الله، منزَّل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، تكلم الله به صدقًا، وسمِعَه جبريل منه حقًا، وبلّغه محمدًا ﷺ وحيًا. وأنّ ﴿كهيعص (١)﴾ [مريم: ١]، ﴿حم (١) عسق (٢)﴾ [الشورى الآيتان/ ١ - ٢]، و﴿ق﴾ [ق/ ١]، و﴿ن﴾ [القلم/ ١] عين كلام الله تعالى حقيقة. وأنّ الله تكلم بالقرآن [٤/ أ] العربي الذي سمعه الصحابة من رسول الله ﷺ. جميعُه كلامُ الله وليس قولَ البشر، ومن قال إنه قول البشر فقد كفر، والله يصليه سقر، ومن قال ليس لله في الأرض كلام فقد جحد رسالة محمد ﷺ، فإن الله بعثه يُبلِّغ عنه كلامَه، والرسول إنما يبلِّغ كلامَ مُرسِله. فإذا انتفى كلام المرسِل انتفت رسالة الرسول.
ونقول: إن الله تعالى فوق سماواته مستوٍ على عرشه، بائنٌ مِن خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. وإنّه تعالى إليه يصعَد الكلم الطيّب، وتعرُج الملائكة والروح إليه. وإنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرُج إليه.
وإن المسيح رُفِع بذاته إلى الله وإن رسولَ الله ﷺ عُرِج به إلى الله حقيقة. وإن أرواح المؤمنين تصعد إلى الله عند الوفاة، فتُعرَض عليه، وتقف بين يديه. وإنه تعالى هو القاهر فوق عباده وإن المؤمنين والملائكة المقربين يخافون ربَّهم من فوقهم.
المتن / 13
أيدي السائلين تُرفَع إليه، وحوائجَهم تُعرَض عليه. وإنه سبحانه العلي الأعلى بكل اعتبار.
فلما سمع المعطل منه ذلك أمسك، ثم أسرّها في نفسه، وخلا بشياطينه وبني جنسه، وأوحى بعضهم إلى بعض أصناف المكر والاحتيال، ورامُوا أمرًا يستحمِدون به إلى نُظَرائهم من أهل البدع والضلال، وعقدوا مجلسًا بَيَّتُوا في مساء ليلته ما لا يرضاه الله من القول، والله بما يعملون محيط.
وأتوا في مجلسهم ذلك بما قدَروا عليه من الهذَيان واللَّغْط والتخليط، ورامُوا استدعاءَ المثبتِ إلى مجلسهم الذي عقدوه، ليجعلوا نُزُلَه عند قدومه عليهمَ ما لفّقوه من الكذب ونمّقوه. فحبَس الله سبحانه عنه أيديَهم وألسنتَهم، فلم يتجاسروا عليه، وردّ الله كيدهم في نحورهم فلم يصلوا بالسوء إليه، وخذلهم المُطَاعُ فمزّق ما كتبوه من المحاضر، وقلَبَ الله قلوب أوليائه وجندِه عليهم من كلِّ بادٍ وحاضر. وأخرج الناس لهم من المخبَّآتِ كمائنَها، ومن
الجَوائفِ والمُنقِّلات دفائنَها. وقوَّى اللهُ جأشَ المُثْبتِ، وثبَّت لسانه، وشيّد بالسنة المحمدية بنيانه. فسعى في عقد مجلس بينه وبين خصومه عند السلطان، وحكّم على نفسه كتب شيوخ القوم السالفين، وأئمتهم المتقدمين. وأنّه لا يستنصر من أهل مذهبه بكتاب ولا إنسان، وأنّه جعل بينه وبينكم أقوالَ من قلّدتموه، ونصوص من على غيره من الأئمة قدّمتموه. وصرّح المثْبِتُ بذلك بين ظهرانيْهم حتى بلّغه دانيهم لقاصيهم فلم يُذعِنوا لذلك
واستعفَوا من عقْدِه فطالبهم المُثْبتُ بواحدة من خِلال ثلاث:
مناظرة في مجلس عام على شَريطةِ العلم والإنصاف، تُحضَر فيه النصوصُ النبوية والآثارُ السلفية، وكتبُ أئمتكم المتقدمين من أهل العلم والدين. فقيل لهم: لا مراكبَ لكم تسابقون بها في هذا الميدان، وما لكم بمقاومة فُرسانه يدان.
فدعاهم إلى مكاتبةٍ بما يدعون إليه، فإن كان حقًّا قبلَه وشكركم عليه،
المتن / 14
وإن كان غير ذلك سمعتم جوابَ المثبت، وتبيّن لكَم حقيقةُ ما لديه. فأبَوا ذلك أشدّ الإباء، واستعفَوا غاية الاستعفاء.
فدعاهم إلى القيام بين الركن والمقام قيامًا في مواقف الابتهال، حاسري الرؤوس نسأل الله أن يُنزل بأسَه بأهل البدع والضلال. وظنّ المثبتُ واللهِ أن القوم يجيبون إلى هذا، فوطّن نفسه عليه غاية التوطين، وبات يحاسب نفسه ويعرض ما يثبته وينفيه على كلام رب العالمين، وعلى سنة خاتم المرسلين، ويتجرد عن كل هوى يخالف الوحي المبين، ويهوي بصاحبه في أسفل السافلين. فلم يجيبوا إلى ذلك أيضًا، وأتوا من الاعتذار، بما دلّ على أن القوم ليسوا من أولى الأيدي والأبصار.
فحينئذ شمّر المثبتُ عن ساق عزمه، وعقد لله مجلسًا بينه وبين خصمه. يشهده القريب والبعيد، ويقف على مضمونه الذكيّ والبليد. وجعله عقدَ مجلس التحكيم بين المعطِّل الجاحد والمُثبِت المرمي بالتجسيم.
وقد خاصم في هذا المجلس بالله وحاكمَ إليه، وبرِئَ إلى الله من كل هوى وبدعة وضلالة، وتحيُّزٍ إلى فئةٍ غيرِ رسول الله ﷺ وما كان أصحابه عليه. والله سبحانه المسؤول أن لا يكِلَه إلى نفسه ولا إلى شيء مما لديه، وأن يوفقه في جميع حالاته لما يحبه ويرضاه، فإنّ أزِمّةَ الأمور بيدَيه.
وهو يرغب إلى من يقف على هذه الحكومة أن يقومَ لله قيامَ متجرِّدٍ عن هواه، قاصدًا لرضا مولاه؛ ثم يقرأها متفكرًا، ويعيدَها ويبدئَها متدبرًا؛ ثم يحكمَ فيها بما يرضي الله ورسوله وعباده المؤمنين، ولا يقابلَها بالسبِّ والشتم كفعل الجاهلين والمعاندين.
فإن رأى حقًّا قَبله وشكَر عليه، وإن رأى باطلًا ردّه على قائله وأهدى الصواب إليه، فإنّ الحقّ لله ورسولِه، والقصدُ أن تكون كلمةُ
السنة هي العليا، جهادًا في الله وفي سبيلِه. واللهُ عندَ لسانِ كلِّ قائل وقلبه، وهو المطّلع على نيتهِ وكسبِه. وما كان أهلُ التعطيل أوليَاءَه، إن أولياؤه إلّا المتقون المؤمنون المصدّقون. ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)﴾ [التوبة: ١٠٥].
المتن / 15
فصل
وهذه أمثال حسان مضروبة للمعطِّل والمشبِّه والموحِّد ذكرتُها قبل الشروع في المقصود، فإن ضربَ الأمثال مما يأنس به العقلُ لتقريبها المعقول من المشهود.
وقد قال تعالى - وكلامه المشتمل على أعظم الحجج وقواطع البراهين- ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (٤٣)﴾ [العنكبوت: ٤٣]. وقد اشتمل منها على بضعة وأربعين مثلًا، وكان بعض السلف إذا قرأ مثلًا لم يفهمه اشتدّ بكاؤه، ويقول: لست من العالمين. وسنفرد لها إن شاء الله كتابًا مستقلًاّ متضمنًّا لأسرارها ومعانيها وما تضمنته من فنون العلم وحقائق الإيمان.
وبالله المستعان وعليه التكلان.
المثل الأول: ثيابُ المعطِّل ملطَّخةٌ بعَذِرَةِ التحريف، وشرابه متغيّر بنجاسة التعطيل. وثيابُ المشبِّهَ متضمِّخَةٌ بدم التشبيه، وشرابه متغيّر بفَرْث التمثيل. والموحد طاهر الثوب والقلب والبدن، يخرج شرابه من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين.
المثل الثاني: شجرةُ المعطِّل مغروسةٌ على شفا جُرُفٍ هارٍ.
وشجرةُ المشبِّه قد اجتُثث من فوق الأرض ما لها من قرار. وشجرةُ الموحّد أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أُكُلَها كل حين بإذن ربّها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون.
المثل الثالث: شجرةُ المعطّل شجرةُ الزَّقُّوم، فالحلوق السليمة لا تبلعُها. وشجرةُ المشبِّه شجرةُ الحنظَل، فالنفوس المستقيمة لا تتبعُها. وشجرةُ الموحِّد طُوبَى يسير الراكب في ظلّها مائةَ عام لا يقطعُها.
المثل الرابع: المعطِّل قد اتخذ قلبَه لوقاية الحر والبرد بيتَ العنكبوت. والمشبّه قد خُسِف بعقله، فهو يتَجلْجَلُ في أرض التشبيه إلى البَهْمُوت. وقلبُ الموحّد يطوف حول العرش ناظرًا إلى الحيّ الذي لا يموت.
المثل الخامس: مصباح المعطّل قد عصَفت عليه أهوِيةُ التعطيل،
المتن / 16
فطَفِئَ وما أنار. ومصباحُ المشبّه قد غرِقتْ فتِيلتُه في عَكَر التشبيه، فلا يقتبس منه الأنوار. ومصباحُ الموحّد يتوقَّدُ من شجرة مباركة زيتونةٍ لا شرقيّة ولا غربيّة، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسَسْه نار.
المثل السادس: قلب المعطِّل متعلّق بالعدَم، فهو أحقرُ الحقير. وقلب المشبِّه عابدُ الصنم الذي قد نُحِتَ بالتصوير والتقدير. والموحّدُ قلبُه متعبّدٌ لمن ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير.
المثل السابع: نقودُ المعطّل كلُّها زُيوف فلا تروج علينا. وبضاعةُ المشبِّه كاسدةٌ، فلا تَنْفقُ لدينا. وتجارةُ الموحِّد ينادى عليها يومَ العَرْض على رؤوس الأشهاد: هذه بضاعتنا رُدَّت إلينا.
المثل الثامن: المعطِّل كنافخ الكِير إما أن يُحرِق ثيابَك، وإمّا أن تجد منه ريحًا خبيثة. والمشبهُ كبائع الخَمر إمّا أن يُسكِرك، وإمّا أن يُنجِّسك. والموحد كبائع المسك إما أن يُحذِيَكَ، وإمّا أن يبيعَك، وإمّا أن تجدَ منه رائحةً طيبة.
المثل التاسع: المعطّل قد تخلّف عن سفينة النجاة، ولم يركبها، فأدركه الطوفان. والمشبّه قد انكسرت به في اللُّجّة، فهو يشاهد الغرَق بالعيَان. والموحّد قد ركِب سفينةَ نوح، وقد صاح به الرُّبّان: ﴿ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [هود: ٤١].
المثل العاشر: مَنْهلُ المعطِّل كسراب بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، فرجع خاسئًا حسيرًا. ومشربُ المشبّه من ماء قد تغير طعمه ولونه وريحه بالنجاسة تغييرًا. ومشربُ الموحّد من كأس كان مزاجها كافورًا، عينًا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرًا.
وقد سميتها بالكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية وهذا حين الشروع في المحاكمة، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
المتن / 17
١ - حُكْمُ المَحَبَّةِ ثابتُ الأَركانِ ... مَا لِلصُّدُودِ بِفَسْخِ ذاكَ يَدانِ
٢ - أنَّى وقاضي الحُسْنِ نَفَّذَ حُكمَها ... فَلِذَا أَقرَّ بِذلك الخَصْمانِ
٣ - وأَتَتْ شُهودُ الوَصْلِ تَشْهدُ أَنّهُ ... حَقًّا جَرَى في مَجْلسِ الإِحسانِ
٤ - فَتأكَّد الحُكْمُ العَزِيزُ فَلَمْ يَجِدْ ... فَسْخُ الوُشاةِ إلَيْهِ مِنْ سُلْطانِ
٥ - ولأَجلِ ذا حُكْمُ العَذولِ تَداعَتِ الْـ ... أَرْكَانُ مِنْهُ فَخَرَّ للأَرْكانِ
٦ - وأتى الوشاةُ فَصَادَفُوا الحُكْمَ الذي ... حَكَمُوا به مُتَيَقَّنَ البُطلانِ
٧ - ما صادفَ الحُكمُ المَحَلَّ ولا هُوَ اسْـ ... ـتَوْفَى الشُّرُوطَ فَصارَ ذا بُطلانِ
٨ - فلِذاكَ قَاضِي الحُسنِ أَثْبتَ مَحْضَرًا ... بِفسَادِ حُكمِ الهَجْر والسُّلْوانِ
٩ - وحَكَى لك الحُكْمَ المُحَالَ ونَقْضَه ... فاسْمَعْ إذًا يا مَنْ لَهُ أُذنَانِ
١٠ - حَكَمَ الْوشَاةُ بغير ما بُرهانِ ... أنَّ المحبَّةَ والصُّدودَ لِدانِ
١١ - واللهِ ما هذا بِحُكْمٍ مُقْسِطٍ ... أين الغرامُ وصَدُّ ذِي هِجرَانِ
١٢ - شَتَّان بَينَ الحالَتَيْن فَإنْ تُرِد ... جَمْعًا فَما الضِّدَّانِ يَجْتَمعانِ
١٣ - يَا وَالِهًا هانَتْ عَلَيهِ نَفْسُهُ ... إذْ بَاعَها غَبْنًا بِكلِّ هَوَانِ
١٤ - أتَبيعُ مَنْ تَهْواهُ نَفْسُك طائِعًا ... بالصَّدِّ والتَّعذِيبِ والهِجْرانِ
المتن / 19
١٥ - أجَهِلْتَ أوصافَ المَبِيعِ وقَدْرَهُ ... أمْ كُنتَ ذَا جَهْلٍ بِذِي الأَثْمانِ
١٦ - واهًا لِقَلْبٍ لا يُفارِقُ طَيرُه الْـ ... أَغْصانَ قائمةً على الكُثبانِ
١٧ - وَيظلُّ يشجَعُ فَوقَهَا ولغيرِه ... منهَا الثِّمارُ وكلُّ قِطْفٍ دَانِ
١٨ - وَيبيتُ يَبْكِي والمُواصِلُ ضاحِكٌ ... وَيَظَلُّ يَشْكُو وهْوَ ذُو شُكْرانِ
١٩ - هَذا ولو أنَّ الجَمَال معلَّقٌ ... بالنَّجمِ هَمَّ إليهِ بالطَّيَرانِ
٢٠ - للهِ زَائِرةٌ بلَيلٍ لَمْ تَخَفْ ... عَسَسَ الأميرِ ومَرْصَدَ السَّجَّانِ
٢١ - قَطعتْ بِلادَ الشَّامِ ثُمَّ تَيمَّمَت ... مِن أَرْضِ طَيْبَةَ مَطلِعَ الإِيمانِ
٢٢ - وأتَتْ على وادِي العَقيقِ فَجاوزَتْ ... مِيقَاتَهُ حِلًّا بِلَا نُكرانِ
٢٣ - وأَتَتْ عَلى وَادِي الأَرَاكِ ولَمْ يَكنْ ... قَصْدًا لَهَا فَأْلًا بأنْ سَتَراني
٢٤ - وأتتْ على عَرَفَاتِ ثُم مُحسِّرٍ ... وَمِنىً فَكم نَحَرَتْه من قُربَانِ
٢٥ - وأتتْ على الجَمَراتِ ثُم تَيمَّمتْ ... ذاتَ السُّتور وربَّةَ الأرْكانِ
٢٦ - هذا وما طافَتْ ولا اسْتلَمَتْ ولا ... رَمَتِ الجِمَارَ ولا سَعَتْ لِقِرَانِ
٢٧ - وعَلَتْ على أَعْلَى الصَّفَا فَتَيمَّمتْ ... دَارًا هُنَالِك للمحِبِّ العَاني
٢٨ - أَتُرى الدَلِيلَ أعارَها أَثْوابَهُ ... والرِيحَ أَعْطتْها مِنَ الخَفَقَانِ
٢٩ - وَاللَّهِ لَو أنَّ الدَليلَ مكَانَها ... ما كانَ ذلِكَ مِنهُ في إِمكَانِ
٣٠ - هَذا ولَوْ سَارتْ مَسِيرَ الريحِ مَا ... وَصَلتْ بِه لَيْلًا إلى نَعْمانِ
٣١ - سَارَتْ وكانَ دَلِيلَها فِي سَيْرِها ... سَعْدُ السُعودِ وليسَ بالدَّبَرانِ
٣٢ - [وَرَدَتْ جِفَارَ الدَمْع وهي غَزِيرَةٌ ... فَلِذَاك مَا احتَاجَتْ وُرُودَ الضَّانِ]
٣٣ - وَعَلَتْ عَلَى مَتْنِ الهَوَى وتَزَوَّدَتْ ... ذكْرَ الحَبيبِ ووصْلَهُ المتدَانِي
٣٤ - وَعَدَتْ بِزَوْرَتِهَا فأَوْفَتْ بالّذي ... وَعَدَتْ وكانَ بِمُلتَقَى الأجْفَانِ
٣٥ - لَم تَفْجَأِ المُشْتاقَ إلا وهْي دا ... خِلَةُ السُّتُورِ بِغَير مَا اسْتِئذانِ
٣٦ - قالتْ وقدْ كَشَفَتْ نِقابَ الْحُسْنِ ما ... بالصَبرِ لي عَنْ أنْ أَرَاكَ يَدانِ
٣٧ - وَتحَدّثَتْ عِندِي حَديثًا خِلْتُه ... صِدْقًا وقَد كَذَبتْ به العَينَانِ
المتن / 20
٣٨ - فَعَجِبتُ مِنهُ وقُلتُ من فَرَحِي بِهِ ... طَمَعًا وَلكِنَّ المَنامَ دهَاني
٣٩ - (إنْ كُنتِ كاذبةَ الذِي حَدَّثْتِني) ... فَعَلَيكِ إثمُ الكاذِبِ الفتَّانِ
٤٠ - جَهْمِ بنِ صفوانٍ وشيعتِه الأُلى ... جَحدُوا صِفاتِ الخَالِق المنّانِ
٤١ - بَلْ عطَّلوا منهُ السَّماواتِ العُلَى ... والعَرْشَ أَخْلَوهُ مِنَ الرَّحْمنِ
٤٢ - ونَفَوْا كَلَامَ الرَّبِّ ﷻ ... وقَضَوْا له بالخَلْقِ والحِدْثَانِ
٤٣ - قَالُوا ولَيْسَ لربِّنَا سَمْعٌ وَلَا ... بَصَرٌ وَلَا وَجْهٌ فَكَيف يَدانِ
٤٤ - وكَذاكَ لَيسَ لِربِّنا مِنْ قُدرةٍ ... وإرادةٍ أَو رحْمَةٍ وحَنَانِ
٤٥ - كلَّا ولا وصْفٌ يقومُ به سِوَى ... ذاتٍ مُجرَّدَةٍ بِغَيْرِ مَعَانِ
٤٦ - وحياتُهُ هِيَ نفسُه وكلامُه ... هوَ غَيرُهُ فاعْجَبْ لِذَا البُهْتانِ
٤٧ - وَكَذاكَ قَالوا مَا لَهُ مِنْ خَلْقهِ ... أحدٌ يَكونُ خلِيلَهُ النَّفْسَانِي
٤٨ - وخَلِيلُهُ المُحْتَاجُ عِندَهُمُ وفِي ... ذَا الوَصْفِ يَدْخلُ عَابِدُ الأَوْثَانِ
٤٩ - فالكُلُّ مُفْتَقِرٌ إليهِ لِذاتِهِ ... في أَسْرِ قَبضتِهِ ذليلٌ عانِ
٥٥ - ولأَجلِ ذَا ضَحَّى بِجَعْدٍ خالِدُ الـ ... ـقَسْرِيُّ يومَ ذَبائِحِ القُرْبَانِ
٥١ - إذْ قَالَ: إبْرَاهيمُ لَيْسَ خَليلَهُ ... كَلَّا وَلَا مُوسى الكَليمَ الدَّانِي
٥٢ - شكَرَ الضَّحِيَّةَ كُلُّ صَاحِبِ سُنَّةٍ ... للهِ دَرُّكَ مِنْ أَخِي قُرْبَانِ
* * *
فصلٌ
٥٣ - وَالعَبْدُ عنْدهُمُ فَلَيسَ بفَاعِلٍ ... بَلْ فِعْلُه كَتَحرُّكِ الرَّجْفَانِ
٥٤ - وهُبُوبِ رِيحٍ أو تَحرُّكِ نائِمٍ ... وتَحَرُّكِ الأَشجارِ للمَيَلانِ
٥٥ - وَاللهُ يُصْليهِ عَلى مَا لَيْس مِنْ ... أفْعَالِهِ حَرَّ الحَمِيمِ الآنِي
٥٦ - لكِنْ يُعاقِبُهُ عَلى أَفْعَالِهِ ... فِيهِ تَعالَى اللهُ ذو الإحسَانِ
٥٧ - وَالظُلْمُ عِندَهُمُ المُحَالُ لِذاتِهِ ... أنَّى يُنزهُ عَنهُ ذو السُّلطانِ
المتن / 21
٥٨ - وَيكونُ مَدْحًا ذَلِكَ التَّنْزِيهُ مَا ... هَذا بِمَعْقولٍ لدى الأذْهَانِ
* * *
فصلٌ
٥٩ - وَكَذاكَ قَالُوا مَا لهُ مِنْ حِكْمَةٍ ... هِي غَايةٌ لِلأَمْرِ والإِتْقَانِ
٦٠ - مَا ثَمَّ غَيْرُ مشِيئةٍ قَدْ رجَّحَتْ ... مِثْلًا عَلى مِثْلٍ بِلا رُجْحَانِ
٦١ - هَذا وَما تِلْكَ المَشِيئَةُ وصفَهُ ... بَلْ ذَاتُهُ أو فِعْلُهُ قَولَانِ
٦٢ - وَكَلَامُهُ مُذْ كانَ غَيْرًا كَانَ مَخْـ ... ـلُوقًا لَهُ منْ جُمْلَةِ الأكْوَانِ
٦٣ - قَالُوا وإقْرارُ العِبَادِ بأَنَّه ... خلَّاقُهم هُوَ مُنْتَهَى الإيْمَانِ
٦٤ - وَالنَّاسُ فِي الإيمَانِ شَيْءٌ وَاحِدٌ ... كَالمُشطِ عنْدَ تَمَاثُلِ الأسْنانِ
٦٥ - فَاسْألْ أبَا جَهْلٍ وَشيعَتَهُ وَمَنْ ... وَالَاهُمُ مِنْ عَابِدي الأوْثانِ
٦٦ - وسَلِ اليَهودَ وكُلَّ أَقْلَفَ مُشْرِكٍ ... عَبَدَ المَسِيحَ مُقَبِّلَ الصُّلْبَانِ
٦٧ - واسْأَلْ ثَمُودَ وَعادَ بَلْ سَلْ قَبْلَهُمْ ... أعْدَاءَ نُوحٍ أُمّةَ الطُّوفَانِ
٦٨ - واسْألْ أَبَا الجِنِّ اللعِينَ أَتَعْرِفُ الـ ... ـخلَّاقَ أَمْ أَصْبَحْتَ ذَا نُكْرانِ
٦٩ - واسألْ شِرَارَ الخَلْقِ أَعْنِي أُمَّةً ... لُوطِيَّة هُمْ ناكِحُو الذُكْرَانِ
٧٠ - واسألْ كَذاكَ إمَامَ كُلِّ مُعَطِّلٍ ... فِرعَونَ مَعْ قَارُونَ مَعْ هَامَانِ
٧١ - هلْ كانَ فِيهِمْ مُنكرٌ لِلْخالِقِ الرَّ ... بِّ العَظيمِ مُكوِّنِ الأَكْوانِ
٧٢ - فَلْيُبْشِرُوا مَا فِيهِمُ مِنْ كافِرٍ ... همْ عنْدَ جَهمٍ كَامِلو الإيمانِ
* * *
فصلٌ
٧٣ - وَقَضَى بِأَن اللهَ كانَ مُعطَّلًا ... والفِعلُ مُمتَنِعٌ بِلَا إمْكَانِ
٧٤ - ثُمَّ اسْتحَالَ وصَارَ مَقْدُورًا لَهُ ... مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ قَامَ بالدَّيَّانِ
المتن / 22
٧٥ - بَل حَالُهُ سُبحَانَهُ فِي ذَاتِهِ ... قبْلَ الحُدُوثِ وَبَعْدَهُ سِيَّانِ
٧٦ - وَقَضَىَ بِأَن النَّارَ لَم تُخلَقْ وَلا ... جَنَّاتُ عَدْنٍ بَلْ هُمَا عَدَمَانِ
٧٧ - فَإذَا هُمَا خُلِقَا لِيَومِ مَعادِنَا ... فَهُمَا عَلى الأَوْقَاتِ فانِيَتَانِ
٧٨ - وَتَلَطَّفَ العَلَّافُ مِنْ أَتْبَاعِهِ ... فأَتى بضُحْكَةِ جاهلٍ مَجَّانِ
٧٩ - قَالَ: الفَناءُ يَكونُ في الحَرَكاتِ لَا ... فِي الذَّاتِ واعجَبَا لِذَا الهَذَيانِ
٨٠ - أَيَصِيرُ أَهْلُ الخُلْدِ فِي جَنَّاتِهمْ ... وجَحِيمِهِمْ كَحِجَارَةِ البُنْيَانِ
٨١ - مَا حَالُ مَنْ قَدْ كَانَ يَغْشَى أَهلَهُ ... عِنْدَ انْقِضَاءِ تَحَرُّك الحَيَوانِ
٨٢ - وَكَذاكَ مَا حَالُ الذي رفَعَتْ يَدَا ... هُ أُكْلَةً مِنْ صَحْفَةٍ وخِوَانِ
٨٣ - فَتَنَاهتِ الحَرَكَاتُ قَبلَ وصُولِهَا ... لِلْفَم عِنْدَ تَفَتُّحِ الأَسْنَانِ
٨٤ - وكذاكَ ما حَالُ الذِي امتَدَّتْ يَدٌ ... مِنْهُ إلى قِنْوٍ مِنَ القِنْوانِ
٨٥ - فتَنَاهَتِ الحَرَكَاتُ قَبلَ الأخْذِ هلْ ... يَبْقَى كذلِكَ سَائِرَ الأزْمَانِ
٨٦ - تَبًّا لِهَاتِيكَ العُقُولِ فَإنَّها ... واللهِ قد مُسِخَتْ عَلى الأَبْدانِ
٨٧ - تَبًّا لِمَنْ أضْحَى يُقَدِّمُهَا على الْـ ... آثارِ والأَخبَارِ والقُرآنِ
* * *
فصلٌ
٨٨ - وَقَضَى بِأنَّ اللهَ يَجْعلُ خَلْقَهُ ... عَدَمًا وَيقْلِبُه وُجُودًا ثَاني
٨٩ - العَرْشُ والكُرْسِيُّ والأَرْوَاحُ والْـ ... أَمْلاكُ والأَفْلاكُ والقَمرَانِ
٩٠ - والأَرْضُ والبَحْرُ المُحِيطُ وسَائرُ الْـ ... أكوانِ منْ عَرَضٍ ومِنْ جُثْمَانِ
٩١ - كُلٌّ سَيُفْنِيهِ الْفَنَاءَ المَحْضَ لَا ... يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ كَظِلٍّ فَانِ
٩٢ - ويُعِيدُ ذَا المَعْدومَ أَيضًا ثانيًا ... مَحْضَ الوُجُودِ إعَادَةً بِزَمَانِ
٩٣ - هَذَا المعَادُ وَذَلِكَ المَبْدَا لَدَى ... جَهْمٍ وقَدْ نَسَبُوهُ لِلْقْرآنِ
٩٤ - هَذا الذِي قادَ ابنَ سِينَا والأُلى ... قَالُوا مَقَالتَهُ إِلى الكُفْرانِ
المتن / 23