700
800
900
1000
فإن قلت: إن الذي ذكرته من مزية طريق الجمهور موجود في طريقة الجوهري؛ فإن الجمهور جمعوا في كل فصل بين الكلمات التي تماثل أولها وثانيها، وهو جمع في كل فصل بين الكلمات التي تماثل أولها وآخرها؛ فالاتفاق في حرفين حاصل في الطريقتين، قلت: إن التقارب بين الألفاظ وإن كان موجبا للتقارب بين المعاني إلا أن درجات التقارب مختلفة اختلافا بينا؛ فإن التقارب بين: «كن» و«كند» و«كنز» مما يجتمع في فصل على طريقة الجمهور، أبين من التقارب بين «ركن» و«زكن» و«سكن»، مما يجتمع في فصل على طريقة من رتب كتابه على القوافي؛ فإنه يلتزم رعاية ما قبل الآخر رعاية لمن يلتزم من الأدباء ما لا يلزم. والتقارب فيها أبين من التقارب بين «كمن» و«كان» و«كهن» مما يجتمع في فصل على طريقة الجوهري، وإن كانت هذه الكلمات كلها متقاربة لوجود الكاف والنون فيها أجمع، غير أن الأخيرة قد فصل فيها بين الحرفين حرف أجنبي بخلاف الأولى والثانية، غير أن الأولى قد جعل الحرفان فيها في مبدأ الكلمة، وهي أول ما يقرع السمع، فإذا فرضنا أن «كن» المركبة من الكاف والنون هي أصل هذه المواد المختلفة يكون ظهور معناها في القسم الأول أقوى من الثاني، وفي الثاني أقوى من الثالث.
مثال قريب المنال يتعلق بسر اللغة
ولنتم البحث في هذا المثال؛ فإنه فيما يظهر قريب المنال، فنقول: «الكن» بالكسر: السترة، والجمع: «أكنان»، و«كن» الشيء و«أكنه»: ستره، و«استكن» الشيء: استتر، ومعنى الستر موجود في كل كلمة وجدت في أولها هذه المادة، تقول: «كند» فلان إذا كفر النعمة فهو كنود، وأصل الكفر تغطية الشيء، والكنز: المال المدفون، وقد كنزه من باب ضرب، ويقال: كنزه إذا جمعه وادخره، وكنس الظبي كنوسا: دخل في «كناسه»، وهو مستتره في الشجر؛ لأنه يكنس الرمل حتى يصل، والذي يظهر أن كنس الدار مأخوذ من كنوس الظبي، و«كنع» «كنوعا»: انقبض وانضم وذل وخضع، وكنع عن الأمر: جبن عنه، والكنيف: هو ما يستر من بناء أو حظيرة، ويقال للترس: كنيف؛ لأنه يستر صاحبه، ويقال: كنفت الرجل إذا قمت بأمره وجعلته في كنفك أي حرزك، وكنه الشيء: حقيقته ونهايته وغايته ووقته، يقال: عرفته كنه المعرفة، ولا يشتق منه فعل، وكنيت عن الأمر وكنوت عنه إذا وريت عنه بغيره، وتكنى: تستر، ومنه قول بعضهم: رأيت علجا يوم القادسية قد تكنى، وقيل: تكنى بمعنى ذكر كنيته، وهو من شعار المبارزين في الحرب، يقول أحدهم: أنا فلان وأنا أبو فلان، فالنظر إلى ظهور معنى الستر في أكثر هذا الفصل ظهورا بينا، وأما ما تأخرت الكاف والنون فيه نحو: «تكن» و«ركن» و«زكن» و«سكن» و«عكن» و«لكن» و«مكن» و«وكن »، فيقل ظهور ذلك المعنى فيه إلا في قليل منها نحو: الثكنة بالضم فإنها جاءت بمعنى القبر، وبئر النار، والحفرة التي تكون بمقدار ما يواري الشيء، والنية من إيمان وكفر، ومركز الأجناد ومجتمعهم تحت لواء صاحبهم وإن لم يكن هناك لواء ولا علم، ونحو: «الوكن» و«الوكنة» فإنهما بمعنى «عش الطائر»، وأما «الدكان» وهو الحانوت فإنه معرب، والمعرب لا مدخل له في هذا الباب، فإن وجد فيه المعنى كان من قبيل الصدفة، وأما ما فصل فيه بين الكاف والنون بحرف نحو: «كبن» و«كتن» و«كفن» و«كمن» و«كان» و«كهن»؛ فظهور ذلك فيه أقل مما قبله كما نحو «كفن» و«كمن»، وأما «كبن الشيء»: إذا غيبه، فلعله مأخوذ من خبن، تقول: خبنت الطعام إذا غيبته، والخبنة: ما تحمله في حضنك.
في أن لغة حمير تخالف لغة مضر في كثير من أوضاعهاوتصاريفها وحركات إعرابها
واعلم أن هذا المبحث صعب المسلك؛ فيجب على سالكه أن يكون شديد الانتباه كثير الاحتراز؛ لئلا يدخل عليه كلمة معربة أو ناشئة من غيرها بطريق القلب أو الإبدال ونحو ذلك، والأولى له أن لا يتعرض لغريب اللغة، فربما كان فيه ما هو من لغة حمير وما جرى مجراها، ولغة حمير تخالف لغة مضر في كثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها، وقد حاول بعض من لم يشعر بذلك أن يشتق بعض كلماتها كالقيل من لغة مضر فأغرب، والقيل: الملك من ملوك حمير.
قال بعضهم: أصله قيل بالتشديد كميت، سمي به لأنه يقول ما شاء فينفذ، والقياس في جمع قيل: أقوال، مثل: ميت وأموات، وروي في الحديث: «إلى الأقيال العباهلة.» والقياس الأقوال في جمع فيعل من القول، ويجوز أن يكون الأقيال جمع قيل الذي هو فيعل، من قولهم تقيل أباه: إذا أشبهه، كأن كل ملك يشبهه الآخر في ملكه، كما قيل تبع لما كان يتبع الآخر، قال أبي عمرو بن العلاء: «ما لسان حمير وأقاصي اليمن لساننا، ولا عربيتهم عربيتنا.»
Page inconnue