ولعل قائلا يقول: كيف يحكمون بأن الأصل في الكلم العربية أن تكون على ثلاثة أحرف فما زاد على ثلاثة يكون إما من المزيد فيه أو مما ركب من كلمتين صارتا بعد بطريق النحت كلمة واحدة، وما نقص عن ثلاثة أحرف يكون مما حذف منه شيء، إلا أن تكون الكلمة من قبيل الحرف ك «هل»، و«قد»، أو من قبيل الأسماء المشابهة للحرف ك «من» و«هو»، فإن هذا النوع يحكم فيه بأنه قد نشأ كذلك لعلة يذكرونها، والخليل بن أحمد يسمي مثل: «در» و«رد» ثنائيا، ويفتتح في العين كل حرف من الحروف به، وناهيك قول مثل صاحب «مفتاح العلوم» في مبحث النواصب وهو من العدلية المعروفين بالاعتزال، والخليل من الجماعة الموصوفين بالاعتدال: وأما الناصبة للأفعال فالأصل فيها أن عند الخليل - قدس الله روحه - وقول الخليل يغني عن الدليل:
إذا قالت حذام فصدقوها
فإن القول ما قالت حذام
على أن كثيرا من الباحثين عن أصول اللغات في هذا العصر قد أفضى بهم البحث إلى أن الكلم في اللغات السامية كانت ثنائية في أول الأمر.
فنقول: إن الخليل إنما سمى مثل «در» و«رد» بالثنائي المضاعف؛ وفي لفظ «المضاعف» ما يدل على أنه لم يرد بلفظ الثنائي المعنى الذي تشير إليه، ألا ترى أنه لما ذكر «در» في أول حرف الدال في نوع الثنائي المضاعف منه أتبعه بذكر «دردر» و«دردور»؟ ولا شك أن «دردر» ذو أربعة أحرف، ولكن سماه هو ثنائيا لعدم وجود غير الدال والراء فيه، وهما حرفان وإن كان منهما قد ضوعف، وذكر بعده «الدرد» وهو ذو ثلاثة أحرف، غير أن فاءه ولامه من جنس واحد، و«الددن» وهو ذو ثلاثة أحرف غير أن فاءه وعينه من جنس واحد، ثم لما انقضى الثنائي المضاعف انتقل إلى ذكر الثلاثي الصحيح فذكر فيه ما ذكر من نحو: «دثر» و«درن» و«دفر» وما قلب منها على عادته ... وعلى ذلك جرى في سائر الحروف.
وههنا أمر جدير بأن ينظر فيه، وهو أنهم قالوا إن الأصل في أواخر الكلم أن تكون ساكنة، قال في «المفتاح»: «إن اعتبار أواخر الكلم ساكنة ما لم يعرف عن السكون مانع أقرب لخفة السكون بشهادة الحس، وكون الخفة مطلوبة بشهادة العرف، ولكون السكون أيضا أقرب حصولا لتوقفه على اعتبار واحد، وهو جنسه دون الحركة لتوقفها على اعتبارين: جنسها، ونوعها. فتأمل!»
وعلى هذا يكون المضاعف على حرفين حين الوضع؛ وذلك لأن الكلمات قبل التركيب تبنى على الوقف، وإذا وقف عليه بقي على حرفين فتقول في «قد»: «قد» بسكون الدال، وفي «هل»: «هل» بسكون اللام؛ فتصير قد حين الوقف على صورة قد في قولك: «قد قام»، غير أن بينهما فرقا يشعر به السامع مثل ما يشعر به المتكلم؛ وذلك أن الحرف المشدد إذا وقف عليه يكون الاعتماد عليه أكثر، فيبقى فيه شيء من آثار التشديد، فيشعر السامع بأنه كان قبل الوقف مشددا.
ومن أراد أن يتجاوز هذا الحد عسر عليه ذلك، إلا أن يأخذ بالمذهب الذي تقبله ابن جني بقبول حسن، وهو ما ذكره في «الخصائص» بقوله: «ذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات؛ كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيج الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبي ... ونحو ذلك، ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد.» وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل.
فإن حكاية الأصوات تظهر في المضاعف أكثر مما تظهر في غيره، وإذا استقرأت المضاعف وجدت جله مما يشعر بحكاية صوت، وكثير من ذلك يظهر بأدنى التفات إليه، وكثير منه يحتاج إلى قوة حس وحدس فيبدو لأناس ويخفى على آخرين؛ حتى إن بعض المنكرين يتخيل أن هذا من تأثير التخيل، ويقول: إن هؤلاء لما اعتقدوا أن المضاعف نشأ عن حكاية الأصوات صاروا يتخيلون في المضاعف صوتا يشاكل ما أخذ عنه وإن لم يكن ثم مشاكلة.
قال ابن جني بعد أن أفاض في بيان مناسبة اللفظ للمعنى: «ووراء هذا ما اللطف فيه أظهر والحكمة أعلى وأصنع، وذلك أنهم قد يضيفون إلى اختيار الحروف تشبيه أصواتها بالأحداث المعبر عنها بها ترتيبها وتقديم ما يضاهي أول الحدث وتأخير ما يضاهي آخره وتوسيط ما يضاهي أوسطه؛ سوقا للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المطلوب.
Page inconnue