186

فقه العبادات على المذهب الحنفي

فقه العبادات على المذهب الحنفي

Genres

الركن الثاني - الوقوف بعرفة:
دليله: ما روي عن عبد الرحمن بن يَعْمُر الديلي أن النبي ﷺ قال: (الحج عرفة، فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه) (١) . والمعنى أنه من فاته الوقوف بعرفة في وقته فقد فات حجه، فيطوف ويسعى ويتحلل من الإحرام، ثم يقضي الحج في العام الذي يليه.

(١) ابن ماجة: ج ٢ / كتاب المناسك باب ٥٧/٣٠١٥.
مكان الوقوف وصفته:
ليس المقصود الوقوف ذاته بل مطلق الحضور. فيصح ولو مجتازًا، أو هاربًا، أو طالب غريم، أو نائمًا، أو مجنونًا، أو سكران بأرض عرفة، ولو على دابة أو شجرة.
ويصح الحضور في أي موضع من جبل عرفات إلا بطن عرنة، لما روي عن جابر ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: (ووقفت ههنا، وعرفة كلها موقف) (١) . وعنه أيضًا قال: قال النبي ﷺ: (كل عرفة موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة) (٢) .
وحَدُّ عرفة: من الجبل المشرف على وادي عرنة إلى الجبال المقابلة له، إلى ما يلي منطقة بساتين بني عامر. ويفضل للإمام أن ينزل في مسجد نمرة أولًا وبعد الصلاة ينتقل إلى الموقف.

(١) مسلم: ج ٢ / كتاب الحج باب ٢٠/١٤٩.
(٢) ابن ماجة: ج ٢ / كتاب المناسك باب ٥٥/٣٠١٢.
شرطه:
يشترط أن يكون الوقوف في وقته المخصص، وهو يبدأ من زوال شمس يوم عرفة (التاسع من ذي الحجة)، ويستمر إلى طلوع فجر يوم النحر. والدليل على ذلك حديث عبد الرحمن ابن يعمر الديلي المتقدم وحديث جابر ﵁ في صفة حج النبي ﷺ: (أنه ﷺ أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له) (١) .
والركن هو مطلق الحضور، فلو وقف ساعة بعد الزوال ثم أفاض أجزأه، لحديث عروة بن مضرس ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (من صلى هذه الصلاة معنا، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلًا أو نهارًا فقد تم حجه) (٢) .

(١) مسلم: ج ٢ / كتاب الحج باب ١٩/١٤٧.
(٢) النسائي: ج ٥ / ص ٢٦٤.
واجبه:
أن يمتد الوقوف إلى ما بعد الغروب حتى يكون أخذ قسطًا من الليل، لما روي عنه ﷺ أنه قال: (كونوا على مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث إبراهيم) (١)، والأمر بالمكث هنا للوجوب، فإن دفع من عرفة قبل الغروب لزمه دم. أما من وصل عرفة بعد الغروب فليس عليه دم.
ولا يشترط للوقوف بعرفة طهارة، بل يصح من المحدث والجنب والحائض والنفساء، لحديث عائشة ﵂ أن النبي ﷺ قال لها لما حاضت: (افعلي كما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري) (٢) .

(١) الترمذي: ج ٣ / كتاب الحج باب ٥٣/٨٨٣.
(٢) البخاري: ج ٢ / كتاب الحج باب ٨٠/١٥٦٧.
سنن الوقوف بعرفة:
-١ - الغسل، لأنه يوم يجتمع فيه الناس. وقيل الوضوء سنة والغسل مستحب. لما روي عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "اغتسلت مع ابن مسعود يوم عرفة تحت الأراك" (١) .
-٢ - الإكثار من التلبية والتهليل، ولا يترك التلبية حتى يرمي جمرة العقبة، بعد طلوع شمس يوم النحر، لما روي عن الفضل بن عباس ﵄ (أن رسول الله ﷺ لبّى حتى رمى جمرة العقبة) (٢) .
-٣ - الإكثار من الدعاء جهرًا مع الاجتهاد والإلحاح في المسألة، لحديث طلحة بن عبيد الله ابن كريز ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: (أفضل الدعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له) (٣) .
وزاد البيهقي في رواية عن علي بن أبي طالب ﵁: (له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم اجعل لي في قلبي نورًا وفي سمعي نورًا وفي بصري نورًا، اللهم اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، وأعوذ بك من وسواس الصدر وشتات الأمر وفتنة القبر. اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل، وشر ما يلج في النهار، وشر ما تهب به الرياح ومن شر بوائق الدهر) (٤) .
-٤ - يسن القيام أثناء الدعاء مستقبلًا القبلة وبخشوع، لما روي عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (إن لكل شيء سيدًا وإن سيد المجلس قبالة القبلة) (٥) .
-٥ - يسن للحاج أن يُفْطر يوم عرفة، لأن الفطر أعون له على الدعاء، بخلاف غيره فيسن له الصوم. لما روت أم الفضل ﵂ قالت: "شك الناس يوم عرفة في صوم النبي ﷺ فبعثت إلى النبي ﷺ بشراب فشربه" (٦) .
-٦ - النزول في مسجد نمرة بعد الزوال، حيث يجتمع الحجاج مع الإمام الأعظم أو نائبه.
-٧ - يسن للإمام خطبتان بعد الزوال قبل صلاة الظهر كخطبتي الجمعة، يعلم فيهما الناس المناسك. وإن خطب قبل الزوال أجزأه مع الكراهة لما روى جابر ﵁ أن النبي ﷺ خطب الناس يوم عرفة وقال: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ...) (٧) .
-٨ - يسن للإمام أن يجمع صلاة الظهر والعصر في وقت الظهر بأذان وإقامتين، لحديث جابر ﵁ في صفة حج النبي ﷺ: (ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئًا) (٨) . ويسر بالقراءة، ولا يفصل بين الصلاتين بشيء من السنن كما في الحديث، بل يقيم للظهر ويصليه ويقيم للعصر ويصليه. ويقصر الإمام إن كان مسافرًا.
أما إذا صلى الحجاج في رحلهم فلا يجمعوا، بل يصلوا الظهر في وقته والعصر في وقته عند الإمام، وعند الصاحبين يجمعوا. ودليل الإمام أن الجمع صح على خلاف الأصل، فلا يجوز إلا بشروطه، وشروط الجمع هي:
-١ - الإحرام بالحج.
-٢ - الحضور بعرفة.
-٣ - أن تكون الصلاة جماعة.
-٤ - أن يقيم الصلاة الإمام الأعظم أو نائبه.
-٩ - يسن للحاج الوقوف مع الإمام الأعظم عند الصخرات قرب جبل الرحمة، مستقبلًا القبلة، ويتوجه للدعاء ولا يقطعه إلا بالتلبية ثم يعود إليه، كما فعل رسول الله ﷺ، فقد روى جابر ﵁ في صفة حجه ﷺ: (حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس) (٩) .
وينبغي للحاج أن يجتهد في الدعاء، فيدعو بما يحفظه أو يقرؤه، لما ورد في فضيلة الدعاء يوم عرفة وإجابة الدعاء فيه، فعن عائشة ﵂ قالت: قال رسول الله ﷺ: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله عبدًا فيه من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء؟) (١٠) . ومن الأدعية الواردة في هذا اليوم: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. يا رفيع الدرجات، يا منزل البركات، يا فاطر الأرضين والسماوات ضجّت إليك الأصوات تسألك الحاجات وحاجتي أن ترحمني في دار البلاء إذا نسيني أهل الدنيا. أسألك أن توفقني لما افترضت عليّ وأن تعينني على طاعتك وأداء حقك وقضاء المناسك، التي أريتها خليلك إبراهيم، وعلمت عليها حبيبك محمد ﷺ. اللهم لكل متضرع إليك إجابة، ولكل مسكين لديك رأفة، ولقد جئتك متضرعًا إليك مسكينًا لديك، فاقض حاجتي واغفر ذنوبي ولا تجعلني من أخيب وفدك، وقد قلتَ وأنت لا تُخلف الميعاد: ادعوني أستجب لكم، وقد دعوتك متضرعًا سائلًا. فأجب دعائي وأعتِقني من النار ووالدي وجميع المسلمين والمسلمات برحمتك يا أرحم الراحمين".
ويستحب أن يقول عند الغروب قبل الإفاضة: "اللهم لا تجعله آخر العهد بهذا الموقف، وارزقنيه ما أبقيتني، واجعلني اليوم مُفلحًا مرحومًا مستجابًا دعائي، مغفورة ذنوبي، يا أرحم الراحمين".
-١٠ - تسن الإفاضة بعد غروب الشمس مع الإمام، لما روى ميسرة الأشجعي عن عبد الله ابن عمر ﵄ أنه حج معه حتى وقف بعرفات ... ثم قال: "لقد كان المشركون لا يفيضون من عرفات حتى تعمم الشمس في الجبال فتصير في رؤوسها كعمائم الرجال في وجوههم، وأن رسول الله ﷺ كان لا يفيض حتى تغرب الشمس" (١١) . وعن جابر ﵁ في حديثه الطويل في صفة حجه ﷺ: (فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلًا حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله ﷺ وقد شنق للقصواء الزمام" (١٢) . ولا يجوز الدفع قبل الإمام حتى تغرب الشمس، أما التأخر بعد الغروب لزحمة فجائز.
-١١- أن يكثر من الاستغفار عند الإفاضة لقوله تعالى: ﴿ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم﴾ (١٣) .
وأن يمشي على هينته، لما روي عن علي بن أبي طالب ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: (يا أيها الناس عليكم السكينة) (١٤) .

(١) مجمع الزوائد: ج ٣ / ص ٢٥٣.
(٢) أبو داود: ج ٢ / كتاب المناسك باب ٢٨/١٨١٥.
(٣) البيهقي: ج ٥ / ص ١١٧.
(٤) البيهقي: ج ٥ / ص ١١٧.
(٥) مجمع الزوائد: ج ٨ / ص ٥٩، رواه الطبراني.
(٦) البخاري: ج ٢ / كتاب الحج باب ٨٤/١٥٧٥.
(٧) مسلم: ج ٢ / كتاب الحج باب ١٩/١٤٧.
(٨) مسلم: ج ٢ / كتاب الحج باب ١٩/١٤٧.
(٩) مسلم: ج ٢ / كتاب الحج باب ١٩/١٤٧.
(١٠) مسلم: ج ٢ / كتاب الحج باب ٧٩/٤٣٦.
(١١) مجمع الزوائد: ج ٣ / ص ٢٥٥.
(١٢) مسلم: ج ٢ / كتاب الحج باب ١٩/١٤٧.
(١٣) البقرة: ١٩٩.
(١٤) الترمذي: ج ٢ / كتاب الحج باب ٥٤/٨٨٥.

1 / 186