وكان وجهها يشحب باستمرار كمن طعن غيلة، ونقاط عرق تبزغ فوق جبينها وتتجمع نقاط أخرى من غضب جامح فوق أنفها الدقيق، وملامحها قد اتخذت طابعا غريبا متنمرا لا يمت بصلة إلى ملامحها، وما كادت تلفظ كلماتها الأخيرة حتى كانت يدها على حقيبتها وحتى كانت أسرع من نداءات حمزة عليها وهي تأخذ طريقها خارجة.
وحتى لم تقفل الباب وراءها.
10
ظل حمزة على الأقل ساعتين لا يدري أين هو ولا في أي مكان من الكرة الأرضية يستقر، كانت أفكاره كثيرة يزدحم بها عقله، يمسك الواحدة فتهرب وتختلط بالأخريات، ولا يستطيع أن يفكر في شيء بذاته، ولكنه يحس دائما أن هناك أشياء تتلاطم في مخه وتسد عليه مسالك تفكيره، ويذكر أجزاء من المحادثة ويستعيدها ويستعيد بدقة الكلمات التي قالتها ويتأملها، ثم يرجعها مكانها في ذاكرته ساخطا لاعنا.
كانت - ربما لأول مرة - تخونه ثقته في نفسه، وهو لن يخدع هذه النفس بعد الآن، كان في قلبه شعور دائم أنها لا بد تحبه أو إن لم تكن تحبه فهي على الأقل لن ترفض إذا طلب منها أن تحبه، أخداع ما كان يحسه في أحاديثها وإشاراتها من علامات لذلك الانتظار؟ كان يحس دائما أنها تود أن تقول له شيئا مثل ما قاله لها الليلة وأن الحياء فقط هو ما يمنعها من أين جاءه ذلك اليقين؟ يا لحمقه وغبائه وضياعه؛ أقصر خط بين نقطتين! كلام فارغ وسخافات، كان يجب أن يكون أكثر لباقة، كان يجب أن يحسب حساب الفشل، كان يجب أن يعد العدة للرفض، كان لا بد من استعمال الدبلوماسية، أحسب المسائل العاطفية بغبائه مشكلة من مشاكل الكفاح اليومي من السهل طرحها على بساط البحث بطريقته الساذجة العقيمة تلك؟ أمان سوداء ظلت تلاحقه وتطارده وتخرق عقله كمسامير حامية، تمنى أن يدهمه وابور أو يختفي بطريقة ما من الوجود حتى لا يراه الناس وحتى لا يرى نفسه، وراح يكز على أسنانه ويضغط بيديه فوق ضلوعه وتتقبض كل عضلاته محاولة أن تجعله ينكمش وينكمش حتى لا يبدو للعيان، ومضى يكوم على نفسه أحقادا ذات لفح رهيب ويذيقها من ألوان التأنيب والتقريع ما لم يذقها إياه في حياته كلها، وقد أفاق من الأحلام التي عاشت معه أياما طوالا ليجد جبهته تقرع البلاط، ويجد نفسه ممددة على الأرض الجرداء حزمة جافة من فشل لا أمل فيه، ولم يكن ما حدث فقط هو ما يكتم أنفاسه بل هو آت كذلك، فقد فقد بفقد فوزية عنصرا هاما من عناصر كفاحه، ومناضلة قوية إذا قطعا ستبتر كل صلة لها به، بل يحتمل أن تنفذ تهديدها وتناقش قصة «حبه» التافه مع بقية زملائه أعضاء اللجنة العامة للكفاح المسلح، وحين يتصور ماذا يكون موقفه حين تحيطه هالة الزملاء متعجبة مستنكرة، حين كان يتصور هذا يتوقف فكره في الحال ويأبى أن يمضي، ويأبى إلا أن تبتلعه دوامات أخرى من الألم الهائل.
وجاء بدير بعد منتصف الليل، لم ينتبه إليه حمزة كثيرا؛ فقد لاحظ أنه في حالة انبساط غير عادي، وأنه يتكلم باستمرار ودون توقف ويضحك، وأنه خلع ملابسه وظل بالفانلة والسروال في جو ملتهب بالبرد، وأنه أخيرا جلس أمامه وتطلع إليه كثيرا قبل أن يقول: اسمع يا حمزة ياخويا، بقى انت عندي على العين والراس، مستعد أخبيك وأروح معاك في ألفين وستميت داهية، إنت عارف أنا باعزك قد ايه حتى من أيام المدرسة الثانوية، ومافيش مرة جتني تطلب فلوس إلا أما اديتك نص اللي معايا، وأنا راجل بتاع مزاج، وانت بصراحة داخل في مزاجي، عاجباني شخصيتك يا أخي، حد شريكي؟ أنا كده واللي مش عاجبه يشرب بيرة زي ما شربت، أنا كنت عايز أقول ايه؟ أقول ايه؟ أيوه يا سيدي، أيوه، بقى انت في عيني دي من جوه، وعيني دي، وعيني دي بالمناسبة ستة على ستة، ودي ستة على أربعة وعشرين، إنت في نني عيني كمان، إنما الست اللي بتجيلك دي اللي اسمها، سميحة واللا فوزية ماني عارف، هي اسمها إيه؟ هو انا عبيط؟ هو انا مش فاهم؟ آه الست دي مسألة تانية ياخويا يا حمزة؛ فحكاية الدروس دي طبعا لا تخيل علي ولا تخيل عليك، ويمكن البوليس يكون مراقبها، يمشي وراها، يتحك فيها، تكون مشبوهة، تكون قابلت واحد مشبوه تودينا احنا الاتنين في داهية، آه زي ما بقولك كده وربنا المعبود، دا مافيش أبسط اليومين دول من المرواح في داهية، وأنا بصراحة من غير أي إحراج لك أو لي، إنت عايز الصراحة، عايز الصراحة يعني، أنا مش عايزها تيجي هنا.
وسمع حمزة هذا وانفعل، ولكنه سكت فعاد بدير يقول: أيوه هي الصراحة كده، وفيه أحسن من الصراحة؟ أنا راجل مش بتاع لف ولا دوران، إنت في عينيه من جوه، إنما هي، حد ضامن؟ حد بيقرأ على ضهر إيده؟ حد عارف حاجة؟ مين عارف؟ يمكن، يمكن قوي، مايمكنشي ليه؟ هو لولا شوية البيرة اللي ملخبطني دول كنت كلمتك أحسن من كده، الله يخرب بيتك يا مين النهارده، آه ما أنا لما بزعل بشرب بيرة ، ولما بفرح بشرب برضه بيرة، إلا من حق طيب، أنا شربت بيرة ليه النهاردة؟ يا ترى كنت زعلان واللا فرحان النهارده لما شربت؟ حاكم أنا لما بزعل بشرب مع الجدع ده اللي اسمه دايما با أنساه، الباجوري، الباجوري، ولما بفرح باشرب مع الواد منعم، وأنا شربت مع منعم النهارده، يبقى لازم كنت زعلان، زعلان قوي، آه، ما هو بصراحة كده يا حمزة، إنت في عنيه من جوه، إنما هي، حد ضامن؟ حد عارف؟ يمكن، مايمكنشي ليه؟
ونام حمزة لدهشته نوما عميقا.
وحين استيقظ في الصباح كان بدير لم يكن قد فرغ من استيقاظه بعد؛ فقد كان يفعل هذا على دفعات، ووجده حمزة حينئذ جالسا على طرف الفرش يفرك عينيه ويتثاءب، وما إن لمح عيني حمزة تفتحان حتى قال وهو يموء: اسمع يا حمزة، صباح الخير الأول، والله أنا عايز الشنطة ضروري.
فقال حمزة في امتعاض: هي هتروح فين يا أخي؟ إشمعنى افتكرتها دلوقتي؟ - أصل عايزها ضروري، دي كمان شنطة المرحوم والدي، وزي ما قلت لك بقى خليك فاكر، لما تيجي الست دي تفهمها. - أهي مش جاية. - ليه؟ حتيجي بكره يعني؟ - ولا بعده. - ألله، هو حصل حاجة؟ - لا أبدا، ظروف. - إيه يعني؟ ظروف إيه؟ - ظروف، هو انت لازم تعرف كل حاجة؟ - لا مش لازم، إنما حصل حاجة يعني؟ سوء تفاهم؟ - إنت مش مش عايزها تيجي؟ أهي مش جاية. - بس يعني والسبب ايه؟ - إنت مالك يا أخي، خلاص، ما عدتشي جاية، استريح.
Page inconnue