وما الذي فعلته فيه أصابعها الطويلة النحيلة وهي تلتف على يده بقوة تصافحه؟
وما تلك الإشعاعات الظاهرة التي تنبعث من عينيها كلما نظر في عينيها فتسلبه إدراكه؟
وما مصدر تلك القوة الغامضة التي تدفعه إليها دون وعي أو تفكير كما يندفع الحديد إلى المغناطيس؟
أبدا، لم يحس بشيء كهذا في حياته، كان يستلطف بنات وأحيانا يهذر مع بنات ويقبل بنات ويصادق بنات، ولكنه لم يشعر أبدا بإحساس خفي مثل ذاك الذي يجذبه بقوة لا يستطيع مقاومتها إلى فوزية؟
هناك شيء ما محير يحيط بتلك الفتاة، لا بد أن في الأمر سرا لا يدريه، إنه لا يحبها إذ الحب في نظره علاقة لا تنمو هكذا بمجرد نظرات وكلمات ولقاءات، الحب الحقيقي علاقة مادية يقتضي وجودها زمنا وعشرة وتجربة يمر بها الرجل والمرأة فتصهرهما في بوتقتها؛ فإذا لم يكن يحبها فماذا يدفعه إليها؟ ولماذا أصبح حلقه يجف وقلبه يخفق كلما مرت بخياله أو سمع اسمها أو خيل إليه أنه يسمع اسمها، أو حتى إذا جاء في حديثه مع بدير ذكر لأي كلمة فيها الفاء والواو والزاي، أو حتى الزاي وحدها؟ ولماذا راح دون وعي منه يستعرض كل النساء اللائي رآهن خلال رحلته إلى باب الوزير ويقارن أيضا دون وعي بينهن وبينها وتكون هي الرابحة دائما، بل كل النساء إلى جوارها رجال أو هن أقرب؟
لماذا هذا كله؟ ولماذا دأب في الأيام الأخيرة على حلق ذقنه كل يوم والوقوف أمام المرآة طويلا؟ ولماذا يغالط نفسه ويدعي أنه يرى في المرآة أمامه إنسانا وسيما؟
ولماذا راح يفتش عن لمحات جمال في نفسه، واكتشف الآن فقط أن أنفه جميل وأسنانه ناصعة البياض وذقنه الغزير كلما جار عليه بالموسى وهو يحلقه أصبح له لون رمادي باهت يتلاءم تماما مع لون بشرته؟
إنه شخص علمي يؤمن بالعقل والعلم، ولا بد من تفسير لتلك الظاهرة، لا بد من وجود سبب، ولا بد أن يدرس انفعالاته حين تأتي ويراقب نفسه ويحصي عليها حركاتها وسكناتها، ويتفحص فوزية بدقة؛ إذ لا بد له من العثور على تفسير.
ومع أنه كان جالسا في حجرة المكتب بعيدا عن باب الشقة، إلا أنه سمع حفيف الأقدام التي تصعد السلم وجف حلقه للحفيف وازداد جفافا حين توقف الصوت لدى الباب، ولم ينتظر دق الجرس، بل انطلق من فوره وفتح الباب ليجد فوزية واقفة على عتبته تحمل حقيبة من القماش بيد ويدها الأخرى على الزر، وحين ابتسمت له عبقت الدنيا برائحة بسمتها واستحال شخصا آخر: لا نقاش ولا جدال ولا علم ولا عقل، قلب يخفق، وريق ينضب، وعرق خفيف ينبت، وطاحونة دائرة في رأسه، وقوة خارقة تدفعه مغمض العينين إليها، وجاءه صوتها ساحرا في لطفه رقيقا عذبا يقول: إيه؟ مش عايزني أدخل؟
وتعثرت بسماته وتعثر اضطرابه وهو يقول: أبدا، أبدا، اتفضلي. - ياه، إنت مؤدب قوي النهارده.
Page inconnue