وقهقه بدير، واهتز الفوتيل بقهقهته وكذلك جريدة الزمان التي كان يقرؤها، وأصبح الروب في أزمة. - هنا فين يا سي حمزة؟ - في الشقة هنا. - لأ كويسة، ما انت دمك خفيف اهه، أمال بيقولو عليك الكلام الفارغ ده ليه؟ المهم، اتعشيت؟ - مليش نفس. - أهو ده مش معقول، دا انت بسم الله ما شاء الله عمر ما كان مالكشي نفس، دي معجزة، دي، لازم واحد يهودي مات، نفس إيه يا شيخ؟ لازم تتعشى، اتعشى عشان عايز أكلمك شوية .
ولم يستطع حمزة أن يقاوم أكثر، واضطر للجلوس وازدرد اللقم.
وقال له بدير وقد اتخذت سيماه طابع الجد: اسمع يا حمزة، إنت تعرف ان مصلحتك هي مصلحتي وانت زي اخويا تمام، وبقى لنا ييجي 15 سنة زملا واصحاب، وانا عايز اقول لك حاجة. - إيه؟ - ما تهدى بقى ياخويا يا حمزة وتفضك من الحكاية دي، كفاية بقى ضيعت كام سنة من عمرك هدر وماعدشي في العمر قد ما مضى، إنت طول عمرك كده حتفضل هربان ومرفود ومانتاش لاقي تاكل. لا مؤاخذة يعني يمكن يكون كلامي شديد شوية إنما الحقيقة كده.
وابتسم حمزة وسأله: دا نفس الكلام اللي بتقوله أمي بالظبط، أهدى ازاي بقى؟ - تهدى، تشتغل وتتجدعن وتتجوز وتعمل لك بيت وعيلة وتفوق لنفسك بقى، واحد مثقف زيك مايصحش يعيش كده. - بس انا سعيد جدا بالحياة اللي انا عايشها دي. - سعيد؟ سعيد ازاي بقى؟ - سعيد لأن المهم مش الواحد عايش ازاي واللا فين، المهم الواحد عايش ليه؟ المهم الواحد بيعمل ايه للناس؟ - أنا موش فاهم، خدني على قد عقلي يا أخي، إنت بتقول إيه؟ - ما هو طبعا لازم تكون موش فاهم؛ إنت راجل ليك حياتك الخاصة وبيتك الخاص وعملك الخاص، أنا ماليش حياة خاصة، أنا واضع نفسي وحياتي في خدمة الشعب، إذا استدعت الحاجة إني اهرب أهرب، أسجن أسجن، أموت أموت. - ده مش معقول، بقى يعني انت خلاص بقيت نبي واللا ولي، ما انتاش عايز حاجة من الدنيا؟ مالكشي يعني مطامح خاصة؟ - مطامحي الخاصة هي بالضبط مطالب الشعب العامة. - إيه الحكم دي؟ أفهم من كده بقى ان سعادتك لا حتتجوز ولا عمرك حايبقى لك بيت يعني؟ - لازم حتجوز واخلف، بس لازم جوازي يخدم قضيتنا مش يكون على حسابها، ولازم حيبقى لي بيت بس بيت يهيألي فرصة أكبر لخدمة الشعب. - يبقى إن شاء الله حتفضل كدهه متشرد زي ما انت على طول. - أبدا، اللي مشردني هو نفسه اللي مشرد ملايين المصريين، ومش ممكن الملايين تفضل مشردة على طول.
وسكت بدير طويلا ثم قال: هيه ، طيب، الظاهر مافيش فايدة، هيه، تصبح على خير.
وجذب الغطاء وما لبث أن تصاعد شخيره وراح في النوم.
ولم ينم حمزة؛ فقد ذكرته المحاورة التي دارت بالغربة التي أحسها منذ أن جاء إلى الشقة الفاخرة، حتى كلمة «الشعب» وهو ينطقها بدت غريبة هي الأخرى، لا تكاد تجد لها مكانا بين النجف والأبسطة وقطع الأثاث المنمقة، وكذلك بدت الرؤى التي راحت تنبثق في خياله: أمه، أبوه، أبوه عامل الدريسة، وشاربه الغزير الكث الذي ينثني فجأة عند أطرافه، عزب الدريسة حيث مرتع طفولته وصباه، العزب التي تقيمها المصلحة في مكان ما بين محطتين للعمال الذين يصلحون القضبان، المجتمع المغلق المقفول على من فيه، كل قاطنيه من العمال، الحياة يزاولها الناس معا، الأسرار ملك للجميع، والفقر موزع بالعدل على الجميع، الزوجات يستحممن معا في صباح الجمعة ويتباهين بما حدث ليلتها، والأزواج يغطسون معا ليتطهروا في الترعة، العزبة يتولاها النساء من الصباح فتبدأ الخناقات التي لا تنتهي على الإوز الضائع والبط، البيض هو العملة السارية بين النساء والسجاير اللف هي السارية بين الرجال، والنقود هي العملة التي لا بد من سريانها بين الرجال والنساء وإلا كان ما كان، في كل عزبة ذئب يلتحي أحيانا لحية ويتستر أحيانا بزوجه، الرجال قد لا يعلمون والأطفال والنساء له بالمرصاد، في كل عزبة بخيل منبوذ يجمع المليم فوق المليم وأمله قيراط أرض يشتريه في بلده، في كل عزبة سني مهووس يسخر منه الرجال وتتبرك به النساء، في كل عزبة زوجة جميلة وغيرة ومشاحنات، وأطفال يولدون بالعشرات، وناموس وملايين الحشرات، وكلاب وعواء كلاب تحرس الفقر والقلل والستر.
في كل يوم مشكلة وشكلة وزعيق وشجار، ومحاولات للريس أن يفرض سلطانه، ومحاولات من العمال أن ينزعوا عنه السلطان، وكلام عن الكادر وكلام عن الخصم، ونساء يبحثن عن الحبل ورجال يبحثون عن السلف، ومناطيل صفراء في صفارها رقع، وطاقيات صوف طويلة وأحذية من مخلفات الجيش المصري ثقيلة، وصفير قطار آت وصفير قطار ذاهب، وبنت بكر تفتح الشباك وتتأمل الآتي والذاهب وتتنهد وتحلم بالبندر والأفندية وثلاث أساور قشرة.
في كل يوم شكلة وشكلة وزعيق وشجار، وما يكاد اليوم ينتهي والشمس تغيب ودخان المواقد يهمد ودخان القطار ينقطع، حتى يؤوب الرجال إلى البيوت في الشتاء وإلى ما أمامها في الصيف، وتوضع الطبلية وحولها الأفواه، وينتهي عشاء ما كاد يبدأ ويعقبه استرخاء وحديث قصير متباعد بين الزوج والزوجة فيه من النوم أضعاف ما فيه من اليقظة، وفيه من التفاؤل أضعاف ما فيه من تشاؤم، الزوجة قلقة والزوج راس، المرأة خائفة والرجل يؤكد، الزوجة تتثاءب والزوج يغمغم متعبا: بكرة تتعدل.
وهو والأولاد.
Page inconnue