وبدا له الأمر مستحيلا، مستحيل أن يكون المكان الذي ظل يبحث عنه ليهرب من مطارديه ومن الناس الذين قد يتطوعون لإمساكه، أن يكون هذا المكان الأمين هو قلب الناس أنفسهم.
وراح يتطلع إلى الوراء مرات ليتأكد، ولم يجد سوى شمس وعرق وعمم وعصي وأكتاف وكوفيات وطرابيش، وشعور سوداء وبيضاء وحمراء بالحناء، ووجوه سمر وخمرية، وحواجب رفيعة منمقة، وبراقع وقصبات براقع، وتجمعات حول بائع الكينا المقوية للدم والأعصاب، وعمال ورشة يدفعون عربة قديمة وعربجية يبصقون ويتنخمون ويلعنون، وأحصنة لها أجراس تدق، وعربات تجعجع، ورائحة سمك مقلي وطعمية، وعطارة وماني فاتورة، وجعير، ولبد، وخناقات وقافيات، وعلى الجدران: عاش الكفاح المسلح، التحرر طريق السلام، لاعبو فريق الأسد المرعب، ومناطيل صفراء، وطواقي صوف، و«قصرية» فل بارزة من شباك، وألف أفندي مثله بنظارات وبلا نظارات، وأولاد بلد، وطلبة، وملاءات تنبعج بأرداف، وتضيق عند أوساط، وتظهر سيقان و«عفاريت» زرقاء وصفراء وكبار وصغار، وأطفال روضة عائدات من المدارس وفي شعورهن أشرطة حمراء، وناس كثيرين، كثيرين من أمامه، ومن خلفه، وعلى جانبيه، وفي كل مكان. •••
وما كاد يضع قدمه على باب المدفن حتى قابله صياح سعد: شفت بقى مين اللي فينا بيتأخر؟ بشرفي أنا هنا من تلاتة وربع، دا مش كلام، دا لعب، دا هزار، دا مش شغل، إيه اللي أخرك؟ كنت فين؟ وكمان جاي من غير نضارة!
Page inconnue