س :
ولم هذا السؤال قبل أن تجيب؟ أفما كان الأجدر بك أن تجيب عن أسئلتي من أن تسأل؟
ث :
لأنها أهملت أنفك فلم تمسحه، وأنت في حاجة إلى ذلك، ونتيجة إهمالها أنك صرت لا تميز بين الراعي والرعية.
س :
وما الداعي إلى هذا الظن؟
ث :
لأنك تقول إن رعاة المواشي يرعونها ويسمنونها، وعيونهم على غير منفعتهم الخاصة ومنفعة أربابها، فتزعم أن الذين يحكمون الأمصار يهتمون بالمحكومين غير اهتمام الرعاة بالمواشي، وأنهم يسهرون عليها آناء الليل وأطراف النهار لغير أرباحهم ومنافعهم الشخصية. فأنت في أقصى البعد عن مواطن الصواب في أمر العدالة والتعدي، وأمر العادل والمتعدي؛ ولذا يفوتك أن العدالة إنما هي لمصلحة الغير؛ أي لمصلحة الحاكم والأقوى، وأن خسارتك أنك تابع وعبد، أما المتعدي فعلى الضد من ذلك، يسود العادلين والبسطاء، فيعملون كرعية ما هو لمنفعة المتعدي الذي هو أقوى منهم، فيزيدون سعادته بخدماتهم دون سعادتهم الخاصة، ويمكنك أن ترى أيها الساذج سقراط فيما يلي من الأمثلة، أن العادل في كل الأحوال ينال أقل مما يناله المتعدي، أولا في معاملتهما المتبادلة كالشركة بينهما، فلا ينال العادل أبدا قسطا زائدا عن قسط أخيه في حل الشركة، بل دائما يأخذ أقل منه؛ كذلك في المصالح المدنية، حيث يجب دفع رسوم متساوية عن حاصلات متساوية، فالعادل يدفع دائما أكثر مما يدفعه الظالم، ولكن حين القبض تنقلب الآية، فيئوب العادل صفر اليدين، ويطمع الظالم بالكل، ومتى تربع كلاهما في دست الأحكام، خسر العادل على الأقل إدارة مصالحه الخاصة اشتغالا بالمنصب، فيعمل فيه التشويش والضرر. زد على ذلك أنه لا يجني من المنصب نفعا لأنه عادل، فتمنعه عدالته من أن يمد يده إلى أموال الدولة، ثم إنه يصير مكروها من خدمه وصحبه كلما أبى أن يؤثر مصالحهم على العدالة، أما المتعدي فعلى الضد من ذلك. أشير فيما سبق بيانه إلى المتعدي الذي في طوقه أن يجعل ميدان التعدي واسعا. إلى هذا يجب أن توجه تأملك إذا رمت أن تحكم حكما صائبا في مدى الفائدة، ومتى يجنيها المتعدي بعروجه عن سنن العدالة.
ويمكنك أن تفهم ذلك بأتم درجات السهولة إذا وجهت نظرك إلى أفظع صور التعدي، التي تجعل مقترفها المتعدي سعيدا، والمظلومين الذين أبوا الانتقام شر التاعسين. هذا هو الاستبداد الذي ينتزع الأرزاق من أيدي أربابها إما جهرا أو سرا، سواء كانت مقدسة أو محرمة، شخصية أو عمومية؛ فيفضي الأمر به إلى جرائم لو ارتكبها أحد الأفراد لحل به العقاب ونزل به احتقار الناس، ويلقب من اجترح واحدة من هذه الجرائم باسم ما اجترحه: سارق هياكل، لص، ناقب، سالب ... إلخ.
وإذا تعدى على الأشخاص أنفسهم بدلا من ممتلكاتهم لقب - بدل تلك الألقاب الشائنة - بصاحب السعادة والغبطة، لا بلسان مواطنيه فقط، بل أيضا بلسان الكثيرين من الناس الذين علموا ما اقترفه من الجرائم.
Page inconnue