وعلى عكس فكرة عبور المضايق بالجسور (أو الأنفاق كما في اليابان، وكما بين بريطانيا وفرنسا عبر مضيق دوفر، فإن الإنسان تضايقه البرازخ التي تفصل بحار الحركة التجارية الكثيفة؛ ومن ثم فقد شق الإنسان هذه البرازخ الهامة وأقام محلها قنوات ملاحية أضخمها قناة السويس وقناة بنما، ومن بينها قناة كييل والقنوات الملاحية في منطقة البحيرات العظمى الأمريكية.
ورغم التعديلات التي يقيمها الإنسان - مد الطرق البرية فوق المياه، ومد المياه فوق اليابس - إلا أنها لا تمثل في الواقع سوى خدوش بسيطة ألحقها الإنسان بوجه الأرض (وذلك على الرغم من الأهمية القصوى التي يعلقها الإنسان على تلك التعديلات بالنسبة لمسار التجارة والنقل متحررا من العوائق الطبيعية). وبذلك تبقى الظروف الطبيعية عاملا شديد التأثير في خطوط المواصلات واتجاه الحركة.
وعلى هذا تلعب عدة أقاليم طبيعية دورا خطيرا في تحديد مسارات النقل في خطوط تلتزم بها التزاما متزمتا، وإلا أصبح النقل عملية مخاطرة غير اقتصادية، وأكثر هذه الأقاليم الطبيعية تحديدا وإلزاما للنقل، هي: (1) النطاق الجاف. (2) النطاق القطبي. (3) النطاق الاستوائي. وأخيرا (4) نطاق الهضاب والمرتفعات الشديدة الارتفاع مثل التبت أو الأنديز الوسطى في بيرو وبوليفيا.
والنطاق الصحراوي الجاف - برغم مكانه الجغرافي الممتاز بين عالم الدول المتقدمة الشمالية وعالم الخامات الهامة في النطاق المداري - لا يزال يكون عائقا طبيعيا أمام النقل؛ فالأنواع المختلفة من التكوينات السطحية الصحراوية تختلف فيما بينها في التمهيد للنقل اليسير أو إعاقته؛ فالصحاري الصخرية غير الحصوية، غير بحار الرمال الواسعة، غير شرائط الكثبان الرملية الناعمة المتحركة، ولكنها - وبغض النظر عن درجة الاختلاف في تسهيل أو عرقلة النقل - تشترك جميعا في وجود عقبة خطيرة موحدة: ندرة المياه.
ومن ثم فإن الطرق التي تخترق النطاق الجاف لا بد لها من الالتجاء إلى كثير من الالتفاف والارتداد والانحناء، لكي تتجنب المسافات الجافة الخطرة، وذلك بالتحرك في اتجاه المناطق القليلة التي توجد فيها مصادر للمياه.
وقد أدى وجود مجموعات الواحات المنتشرة داخل النطاق الجاف إلى أن تصبح هذه الواحات محطات إجبارية لا بد للطريق من أن يرتادها، ومثال ذلك ضرورة مرور الطرق البرية الحديثة في الصحراء الكبرى الأفريقية على واحات غات وغدامس وآير في طريقها من طرابلس إلى تشاد ، أو مرور طريق الجزائر أو مراكش على واحات توغرت وتوات والحجار لكي يصل إلى جاو أو تمبكتو على ثنية نهر النيجر، أو مرور طريق الحرير على واحات حوض تاريم لتجنب صحراء «تكلا مكان»، والاتجاه إلى يوقند وكشغر، ثم عبور سلسلة جبال تين شان إلى خوقند في حوض فرغانة ثم سمرقند وبخارى إلى هضاب غرب آسيا، وأخيرا إلى البحر المتوسط وأوروبا (انظر الخريطة 3-2).
خريطة 3-2: طرق التجارة البرية والبحرية القديمة: (1) طريق الحرير. (2) الطرق العابرة للصحاري العربية والأفريقية. (3) طرق أخرى. (4) طريق الشاي (ق17).
ولحسن الحظ توجد بعض الأنهار التي تخترق أجزاء من النطاق الجاف، مثل نهري سيرداريا وأموداريا (سيحون وجيحون في الكتابات العربية القديمة) في تركستان السوفييتية، وهو طريق يؤدي من سهول سيبيريا الغربية والأورال إلى الممرات الجبلية، ومن ثم إلى سهول الهند جنوبا. وكذلك نهرا الفرات ودجلة اللذان كونا طريقا هاما في الاتصال بين عالم المحيط الهندي والخليج العربي إلى البحر المتوسط وأوروبا.
وكذلك كان طريق النيل هو أطول طريق كامل يعبر الصحراء الكبرى الأفريقية ويربط بين عالم البحر المتوسط والشرق الأوسط، وبين العالم المداري الأفريقي.
ولهذا فإن طرق النقل الحديثة تتكاثف بشدة في المناطق الجافة حول مسارات الأنهار سابقة الذكر؛ ففي وادي النيل تمتد الطرق الحديدية والبرية بجوار مسار النهر في كل من مصر والسودان. كما أن النيل نفسه يستخدم بدرجات متفاوتة كطريق نقل أساسي في النوبة والسودان الجنوبي، وكطريق نقل ثانوي في السودان الأوسط.
Page inconnue