Anciens et Modernes : études, critiques et discussions
جدد وقدماء: دراسات ونقد ومناقشات
Genres
ويقول عباس محمود العقاد: فقلت له مواسيا: إنك يا فرح طليعة مبكرة من طلائع هذه النهضة، وسيعرف لك المستقبل من عملك ما لم يعرفه الحاضر، وستكون حين تفترق الطريقان خيرا مما كنت في هذا الملقى المضطرب.
فأومأ برأسه إيماءة شاكرة وحرك يده حركة فاترة وقال: ماذا يحفل المستقبل بالحاضر، وماذا يبالي السائر للغد بمن كان قبله في مفترق الطريق (مطالعات، 61 و62).
تلك سنة الطبيعة يا فرح، فكما تذكر الشمس بالاحمرار الذي تتركه بعد غروبها، كذلك يذكرنا أبناؤنا ثم يوارينا الليل، أراك أحسنت إذ أسأت الظن بأناس طويلي الأيدي ينقبون البيوت وينبشون القبور ليسرقوا الخبايا والأكفان. •••
قال فرنسوا مورياك أحد مشاهير كتاب فرنسة الحاليين: «أنا من الذين يؤمنون بالناس لا بالأجناس، وأؤمن بالشعر خصوصا، وأؤمن أنه ليس غير الشعر، وأنه من العناصر الشعرية وحدها يؤلف الفن في كتب الأدباء، وهي التي تهبها البقاء والخلود، فالروائي هو شاعر قبل كل شيء، وهكذا كان تولستوي وبروست؛ لأن قوة إلهامهم واستيحائهم كانت واسعة.»
إذا صح هذا القول وسمحنا للقصصي أن يحدثنا كما يشاء؛ إذ لم نفرض عليه نوعا من القصة نحبه حتى نرى كل فن القصة فيه وما عداه خرافة ورقاعة، كان فرح أنطون قصصيا من الطراز الأول، قلت «إذا» ولا بد من إذا لئلا تقوم القيامة، وأزيد على ما تقدم لو لم يولع فرح أنطون بالترجمة وإذاعة المبادئ الجديدة، ولو لم يترك بعض آثاره الرائعة ناقصة، ليترجم للشرق روائع الغرب، بل لو كمل هذا الأديب المخلوق قصصيا روايته «مريم قبل التوبة» لكانت رائعة من الروائع العالمية ككتاب الفارياق، إن في الاثنتين والتسعين صفحة يقوم الدليل على ما أزعم، فليقرأها المخلصون لهذا الفن إذا لم يصدقوا ما قلت وسأقول فيها، أما الآن فأبتدئ بأولى قصصه. (4) الحب حتى الموت
هذه أول قصة ألفها فرح أنطون وهي سلسلة نصف سنة الجامعة الأولى، قطع فرح هذه السلسلة ليترجم قصة ديماس عن الثورة الفرنسية، وملخصها: شابان لبنانيان من «الكورة» هاجرا إلى أميركا، فاجتمعا قبل سفرهما بخوري الضيعة، وهو راهب فزودهما مع دعاه وبركته بعض آرائه الاجتماعية، واستقل الشابان باخرة واحدة وحلا في أميركا ببيت واحد تقريبا، المعلم إميل عند الخواجا بولس، وبطرس عند الخواجا حنا عديل بولس، وكان الزحام على الآنسة ماري بنت الخواجا بولس، بنت وحيدة وأبوها غني، ولأجلها سافر الشابان من حامات، ففضلت ماري المعلم إميل - هذه أول مرة يفوز بها المعلم ولكن على من - على بطرس الذي أرادها له زوج خالتها الخواجا حنا، وكانت الدعوة لوليمة في بيت أبي ماري أقامها للمعلم، ودعا إليها وجوه الجالية فجاءوا جميعا، أما الخواجا حنا فتجاوز حدود اللياقة، وأخذ يضحك على المعلم المحتفى به ويتهكم تهكما لاذعا، حاول الخواجا بولس إسكات عديله ووقف حملته على ضيفه فما نجح، وساء ذلك ماري فأغمي عليها.
وكان لماري صديقة اسمها فدوكي تعمل ككاتب في محل تجاري، فرأى بها الخواجا حنا قوة عظمى من القوات المتجمعة على مرشحه بطرس، فكاد للمعلم إميل وعطل سمعته فقتله تجاريا وسد بوجهه أبواب الرزق، وسعى في فدوكي فعزلها من وظيفتها لظنه أنها تدبر الأمر لماري وإميل، فتمرض فدوكي ويشير الطبيب بإرسالها إلى كاليفورنيا، فيؤثر الجميع العود إلى لبنان ويعودون كلهم: ماري وأبوها وأمها، وفدوكي وأمها، والمعلم إميل، ويتوجهون إلى الأرز بطريق حامات فيرى إميل أمه والراهب «ظلانور»، ويسير الموكب إلى الأرز ولكن الأرز لا يحيي الموتى، فتسوء حالة فدوكي وتوصي ماري بإميل.
وبعد أيام يلحق بهم الراهب وأم أميل فتنحل عقدة الرواية حين وصولهما فتكون فدوكي أختا لإميل، وتفصيل الخبر أنه كان لأم فدوكي بنت غرقت في الباخرة مع أبي إميل، وسلمت أخت إميل الصغيرة - فدوكي - فأخذتها هذه المرأة على أنها بنتها؛ لأنها لا تستطيع أن تعيش بلا ولد كما اعترفت، وإبراء لذمتها أشعرت أم أميل بالأمر، وكأن هذا التعارف أثر بفدوكي فشعرت بدنو أجلها فقالت للراهب: باركني يا أبتاه! فمد الكاهن يده ليباركها والجميع يبكون بكاء مرا حولها، فعلا نعيب الغربان في أعالي الشجرة: قاق قاق ، واجتمعت بكثرة على المجتمعين تحتها، فنظرت فدوكي إلى أعالي الشجرة وقالت بهدوء: «أتيت، أتيت.»
وبعد شهرين يقترن إميل بماري لابسين ملابس الحداد على فدوكي. •••
تسير القصة سيرا لينا وخطتها واسعة، فكان الكلام فيها كالثوب المفصل على القد، ولكن هذا الراهب الذي افتتحها واختتمها فكأنه لم يكن في أولها إلا ليشهد آخرها، ويبارك الصبية على فراش الموت، مع أن الحل من الخطايا - في الكنيسة الأرثوذكسية - يجوز بعد الموت، وليس وجود الخوري ضروريا كعندنا، وإلا هلك الميت إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين، أما نعيق الغربان فوق الرءوس فما استطعت تحليله إلا هكذا: كأن الغربان رأت في ثوب الراهب ما يغريها على التجمع فتجمعت، قد يكون أوحى إلى فرح هذا السرب من الأغربة التشاؤم اللبناني بحضور الخوري إلى بيت المريض، كما أنهم يسمون الموت غراب البين، وهي عقيدة موروثة مع ما ورثنا من خرافات، أما قول فدوكي للأغربة: أتيت أتيت، فيشبه أسطورة أمية بن أبي الصلت الذي علل نفسه بالنبوة، ومات بحسرتها حانقا على النبي، ولا شك أن فرح أنطون قرأها.
Page inconnue