John Locke : Une très brève introduction
جون لوك: مقدمة قصيرة جدا
Genres
في السنوات التي تخللت عامي 1667 و1683 كان شافتسبري يمثل في مراحل مختلفة الشخصية السياسية الأكثر نفوذا في بلاط تشارلز الثاني، وقائد إحدى المعارضات السياسية القومية لهذا البلاط، التي مثلت في نهاية المطاف خطرا عليه، بل ربما خططت أيضا لثورة للإطاحة به. أثرت كل من انتصاراته وإخفاقاته على نحو بالغ في مخيلة لوك، وكان شافتسبري هو من علمه فهم المسئوليات الاقتصادية للدولة الإنجليزية في السوق المحلية وفي التجارة الخارجية، وكان هو من علمه أيضا النظر إلى عوامل الازدهار الاقتصادي واحتمالاته، باعتبارهما موضع اهتمام رئيسيا لفن الحكم وإدارة شئون الدولة، وعاملا أساسيا في تقييم مؤهلات أي مجتمع وإمكاناته. ولو أن الآلية القاسية - والمفعمة بالحيوية في الوقت نفسه - للاقتصاد الإنجليزي في زمن لوك، قد سخرت في النهاية طاقات لوك الفكرية تسخيرا سليما، فإن الفضل في ذلك يعود إلى شافتسبري؛ فثمة صلة مباشرة بين استمرار لوك في عمله في مجلس التجارة خلال الفترة التي كان فيها ضمن هيئة مستشاري شافتسبري عام 1672، وبين عمله في لجنة الشئون التجارية أثناء حكومة ويليام في تسعينيات القرن السابع عشر. وبالمثل، ثمة صلة مباشرة بين الفكر الاقتصادي الذي استهله في أول مؤلفاته الاقتصادية عام 1668، وبين أعماله الرئيسية عن تنظيم سعر الفائدة، وعن استرداد العملة التي كتبها على سبيل إسداء النصح إلى حكومة ويليام. كما توجد صلة مباشرة من حيث المحتوى - وإن لم يكن من حيث الدافع غالبا - بين تعهد شافتسبري الراسخ بالتسامح مع «المنشقين» ضد الأنجليكانية في عصر إعادة الملكية، وبين حملة لوك النشطة التي قادها على المستويين العام والخاص في العقدين الأخيرين من حياته، وكانت تنادي بالتسامح وحرية الصحافة. وجلي أيضا الرابط بين إصرار شافتسبري المتأخر نوعا ما أثناء «أزمة الإقصاء» المزعومة (الكفاح من أجل استبعاد جيمس - دوك يورك والأخ الكاثوليكي للملك تشارلز الثاني - من خلافة العرش) على الأساس النيابي للشرعية السياسية، وبين دفاع لوك الهائل في عمله «رسالتان في الحكم» عن حق الأفراد في ألا يحكموا إلا بالتراضي، وحقهم في التصدي للسلطة الجائرة ومناهضتها.
لا شك أن حجم هذا التأثير يرجع غالبا إلى مجال الخبرة الذي انفتح عليه لوك جراء عمله لدى شافتسبري، والرؤية العملية الجديدة تماما للحياة السياسية والاجتماعية التي أتاحتها له تلك الخبرة. لكن من الواضح أيضا أن هذا التأثير كان شخصيا بدرجة كبيرة؛ فعلى مدار حياة لوك كان لديه العديد من الأصدقاء المقربين، وعدد أكبر بكثير من الأصدقاء الذين رغم كونهم أقل قربا منه، فإنهم أيضا كانوا رجالا ونساء ذوي نفوذ أو ثروة هائلين أو شديدي الذكاء للغاية؛ نبلاء سياسيين أمثال بيمبروك وسومرز، وعلماء أمثال روبرت بويل وإسحاق نيوتن، وعلماء لاهوت مثل ليمبورخ. ومع أن شافتسبري أحب لوك كثيرا واحترمه كإنسان، فإنه كان بالطبع سيدا بقدر ما كان صديقا. ومع أنه كان جليا أن صداقتهما غير متكافئة، فإنها لم تكن قط تفتقر إلى الطاقة الوجدانية؛ فعلى مدار الستة عشر عاما تلك كان من الواضح أن شافتسبري - راعي لوك الأكبر - قد جعل منه رجلا مختلفا تماما.
شكل : راعي لوك الأكبر، الإيرل الأول لشافتسبري، الوزير البارز الذي سيصبح فيما بعد خصما لدودا لتشارلز الثاني.
تشكلت حياة لوك في مرحلة النضج من شخصيتين مؤثرتين كونتا معا ثنائيا غريبا ؛ الأب غير البارع الذي يفشل فشلا ذريعا، ورجل البلاط اللامع غير الجدير بالثقة والمدهش إلى أبعد حد، الذي فشل فشلا مريعا في نهاية حياته، وهو ثنائي غريب لكنه كان مفيدا إلى حد كبير؛ حيث ساعد كل منهما على نحو رائع في تعويض النقائص الموجودة في مخيلة الآخر: وساوس الأب الكئيبة التي يتعذر محوها، وقوة شافتسبري ورعونته وعدم شعوره بالمسئولية. ومن واقع الصراع بين الشخصيتين - وبعد وفاة كليهما - تبلور الإطار الفكري الاستثنائي لفلسفة لوك.
من المؤكد أن الانتقال إلى مرحلة الالتزام بالفهم الفلسفي، وهي ثالث مرحلة مؤثرة في حياة لوك، كان أكثر تدرجا وأقل وضوحا لغير المطلعين بالمقارنة مع انتقاله إلى وستمنستر وأكسفورد، أو مع انضمامه إلى خدمة شافتسبري. ويعود انشغال لوك بالقضايا الفلسفية المتعلقة بالسلطة السياسية والتسامح الديني، وتلك المتعلقة بعلم الأخلاق ونظرية المعرفة، إلى أواخر الخمسينيات من القرن السابع عشر على الأقل. وليس ثمة ما يدعو في حقيقة الأمر إلى افتراض أن لوك ما كان ليقدم هذا الكم المستفيض من المؤلفات الفلسفية والفكر الفلسفي لو كان دخل سلك الرهبنة ولم يلتق شافتسبري قط وظل في أكسفورد لبقية حياته؛ أو أنه ما كان لينجح قط - إلى أن يصبح طاعنا في السن ويصيبه المرض - في تحرير نفسه من المسئوليات السياسية والعامة التي أغرقته فيها خدمة شافتسبري منذ البداية. لكن رغم استمرار الفلسفة والسياسة في تنافسهما على الاستحواذ على طاقاته واهتمامه منذ عام 1667 وحتى قبيل وفاته، فإن التوازن بينهما تحقق بدرجات متفاوتة للغاية في مختلف مراحل حياته.
حتى عام 1667، أثناء الخمسة عشر عاما التي قضاها لوك في أكسفورد كطالب في كلية كنيسة المسيح، اقتصرت كتاباته الفلسفية في الأساس على عملين رئيسيين: أولهما مقالان حول أوجه الضعف في المطالبات التي تنادي بالتسامح الديني؛ أحدهما باللغة الإنجليزية والآخر باللاتينية، كتبا عامي 1660 و1661 ولم ينشرا حتى القرن العشرين، وكان عنوان هذا العمل «مقالان في الحكم». وثاني هذين العملين مجموعة من المحاضرات اللاتينية حول قانون الطبيعة، ألقاها عام 1664 باعتباره «مسئول الفلسفة الأخلاقية» في كلية كنيسة المسيح ، ولم تنشر أيضا حتى القرن العشرين، وعنوانها «مقالات حول قانون الطبيعة». ظلت القضايا المتعلقة بنطاق الحرية الدينية وحدودها، والكيفية التي ينبغي أن يعيش الأفراد وفقا لها، قضايا محورية في فكر لوك فيما تلا ذلك من عقود، بيد أن هذين المؤلفين الأولين كانا يفتقران إلى سعة الأفق والنظرة الشمولية والأهمية التي اتسمت بها أعماله الناضجة، كما أنهما أظهرا توجها سياسيا مغايرا للغاية. لم تكن أهم فرصة فكرية حظي بها لوك في أكسفورد خلال تلك السنوات، أنه بدأ يصوغ ما ينبغي أن نعتبره الآن آراء فلسفية وشرع في التعبير عنها بالفعل، وإنما كانت بالأحرى فرصة المشاركة في الأبحاث الكيميائية والطبية لبويل وهوك، ولوار وسيدنهام؛ فقد تعلم لوك من هؤلاء الرجال قيمة الملاحظة المستمرة والمنضبطة، وقيمة التواضع وسعة الصدر والمثابرة في سعي الإنسان نحو فهم أسرار الطبيعة. وكما عبر سيدنهام عن ذلك عام 1669 في مخطوطة كتبها لوك بخط يده:
تنشأ المعرفة الحقيقية في العالم عن طريق التجربة والملاحظة العقلانية في البداية، لكن الإنسان الطموح الذي لا يكتفي بالمعرفة التي هو مؤهل لها، والتي كانت نافعة له، سيحتاج إلى أن يتغلغل في الأسباب الكامنة وراء الأشياء، وأن يؤسس المبادئ، وأن يضع لنفسه مسلمات وثوابت حول عمليات الطبيعة وآلياتها؛ ومن ثم يظن عبثا أن الطبيعة - أو في الحقيقة الإله - ينبغي أن تسير طبقا للقوانين الواردة في مسلماته وثوابته تلك.
شكل : أكسفورد في منتصف القرن: تفاقمت مشكلة التسامح الديني إلى حد المشاحنات المشينة في الكلية (إلقاء الأردية الكهنوتية البيضاء في بالوعات الكلية).
كانت هذه الخلفية من البحث العلمي التجريبي هي ما تأثر به لوك أثناء قراءته للفيلسوفين الأوروبيين العظيمين للثورة العلمية المبكرة؛ رينيه ديكارت وبيير جاسندي، اللذين أثرت آراؤهما فيه تأثيرا عميقا في أواخر الستينيات من القرن السابع عشر. كانت آراء لوك الناضجة أقرب في نواح عدة وعلى نحو ملحوظ إلى آراء جاسندي منه إلى آراء ديكارت، لكن - كما أخبر الليدي ماشام - كانت آراء ديكارت هي أول ما جذبه بقوة إلى مجال الفلسفة، وإلى محاولة فهم ماهية المعرفة التي يكون الإنسان «مؤهلا لها» على أسس دقيقة ومنهجية. كان عمله الصادر تحت عنوان «مقال في الفهم البشري» في حد ذاته، كما ذكر لوك في «رسالة إلى القارئ»، محاولة ل «اختبار قدراتنا، ومعرفة الأشياء التي كان فهمنا مؤهلا أو غير مؤهل للتعامل معها.» وفي الحقيقة، لم يكن معظم المقال قد كتب حتى أواخر الثمانينيات من القرن السابع عشر، إلا أن ثمة مسودات مطولة حول كثير من الحجج الرئيسية كتبت في وقت مبكر من عام 1671 تقريبا. وبالإضافة إلى هذه المسودات الأولى للمقال، كتب لوك أيضا أعمالا أخرى مهمة في هذه الفترة؛ فقد كتب عام 1668 مخطوطة مطولة حول عدم جدوى جهود الحكومة لتنظيم أسعار الفائدة، وكتب عام 1667 مقالا عن التسامح، تغلب عليه روح سياسات شافتسبري في هذا الصدد، ويتنافى على نحو قاطع مع آرائه الأكثر سلطوية التي كان يعتنقها في مطلع الستينيات من القرن السابع عشر. بيد أنه في المجمل كان منهمكا للغاية إبان هذه السنوات في الأعمال الإدارية لشئون شافتسبري العامة أو الخاصة، بوصفه صاحب مستعمرة ومالك أراض عظيما ووزيرا للملك، حتى إن تلك الأعمال لم تكن تدع له متسعا من الوقت للاستغراق في عمل فلسفي ممتد. وبحلول عام 1675، كانت خصومة شافتسبري لحكومة الملك تحت رئاسة دانبي قد بلغت حد المعارضة الصارمة، وكان لوك نفسه معتل الصحة للغاية. وعلى مدار السنوات الثلاث والنصف التي أعقبت ذلك - وهي الفترة التي كان فيها شافتسبري معرضا لخطر كبير - سافر لوك إلى فرنسا، وكان ما ينشده من ذلك غالبا هو مرافقة كالب بانكس، وهو ابن أحد أغنى معاوني شافتسبري السياسيين. وخلال سفرياته التقى لوك العديد من الأطباء والعلماء ورجال اللاهوت الفرنسيين، وكون صداقات حميمة مع العديد منهم، كما ترجم بعضا من المقالات الأخلاقية لبيير نيكول الجنسيني، لكنه فيما يبدو لم يشرع في العمل على أي من مؤلفاته الأصلية الخاصة.
لكنه عاد إلى لندن في نهاية شهر أبريل عام 1679، وشاب حياته شيء من الغموض خلال السنوات الأربع التي أعقبت ذلك، حتى أواخر صيف عام 1683، عندما فر هاربا إلى روتردام. كان راعيه شافتسبري قد فقد بالفعل نفوذه السياسي في البلاط قبيل الوقت الذي فر فيه لوك إلى فرنسا عام 1675. وحتى في تلك اللحظة، لم تكن خدمات لوك له «في مكتبته وحجرته الخاصة» تقتصر على «شئون وزير الدولة»؛ فقد كتب لوك، على سبيل المثال، خلال هذه الفترة مسودة منشور عام 1675، تحت عنوان «خطاب من شخص رفيع الشأن إلى صديقه في البلاد»، الذي يعرض برنامج معارضة شافتسبري، وحاز هذا المنشور مكانة مميزة بحرقه على يد منفذ حكم الإعدام العلني بالمدانين. وبحلول عام 1679 اشتدت معارضة شافتسبري لسياسات حكومة تشارلز الثاني، وخلال السنوات الأربع التالية لذلك، في خضم «أزمة الإقصاء»، نظم حركة سياسية وطنية ضد الملك وقادها. رمت هذه الحركة إلى تعزيز القيود الدستورية على السلطة الملكية، وحماية حقوق مجلس العموم المنتخب، وإقصاء جيمس، الأخ الكاثوليكي لتشارلز الثاني، من خلافة العرش. كان هذا كفاحا مريرا وخطيرا، يصعب فيه دائما تمييز الخط الفاصل بين ممارسة الحقوق السياسية المعترف بها قانونا، وبين ارتكاب الخيانة العظمى؛ لكن لم يكن هناك أدنى شك في رغبة تشارلز العارمة في رسم هذا الخط في أول مرحلة ممكنة. وبحلول عام 1682، إن لم يكن قبل ذلك، كان شافتسبري نفسه ولوك وألجرنون سيدني ولورد ويليام راسل وإيرل مدينة إسكس يقامرون بحياتهم. نجح شافتسبري في خضم تلك الأحداث، على أقل تقدير، أن يولي دبره إلى هولندا؛ حيث سرعان ما وافته المنية هناك. لكن في شهر يونيو من عام 1683، بعد فشل «مؤامرة راي هاوس» في اختطاف تشارلز وجيمس في طريق عودتهما من سباقات نيوماركت، ألقي القبض على كل من سيدني وراسل وإسكس، بعدها انتحر إسكس في برج لندن، فيما أعدم راسل وسيدني شنقا. كان من ضمن الاتهامات التي وجهت ضد سيدني أثناء محاكمته كتابة مخطوطات تحريضية؛ فقد شن سيدني هجوما مطولا على كتاب السير روبرت فيلمر المغالي في تأييد الحكم الملكي بعنوان «السلطة الأبوية» (الذي يدافع فيه عن الحقوق الإلهية للملك)، ذلك العمل الهجومي الذي نشر لاحقا بعد إعدام سيدني ، بعنوان «محادثات عن الحكومة»؛ وبالطبع كان لوك أيضا يخضع لرقابة شديدة من قبل الحكومة في أواخر صيف عام 1683، مع أنه لم يكن غالبا بالشخصية التي تحظى بالأهمية السياسية التي تضاهي أهمية كل من إسكس أو راسل أو حتى سيدني، لكن من المؤكد أيضا - كما يتضح الآن على ما يبدو - أنه كانت بحوزته في ذلك الحين مخطوطة تحريضية للغاية، وهي «رسالتان في الحكم»، هاجم فيها النظريات السياسية لفيلمر، وقد أيدت صراحة حق الشعب في الثورة ضد الملك حتى لو كان ملكا شرعيا، متى أساء هذا الملك استخدام سلطاته على نحو سافر. وكما اتضح، تمكن لوك من الهروب إلى هولندا في سبتمبر عام 1683؛ ومع أن منحته الجامعية في كلية كنيسة المسيح قد سحبت منه عام 1684 بناء على أوامر ملكية، وعلى الرغم من المحاولات الفاشلة التي قامت بها الحكومة البريطانية عام 1685 لمطالبة الحكومة الهولندية بتسليمه هو وآخرين من حزب الويج (الذي صار يعرف في القرن التاسع عشر بحزب الأحرار البريطاني)، ممن كانوا قد غادروا البلاد أيضا، فإن الخطر الذي كان يتهدده صار أقل وطأة منذ ذلك الحين فصاعدا.
Page inconnue