وحدث أن تفقدت خطابه الأخير ذات يوم لتعيد قراءته وتتأمل تلك الورقة التي زعم أنها كتبتها بخطها إلى شخص آخر تعترف له فيها بأنها تحبه، ولكنها لم تجد تلك الورقة رغم طول بحثها عنها. وذلك لأن أدما كانت قد عثرت بها ملقاة بجانب سرير سلمى وهي تعودها، وعرفت أنها الورقة التي كتبتها إلى حبيب، فاحتفظت بها معتقدة أن حبيبا هو الذي جاء بها إلى سلمى؛ لكي يسخرا منها ويضحكا من سذاجتها وتصديقها أن حبيبا يحبها.
وشغلت سلمى بمرضها وحزنها عن مواصلة البحث عن تلك الورقة. أما أدما فإنها لم تطق صبرا على البقاء في منزل سلمى بعد ما تبين لها من تآمرها عليها مع حبيب، فسارعت إلى منزلها حيث خلت إلى نفسها في غرفتها وأخذت تعض على نواجذها غيظا وندما. ثم لحق بها أبوها وأمها إلى المنزل، فلما شعرت بقدومهما أخفت الورقة، ثم غسلت وجهها حتى لا تبدو آثار الدموع في عينيها، وتظاهرت بانحراف صحتها ولزمت الفراش، وقد نال اليأس منها كل منال.
وعلى الرغم من أنها كانت تود لقاء حبيب لتوبخه أو تعاتبه على سخريته منها، كان قلبها يخفق بشدة ولا تتمالك نفسها من البكاء كلما صور لها اليأس والحزن وسوء ظنها به أنه لن يستنكف أن يخاطبها بما يشينها ويحقرها ويحط من كرامتها. فبقيت كذلك حتى ظهر اليوم التالي، دون أن تتناول أي طعام، أو يراود الكرى جفنيها، ولم تكن تنقطع عن البكاء إلا عند وجود والديها أو أحدهما في الغرفة. وهما لا يعلمان من أمرها إلا أنها متوعكة الصحة منحرفة المزاج.
وفيما هي مستلقية على سريرها، ووالدتها مشغولة ببعض أعمال المنزل، وأبوها خارج المنزل، تذكرت تلك الورقة التي كانت سبب بلائها وشقائها، فأخرجتها من مخبئها، وأخذت تتأملها وتعيد تلاوتها، وصور لقائها بحبيب في رحلة الأهرام تتتابع على لوحة مخيلتها، ثم تعقبها صورته مع سلمى وهما يتأملان خطابها إليه ويضحكان ساخرين. وهنا لم تتمالك نفسها فانفجرت باكية وعلا شهيقها حتى خشيت أن تسمعه والدتها، لكنها مع ذلك استمرت فيه لعله يخفف بعض ما تعانيه. •••
سمعت أدما بعد قليل طرقا على الباب الخارجي للمنزل، فعادت إلى ذهنها صورة حبيب حين كان يأتي للزيارة، فأخذتها الرجفة واشتد خفقان قلبها. ثم سمعت الباب يفتح وصوت والدتها ينطلق بعبارات التحية والترحيب. وما لبثت قليلا حتى دخلت عليها أمها ومعها والدة حبيب وشقيقته، فلم تتمالك عواطفها عند رؤيتهما وأخذت في البكاء والنحيب، فهمت بها شفيقة وراحت تحتضنها وتقبلها قائلة: «ما هذا يا عزيزتي، أتبكين هكذا كالأطفال لشعورك بصداع أو برد خفيف؟ لا لا، إن عزيزتي أدما أشجع من هذا كثيرا، فهيا دعي عنك هذه الأوهام، واجلسي لنتمتع بحديثك اللطيف كالمعتاد!»
وقبلتها والدة حبيب بدورها وأخذت تواسيها وتشجعها بمثل تلك العبارات. فلم يسعها إلا أن تمسح دموعها وتجلس في فراشها متجلدة لتجاذبهما الحديث. ثم قالت لشفيقة شقيقة حبيب وهي تتكلف الابتسام: «ترى ماذا جرى حتى خطرنا ببالك وجئت لزيارتنا بعد ذاك الغياب الطويل؟»
فردت عليها شفيقة وعلى فمها ابتسامة تنم عن طيبة قلبها وبساطتها وقالت: «إننا لا غنى لنا عن زيارتكم، ولكنا منذ افترقنا بعد رحلة الأهرام اللطيفة كنا في شغل شاغل خطير، وقد انتهى بخير والحمد لله.»
فلما سمعت أدما ذكر رحلة الأهرام هاجت أشجانها وكادت تعاود البكاء، لكنها جاهدت لتغالب دموعها وتكبت عواطفها وقالت: «ماذا كان ذلك الشغل الشاغل، خيرا إن شاء الله؟»
قالت: «إن الخواجة سليم أصابته حمى على أثر تلك الرحلة، ونظرا إلى أنه يقيم وحده بالقاهرة؛ لأن أسرته في الإسكندرية كما تعلمين، نقله أخي حبيب إلى منزلنا بحلوان لنقوم بتمريضه وخدمته حتى يشفى. ثم حدث في اليوم التالي أن سافر حبيب إلى الإسكندرية دون أن يخبره بذلك لكي يجيء من هناك بوالدته لتراه. فلما كان عصر ذلك اليوم، غادر سليم المنزل على أن يتمشى قليلا في حديقة حلوان العامة لكنه لم يعد إلى المنزل ولم يخبرنا بالمكان الذي قصد إليه. فلما عاد حبيب ووالدة سليم في صباح اليوم التالي، سقط في أيدينا جميعا، وحسبت والدة سليم أنه مات أو انتحر يأسا من الشفاء، فانقلب جو المنزل إلى مثل جو المآتم. وزاد الطين بلة أن حبيبا مضى إلى القاهرة مرتين للبحث عنه ولكنه لم يقف على أي أثر له. وهكذا أمضى حبيب يومين متتاليين وهو يعاني متاعب السفر والبحث هنا وهناك، وضاعت كل محاولاتنا لتهدئة روع والدة سليم. فلبثنا في ذلك الشغل الشاغل الخطير حتى صباح أمس إذ تلقى حبيب من سليم خطابا من الإسكندرية أخبره فيه بسفره إليها اتفاقا وبعلمه من شقيقه هناك بأنه كان هناك في اليوم السابق وعاد ومعه والدته، ثم طلب إليه أن يعيدها إلى الإسكندرية ففعل. وما كدنا نشعر ببعض الراحة من كل ذلك العناء حتى جئنا لزيارتكم، فهل هناك بعد ذلك أي تقصير من جانبنا لا سمح الله؟»
فسري عن أدما قليلا لوقوفها على سر تردد حبيب إلى منزل سلمى وسفره إلى الإسكندرية وانصرافه عنها. لكنها بقيت في حيرة من أمر وجود خطابها الخاص إليه في غرفة سلمى. وأحبت أن تعلم لماذا لم يأت مع والدته وشقيقته ما دام قد اطمأن على صحة صديقه سليم وأعاد والدته إلى الإسكندرية، لكن الحياء أمسكها عن السؤال عنه. فاكتفت بأن تنهدت وقالت: «لقد أسفت جدا لمرض الخواجة سليم، فالحق أنه من خير الشبان المهذبين الأوفياء، لكن هل مرضه كان لعلمه بمرض سلمى؟ أم أنها هي التي مرضت لعلمها بمرضه؟»
Page inconnue