وأصبحت متعبة مكدودة، فلم تبرح فراشها، زاعمة لوالديها أنها تشعر بصداع شديد. ثم ضاقت بملازمتهما غرفتها للاطمئنان على صحتها، فتحاملت على نفسها ونهضت فجلست على مقعد في الشرفة متشاغلة بالتطريز تارة وبالمطالعة في بعض الكتب تارة أخرى.
ولما حان موعد الغداء، تناولت مع والديها قليلا من الطعام، ولبثت ساعة تترقب أن يجيء حبيب عقب انصرافه من الديوان. فلما لم يجئ، نهضت وارتدت ثوب الخروج، ثم خرجت بعد أن استأذنت والدتها لكي تزور صديقتها سلمى. وهي إنما أرادت بهذه الزيارة أن تبحث ما دعا إلى توجه حبيب إلى هناك بالأمس. ورغم وثوقها بأن سلمى مخطوبة لسليم كان الشك يساورها في وجود علاقة بينها وبين حبيب. ولكنها كانت تستبعد ذلك، وتحاول طرد هذه الوساوس من ذهنها، إلى أن وصلت إلى منزل سلمى ثم قابلتها بعد أن علمت من والدتها بأنها مريضة ملازمة فراشها، فقويت شكوكها ولا سيما بعد أن لاحظت أن سلمى تحاول أن تخفي عليها شيئا تضمره في قلبها. وعادت إلى منزلها وقد ازدادت ضعفا على ضعف، وما كادت تصل إلى غرفتها حتى ارتدت ملابس النوم وارتمت على سريرها حيث أخفت وجهها بالغطاء، وأطلقت لدموعها العنان، لعلها تفرج بعض ما تعانيه من الغم واليأس وضيعة الآمال.
وفي الصباح التالي، لاحظت والدتها انقباض وجهها وضعفها. فأشارت عليها بأن تخرج معها للتنزه قليلا في إحدى الضواحي، فوافقت على ذلك. وخرجتا معا من المنزل، وما زالتا تتمشيان حتى وصلتا إلى محطة السكة الحديدية، فوقفتا هناك قليلا وهما تتأملان جموع القادمين إلى القاهرة والمسافرين منها، وفيما هما كذلك، لمحت أدما حبيبا داخلا إلى المحطة مسرعا، فخفق قلبها لهذه المفاجأة، وتوقعت أن يراهما فيعرج عليهما، ولكنه انطلق في سبيله لا يلوي على شيء.
وكانت والدتها قد رأته هي الأخرى، فقالت: «ترى ما الذي جاء بحبيب إلى المحطة في هذا الصباح؟ لعله جاء لاستقبال صديق له قادم من الإسكندرية!»
فسكتت أدما ولم تجب لانشغال بالها بأمر حبيب، على أنها ظلت تنتظر مع والدتها حتى يخرج من المحطة وتقف منه على سبب مجيئه، وعلى ما أخره عن مقابلتها منذ رحلة الأهرام حتى ذلك الوقت. فطال انتظارهما حتى غادر القطار المحطة قاصدا الإسكندرية، وخرج منها جميع من كانوا في تشييع المسافرين فيه وليس فيهم حبيبا، فأيقنتا بأنه سافر فيه، وشغلهما أمر هذا السفر الذي لا تعلمان سببه . وكانت أدما أكثر قلقا بطبيعة الحال، لما في قلبها من الشواغل التي لا تعلم بها والدتها. فلم تعد تستطيع المشي ولا الوقوف، وجاهدت لإخفاء ما بها على والدتها متظاهرة بأن الصداع الشديد عاودها، ثم عادتا إلى المنزل في إحدى مركبات الأجرة، فتناولت أدما بعض الأدوية المسكنة، وأوت إلى سريرها للراحة والاستجمام، وهناك انتهزت فرصة انفرادها واشتغال والدتها عنها ببعض شئون المنزل، وأخذت في البكاء. •••
لبث سليم حتى العصر وهو ينتظر رجوع حبيب من القاهرة إلى منزله الذي نقله إليه في حلوان. فلما لم يرجع حبيب حتى ذلك الوقت، نفد صبره ولم يعد يستطيع البقاء في ذلك المنزل لحظة واحدة. ولم تكن الحمى قد فارقته بعد، ولكنه رغم ذلك نهض وارتدى بذلته معتزما الخروج.
وجاءت والدة حبيب إلى غرفة سليم لتطمئن عليه وهي تحسب أنه ما زال نائما كما تركته منذ حين، فلما رأته مرتديا بذلته أخذتها الدهشة ووقفت تنظر إليه متسائلة، فقال لها: «لقد رأيت أن أخرج للتنزه قليلا في حديقة حلوان.»
فهمت بأن ترد عليه مشيرة بالانتظار حتى يرجع حبيب من القاهرة ويصحبه إلى الحديقة، لكنها خشيت أن تذكره بغياب حبيب فيزداد تأثره، وآثرت أن تتركه يمضي وحده للترويح عن نفسه بعض الوقت في الحديقة. حتى إذا رجع منها استسلم للنوم بعد تناول طعام العشاء، ولا يستيقظ حتى يكون حبيب قد عاد من الإسكندرية ومعه والدة سليم، أو يعتذر إليه بما يراه.
وغادر سليم المنزل آخذا طريقه إلى الحديقة، وفيما هو يمر بمحطة السكة الحديدية هناك، رأى القطار قادما إليها من القاهرة، فوقف ينتظر هبوط الركاب منه لعل حبيبا أن يكون بينهم. فلما تحقق أنهم نزلوا جميعا وليس فيهم حبيب، اشتد سخطه عليه وغيرته منه على سلمى، ثم لاح له أن يستقل هذا القطار عائدا إلى غرفته بالقاهرة حتى لا يجشم نفسه عناء مقابلة حبيب بعد ما رابه من أمره. وكان القطار قد بدأ يتحرك فسارع إلى الركوب، وألقى بنفسه على أحد المقاعد فيه، وهو يتنفس الصعداء كأنما أزيح عن صدره حمل ثقيل.
ولما وصل إلى غرفته، خلع بذلته وارتدى ثوب النوم، ثم تمدد في سريره، وقد أنهكه التعب وآثار الحمى وارتيابه في علاقة سلمى بحبيب.
Page inconnue