فلم يقتنع حبيب بكلام والدته، ولكن حبه لأدما جعله يوافق دون اقتناع.
فقال: «صدقت يا أماه! وما دام الأمر كذلك، فإن إتمامه سهل بإذن الله. ولكن أمهليني قليلا قبل أن تعلن الخطبة لكي أعد لها عدتها.»
فقالت: «افعل ما بدا لك، ولنحفظ هذا الأمر مكتوما حتى يتم بإذن الله.» ثم ذهب كل منهما إلى فراشه، وبقي حبيب حتى اقترب الفجر مسهدا يفكر في أدما وخطبته لها، وفيما دار بينه وبين والدته في شأنها. وكان على شدة تعلقه بها يشعر بإحجام داخلي وتخوف من الإقدام على خطبتها، فأخذ يبحث عن وسيلة لعلاج ذلك الأمر، ولما أعياه البحث دون نتيجة، قرر أن يكاشف بأمره صديقه سليما، لعله يشير عليه بالعلاج المفيد.
كشف السر
نهض حبيب من فراشه في صباح اليوم التالي وهو ما زال قلقا حائرا، ثم استقل القطار إلى القاهرة، حيث توجه إلى مقر منصبه، وبقي يعمل حتى الساعة الثانية عشرة، وانتحل عذرا أبداه لرئيسه، فسمح له بالخروج من الديوان قبل الميعاد المحدد.
ومضى لفوره إلى مكتب سليم، فعلم أنه لم يحضر إليه في ذلك اليوم، فقلق عليه وانطلق إلى الفندق الذي يسكنه، فوجد باب غرفته مفتوحا، وما كاد يدخل حتى وجده ممددا في سريره وقد استغرق في النوم، فعجب لرقاده حتى تلك الساعة، ولاحت منه التفاتة فإذا بورقة ملقاة على السرير بجانب سليم، ولاحظ أن خطها يشبه خط سلمى وكان يعرفه، فازداد تعجبه وأراد إيقاظ سليم، لكنه آثر التريث حتى يرى ما في تلك الورقة، فتناولها ويده ترتجف لعلمه بما في الاطلاع عليها من منافاة للآداب العامة، لكنه برر فعلته هذه بأنه على علم بأمر سليم مع والدته بسبب سلمى، وبأن اطلاعه على تلك الورقة بغير علمه قد يعاونه على أن ينفعه بشيء.
ولكنه خشي أن يستيقظ سليم فجأة فيراه وهو يقرأ الورقة، فأعادها إلى حيث كانت بجانبه على السرير، مكتفيا بالنظر إليها وهو واقف بإزائه فوقعت عينه على الفقرة التي ذكرت فيها سلمى أنها تحل سليما مما بينهما من العهود، وأنها تفعل ذلك مضحية بقلبها وسعادتها في سبيل إنقاذه من تردده وحيرته بينها وبين والدته. ولم يستطع لاضطرابه أن يقرأ بقية ما في الورقة، ولكنه فهم مضمونها، وأعجب كل الإعجاب بإخلاص تلك الفتاة وتضحيتها.
ثم لاح له أن سليما قد نام والرسالة في يده وباب الغرفة مفتوح عن غير قصد منه، وهو لذلك قد يغضب ويخجل إذا استيقظ ورآه بجانبه، فتقهقر خارجا من الغرفة وهو يحاذر أن يحدث صوتا يوقظه، وكان خدم الفندق مشغولين بمهامهم فلم ينتبهوا لدخوله وخروجه، ولكنه خشي أن يدخل أحد غيره غرفة سليم ويرى مثل ما رأى، فأغلق الباب وراءه وانسل راجعا من حيث أتى وهو يفكر في أمر صديقه ومتاعبه، وقد نسي ما جاء من أجله.
ولم يشأ أن يرجع إلى حلوان قبل أن يراه ثانية ويفهم منه شيئا عن حاله، فتوجه إلى مقهى قريب وجلس فيه ساعة وهو على مثل الجمر، ثم عاد إلى غرفة صديقه وطرق الباب، فسمع سليما يقول بصوت ضعيف: «ادخل» ففتح الباب ودخل فإذا بسليم ما يزال في سريره وقد كلل العرق وجهه وتوردت وجنتاه كأنه محموم.
وما كاد سليم يشاهده حتى هاجت عواطفه وأشجانه، فدمعت عيناه وهو يرد تحيته في صوت ضعيف مضطرب حزين ويشير إليه بأن يجلس بجانبه، فانفطر قلب حبيب لهذا المنظر المؤثر، وترقرقت الدموع في عينيه، ثم انحنى على صديقه في سريره وأمسك يده يجسها فإذا هي تتقد سخونة، فعلم أنه مصاب بالحمى، لكنه تجاهل وقال له: «ما لي أراك في الفراش يا عزيزي حتى هذه الساعة؟ هل تشكو من شيء؟»
Page inconnue