كانت العربات تحمل قلوبا تتقد حبا يخامره في بعضها تردد، وفي بعضها الآخر تحسر أو ارتباك، والآباء والأمهات في غفلة عما شب في أفئدة أولادهم من العواطف، والطبيعة فوق كل ذلك تضحك من ضعف بني الإنسان وتستخف بما يستعظمونه لكثرة ما مر بها من الأجيال، وما شهدت من الأهوال حتى تساوى لديها الكبير والصغير والحب والبغض.
وما كادت العربات تدخل ذلك الطريق حتى لاحت لمن فيها أهرام الجيزة الكبرى من خلال الأشجار، قائمة كأنها جبال راسيات. واشتغلت بها أفكارهم وطارت إليها قلوبهم وقد خيل لهم لعظمها أنها منهم على أقرب من مرمى القوس، في حين أن بينهم وبينهما مسيرة ساعة أو تزيد.
وأخيرا وقفت العربات بهم عند مرتفع تعلوه الأهرام الثلاثة كأنها جبال منتظمة الهندام، فترجلوا جميعا ومشوا صعدا يطلبون الأهرام وعيونهم شاخصة إليها حتى شغلهم حينا من الزمان لم ينطق خلاله أحدهم ببنت شفة. ولما دنوا منها أشرفوا على تمثال أبي الهول القابع على مقربة منها كأنه الحارس الأمين.
وهرع لاستقبالهم هناك كثير من التراجمة والأدلاء في ملابس أهل البادية، وجعلوا يخاطبونهم بلسان أعجمي أرادوا به أن يكون اللغة الإنجليزية ولكنه كان مزيجا منها ومن الفرنسية. وكان هؤلاء لكثرة تردد الإفرنج إلى الأهرام يحسبون كل زائر لتلك المنطقة إفرنجيا، وقد رجح لديهم هذا الظن لما رأوا السيدات في الزي الإفرنجي، على أنهم ما لبثوا قليلا حتى علموا أن هؤلاء القادمين ليسوا من الأجانب؛ إذ سمعوهم يتكلمون باللغة العربية، فتقدم شيخهم وسألهم قائلا: «هل لكم في الصعود إلى قمة الهرم الكبير؟»
وهنا أعرب سليم عن رغبته في الصعود، فأوقفه حبيب محذرا إياه قائلا: «إني لا آمن عليك هذا الصعود، فإن في ذلك خطرا كبيرا، وكم من أناس خسروا حياتهم لتجرئهم على صعود الهرم، فزلت أقدامهم خلال ذلك.»
فلما سمعت سلمى ذلك اقشعر جسمها خوفا على حبيبها ونظرت إليه وفي ملامح وجهها ما ينم عن خوفها على حياته، فتأثر بتلك النظرة تأثرا شديدا، ولكنه تذكر حديث داود عنها، فانقبض قلبه وظهر ذلك على وجهه فحول نظره عنها مغضبا، فدنت هي منه تاركة والديها يذهبان إلى الجانب الآخر من الهرم ليتأملا ارتفاعه ومعهما الخواجة سعيد، ثم التفتت وراءها فإذا بحبيب واقفا إلى جانب أدما وأخته شفيقة يشرح لهما تاريخ بناء الهرم، وهما شاخصتان إليه مشغولتان بما يقول، فعلمت أن لا أحد يسمعهما إذا تكلمت فقالت لسليم: «ألا تخاف الصعود إلى قمة هذا الهرم، وهي على هذا الارتفاع الهائل؟» قالت ذلك وهي ترنو إليه وتلاحظ حركاته.
فقال: «لو كان ارتفاعه أضعاف ما هو عليه، ما خفت الصعود إلى قمته.»
قالت: «ولكنني أنا أخاف عليك.»
قال: «مم تخافين؟»
قالت: «لا أريد أن تعرض حياتك للخطر.»
Page inconnue