فقالت: «أرجو ألا يكون في ذلك ضرر عليك يا عزيزي.»
فأجابها وهو ينظر إلى نافذة القاعة قائلا: «لا ضرر هناك إن شاء الله.»
قال ذلك وهو يتردد بين عوامل الغيرة والكظم، فيهم بأن يظهر غضبه ثم يمسكه التعقل خشية سوء العاقبة.
فقال له حبيب وقد جاء بكرسيه إلى جانبه: «لا أراك الله مكروها يا عزيزي، ما لك منقبض النفس؟ ألا فرجت عنك وتركت المقادير تجري في أعنتها؟» وقد أراد بذلك أن يخفف عنه، ظنا منه أن انقباضه بسبب الخطاب الذي ورد إليه من والدته.
فأراد سليم أن يجيبه منتهرا ويوبخه، ثم تذكر ما بينهما من الصداقة القديمة وما للفتاة في قلبه من المحبة، وما يتجلى في وجهها من دلائل الوقار والهيبة والتعقل، فغلبت عليه طيبة قلبه، وأجاب حبيبا: «إني متكدر من أمر عرضي يتعلق بمهنتي، وليس فيه ما يوجب الخوف أو اليأس.» غير أن لهجته رغم ما حاوله من التلطف كانت تنم عما يعتمل في صدره.
فرأت سلمى أن عليها أن تعزي حبيبها وتواسيه، فدنت منه وأمسكت يده بيد كادت تذوب لطفا، ونظرت إليه بعينيها الجميلتين مبتسمة وقالت: «روحي فداك يا عزيزي، لا يغضبك أمر ولا تجعل للكدر بابا للتمكن منك فإنك تعلم أن الأعمال في هذه الدنيا تحتاج إلى التبصر والصبر، فلا تستعجل النجاح فلكل شيء وقته، ولا يخفى عليك أن الكدر يضعف الجسم.»
فوقعت هذه الكلمات في أذن سليم موقعا حسنا، وشعر بأنها ألقت عن صدره حملا ثقيلا من القلق والغيرة، وكان يحتاج وهو في تلك الحال من التردد إلى مثل هذه العبارة التي ساعدته في تخفيف غيظه وحملته على الصبر والتأني في حكمه على حبيبته وصديقه. ولما أمسكت يده شعر بمجرى كهربائي بارد تخلل أعضاءه فأخمد جانبا كبيرا مما كان متقدا فيها من نيران الانتقام والغيظ، فغلبت عليه الحكمة واعتزم إخفاء ما به والتربص ريثما يتحقق الأمر مرة ثانية وثالثة؛ لأن ما علمه حتى ذلك الوقت لم يكن كافيا لإصدار حكمه بإدانتهما، كما أن العواطف سريعة الحكم لا تصبر على العقل ريثما يتروى فتحمله على الانتقام من البريء لسرعة حكمها.
فنظر إليها مظهرا البشاشة وقال: «مهما أكن مثقلا بالهموم فإني أنساها عند مشاهدتك ومشاهدة عزيزي حبيب، ولكني كما قلت له مرة إذا تكدرت من أمر يصعب علي نسيانه حالا، فأتقدم إليكما أن تسبلا ذيل المعذرة على ما ظهر لكما مني الآن، فإن ذلك عن غير قصد مني وسببه ما ذكرت.»
فقال حبيب: «فليبتهج قلبك يا عزيزي ولا تحزن، إننا الآن نستعد للمسير إلى الأهرام غدا، وقد جئت الآن لهذه الغاية لكي نتفق على ميعاد نسير فيه معا. وتم الاتفاق على أن نبدأ الرحلة في الساعة السابعة صباحا. وسنعد ما نحتاج إليه من العربات ومعدات الطعام وما إليها؛ خشية أن يهمل الخدم في شيء من ذلك.»
ثم جاءت والدة سلمى فسلمت على سليم وأخذت ترحب به. وكانت قد سمعتهم يتحدثون عن رحلة الأهرام وإهمال الخدم فقالت: «قبح الله الخدم فإنهم لا يمكن الاتكال عليهم في أمر البيت، ولا بد لربته من المساعدة في جميع شئونه.»
Page inconnue