اقترب الصوت، ونادى من مكان ما جهة اليمين، وأدار ويل رأسه، وحاول أن ينهض حتى يشهد المنظر بصورة أوضح. غير أن الذراع التي كان يستند إليها بدأت ترتعش، ثم هوت وسقط بين أوراق الشجر. ولما كان مجهدا إلى حد لا يستطيع معه استرجاع الماضي فقد استلقى مكانه لفترة طويلة محدقا إلى أعلى من خلال جفنين نصف مغمضين نحو عالم من حوله لم يدرك له كنها. أين هو؟ وكيف وصل إلى هذا المكان؟ ولم يكن ذلك مهما في حد ذاته، إذ لم يكن يهمه في تلك اللحظة سوى ما يحس من ألم ومن ضعف قاتل، ومع ذلك فقد دفعه اهتمامه العلمي إلى ...
هذه الشجرة - مثلا - التي ألفى نفسه (لسبب ليس يعرفه) ملقى تحتها، وهذا الجذع المرتفع بقشرته الرمادية، وبأعلاه عقدان متقاطعان من الأغصان المرقشة بضوء الشمس؛ هذه الشجرة على هذه الصورة لا بد أن تكون من أشجار الزان، ولكنها إن كانت كذلك فإن أوراقها لا يصح أن تكون دائمة الخضرة كما بدت؛ وهنا أعجب ويل بنفسه لوضوح منطقه. ولماذا ترفع شجرة الزان جذورها كالأكواع فوق سطح الأرض على هذا النحو؟ وهذه الدعامات الخشبية العجيبة التي تستند إليها الشجرة الشبيهة بشجرة الزان ما مكانها من الصورة؟
وما أعجب هذه الفراشات التي تنقض هناك في ضوء الشمس الشديد. لماذا هي في هذا الحجم الكبير، لازوردية بشكل غير مألوف أو سوداء كالمخمل، واسعة العينين بها كلف غير معهود؟ والأرجوان يطل من الكستناء، والفضة منثورة فوق الزمرد، وفوق التوباز (حجر كريم)، وفوق الياقوت الأزرق! - انتباه!
وصاح ويل فارنبي بصوت ظنه عاليا مزعجا: من هناك؟ في حين أن كل ما خرج من فيه لم يكن سوى صوت منخفض رفيع مرتعش .
ثم ساد سكون طويل ومخيف للغاية فيما بدا. وبرزت من الفجوة التي تقع بين دعامتين خشبيتين من دعامات الشجرة حشرة لها أربع وأربعون رجلا، ضخمة سوداء اللون، وظهرت للعيان لحظة، ثم أسرعت مبتعدة وهي تجري بأرجلها العديدة القرمزية واختفت في فجوة أخرى.
وبصوته الخفيض صاح مرة أخرى: من هناك؟
وسمع خشخشة في الأشجار التي كانت على يساره، وفجأة ظهر طائر أسود ضخم في حجم الغراب - وليست بي حاجة إلى القول بأنه لم يكن غرابا - وكأنه وقواق قد أطل من ساعة حائط، وصفق بجناحين أطرافهما بيضاء، ثم اندفع في الفضاء الذي يفصله عن ويل، واستقر فوق أدنى أغصان شجرة صغيرة ذابلة تبعد أقل من عشرين قدما عن المكان الذي كان يرقد فيه. ولاحظ ويل أن منقار الطائر برتقالي اللون، وتحت كل عين بقعة صفراء جرداء، وأن له ألغادا صفراء فاتحة تغطي رأسه ومؤخرته، مع لمة كثيفة من اللحم العاري. وهز الطائر رأسه في خيلاء وحدق فيه بعينه اليمنى أولا ثم بعينه اليسرى بعد ذلك، وبعدئذ فتح منقاره البرتقالي، وصفر عشر مرات أو اثنتي عشرة مرة بنغم منخفض على المستوى الخماسي من السلم الموسيقي، وصدر عنه صوت شبيه بالغواق، وفي كلمات غنائية بنغمة «دو دو سول دو» صاح قائلا: الآن، وفي هذا المكان يا قوم، الآن، وفي هذا المكان يا قوم.
وكأن هذه الكلمات قد ضغطت على زناد، وفجأة تذكر كل شيء. هنا بالا؛ الأرض المحرمة، المكان الذي لم يزره صحافي قبل اليوم. ولا بد أن يكون هذا الوقت هو الصباح الذي تلا ذلك المساء الذي فقد فيه رشده فأبحر وحده خارج ميناء راندنج لوبو. تذكر كل شيء: الشراع الأبيض الذي انتفخ بالريح فاتخذ شكل ورقة المنغوليا، والماء يتدفق عند مقدم السفينة، وبريق الماس على قمم الأمواج، والقنوات التي تشبه اليشم المجعد، وعبر المضيق شرقا تلك السحب، وعجائب ذلك اللون الأبيض المنحوت الذي يعلو براكين بالا. وفي جلسته عند ذراع الدفة تنبه إلى نفسه فإذا به يغني ويشعر بسعادة لا تشوبها شائبة وبدرجة لا يتصورها العقل.
وحملت الرياح فوق موج البحر الصاخب نشيده الذي تغنى فيه بوحدته الموحشة.
وليست بنا حاجة إلى القول بأن ما حذر منه كل الملاحين الحذرين المجربين قد حدث؛ العاصفة الهوجاء تهب من أين لا يدري، والريح العاتية والمطر والموج تثور فجأة مسعورة مجنونة ...
Page inconnue