Jawhar Insaniyya
جوهر الإنسانية: سعي لا ينتهي وحراك لا يتوقف
Genres
لم يعان ميلاد الحضارة المصرية من السيطرة الخارجية بهذه الطريقة؛ فقد حدث هذا فيما بعد. بدأت منطقتان على طول نهر النيل تنشآن في الألفيتين الخامسة والرابعة قبل الميلاد؛ واحدة بالقرب من الدلتا (مصر السفلى) والأخرى على بعد 400 ميل جنوبا (مصر العليا). في عام 3100 قبل الميلاد تقريبا أنشأ مينا، الذي وحد مصر العليا والسفلى، عاصمته بالقرب من الدلتا، جنوب القاهرة في عصرنا الحالي، وأطلق عليها منف. وفرت مياه النيل وسيلة للتواصل والتجارة بين مصر العليا والسفلى، لكن شمالي منف بدأ النهر ينقسم إلى عدة فروع وقنوات شكلت دلتاه حتى يومنا هذا؛ يتغير شكلها وعمقها باستمرار مع انجراف الرمل والطمي أسفل النيل، ولم يكن أي منها مناسبا للإبحار؛ ومن ثم لم تكن منف ميناء، وكانت التجارة مع البحر المتوسط تحدث عبر البر، ثم من مرافئ على طول ساحل فلسطين. ظهرت المدينة التي نمت لتصبح مركزا تجاريا في أعلى نهر النيل، طيبة، بعد هذا بفترة قصيرة، وأصبحت بحلول عام 1500 عاصمة مصر.
بنيت أقدم الأهرامات في منف، تقريبا في وقت بناء الزقورات البابلية. ومثل الزقورات، بنيت الأهرامات بوصفها حجرات لدفن الحاكم وأسرته. لم يدفن الفراعنة مع مقتنياتهم المفضلة المصنوعة من الذهب والمعادن النفيسة فحسب، ولكن مع الطعام أيضا لضمان رحلة آمنة إلى الحياة الآخرة. اتسم أول هرم، الذي بني في سقارة للفرعون زوسر على يد مهندسه المعماري إمحوتب في سنة 2700 قبل الميلاد تقريبا، بقاعدته المدرجة، تماما مثل الزقورة. ويقال إنه كان أقدم بناء يبنى بالكامل من الحجارة. اشتهر إمحوتب بسبب أعماله لدرجة أنه أله وعبد بوصفه راعي المهندسين المعماريين والكتاب وطلاب العلم. ويوجد افتراض حديث يقول إن الشكل المميز لهذا الهرم (بالإضافة إلى الأهرامات اللاحقة وأبو الهول في الجيزة) بني ليعكس شكل تكوينات صخرية طبيعية على بعد 300 ميل جنوبا في الصحراء بالقرب من الواحات الخارجة. منذ 5 آلاف سنة كانت هذه الأرض سافانا، وليست صحراء، وربما تجول البدو الذين عاشوا في هذه المنطقة باتجاه الشمال، وأحضروا معهم وصفا لمثل هذه الصفات الشكلية المميزة إلى سكان منف. إلا أن بعض المؤرخين يحتفظون باعتقادهم بأن شكل الأهرامات يرمز إلى صعود الفراعنة إلى الجنة على جوانبها المدرجة.
بنيت أهرامات الجيزة الثلاثة - وتقع جنوب مدينة القاهرة حاليا - في فترة اتسمت بالمهارة الشديدة منذ 4500 سنة (صورة 2). كان الهرم الأكبر أول هرم يبنى فيها، وهو أكبر الأهرامات، ويحتوي على أكثر من مليوني كتلة من الحجارة يزن كل منها في المتوسط 10 أطنان؛ ويصل ثقل بعضها إلى 200 طن. وحتى 100 سنة مضت لم يفقه أي مبنى في العالم وزنا.
3
وعندما زار المؤرخ الإغريقي هيرودوت الموقع في القرن الخامس قبل الميلاد، قدر أن قوة عاملة تبلغ 100 ألف عبد كانت ضرورية لبناء الهرم الأكبر. اكتشفت مؤخرا بقايا كثير من المباني الحجرية بالقرب من الجيزة ، ويرجع تاريخها إلى نحو 2500 عام قبل الميلاد، وضمت هذه المباني نحو 600 قبر صغير. لم تكن هذه مقابر ملكية؛ فلم تكن تحتوي على أي ذهب، ولم يكن الموتى محنطين. أظهرت هذه المقابر أن دفن عدد كبير من السكان كان أمرا شائعا. هل سكن هذه المنازل بناة الأهرامات الثلاثة؟ يعتقد علماء الآثار هذا، ويعتبرون هيرودوت مخطئا في أمرين؛ أولا: عدد المشاركين في عملية البناء؛ إذ يحتمل أنهم لم يتعدوا نحو 20 ألفا (لكن ربما استغرق منهم الأمر نحو 20 سنة حتى الانتهاء من كل هرم)؛ وثانيا: أنهم لم يكونوا عبيدا.
تشير عظام الحيوانات التي عثر عليها في الموقع أن الناس كانوا يأكلون طعاما عالي الجودة، أسماكا ولحوم الماشية. كما كانوا يخمرون الجعة ويخبزون الخبز. وتظهر عظامهم نفسها، التي حفظت جيدا في كثير من القبور في الموقع، علامات على مكان تعرضها للكسر (فيترك نقل حجارة تزن 10 أطنان أثره على العمود الفقري)، وإعادتها إلى مكانها بعناية. ومثل الطبقة الحاكمة، يبدو أن هؤلاء الناس كانوا يحصلون على أفضل رعاية طبية؛ حتى إنه توجد أدلة على إجراء عمليات بتر بعناية، كانت - على الأرجح - الأقدم في العالم. لكن اختلفت حياة هؤلاء عن الأقلية المرفهة؛ فكانوا يموتون في المتوسط قبلهم بعشر سنوات. تظهر العظام أن نصف السكان كانوا نساء، وكان في المتوسط ثمة طفل واحد لكل زوجين. باختصار، كان سكان هذا المكان أسرا عاملة ميسورة الحال تعيش في منازل حجرية؛ فلم يكونوا عبيدا. إذن ما الدليل على أنهم شاركوا على الإطلاق في بناء الأهرامات الثلاثة في الجيزة؟ كما ذكرنا، تظهر بقايا بعض الفقرات التي تشكل العمود الفقري علامات على تشوهات حادة، تتوافق مع تعرضها لإجهاد جسماني شديد. ثانيا، تربط النقوش التي عثر عليها في القبور مباشرة بين سكانها وبناء الأهرامات. استخلص الدي إن إيه من العظام الفردية (مع الحرص على منع تلوثه بأي دي إن إيه من الذين يتعاملون مع العينات). رغم أن الدي إن إيه ليس بحالة جيدة جدا - فهو في النهاية يبلغ أكثر من 4 آلاف سنة - يبدو أن التحليل يشير إلى وجود علاقة بالمصريين في العصر الحالي الذين يعيشون في القاهرة وبعيدا في الجنوب على طول أعالي النيل.
الصورة التي تظهر أمامنا تبدو كما يلي: كان بناة أهرامات الجيزة عمال بناء جاءوا مع أسرهم من جميع أنحاء وادي النيل، على الأرجح باختيارهم، من أجل المشاركة في هذا المشروع القومي. وكونوا مجتمعا - مدينة مزدهرة تمثل نحو 2٪ من المليون مصري الذين كانوا يعيشون في هذا الوقت - مكرسا لهدف واحد؛ بناء أكبر أضرحة ممكنة لتوضع فيها جثامين ملوكهم. لحسن الحظ عاش معظم هؤلاء الفراعنة فترة طويلة بما يكفي لرؤية مثواهم الأخير مكتملا قبل وفاتهم. بني الهرم الأكبر - الشمالي من بين الثلاثة - من أجل الملك خوفو (تشيوبس بالإغريقية)، الملك الثاني في الأسرة الرابعة.
4
أما الهرم الثاني الذي بني فهو الهرم الذي يوجد حاليا في المنتصف؛ فقد كلف ببنائه ابن الملك خوفو الثاني خفرع، الذي خلف بعد حكم أخيه الأكبر لفترة قصيرة. هيمنت فترتا حكم خوفو وخفرع على زمن حكم الأسرة الرابعة؛ إذ امتد حكمهما 106 سنوات. أما الهرم الثالث الجنوبي من بين الأهرامات الثلاثة فقد بني في عهد ابن خفرع؛ منقرع. لم يعش طويلا بما يكفي ليرى قبره منتهيا؛ فقد أتم بنائه خليفته شبسس كاف.
كيف بنيت هذه الآثار؟ على الأرجح بدأت عملية البناء بإتمام القاعدة بالكامل، ثم سحب الكتل الحجرية بحبال أعلى منحدر صنع خصوصا، يمتد على طول الجانب الخارجي للبناء المتزايد، وعند الانتهاء من القمة يزال المنحدر. يوجد تفسير بديل لرفع الكتل الضخمة من الحجارة عن الأرض اقترحه مؤخرا علماء أمريكان من معهد كالتيك؛ إذ اقترحوا استخدام طائرات ورقية لتطيير كتل الحجارة حرفيا ووضعها في مكانها. رغم أن هذه تبدو فكرة مثيرة للاهتمام، فمن غير المحتمل أن تكون هي الطريقة الوحيدة المستخدمة؛ فمن المعقول أكثر ربط الحجارة بطائرات ورقية من أجل تخفيف وزنها لا أكثر. بمجرد الانتهاء من وضع الحجارة في مكانها، غطيت الجوانب بطبقة من الحجارة البيضاء الملساء. سرق معظم هذه الطبقة الخارجية منذ ذلك الحين، تماما مثلما سرقت المحتويات الداخلية للمقابر، لكن الطبقة الخارجية بالقرب من قمة الهرم الأوسط لا تزال في مكانها. يعطي هذا الزائر فكرة عما كانت تبدو عليه الأهرامات الثلاثة في الأصل تحت ضوء الشمس الساطع في مصر؛ مشهد مبهر حقا (صورة 2).
Page inconnue