Jawhar Insaniyya
جوهر الإنسانية: سعي لا ينتهي وحراك لا يتوقف
Genres
يمكننا أيضا ملاحظة كيف كان الحكم في الصين في هذا الوقت؛ فرغم أن الكلمة الأخيرة كانت دوما للإمبراطور، فقد كان الحكم يحدث في الأساس على يد بيروقراطية متعلمة؛ فحتى الجيش كان يأتي في المرتبة الثانية. ومنذ الوقت الذي لم تكن فيه الصين موحدة بعد تحت قيادة أسرة تشين في القرن الثالث قبل الميلاد، شكل الدارسون الذين تلقوا تدريبا في فن الإدارة نظاما للإدارة بالاستحقاق والكفاءة، اعتمد بموجبه الترقي بصرامة على الموهبة، وليس النسب؛ فكان نظام الاختبار الذي يحدث على أساسه اختيار الإداريين المستقبليين من أكثر الأنظمة صرامة على الإطلاق. وبالتأكيد أدى شكل الحكم هذا إلى استقرار الإمبراطورية واستمرارها على مدى 21 قرنا تالية.
حين ننتقل إلى العصر الروماني، نجد أن أعظم إنجازاته حدثت تحت حكم الجمهورية (تقريبا من 500 إلى 27 قبل الميلاد. ووقتها أصبحت كلمة «ملك» سبة). في أثناء القرن الأول الميلادي على وجه الخصوص وسعت روما حدودها عبر انتصارات يوليوس قيصر؛ فبدأت في إدخال النظام القانوني المستخدم حتى يومنا هذا في معظم أنحاء أوروبا، وكانت موطنا للخطباء أمثال شيشرون وللشعراء مثل فيرجيل. كانت الجمهورية يحكمها قنصلان ومجلس للشيوخ، لم تكن عضويته (900 عضو في هذا الوقت) مقتصرة على الأرستقراطيين أصحاب الأراضي (الأشراف)، ولكنها كانت مفتوحة أيضا لبعض العوام (عامة الشعب).
13
كان القادة مثل يوليوس قيصر يتلقون أوامرهم من مجلس الشيوخ، وكانوا يتصرفون وفقا لأوامره. وفي حقيقة الأمر، حين طلب من القيصر في عام 49 ميلادية التنازل عن القيادة، فإنه تجاهل الأمر، واتجه بجيشه جنوبا وعسكر به على الضفة الشمالية لنهر روبيكون بالقرب من جمهورية سان مارينو الحالية. وقد ألزم قيصر نفسه، بعبوره هذا المجرى المائي، بمجموعة أحداث ستحدد بقية حياته؛ فقد اختار دخول روما وحكمها بمفرده. استطاع تحقيق هدفه (فقد فعل هذا بوجه عام)، ورغم أنه حكمها كديكتاتور، فقد فعل هذا بحكمة وابتكار. وعند اغتياله بعد خمس سنوات، انتقلت السلطة إلى أوكتافيان، الذي تبناه القيصر كابن له؛ فلم تكن صلة قرابة أوكتافيان به أكثر من مجرد حفيد أخته. إن ممارسة تبني المرء قريبا بعيد الصلة وجعله ابنه - ومن ثم خليفته - توضح إدراك الرومان لضعف مبدأ التوريث. ورغم أن أوكتافيان أعاد اسميا الحكم لمجلس الشيوخ، الذي منحه لقب أوغسطس (بمعنى المبجل)، فقد حكم كإمبراطور تماما منذ عام 27 قبل الميلاد فصاعدا. وتحت حكمه وصلت روما إلى القمة من حيث الإدارة المبدعة والثقافة المزدهرة، وكان وقت سلام إلى حد كبير (السلام الروماني). كان العصر الأوغسطي ناجحا للغاية؛ لدرجة أن اسمه أطلق على فرنسا وإنجلترا منذ أوائل القرن الثامن عشر حتى منتصفه، عندما ازدهر كتاب مثل كورني وراسين وموليير، ومثل بوب وأديسون وسويفت وستيل، الذين أعجبوا جميعهم عرضيا بالقيم الرومانية.
عند وفاة أوغسطس في 14 ميلاديا، انتقل التاج إلى ابن زوجته (فلم يكن لديه ابن) تيبيريوس، الذي اعتبره أوغسطس ابنه بالتبني، واستمر تقليد تحديد المرء لخليفته طوال سنوات بقاء الإمبراطورية. وكما قد نتوقع، أحيانا يثبت الابن بالتبني جدارته للمهمة، وأحيانا لا، كان ابن تيبيريوس بالتبني (حفيد أخيه) كاليجولا كارثة على روما، بينما تمكن خليفته، كلوديوس (عمه فعليا)، من إنقاذ الوضع إلى حد ما. أما ابن كلوديوس بالتبني، نيرون (حفيد حفيدة أغسطس من زواج سابق) فقد اتضح أنه أسوأ حتى من كاليجولا؛ وعندما مات ألغى مجلس الشيوخ فترة حكمه رسميا من السجلات. ومع وفاة نيرون انتهت السلالة التي تمتد حتى يوليوس قيصر، وأدخل دم جديد من خلال اختيار أباطرة من أسرة فلافيان، مثل فسبازيان، وأنقذت روما. وقد بدأت أحد أكثر فتراتها نجاحا عندما تلاشت السلالة الأنطونية، التي تلت سلالة فلافيان، فوقع الاختيار على شخص غريب تماما؛ فكان أول ابن متبنى، وربما الوحيد الذي لم تكن تربطه بوالده صلة قرابة على الإطلاق، فلم يكن حتى من روما، إنما كان قرويا من إسبانيا. كان هذا هو الإمبراطور تراجان الذي أثبت أنه أحد أفضل حكام الإمبراطورية؛ إذ وسع حدودها أكثر، مثلما فعل خليفته؛ إسباني آخر هو هادريان. إن الاستنتاج الذي يمكننا التوصل إليه من هذا بسيط؛ فطوال عهد الجمهورية وفي السنوات الأولى من الإمبراطورية، وهي الفترة التي لم يكن أي حاكم يعين بسبب نسبه فقط، كانت روما في أوج ازدهارها؛ ومن ثم عندما أصبح الاختيار يقع على الأباطرة إلى حد كبير بسبب نسبهم (وكانت فترات حكمهم تقتطع بالقتل)، بدأت روما في الاضمحلال.
لا يكون الحاكم الذي يعين نفسه، مثل يوليوس قيصر أو أغسطس، أسوأ بالضرورة من الحاكم المنتخب، شريطة أن يكون رجلا موهوبا. في إنجلترا عندما عين أوليفر كرومويل نفسه في عام 1653 السيد الحامي للكومنولث، بدأ كثيرا من الإصلاحات المفيدة، وورث ابنه ريتشارد اللقب بعد وفاة كرومويل في عام 1658، وأثبت عدم كفاءته للمهمة. ونتيجة لهذا سرعان ما أعيد النظام الملكي بدلا من هذا، لكن مع شرط واحد؛ من الآن فصاعدا أصبح البرلمان، وليس التاج، هو الذي يتخذ القرارات المهمة في الدولة.
في العصور الوسطى كانت القوة الوحيدة خارج آسيا التي تضاهي الإمبراطورية العثمانية - القوة السائدة منذ 1300 ميلاديا فصاعدا - في الثقافة والحضارة توجد في دولة مدينة صغيرة تقع على عدد من الجزر داخل بحيرة تبلغ مساحتها أقل من 100 ميل من أحد جوانبها إلى الجانب الآخر. ومع ذلك كانت البندقية تضاهي الإمبراطورية العثمانية - التي بلغت مساحتها 5 آلاف ميل من الهند في الشرق حتى البرتغال في الغرب - في التجارة وفاقتها في الفن. استمرت جمهورية البندقية نحو 800 سنة، وأنتجت فترة ازدهارها (من القرن الخامس عشر حتى القرن الثامن عشر) بعضا من أفضل الفنانين في أوروبا؛ رسامين مثل ياكوبو بيليني وابنيه جينتيلي وجوفاني، بالإضافة إلى تلميذيه جورجوني وتيتيان، وأعقبهم تينتوريو وفرونزه وإل جريكو. كانت هذه الجمهورية أيضا موطنا لمعماريين مثل بالاديو، وموسيقيين مثل مونتيفيردي وفيفالدي. مع ذلك، في الوقت الذي كانت معظم الدول في بقية أنحاء أوروبا يحكمها ملوك وأمراء بالوراثة، فضلت البندقية القادة المنتخبين (لا بد من الاعتراف بأن نحو 1٪ فقط من الشعب كان له الحق في التصويت)؛ فقد ألغت على وجه الخصوص الخلافة الوراثية لأسرة دوجي - حكام البندقية - في عام 1032. يمكن القول إن سلطات الأسر الحاكمة حققت نجاحا مماثلا في إنجلترا وفرنسا وإسبانيا، إلا أن الحكام الضعفاء حدوا من تقدم بلادهم في أوقات كثيرة. نمت البندقية بثبات، على مستوى ممتلكاتها الخارجية وفي استقرار مؤسساتها. ولم تبدأ قوتها، وليس ثقافتها، في التدهور إلا عندما تحولت التجارة بين أوروبا وآسيا من كونها تجرى عبر البحر المتوسط (رحلة برية طويلة) إلى إجرائها عبر طريق في المحيط أسهل حول أفريقيا، اكتشفه المستكشفون البرتغاليون في مطلع القرن السادس عشر.
يمكننا إجراء مقارنة سريعة بين استقرار الحكم البابوي في روما مع حكم الإمبراطورية خارج حدود المدينة المقدسة، التي من المفترض أنها تطبق حكم الباباوات؛ أي الجانب العلماني في مقابل الجانب الديني للعالم المسيحي. كانت الإمبراطورية الرومانية المقدسة، رغم استمرارها لألف سنة، تمزقها النزاعات بين الأسر الحاكمة وجيرانهم، وقد نجت الكنيسة الكاثوليكية مرتين في هذه الفترة. ومنذ عام 1059 لم يستطع أي بابا تعيين خليفته؛ فيجب انتخاب كل بابا، عبر اقتراع سري، من مجمع الكرادلة. يوجد مثال آخر يمكن الاستشهاد به؛ فمنذ عام 1328 حتى عام 1572 حكمت أسرة ياجيلون بولندا، ورغم أن الحكام جميعهم كانوا أقارب، فإن الملك كان ينتخب - وإن كان من الطبقة الأرستقراطية - ولم يكن يعين ذاتيا؛ حتى إنه أدخل شكل محدود للحكم البرلماني في عام 1493. ازدهر الفن والعلم في أثناء حكم أسرة ياجيلون؛ فقد أحدثت دراسات نيكولاس كوبرنيكوس، التي أدت إلى افتراضه في عام 1543 أن الأرض والكواكب الأخرى تدور حول الشمس، وليس العكس، إلى إحداث ثورة في علم الفلك، وأثرت كثيرا في رجال مثل جاليليو ونيوتن. توسعت بولندا على أكبر مساحة ملكتها في تاريخها؛ فبحلول عام 1569 امتدت من البلطيق حتى البحر الأسود. وصلت حركة الإصلاح الديني إليها في عام 1520 تقريبا، رغم قمعها في البداية، وأقر الدين البروتستانتي في عام 1552 وطوال السنوات ال 130 التالية كانت بولندا الدولة الوحيدة في أوروبا الخالية من الاضطهاد الديني. وبمجرد إدخال الحكم الوراثي مرة أخرى، انهارت الدولة، ولم تستعد قط المكانة التي تمتعت بها تحت حكم الحكام المنتخبين.
عند التفكير في الحكم الفعلي للدولة، تمثل الصين مثالا بارزا؛ إذ يختار كل المسئولين فيها على أساس الجدارة، ومن طبقات البيروقراطية المتعلمة. ورغم الصراعات الداخلية وغزو المغول وغيرها من القبائل المحاربة، استمرت الإمبراطورية ألفي سنة. قارن دولتين لهما الحجم نفسه في أوروبا في القرن الثامن عشر. كان الوزراء في فرنسا رجالا ذوي مكانة مرتفعة، ويعينون لنسبهم.
14
Page inconnue