Jawhar Insaniyya
جوهر الإنسانية: سعي لا ينتهي وحراك لا يتوقف
Genres
6
يكون المجتمع الذي يعيش على الانتهازية أقل ابتكارا وأقل تقدما من المجتمع الذي يواجه التحديات على نحو مباشر؛ فقد أثبت نشاط الصيد القاسي، على المدى الطويل، أنه أكثر نفعا للإنسان من جمع والتقاط الطعام.
إذن فإن الافتراض الثاني الخاص المتعلق بالبيئة هو أن تحدي الظروف الصعبة هو الذي يخرج الإبداع لدى الإنسان، وسعيه للعثور على طرق لترويض البيئة لأوامره، فكانت المحن، وليس الرخاء، هي التي أدت إلى ظهور الحضارات. حتى في وقت مبكر من التاريخ، منذ 50 ألف سنة، ألم يكن الإنسان يستجيب لتحد عندما انطلق من المكان المعروف حاليا بإندونيسيا وبدأ يجدف في اتجاه الشرق ليصل إلى سواحل غينيا الجديدة، التي كانت ترتبط في هذا الوقت بأستراليا بجسر أرضي؟ يعتبر وجود مجرى مائي عنصرا مهما في أي مجتمع؛ خاصة إن كان مجتمعا زراعيا، وحقيقة أن الحضارات السومرية والمصرية والهندية والصينية نشأت كلها على ضفاف نهر ليست مصادفة. إلا أن توينبي يشير إلى أن المراعي المجاورة لنهر النيل، وتلك الموجودة بين نهري دجلة والفرات، في الواقع مرت بفترة من الجفاف عقب نهاية العصر الجليدي الأخير، تحولت خلالها الأرض المحيطة بها من أرض عشبية إلى صحراء. ومع ذلك كانت هذه هي الفترة نفسها، منذ نحو 6 آلاف إلى 4 آلاف سنة، التي وصلت فيها الثقافات المصرية والسومرية (في بلاد الرافدين) إلى ذروتها.
حدث هذا لأن هذه المجموعات التي كانت تمتلك فيما بينها عزما كبيرا ودافعا قويا للبحث عن إجابات للتحديات الجديدة ، اختارت الانتقال من مراع في سبيلها إلى الاختفاء حول نهر دجلة ونهر النيل إلى مستنقعات الأنهار نفسها، التي تجنبتها شعوب لديها رغبة أقل في خوض المحن.
7
ومن خلال الحاجة إلى التكيف مع هذه المستنقعات، توصل المغامرون إلى طرق لصرف المياه وري محاصيلهم استمرت حتى يومنا هذا. أما الأقل ابتكارا فإما ظلوا حيث كانوا وماتوا، أو انتقلوا إلى مناطق بإمكانها الاستمرار في دعم حياتهم على الزراعة البدائية والصيد دون عناء كبير. لم يكن هؤلاء هم الذين بنوا أهرامات الجيزة أو مدينة بابل، ولم يكن هؤلاء هم الذين اخترعوا العجلة ولا الكتابة المسمارية، ولم يكونوا هم من صنعوا الحلي ولا الأوعية المصنوعة من الذهب، ولم يكونوا هم الذين حددوا نقاط البوصلة من مواقع النجوم.
ما التحديات التي تحتم على المستوطنين في وادي النهر الأصفر التغلب عليها؟ ربما كان التفاوت في درجات الحرارة مع تغير الفصول؛ الشتاء قارس البرودة في مقابل الصيف شديد الحرارة. لم تكن الشعوب الموجودة في الجنوب، في وادي نهر اليانجتسي الذي يظل فيه المناخ أكثر دفئا طوال السنة، بحاجة لمواجهة هذا التحدي، ويرى توينبي أن هؤلاء لم يكونوا مؤسسي الثقافة الصينية.
8
ومع ذلك، أصبحنا نعرف الآن أن المناخ في شمال الصين كان أكثر دفئا بدرجة كبيرة في العصر الحجري الحديث، لذلك ربما لعبت عوامل أخرى دورا. بالإضافة إلى هذا، منذ عصر توينبي، كشفت أعمال التنقيب في محيط حوض نهر اليانجتسي مواقع لمستوطنات في قدم تلك الموجودة على طول النهر الأصفر؛ ربما تمثل التحدي الذي واجه مؤسسيها في الفيضانات التي تحدث بانتظام على ضفاف نهر اليانجتسي الممتلئ بالماء.
ربما تكون الغابات الموجودة في سهول يوكاتان غنية بالموارد الطبيعية، لكن نموها بسرعة كبيرة طرح تحديا مستمرا يتمثل في تقليم أظافر الطبيعة؛ وذلك بتقليم الشجيرات وتقطيع الأشجار باستمرار من أجل الحفاظ على الممرات التي اختار المايا الاستقرار فيها. أما الذين عاشوا على المرتفعات - الذين أسسوا في النهاية إمبراطورية الآزتيك - فكانت حياتهم أسهل. فلم يؤسس أسلافهم حضارة بدائية، ولكنهم ظلوا صيادين ومزارعين بدائيين ، حتى استوعبوا في النهاية ثقافة أولئك الذين أسسوا مدينة تيوتيهواكان في الشمال، والمايا الذين بنوا مدينة بالينكي وتشيتشن إيتزا في الجنوب الشرقي. اضطر الإنكا في بيرو إلى مواجهة نوعين من التحدي؛ فعلى جبال الأنديز المرتفعة كان ثمة مناخ قارس البرودة وتربة فقيرة، وعلى طول الساحل كانوا يواجهون غيابا تاما لسقوط للأمطار وكانت الأرض مجرد صحراء، كحالها إلى يومنا هذا. ومع ذلك استطاعوا التغلب على كلا التحديين وأسسوا إمبراطورية استمرت طوال 300 عام.
Page inconnue