Jawhar Insaniyya
جوهر الإنسانية: سعي لا ينتهي وحراك لا يتوقف
Genres
أما الحجة المضادة، التي تقول إن زيادة الأعداد أدت بالإنسان إلى ترك حياة الترحال والتحول للزراعة من أجل توفير الطعام للأسر المتنامية، فهي أقل إقناعا؛ فهل يمكنك التفكير في مثال واحد لاستجابة النفس البشرية للزيادة السكانية بعلاج جذري؛ مثل التدخل في الطبيعة بإكثار بذور النباتات الصالحة للأكل، وترويض الحيوانات للاستخدام المنزلي؟ لا تعتبر حبوب منع الحمل مثالا جيدا؛ إذ كان المستفيدون من اختراعها منذ 40 عاما يتمركزون في أمريكا الشمالية وأوروبا، حيث لا يمثل حجم السكان مشكلة. وأثبتت تجربة استخدامها في الدول المكتظة بالسكان مثل الهند فشلها حتى الآن، وفي الصين اتبعوا حلا أسهل لاستمرار التحكم في عدد السكان؛ تمثل في التخلص من الطفل الثاني. أيا كانت أهداف اختراع الزراعة، فإنها مكنت المجتمعات من الوصول إلى الكتلة الحرجة التي عرفناها مسبقا. أنا لا أقول إن أول مليوني سنة من وجود الهومو على سطح الأرض لم تشهد أي تقدم؛ فقد تعلم أهمية النار، وصنع أدوات بسيطة. وبعد ظهور الهومو سيبيان منذ نحو 140 ألف سنة، بدأ أخيرا يزرع الأرض. كانت هذه كلها تطورات مهمة، عدة خطوات إلى أعلى سلم الإنجازات، لكن ظهورها كان بطيئا مقارنة بالإنجازات التي تحققت على مدى قرون منذ نحو 6 آلاف سنة فصاعدا، من بناء القرى والمدن، وصياغة القوانين، واختراع الكتابة، ونشأة الفن. تمثل كل هذه الأشياء جودة الحياة الدائمة التوسع؛ فمن خلال الدمج بين البراعة اليدوية والكلام والوظيفة الدماغية المتطورة تمكن الإنسان - داخل المجتمع المناسب - من الصعود عدة درجات أعلى السلم؛ فقد صعد أعلى من أي من أسلافه. في الواقع لا توجد أدلة تقريبا على أن الشمبانزي، أو أيا من الحيوانات الأخرى، تصعد السلم على الإطلاق؛ فأسلوب حياتها يتغير تغيرا طفيفا من جيل لآخر، من المحتمل أنه لم يتغير كثيرا على مدار 5 ملايين سنة مضت.
أريد التحدث الآن عن مفهوم آخر يهدف إلى شرح سبب تفوق بعض المجتمعات في بناء الحضارات
3
أكثر من غيرها؛ أن لديها قدرة أفضل في صعود سلم التقدم الثقافي. اخترع هذا المفهوم منذ نصف قرن المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي. لا يوجد وقت لدى طلاب العلم في عصرنا الحالي لوجهات نظر توينبي؛ فهي ليست «عصرية» بما يكفي، وأعترف بأن تحليل توينبي للحركات التاريخية الحديثة، مثلا على مدى الألف سنة الأخيرة، ليس مبسطا، لكني أجد تحليله للأحداث التي نتحدث عنها هنا، خاصة تلك التي حدثت تقريبا بين 4000 قبل الميلاد و1000 ميلاديا، التي ولدت خلالها الحضارات الأولى، مثيرا للاهتمام، وعليك أن تحكم بنفسك. إن الفرضية بسيطة، وتقضي بأن المجتمعات تستجيب لتحدي المحنة أفضل من استجابتها لفرصة الحياة السهلة. (1) تحدي المحنة
عند التفكير في مصير أسلافنا، الذين جابوا أفريقيا وأوروبا وآسيا ووصلوا إلى أستراليا وجزر المحيط الهادئ، وشقوا طريقهم من شمال أمريكا إلى جنوبها - ويطلق المؤرخون على هذا مصطلح «تجول القوم» - يتبادر إلى الذهن سؤال بديهي: ما الذي أدى إلى ظهور مجتمعات متطورة في بعض أجزاء من العالم دون الأجزاء الأخرى؟ لماذا في بلاد الرافدين (العراق حاليا) ومصر، وفي الصين والهند، وفي اليونان (كريت على وجه التحديد)، وفي أمريكا الوسطى (شبه جزيرة يوكاتان تحديدا)، وليس في شمال أوروبا، أو في وسط أفريقيا وجنوبها، أو في أستراليا أو أمريكا الشمالية (شكل
6-1 )؟ توجد في الأساس ثلاث وجهات نظر، أولها تتعلق ب «العرق».
يشير هذا ضمنيا إلى أن بعض مجموعات الهومو سيبيان كانت أكثر ذكاء وتنظيما إلى حد ما من غيرها. يوجد اعتقاد، يشيع ترويج المنحدرين من أصل أوروبي له، أن بعض الأعراق - كما تحددها الخصائص الجسدية مثل لون البشرة - أقل حظا في المهارات العقلية من غيرهم. ومع ذلك لا توجد أدلة علمية إطلاقا على ارتباط الصفات الجسمانية بصفات دماغية مثل الذكاء؛ ومن ثم تورثها على نحو متلازم. على العكس من ذلك، أوضحت في أوقات كثيرة أن الأفراد، وليس المجتمعات، هم الذين يتفاوتون في صفات مثل البراعة الذهنية. بالإضافة إلى هذا، بما أن المايا في أمريكا الوسطى والإنكا في بيرو، الذين أقاموا حضارات مزدهرة يرتبطون بالهنود الأمريكان في أمريكا الشمالية وجزر الكاريبي، الذين لم يتطوروا كثيرا إلى أبعد من إقامة مستعمرات قبلية، فإن افتراض أن العرق يحدد التأسيس الناجح للحضارات يبدو غير موثوق فيه. تنشأ المعضلة نفسها مع الثقافة المينوية في كريت، مقارنة بالحياة البسيطة التي يعيشها أمثالهم في أماكن أخرى من حوض البحر المتوسط. صحيح أن اليونانيين في أرض اليونان (المسينيين) أقاموا فيما بعد واحدا من أنجح المجتمعات على وجه الأرض، إلا أنهم سرقوا أفكارهم من المينويين، تماما كما أخذ الرومان أفكارهم من اليونانيين، وقلد بقية الأوروبيين في النهاية ثقافة روما، أو فرضت عليهم.
شكل 6-1: مولد حضارات أولية.
يمكن طرح هذه الحجج أيضا فيما يتعلق بالحضارات التي أقيمت في بلاد الرافدين ومصر، وفي الهند والصين. في كل حالة كانت بعض المجموعات تبني مدنا وتنشئ ثقافة متطورة، بينما لا يفعل هذا آخرون لهم الخلفية العرقية نفسها. يجب الانتباه هنا إلى أنني أتحدث عن الحضارات البدائية التي نشأت منعزلة، في ظل غياب التواصل مع أي ثقافة موجودة. وكما يمكن تتبع الحضارة المسيحية في أوروبا إلى المينويين، مع مدخلات أيضا من ثقافات مصر وبلاد الرافدين، ترجع جذور الحضارة الإسلامية إلى ثقافات بلاد الرافدين ومصر، مع مدخلات أيضا من الحضارة الرومانية في هذا الوقت. وعلى النحو نفسه نشأت ثقافات كوريا واليابان من حضارة الصين،
4
Page inconnue