Jawhar Insaniyya
جوهر الإنسانية: سعي لا ينتهي وحراك لا يتوقف
Genres
58
دعونا نتوقف قليلا لدراسة هذه النقاط.
أولا: هل تؤدي فعليا الزيادة في عدد السكان إلى تكوين ثروة؟ على أساس أن كل أسرة في المتوسط تملك خنزيرا واحدا - أو ما يوازي قيمته بالنقود - فإن الدولة التي توجد بها 10 ملايين أسرة تكون أغنى بعشر مرات من الدولة التي توجد بها مليون أسرة فقط. لكن إن كانت نسبة كبيرة من الأسر لا تملك فعليا أي شيء، والأسوأ من هذا تحتاج إلى دعم الأيسر حالا، فإن الفرق بين الثروة التي يحققها الأغنياء وتلك التي يستهلكها الفقراء يكون العامل الحاسم. ولا يمكنني التفكير في حالة انخفضت فيها فعليا ثروة الدولة بسبب سخائها مع الفقراء فيها (ربما اقتربت بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية من هذا). يكون الوضع المعاكس - المتمثل في استخدام الفقراء في تكوين الثروة - مألوفا أكثر، وأوضح مثال عليه استخدام العبودية. ففي ذروة ازدهار الإمبراطورية الرومانية، كان نصف شعبها عبيدا؛ وازدهرت روما. من ناحية أخرى، لا يسهم العبيد في اختراع تكنولوجيا جديدة، ويرى جاي هذا على أنه عامل مساعد في انهيار الإمبراطورية في النهاية. لذلك فإن العلاقة بين الثروة وحجم السكان ليست مباشرة. في الواقع، ربما تكون هذه العلاقة المتبادلة في عصرنا الحالي معكوسة؛ فنجد أن سويسرا وسنغافورة وبروناي كلها دول صغيرة لكن غنية (علينا أن نقول إن هذا نتيجة لتكنولوجيا شعوب أخرى، وللنظام المصرفي، واستخدام حاويات في نقل البضائع، والتنقيب من أجل استخراج البترول، على الترتيب)؛ كما أن عدد سكان اليابان عشر عدد سكان الصين، لكن إجمالي ثروتها أكبر.
59
ثانيا: يعتمد مدى استعادة الدولة لثروتها بعد الحرب على كم ما استنزف في أثناء الصراع، ومدى سرعة قدرة الدولة على العودة إلى النمو في فترة الاستقرار. تعافت كافة الدول التي شاركت في الحروب النابليونية في النهاية، إلا أن القرن التاسع عشر كان على وجه الخصوص قرنا مناسبا لاختراع التكنولوجيا الجديدة في أوروبا. ومن ناحية أخرى، أدى المال الذي أنفقه الاتحاد السوفييتي على الأسلحة في النصف الثاني من القرن العشرين، مع عدم إطلاق طلقة واحدة فعليا، إلى جعله على وشك الإفلاس بنهاية الحرب الباردة. وبعد مرور أكثر من عقد بدأ بالكاد يتعافى. بدأت أعجب ببيتر جاي مع أول اقتراح من اقتراحاته الأربعة التي عرف بها النجاح الاقتصادي للدولة: «... عند إعطائه نصف فرصة فإنه [الإنسان] سيسعى إلى الحفاظ على حالته المادية، وإن أمكن إلى تحسينها.»
60
أليس هذا ما يعتمد عليه جوهر حجتي بشأن السعي وراء تكنولوجيا جديدة؟
ترتبط التكنولوجيا بالثروة بطريقة مباشرة أكثر حين ندخل استبدال المال (المعادن والفضة والذهب) بالمقايضة ضمن الابتكارات التكنولوجية. يعتبر السند التجاري نتيجة لاستخدام النقود المعدنية. إنه ما يرتكز عليه إصدار البنوك للعملات الورقية، وكان أمرا مهما للتجارة عند التعامل مع مبالغ كبيرة. كان الصينيون يتاجرون باستخدام عملات ورقية من نوع ما في القرن السابع. ورغم أن البيوت المصرفية أقيمت في إيطاليا في القرن الثالث عشر، فلم يبدأ تداول الأوراق المالية كما نعرفها إلا في العصور الحديثة. بدأ إصدار العملات الورقية في أمستردام في عام 1609، وفي ستوكهولم في عام 1661، وفي شركة خليج ماساتشوستس في عام 1690، وفي لندن في عام 1694.
61
بالطبع كانت السندات الخاصة أو «الكمبيالات» موجودة قبل هذا بكثير، لكن استخدامها اعتمد على مقدار ما يمكن ائتمان المستدين عليه. ويكمن جوهر النظام المصرفي في أن الثقة يمكن اعتبارها أمرا مسلما به. فكان نظام المحاسبة، الذي ظهر في عهد الإمبراطورية العثمانية، وأسلوب «القيد المزدوج» في إمساك الدفاتر، الذي ابتكر في إيطاليا بين نهاية القرن الثالث عشر وبداية الرابع عشر (ما يظهر وجود تغيرات في الأصول والنفقات والدخل)، تطورات أساسية في توليد هذه الثقة. وعندما سألت عالم الاقتصاد الإنجليزي سير آلن والترز منذ بضع سنوات إلى أي مدى تسهم التكنولوجيا في قوة اقتصاد الدولة، رد قائلا: «إلى حد قليل نسبيا؛ فانظر إلى سنغافورة وهونج كونج، كلتاهما من الدول الغنية، ومع ذلك لا تملك أي منهما أي تكنولوجيا.» وتتمثل العوامل الرئيسية في رأيه في سيادة القانون ودرجة الثقة التي قد يضعها المرء في بنوك دولته ومؤسساتها التجارية الأخرى.
Page inconnue