Aspects intellectuels des différents systèmes sociaux
الجوانب الفكرية في مختلف النظم الاجتماعية
Genres
ولكي ندرك هذه العناصر السلبية يتعين علينا أن نبدأ بتحديد الطابع الذي تميزت به المرحلة الرأسمالية في عهد اكتمالها. (1)
فالرأسمالية المكتملة قد تحددت معالمها عندما بدأت تظهر طبقة عمالية متميزة، ترك أفرادها الطوائف الحرفية القديمة التي كانت راعية لهم، أو هاجروا من الريف بلا حماية، وأصبحوا واقعين وقوعا تاما تحت رحمة صاحب العمل، دون أن تكون لهم أية فرصة للارتقاء في سلم المجتمع، على عكس الصانع الحرفي التقليدي الذي كانت لديه على الأقل فرصة الارتقاء إلى مرتبة «متعهد الأعمال» (المقاول) أو «الصانع الماهر» (المعلم)، وحتى في الحالات التي لم يكن يتحقق فيها هذا الارتقاء كانت هناك علاقات شخصية متينة تربط الصانع بزملائه وبصاحب «الورشة» التي يشتغل بها. أما في ظل الرأسمالية المكتملة فقد تحول العمل من خدمة شخصية إلى سلعة لا شخصية، لا يرتبط فيها العامل بصاحب العمل إلا من حيث إن الأول يقدم قوة عمل معينة، والثاني يدفع أجرا معينا، وفيما عدا ذلك لا تقوم بين الاثنين أية علاقة. فالعامل في هذه الحالة شخص مجهول، أو هو على الأصح «قوة» لها طاقة معينة، ولا يهتم صاحب العمل على الإطلاق بالشخص أو الإنسان الذي يبذل هذه القوة، بل إن العلاقة بينهما تصبح تجريدية تماما، ولا تصطبغ بأية صبغة إنسانية. وهكذا فإن التوسع في استخدام الآلات في العصر الصناعي قد تولدت عنه نزعة آلية عامة، أثرت في تقدير قيمة الإنسان ذاته، فأصبح العامل مجرد ترس في آلة الإنتاج الضخمة المعقدة، قابل للاستبدال، شأنه شأن أي جزء أصم في أية آلة. (2)
وفي مقابل ذلك تراكم رأس المال وازدادت الثروات ضخامة في أيدي أصحاب الأعمال، الذين أصبحوا يلجئون إلى التخطيط الدقيق ويعملون على ترشيد الإنتاج بحثا عن أفضل الوسائل التي تكفل تحقيق أقصى قدر من الربح وأعظم قدر من الإنتاج.
السمات المعنوية للرأسمالي
والواقع أن الطريقة التي أصبح أصحاب الأعمال ينظرون بها إلى عالم الاقتصاد كانت طريقة متميزة عن كل ما عداها، ولا يمكن فهمها إلا في ضوء العصر الجديد؛ ذلك لأن المحور الذي كان يدور حوله النشاط الاقتصادي من قبل كان على الدوام هو الإنسان، بلحمه ودمه، وبحاجاته ومطالبه، أما في عصر الرأسمالية المكتملة فقد حلت محل الإنسان تجريدات لا شأن لها به، كالعمل والسوق والربح. وعلى حين أن الإنسان ظل، بمعنى ما، مقياس كل شيء حتى في العصر الرأسمالي المبكر، فإن البحث عن الربح والسعي إلى التوسع في الأعمال الاقتصادية أصبح الآن هو الغاية القصوى. بل إن الأعمال - كما لاحظ بعض الكتاب - قد أصبح لها وجود مستقل حتى عن أصحابها أنفسهم. فمن الممكن أن يكون أصحاب شركة معينة أشخاصا غير موثوق بهم، أو ذوي سمعة سيئة، ومع ذلك يظل اسم شركتهم أو الناتج الذي ينتجونه يحوز ثقة العملاء وإعجابهم، أي أنه يصبح شيئا مستقلا عن أصحابه، ويصبح للأعمال الاقتصادية وجود موضوعي لا صلة له بالإنسان الموجود من ورائها، وتتحول إلى كيان قائم بذاته. وكل ما يهتم به صاحب العمل هو أن يزيد هذا الكيان المستقل صحة ونموا وازدهارا.
إن من الشائع أن يوصف الرأسمالي بأنه شخص لا هم له سوى أن يحصل على مزيد من الربح. ومن المؤكد أن هذا الوصف صحيح إلى حد بعيد، ولكن ينبغي أن نكون على شيء من الحذر حين نتحدث عن سعي الرأسمالي إلى الربح. فالهدف الأكبر للرأسمالي هو أن تتوسع أعماله وتزداد نموا، وليس الربح إلا وسيلة لتحقيق هذه الغاية. وهنا قد يكون من المفيد أن نفرق بين لفظين يستخدمان في الأغلب بمعنيين مترادفين، هما الكسب والربح. فالكسب هو البحث عن مزيد من الأموال لكي ينتفع بها الشخص ذاته، أو من يحيطون به، في حياته. أما الربح فهو البحث عن مال أكثر يخصص أساسا للعمل نفسه، ولتوسيع نطاق الصناعة أو التجارة. بهذا المعنى يكون الكسب شخصيا عينيا، والربح لا شخصيا مجردا. وقد لا يكون من الخطأ أن نقول - في ضوء هذه التفرقة - إن كبار الرأسماليين يبحثون عن الربح قبل الكسب، بدليل أن الكثيرين منهم لا يعيشون، حتى وهم في قمة النجاح، حياة شديدة الترف، بل إن بعضهم قد يصل به الاستغراق في أعماله إلى حد إهمال حياته الشخصية وممارسة نوع خاص من الزهد (وإن كان الترف الشديد، بطبيعة الحال، موجودا بدوره لدى كثير من الرأسماليين)؛ ذلك لأن الموضوع الرئيسي لاهتمام أمثال هؤلاء الرأسماليين هو نجاح الأعمال ذاتها.
ولا يمكن القول إن هناك نقطة يتوقف عندها هذا النجاح، فكل توسع يجلب رغبة في مزيد من التوسع، بحيث كان «فيرنر زومبارت
Werner Sombart » على حق حين قال إن نشاط صاحب العمل الرأسمالي يتطلع نحو غاية لا نهائية؛ ففي الماضي، عندما كانت حاجات الجماعة هي التي تتحكم في النشاط الاقتصادي، كانت هناك حدود طبيعية، لا يمكن أن يتعداها هذا النشاط. أما عندما تصبح الغاية هي أن تزدهر الأعمال، لا أن تلبى حاجات الجماعة، فلا يمكن أن تكون مثل هذه الحدود موجودة، ويستحيل أن يصل صاحب العمل الرأسمالي إلى نقطة يمكن أن يتوقف عندها ويقول: كفى! وحتى لو وقفت أية عوائق في وجه نشاطه، فإنه يبدأ في تجربة جوانب أخرى من النشاط تكون فرص التوسع أمامها أعظم، وبذلك يمتد توسعه طولا وعرضا، أو انتشارا وعمقا، ويستحيل تصور هذا النشاط متوقفا؛ لأن التوقف معناه الاختناق والتدهور والانحدار.
وحين بحث «زومبارت» عن قيم للحياة الكامنة من وراء هذا السعي الجنوني إلى التوسع، رأى أن هذه القيم أشبه ما تكون بقيم الطفولة. فرجل الأعمال في نظره طفل كبير، وذلك في سعيه إلى الضخامة، مثلما يريد الطفل أن يكون كبير الجسم، بحيث يكون الحجم المجرد هدفا في ذاته، ويخلط بين الضخامة وبين ارتفاع المكانة أو العظمة. كذلك فإن رجل الأعمال طفل في سعيه إلى السرعة، واختصار الزمن في كل شيء، وفي بحثه عن التجديد المستمر، مثلما يرغب الطفل في تجديد لعبه وملابسه تجديدا دائما، وفي رغبته في الشعور بمزيد من القوة، عن طريق توسيع أعماله واستخدام ألوف الناس الذين يتوقف مصيرهم على كلمة منه.
على أننا سوف نتبين بعد قليل أن هذا الوصف إذا كان ينطبق على وجه من أوجه النشاط الرأسمالي، فإنه لا ينطبق أبدا على بقية أوجه النشاط التي يتبدى فيها الرأسمالي أبعد ما يكون عن الطفل الكبير، ويتخذ صورا لا صلة لها على الإطلاق ببراءة الطفولة وسذاجتها.
Page inconnue