[سورة التكوير: 24] فإنه كتب بالضاد وقرىء بها وبالظاء، وأطال السيد محمد رشيد رضا في الرد عليه وتفنيد كلامه ومما قاله " إن الإشكال الذي نظر إليه المفسر بعيني التقليد العمياوين فرآه كالجبل العظيم هو في نفسه صغير حقير، ضئيل قميء، خفي كالذرة من الهباء، أو كالجزء لا يتجزأ من حيث كونه لا يرى ولا يثبت إلا بطريقة الفرض أو كالعدم المحض، ثم أخذ يجيب عن الإشكال الذي فرضه الألوسي وملخص جوابه أنه لم ينف أحد من القراء كون البسملة من الفاتحة نفيا صريحا تعضده رواية متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كل ما يتعلق به النافون شبهة عدم رواية بعض القراء لها وشبهة تعارض الروايات الآحادية السالفة الذكر، وثبوتها قطعي بالروايات المتواترة تواتر سائر آيات الفاتحة، وعدم نقل الإثبات للشيء ليس نفيا له رواية ولا دراية، وقد فرق العلماء بين عدم إثبات الشيء وبين إثبات عدمه كما هو معلوم بالضرورة، ولو فرض أنه روى التصريح بالنفي لكان الواجب الجزم ببطلان هذه الرواية، ومنشؤه التباس نفي الإثبات بإثبات النفي لاستحالة كون المتناقضين قطعيين معا، ورواية الإثبات لا يمكن فيها الطعن، كيف وقد عززت بخط المصحف الذي هو بتواتره خطا وتلقينا أقوى من الروايات القولية، وأعصى على التأويل والاحتمال، ثم رد السيد محمد رشيد رضا على القائلين بأنها آية مستقلة بين كل سورتين للفصل بينهما ما عدا الفصل بين سورتي الأنفال وبراءة، وملخص رده أنه مجرد رأي أريد به الجمع بين الروايات الآحادية الظنية المتعارضة، والجمع بغيره مما لا إشكال فيه ممكن، فلو كان المراد بها الفصل بين السور لم توضع في أول الفاتحة وهي أول القرآن ترتيبا، ولم تحذف من أول براءة لوجود العلة المقتضية للإثبات، ثم تعقب الجواب الذي نقله الألوسي وقال: لا يستغرب صدوره ولا إقراره ممن يثبت الجمع بين النقيضين المنطقيين، ويفتخر بأنه يمكنه توجيه ما يعتقد بطلانه على أنه جواب عن إشكال غير وارد، وبعبارة أخرى ليس جوابا عن إشكال إذ لا إشكال، ثم قال عن الخلاف بين القراء في مثل السراط والصراط ومسيطر ومصيطر وضنين وظنين إنه ليس خلافا بين النفي والإثبات كمسألة البسملة بل هي قراءات ثابتة بالتواتر فأما ضنين وظنين فهما قراءتان متواترتان - كمالك وملك في الفاتحة - كتبت قراءة الضاد في مصحف أبى وهو الذي وزع في الأمصار وقرأ بها الجمهور، وقراءة الظاء في مصحف عبد الله بن مسعود وقرأ بها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي، ولكل منهما معنى، وليستا من قبيل تسهيل القراءة لقرب المخرج ثم قال عن السراط والصراط ومسيطر ومصيطر لا فرق بينهما إلا تفخيم السين وترقيقه وبكل منهما نطق بعض العرب، وثبت به النص فهو من قبيل ما صح من تحقيق الهمزة وتسهيلها، ومن الإمالة وعدمها فلا تنافي بين هذه القراءات فيعد إثبات إحداهما نفيا لمقابلتها كما هو بديهي على أن خط المصحف أقوى الحجج، فلو فرضنا تعارض هذه القراءات لكان هو المرجح ولكن لا تعارض ولله الحمد.
هذا ما قاله السيد رشيد رضا في هذه المسألة وهو ناتج عن عمق فهمه وتوقد ذكائه ولعل الذين يقولون أن البسملة أنزلت للفصل بين السور يستدلون بما أخرجه أبو داود والحاكم وصححه على شرط الشيخين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة - وفي رواية انتهاء السورة - حتى ينزل عليه { بسم الله الرحمن الرحيم }.
ولكن ليس في الحديث ما يدل على أنها تنزل استقلالا للفصل وإنما غاية ما فيه أن كل سورة تنزل كانت تصدر بالبسملة فيستدل بذلك النبي صلى الله عليه وسلم على انتهاء السورة التي قبلها واستقباله سورة جديدة تنزل بعدها، ولو كانت لمجرد الفصل لما أثبتت في أول الفاتحة - كما ذكرناه عن صاحب المنار - لعدم تقدمها بسورة قبلها.
هذا ويرى جماعة من العلماء الجمع بين روايات الجهر والإخفاء بما رواه الطبراني في الكبير والأوسط عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وكان المشركون يهزأون بمكاء وتصدية ويقولون محمد يذكر إله اليمامة - وكان مسيلمة الكذاب يسمى " رحمن " - فأنزل الله تعالى: { ولا تجهر بصلاتك } فتسمع المشركين فيهزءوا بك { ولا تخافت بها } عن أصحابك فلا تسمعهم.. وقد قال في مجمع الزوائد إن رجاله موثقون، وقال الحكيم الترمذي: فبقي ذلك إلى يومنا هذا على ذكر الرسم وإن زالت العلة، واعتمده القرطبي والنيسابوري في الجمع بين الروايات، ويرى السيد محمد رشيد رضا أن ترك الجهر كان في أول الإسلام بمكة وأوائل الهجرة، والجهر فيما بعده، وفي نفسي من هذه الرواية ما يجعلني غير واثق من صحتها وذلك لأمرين:
أولهما أن مسيلمة الكذاب لم يشتهر قبل الهجرة ولا فى أوائلها، وإنما اشتهر بالتنبؤ بعد ذلك، وعندئذ لقب برحمن اليمامة فيبعد أن يستخف المشركون بمكة المكرمة بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم عندما يسمعونه يذكر الرحمن، معلقين عليه بأنه يقصد مسيلمة.
ثانيهما: لو كان صنيع المشركين هذا داعيا إلى إخفاء البسملة لئلا يسمعوا اسم " الرحمن " فيهزأوا به لكان ذلك يستدعى إخفاء هذا الاسم في كل آية من الكتاب بما في ذلك قول الحق تعالى في الفاتحة { الرحمن الرحيم } ولم يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتجنب إعلان اسم الرحمن خشية استخفاف المشركين على أن هذا الاسم الكريم كثيرا ما كان يرد في القرآن المكي كقوله تعالى في سورة الإسراء:
قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن
وقوله في " طه "
الرحمن على العرش استوى
وقوله في الفرقان
Page inconnue