فإن كل كلمة فيه قد جاءت في موضعها من غير تقديم ولا تأخير، فإن الله سبحانه ابتدأ بنفي العوج عن كتابه ثم أكد هذا النفي بوصفه أنه قيم والتأكيد يأتي بعد المؤكد، وقد اجتمع من نفي العوج عن الكتاب ووصفه أنه قيم نفى النقص عنه وإثبات الكمال له، وإذا ألقينا نظرة على ترتيب كلمات الفاتحة الشريفة وجدنا كل كلمة جاءت في موضعها بحسب ما يقتضيه معناها، وتصدير الفاتحة بعد البسملة بجملة { الحمد لله رب العالمين } أمر تقتضيه الرسالة التي بعث بها النبي عليه أفضل الصلاة والسلام وبعث بها النبيون من قبله فإن رسالات جميع المرسلين تلتقي على الدعوة إلى توحيد الله تعالى { ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقد كانت دعوة كل رسول يواجه بها قومه
اعبدوا الله ما لكم من إله غيره
[الأعراف: 59] فلا غرو أذا رأينا أم القرآن الكريم تصدر - بعد البسملة التي تشترك فيها مع غيرها من السور - بجملة تستأصل جذور الشرك والوثنية من قلوب العباد وتغرس فيها شجرة التوحيد الخالص، كيف وقد جمعت الفاتحة مقاصد القرآن، والتوحيد أسمى مقاصده، وقد كان القرآن منذ بداية نزوله يواجه تلك الوثنية العاتية المتأصلة في نفوس العرب، فما أنسب أن تكون بداية هذه السورة الكريمة معنية ببناء صرح العقيدة الصحيحة التي ترجع إليها جزئيات الأعمال في الإسلام، إذ ما من شيء من أعمال المسلم التي يطالب بها إلا وهو إما أن يكون مددا للعقيدة أو منبثقا منها، فالشعائر التعبدية كلها وقود لمشكاتها وصقل لمرآتها والشريعة الجامعة التي شرعها الله هي من مقتضياتها ولوازمها، فإن إنفراد الله سبحانه بالربوبية والألوهية يقتضي أن لا يستمد منهج الحياة إلا منه، ولا ريب أن ذوي الفطرة السليمة إذا قرع مسامعهم قول الحق سبحانه: { الحمد لله رب العالمين } وتصوروا معناه داخلت قلوبهم هيبة تجف منها نفوسهم وترتجف منها أوصالهم لما يدركونه من عظمة الخالق سبحانه الذي يخضع لجلاله كل كائن في الوجود، ويذل لكبريائه كل عزيز وعظيم، فلا عجب إذا تلي ذلك بوصف الرحمن الرحيم لإفاضة الطمأنينة على هذه القلوب الواجفة وإنزال السكينة على هذه النفوس المضطربة عندما تشعر بأن هذه الربوبية هي ربوبية رحمة وإحسان، والألوسي الذي تشدد في إنكار كون البسملة آية من الفاتحة يتفق هنا معنا على ضعف هذه الحجة، وأوضح أن هذا التكرار لفائدة وهي أن ذكرهما في البسملة تعليل للابتداء باسمه عز شأنه وذكرهما هنا تعليل لاستحقاقه تعالى الحمد، والرازي يرى أن حكمة التكرار تشويق القلوب إلى رحمة الله تعالى كأنه قيل: اذكر أني إله ورب مرة واحدة، واذكر أني رحمن رحيم مرتين لتعلم أن العناية بالرحمه أكثر منها بسائر الأمور، ثم لما بين الرحمة المضاعفة فكأنه قال: لا تغتروا بذلك فإني مالك يوم الدين، ونظيره قوله تعالى:
غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول
[غافر: 3] وتعقب الألوسي كلام الرازي بأن الألوهية مكررة أيضا يشير بذلك إلى ذكر اسم الجلالة في البسملة وإعادته في جملة الحمد لله، وذكر الإمام محمد عبده نكتة ظاهرة في إعادة هذين الوصفين الكريمين وهي أن تربيته تعالى للعالمين ليست لحاجة به إليهم كجلب منفعة أو دفع مضرة وإنما هي لعموم رحمته وشمول إحسانه، ثم أشار إلى النكتة التي ذكرناها من قبل وهي أن مراده تعالى بهذا التكرير أن يتحبب إلى عباده فعرفهم أن ربوبيته ربوبية رحمة وإحسان ليكون في ذلك حافز لهم على اكتساب مرضاته وتجنب ما يؤدي إلى سخطه.. إلى آخر ما ذكر.
ويرى السيد رشيد رضا أنه لا وجه للبحث في عد ذكر { الرحمن الرحيم } في سورة الفاتحة تكرارا أو إعادة مطلقا، وبين أن ذلك ظاهر على القول بأن البسملة ليست آية منها، وأما على القول بأنها آية منه فيحتاج إلى بيان، وأوضح وجهه وهو أن المراد من جعلها آية منها ومن كل سورة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقنها ويبلغها الناس إعلانا منه بأن السورة التي صدرت بها منزلة من عند الله لتكون رحمة لخلقه بما تشتمل عليه من هدايه، وأنه عليه أفضل الصلاة والسلام لم يكن له كسب فيها ولا صنع، وما هو إلا مبلغ لها بأمر الله تعالى، فلذلك كانت مقدمة للسور كلها إلا سورة براءة المنزلة بالسيف وكشف الستار عن نفاق المنافقين، فهي بلاء على من أنزل أكثرها في شأنه لا رحمة بهم، ثم قال: وإذا كان المراد ببدء الفاتحة بالبسملة أنها منزلة من الله رحمة بعباده فلا ينافي ذلك أن يكون من موضوع هذه السورة بيان رحمة الله تعالى مع بيان ربوبيته للعالمين، وكونه الملك الذي يملك وحده جزاء العاملين على أعمالهم وأنه بهذه الأسماء والصفات كان مستحقا للحمد من عباده، كما أنه مستحق له في ذاته، ولهذا نسب الحمد إلى اسم الذات الموصوف بهذه الصفات، ثم أضاف إلى ذلك أن الحاصل أن معنى الرحمة في بسملة كل سورة هو أن السورة منزلة برحمة الله وفضله فلا يعد ما عساه يكون في أول السورة أو أثنائها من ذكر الرحمة مكررا مع ما في البسملة وإن كان مقرونا بذكر التنزيل كأول سورة فصلت
حم، تنزيل من الرحمن الرحيم
[فصلت: 1- 2] لأن الرحمة في البسملة للمعنى العام في الوحي والتنزيل وفي السور للمعنى الخاص الذي تبينه السوره.. الخ.
هذا وبما أن القرآن الكريم أنزله الله ليكون هدى للمؤمنين، فإن كل كلمة منه تشع منها الهداية، وبإمكان تاليه أن يستفيد بكل ما يتلوه في تهذيب نفسه وتربية ضميره، وذكر صاحب " المنار " أن حظ العبد من وصف الله تعالى بالربوبية أن يحمده تعالى ويشكره باستعمال نعمه التي تتربى بها القوى الجسدية والعقلية فيما خلقت لأجله مستشعرا عظم المنة من الله سبحانه عليه من غير أن يكون تعالى محتاجا إليه، وفي هذا ما يدعوه إلى إحسان تربية نفسه وتربية من يوكل إليه تربيته من أهل وولد ومريد وتلميذ، واستعمال نعمته بهداية الدين في تربية نفسه الروحية والإجتماعية، وكذا تربية من يوكل إليه تربيتهم، وأن لا يبغي كما بغى فرعون فيدعى أنه رب الناس، وكما بغى فراعنة كثيرون ولا يزالون يبغون بجعل أنفسهم شارعين يتحكمون في دين الناس بوضع العبادات التي لم ينزلها الله تعالى، وبقولهم هذا حلال وهذا حرام من عند أنفسهم أو من عند أمثالهم فيجعلون أنفسهم شركاء لله في ربوبيته قال تعالى:
أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله
Page inconnue