[الكهف: 103 - 104].
وفي تصدير جوابهم بأداة القصر تأكيد لما يزعمونه من الإصلاح، فإنهم أرادوا معاكسة متهميهم بالإفساد بهذا القصر القلبي، بحيث يوهمونهم أن الإصلاح متمحض فيهم، وأن شائبة من الإفساد لم تحم حولهم، فإن الذين اتهموهم إما أن يريدوا بقولهم لهم { لا تفسدوا في الأرض } لا يكن عملهم إفسادا من غير إصلاح، وإما أن يريدوا به لا تخلطوا بين الصالح والفاسد من الأعمال، فإن الفاسد يؤثر على الصالح فيفقده منفعته، فكان جوابهم يفيد أن أعمالهم كلها مقصورة على الاصلاح، وهو ناتج عن ضلال فكرهم، وفساد فطرهم، وقد رد الله عليهم بقوله: { ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون } لاستئصال ما تشبثوا به من دعوى فارغة بأنهم لم يتعدوا حدود الاصلاح.
وقد صدر هذا الرد بأداة الاستفتاح المفيدة للتأكيد، ووليت ذلك " إن " المختصة به، وجيء بالمسند معرفا لإفادة قصره على المسند إليه، ووسط بينهما ضمير الفصل المؤكد لهذه الإفادة، ليكون ذلك أبلغ في نقض دعواهم وكبح غرورهم وفضح سرائرهم، فظاهر الرد يقضي أن الافساد منحصر فيهم، وأنه صفتهم الوحيدة التي يتميزون بها، وذلك لا ينافي أن يكون في الأرض من لا يحصى عددا من المفسدين غيرهم، كالمشركين المجاهرين بشركهم، لأن القصر في الرد هو قصر قلب كما سبق بيانه في تفسير جوابهم، وهو من ضروب تأكيد الكلام.
وحصر الافساد في هؤلاء لأنهم بمسلكهم الملتوي وسلوكهم المتلون أخطر ما يكونون بين الناس، فإنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وأن تتفشى العداوة بين الناس، وأن تتقطع الصلات بين الأقربين، وأن تتحول أسباب الخير، والرحمة، والمودة، إلى أضدادها، وإنما يحول بينهم وبين إدراك خطأ ما هم فيه وضرر ما هم عليه؛ تبلد أذهانهم وانطماس بصائرهم حتى صاروا لا يشعرون فظنوا الشر خيرا، وسموا الإفساد إصلاحا.
ونفي الشعور عنهم يعم نفي شعورهم بسوء حالهم في الدنيا، وشر مآلهم في الآخرة، فإنهم لو رزقوا شيئا من نور العقل لأدركوا أن ما يزعمونه إصلاحا ويعتقدونه صلاحا، هو مفتاح كل شر على أنفسهم، ولأدركوا أن عاقبة مكرهم ستحيق بهم { ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله } ، ولو فكروا قليلا فيما بعد هذه الحياة لبادروا إلى الإقلاع عن حالتهم والرجوع عن غيهم.
والظاهر أن الشعور المنفي هنا هو شعور مقيد، وهو إدراك خطأ ما يأتونه من الأعمال التي يعاكسون بها دعوة المصلحين، أو إدراكهم شر ما ينتظرهم من العذاب في الآخرة ومن المهانة في الدنيا كما أشرنا إليه من قبل، وقيل هو مطلق الشعور؛ للإيغال في ذمهم والمبالغة في تسفيههم، فقد أنزلوا منزلة البهائم العجماء التي لا تميز بين الخير والشر، ولا تفرق بين النافع والضار، وعليه ففي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين حتى لا يبالوا بما يلقونه من عنت هؤلاء المنافقين، ومن نظرائهم في كل عصر، وذلك أن مسلك أهل النفاق لا يكاد يختلف بين زمان وآخر، وما يلقاه منهم المؤمنون الصالحون صورة متكررة مما صدر من أسلافهم الذين كانوا مصدر عنت وبلاء في عهد النبوة، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علو منزلته ورفعة قدره ع ند الله قد لاقى الذي لاقاه منهم، فلا عجب إن لقي أتباعه صلى الله عليه وسلم في العصور المتتابعة من سفه الضالين وعنت المنافقين ما يكاد يزهق النفوس ويطير العقول؛ لولا صلتها بالله وثقتها بوعده.
وروى ابن جرير عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - أن المذكورين في الآية لم يأتوا بعد، وحمله ابن جرير على أن أكثر المتصفين بهذه الصفات إنما يأتون بعد عهد النبوة، ما عدا طائفة منهم كانت في عهده صلى الله عليه وسلم، وهي قليلة إذا ما قيست بمن يأتي من بعدها ممن هو على شاكلتها، وفي هذا ما يؤيد ما ذكرته من قبل من تكرر صورة النفاق والمنافقين في كل عصر، خصوصا عندما يشعرون بدنو قوة الاسلام ويتوجسون خيفة من سلطانه، فإنهم لا مفر لهم في هذه الحالة من أن يلبسوا لبوسه، ويمشوا في ركاب أهله، وليس مرادهم من ذلك إلا انتهاز الفرصة المواتية ليطعنوه من الخلف، مع ما ينالونه بهذا المسلك من أغراض دنيوية ومنافع عاجلة
يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون
[التوبة: 32 - 33].
هذا ويرى بعض المفسرين عدم اشتراط وقوع ما ذكر من القول والجواب في الآية، فقد جوز أن يكون من باب التصوير لحالهم، فكان شأنهم شأن من إذا طولب بالكف عن الفساد ونصح بلزوم مسلك الصلاح ازدرى بناصحه، وزعم أن ما يأتيه هو عين الصلاح، وهذا كما لو أردت أن تكشف سجية أحد فقلت لمن تحدثه عنه إن قلت له كذا أجابك بكذا، ويبعد هذا القول مكان " إذا " المفيدة لتحقق الوقوع.
Page inconnue