وأكثر المنافقين في عهده صلى الله عليه وسلم لم يكونوا معروفين بأعيانهم، وإنما يهتدى إليهم بهذه السمات الخاصة بهم، خلافا لمن قال إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحيط بجميعهم علما، فإننا إذا تصفحنا آيات القرآن وجدنا ما يدل على خلاف ذلك، كقوله تعالى:
وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم
[التوبة: 101]. وقوله:
لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيهآ إلا قليلا
[الأحزاب: 60]، وقوله:
ولو نشآء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول
[القتال: 30].
وفيه دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستدل عليهم بفلتات ألسنتهم وسائر بوادرهم، كما يستدل عليهم بما يبدو على قسمات وجوههم من شارات المكر وإشارات الزور، ولا يمنع ذلك أن تكون منهم جماعة مكشوفة بأعيانها كما يدل على ذلك حديث حذيفة - رضي الله عنه - ومن هؤلاء الذين تآمروا على النبي صلى الله عليه وسلم على رأس العقبة عند عودته من تبوك بمحاولة إثارة دابته حتى يسقط عنها، وقد أخبر الله نبيه بشأنهم وكانوا أربعة عشر كما جاء به حديث حذيفة عند مسلم.
وقوله تعالى: { ومن الناس } شروع في الاخبار عن هذه الطائفة المتلوية والكشف عن صفاتها، وهو خبر مقدم على المبتدأ، وهو من، سواء قلنا إنها موصولة أو موصوفة، وقد استشكل اعتبار من الناس خبرا لأن الخبر ما تحصل به الفائدة، وكون هؤلاء من الناس ليس أمرا عازبا عن الأفهام حتى يحتاج إلى البيان، والكل يعرف أنهم ليسوا من الملائكة ولا الجن ولا البهائم، والنظر إلى ما بعد المبتدأ يقضي على هذا الاشكال، إذ ليس القصد الاخبار عن إنسانيتهم وإنما الاخبار عن وجود طائفة من الناس تتلون في حالاتها وتتلوى في معاملاتها تدعي الايمان بألسنتها وتهدم ما تدعيه بأفعالها لأن أفئدتها فارغة من جوهر الايمان، ويغنيكم هذا النظر عن كثير من التأويلات التي لجأ إليها المفسرون، كقول السيد الجرجاني بأن مضمون الجار والمجرور هنا مبتدأ على معنى وبعض الناس وخبره من موصولة كانت أو موصوفة، وقول بعضهم بأن صفات هؤلاء لما كانت تنافي الانسانية كانت حالهم جديرة بالاستغراب، وحسن أن يخبر عنهم بأنهم من الناس، ويرده وقوع مثل هذا التركيب حيث لا يتأتى مثل هذا الاعتبار كقوله تعالى:
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه
Page inconnue