أما الذين يشنعون على من قال بكفر النعمة، فلا يخلو إما أن يكون تشنيعهم نتيجة سوء فهم وقلة علم، وإما أن يكون بباعث حالة نفسية تدفع إلى تشويه الحقيقة ومكابرة الحق، وكثيرا ما يرتبك هؤلاء عندما يواجهون مثل هذه النصوص، فيتكلفون لها تأويلات شتى، كالقول بأنها يراد بها المبالغة في التنفير عن تلك الأعمال، أو أنها أطلق عليها اسم الكفر لأنها من شأن الكفار غالبا، وهي تأويلات لا تتفق مع سياق النصوص، وإنما يلجئهم إليها التقليد الأعمى والتعصب البغيض.
والكفر المعني هنا هو الكفر الذي يخرج بصاحبه من الملة، سواء قلنا إن المعنيين به مشركو العرب أو كفرة أهل الكتاب أو الطائفتان جميعا كما هو الصحيح، لأنهم جميعا يصدق عليهم وصف الكفر المخرج من الملة.
وقال الامام محمد عبده: الكفر هنا عبارة عن جحود ما صرح الكتاب المنزل أنه من عند الله، أو جحود الكتاب نفسه أو النبي الذي جاء به، وبالجملة ما علم من الدين بالضرورة بعد ما بلغت الجاحد رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بلاغا صحيحا، وعرضت عليه الأدلة على صحتها لينظر فيها؛ فأعرض عن شيء من ذلك وجحده عنادا أو تساهلا أو استهزاء، نعني بذلك أنه لم يستمر في النظر حتى يؤمن - ثم قال - ولم نسمع أن أحدا من الصحابة - رضي الله عنهم - كفر أحدا بما وراء هذا فما عداه من الأفاعيل والأقاويل المخالفة لبعض ما أسند إلى الدين ولم يصل العلم بأنه منه إلى حد الضرورة - أي لم يكن سنده قطعيا كسند الكتاب - فلا يعد منكره كافرا إلا إذا قصد تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، فمتى كان للمنكر سند من الدين يستند إليه فلا يكفر، وإن ضعفت شبهته في الاستناد إليه ما دام صادق النية فيما يعتقد، ولم يستهن بشيء مما ثبت بالقطع وروده عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.
وقد تجرأ بعض المتأخرين على تكفير من يتأول بعض الظنيات أو يخالف شيئا مما سبق الاجتهاد فيه أو ينكر بعض المسائل الخلافية، فجرأوا الناس على هذا الأمر العظيم حتى صاروا يكفرون من يخالفهم في بعض العادات وإن كانت من البدع المحظورات، ثم هم على عقائد الكافرين وأخلاق المنافقين، ويعملون أعمال المشركين، ويصفون أنفسهم بالمؤمنين الصادقين.
وهذا كلام في منتهى النفاسة، فإن التجرؤ على إخراج أحد من الموحدين من حظيرة الملة أمر لا يستهان به، فهو تترتب عليه عواقب سيئة في الدنيا والآخرة، لأنه سبب انفكاك العرى وانحلال الروابط وتقطع الصلات بين الأمة.
ومن ثم نجد أصحابنا - رحمهم الله - لا يكفرون كفر شرك من يصطدم بالنصوص القاطعة إن كان متشبثا بشيء من التأويل، وإن كان في ذاته أو هي من نسج العنكبوت، وإنما يصفون مثله بالنفاق وكفر النعمة.
أما المسائل الاجتهادية فللرأي فيها مجال رحب عندهم، فلا يعنف من قال برأي ما لم يصطدم بنص قاطع ولا يفسق من عمل به.
هذا، وقسم الأستاذ الامام الكافرين إلى أقسام، فقال: منهم من يعرف الحق وينكره عنادا، وهؤلاء هم الأقلون ولا ثبات لهم ولا قوام، وكان منهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلبثوا أن انقرضوا - قال - كنت قلت بهذا المعنى كلمة جديرة بأن تحفظ، وهي: أن جحود الحق مع العلم به كاليقين في العلم، كلاهما قليل في الناس.
ومنهم من لا يعرف الحق ولا يريد ولا يحب أن يعرفه، وهم الذين قال الله تعالى فيهم:
إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون
Page inconnue