يحرك أبوه رأسه من فوق الكرسي ذي المسند العالي. عيناه الصغيرتان من وراء الزجاج تبحثان عن الشبح. تدور عيناه في أنحاء الغرفة. تبحثان وراء الشماعة، داخل الدولاب، تحت السرير.
لم يكن يعرف كيف ينحني جسد أبيه الضخم لينظر تحت السرير. يراه جاثيا على ركبتيه كأنما يصلي، ثم يمد عنقه تحت السرير. كان طفلا مولودا لم يتعلم الكلام بعد، لكنه كان يسمع الأصوات.
في الليل وهو نائم يسمع صوت أبيه يأتي من تحت السرير يقول: إنت فين يا إبليس؟
ترن كلمة إبليس في أذنيه وهو متكور كالجنين فوق السرير. يخفي رأسه تحت اللحاف ويغمض عينيه. في الحلم يرى إبليس واقفا في الظلمة، مرتديا ثوب أمه الأسود، وجهه أسود أيضا، وأسنانه تلمع في الليل كأنما يبتسم في سخرية أو يكشر عن أنيابه، في الصباح يفتح عينيه على خطوط الضوء تنفذ من الشيش، تناوله أمه كوب اللبن. يلقيه في الحوض. - اشرب اللبن! - مش شارب! - اسمع الكلام يا ولد! - مش سامع!
لم يكن يسمع كلام أمه. سمع أباه يقول: النساء ناقصات عقل ودين، وفي المدرسة سمع المدرس يقول الرجال قوامون. فتح الكتاب وجعله يقرأ: الرجال قوامون على النساء. في كل يوم يقرؤها ويرددها وراء المدرس ثلاث مرات.
يمط المدرس عنقه ويضم شفتيه طويلا مع واو الجماعة: قوامووووون ... يرددها وراءه التلاميذ في نفس واحد كالنشيد: قوامووووون ...
رفع إصبعه وسأل: يعني إيه قوامون يا افندي؟
كان المدرس يرتدي طربوشا أحمر يتدلى فوق أذنيه. في يده منشة سوداء كذيل الحصان يهش بها الذباب. - القوامة يعني السيادة يا ولد! - والسيادة يعني إيه يا افندي؟ - يعني الرجل يسود والأنثى تخضع للذكر.
رنت كلمة «الذكر» في أذنيه بصوت الأفندي. كان له صوت يشبه صوت أبيه، والكرسي أيضا له مسند عال، وعنقه تلتوي إلى أعلى ضاغطا بفكيه على الشدة فوق حرف الذال: الذ ذ ذ كر كر كر، يصبح صوته كالديك يكركر، يكرر الحرفين الأخيرين: الذ ذ ذ ذ كر كر كر كر ...
ولم يكن يعرف ما معنى كلمة الذكر. سأل أمه فضربته على يده. يدها كانت كبيرة ويده صغيرة. يخفيها في جيب المريلة، تشبه مريلة أخته، بيضاء فيها مربعات حمراء، وكولة مستديرة حول العنق. تمشي أخته معه إلى المدرسة. تدب على الأرض بقدمها كما يدب، وفي قدميها حذاء أسود من الجلد يشبه حذاءه، إلا أنه بغير رباط.
Page inconnue