أطبق شفتيه وأغمض عينيه. أخفى رأسه تحت الغطاء، أحس بإصبعه يلكزه في كتفه: إبليس! رد علي يا ولد! صوت يشبه صوت العمدة. - مش عارف أنا مين يا ولد؟
فتح عينيه وحملق في وجهه بعينين متسعتين. ملامحه مألوفة. له أنف الشيخ مسعود، وجهه مربع أبيض تشوبه حمرة كوجه الجنرال، لكنه يتكلم بلغة عربية. - مش عارف أنا مين يا إبليس؟
تنفرج شفتاه عن صوت خافت: عارف يا مولانا.
لكزه مرة أخرى في كتفيه: مولانا دي تقولها للمدير أو العمدة لكن أنا فوق الكل! فوق الجميع! مفهوم؟ - مفهوم يا فندم. - أفندم إيه يا حمار؟ قول أيوه يا رب! - أيوه يا رب! سيبني أنام أرجوك. - تنام يعني إيه يا إبليس؟ ومين يوسوس للناس؟
يغمض عينيه وينقلب على جنبه الآخر معطيا له ظهره يلكزه مرة أخرى بإصبع مدبب: فز يا ولد شوف شغلك! - سيبني أنام أنا تعبان. - قوم وسوس للناس يا ولد! - وإذا ما وسوستش يجرى إيه؟ خلي الناس كلها تروح الجنة! - والنار أنا عاملها لمين يا حمار؟ - اشوي عليها الخرفان يا أخي. - وبتقول يا أخي؟ نسيت أنا مين يا ولد! - متأسف يا رب! حقك علي! إنت مش أخويا ولا حاجة. أنت سيدي وتاج رأسي. هات رأسك أبوسها!
يقفز من سريره. يهجم عليه محاولا أن يقبل رأسه. تسقط العمامة إلى الأرض ومعها الريشة. تظهر الصلعة المحلوقة نمرة واحد. يلثمها إبليس بشفتيه ويضحك مقهقها بصوت عال.
يفتح رجال العنبر جفونهم. يصحون من النوم بعيون متسعة. ينظرون حولهم كأنما أفاقوا من الموت، وأصبحوا في العالم الآخر. إبليس والرب يتعاركان بالأيدي. كل منهما يصب اللعنات على رأس الآخر. بعد اللعنات تدوي الصفعات واللكمات. الرجال جالسون داخل جلاليبهم البيضاء متربعون فوق الأسرة. يتابعون المشهد بعيون شاحبة. تطل من تحتها نظرات تلمع. كالأطفال أو التلاميذ يشهدون مباراة. يصفقون بأيديهم ويهللون. - هيه! هيه! هيه! هيه!
إلا رجل واحد. مكرمش الوجه. ضئيل الجسم، بلا أسنان. عيناه واسعتان جاحظتان من وراء نظارة بيضاء، أصلع الرأس. له لحية طويلة بيضاء تتهدل فوق صدره. تحت إبطه كتاب. قدماه حافيتان، يتقدم بخطوات بطيئة نحو الرجلين المتعاركين. رفع ذراعا نحيلة كالعصا الخيزران وصاح بصوت حاد: محكمة!
دب الصمت في العنبر. تجمد إبليس في مكانه، والرب أيضا كف عن الحركة. العيون شاخصة نحوه في اتساع. صوته يهز جدران العنبر. - محكمة!
نظر الرجال بعضهم إلى بعض. هزوا رءوسهم في صمت. نهض بعضهم يزيحون الأسرة في الأركان. أقاموا منصة في الوسط. فرشوا فوقها ملاءة بيضاء، وكوب ماء، ومطرقة يدق بها الرجل المكرمش الوجه. حوطوا كتفيه بعباءة سوداء. أصبح هو القاضي.
Page inconnue