وليس كل مصري حريصا على أن يأخذ أوزة صحيحة حية يفرح بها في بيته، وينظر إليها تذهب وتجيء، تبسط جناحيها وتقبضها، وترسل في الهواء صوتها الذي يطرد الملائكة، ويدعو الشياطين، كما يقول أهل الريف. ليس كل مصري حريصا على أن يظفر بين حين وحين بجزء أوزة عظيم أو ضئيل، بل ليس كل مصري حريصا على أن يذوق طعم الأوز أو يشم ريحه، وإنما المصريون قوم قانعون أكثرهم يرى الأوز ويسمع عنه، ولكنه لا يبلو طعمه، ولا يعرف له مذاقا.
وهو على ذلك لا ينكر الحياة، ولا يضيق بها، ولا يسخط عليها فإن أتيح له قليل من لحم الأوز أو من مرقه أو من ريحه حمد الله، وأثنى عليه، وشكر له هذه النعمة التي لم يكن ينتظرها، ولا يرجوها.
وقد أراد الله بالمصريين خيرا فلم يجعل العلم أوزا، ولم يجعل الأوز علما، وإنما جعل العلم شيئا كهذا الهواء الذي يمتلئ به الجو، ويستطيع الناس جميعا أن يتنفسوه، وجعل العلم شيئا كهذا الماء الذي يفيض به النيل، ويستطيع الناس جميعا أن يشربوه، وقد يكون الهواء نقيا، وقد تكدره رمال الصحراء؛ فالناس يتنفسونه على كل حال ... وقد يكون الماء صفوا، وقد تشوبه الجراثيم؛ فالناس يشربونه على كل حال، وقد يكون الطعام كثيرا، وقد يكون قليلا، وقد يكون صالحا، وقد يكون رديئا؛ فالناس يأكلونه على كل حال؛ لأنهم لا يريدون أن يموتوا مختنقين، ولا أن يموتوا ظامئين، ولا أن يموتوا جائعين، وقد تكون المدرسة واسعة، وقد تكون ضيقة، وقد يكون الأستاذ ممتازا، وقد يكون معتدل الحظ من الامتياز، وقد يكون الكتاب ميسرا، وقد يكون معسرا، ولكن الناس يتعلمون على كل حال؛ لأنهم لا يريدون أن يعيشوا جاهلين، ومكان وزارة المعارف في مصر كمكان وزارة التموين. فما رأي جحا التركي إن قيل له: إن في مصر طعاما يكفي لتغذية نصف المصريين، وأن نصفهم الآخر يموت جوعا.
وما رأي جحا التركي إن قيل لوزارة التموين إن في مصر كساء يكفي لنصف المصريين، فيجب أن يكتسي نصفهم، وأن يظل نصفهم الآخر ضاحيا عاريا. وما رأي وزير التموين إن قيل له مثل هذا الكلام؟ وما رأي البرلمان إن قال له وزير التموين مثل هذا الكلام، وأي النصفين من المصريين يستطيع أن يأكل، وأن يكتسي فيعيش، وأي النصفين من المصريين يحب أن يجوع، وأن يعرى فيموت. أما جحا التركي: فلن يرى بأسا في أن يأكل القادر على أن يشتري الطعام، ويكتسي القادر على أن يشتري الثياب، ويموت الذين لا يقدرون على أن يشتروا طعاما ولا ثيابا، وليس على أحد من ذلك بأس؛ فالله قد قسم الحظوظ بين الناس فجعل بعضهم غنيا يستطيع أن يشتري الغذاء والكساء، وجعل بعضهم معدما لا يستطيع أن يجد غذاء ولا كساء.
ولكن وزارة التموين لا تذهب لحسن الحظ هذا المذهب الآثم، وإنما تفعل ما تستطيع؛ ليجد الفقراء والأغنياء ما يقيم الأود، ويستر الجسم، وهي تغذو الأعداد الضخمة بالقليل من الطعام، وتكسو الأعداد الضخمة بالقليل من الثياب؛ توفق أحيانا، ويخطئها التوفيق أحيانا أخرى، والفرق بين جحا المصري وجحا التركي بسيط جدا، فجحا المصري لا يفرق بين العلم والطعام، وجحا التركي يرى أن من حق الناس أن يأكلوا ويشربوا ويعيشوا، وألا بأس عليهم من أن يجهلوا، ويخضعوا لآفات الجهل فيمتاز بعضهم من بعض، ويتفوق بعضهم بعضا، ويصبح بعضهم لبعض عبيدا وتبعا.
وقد نشأ المصريون على ألوان من العقائد يحدثهم بها جحا المصري مصبحا وممسيا؛ فهو يحدثهم بأن النبي
صلى الله عليه وسلم
قد أطعم الأعداد الضخمة من أصحابه حتى أشبعهم بالقليل الضئيل من الطعام الذي لم يكن يكفي إلا لتغذية الرجلين أو الثلاثة، وهو يحدثهم بأن الله قد أنزل على عيسى مائدة من السماء كانت عيدا لأولهم وآخرهم، وهو يحدثهم بأن في ألف ليلة وليلة أوزا لا كالأوز، ودجاجا لا كالدجاج تؤكل الواحدة منها حتى لا يبقى إلا عظمها، قد جرد من كل ما كان عليه من اللحم، ثم يجمع هذا العظم في طبق من الأطباق، ويقال له كلام فينتفض بقدرة الله، ويعود كهيأته قبل أن يؤكل أوزا ودجاجا يستطيع أن يجد فيه الجائع شبعا ولذة، فمصدر هذا كله أن جحا المصري يؤمن بالبركة من جهة، ويؤمن بالعدل من جهة أخرى، ويرى من أجل ذلك أن القليل يجب أن يكفي الكثير، وأن الناس كلهم لآدم، وأن آدم من تراب، وأنهم جميعا من أجل ذلك سواء في الحقوق والواجبات يجب أن يأكلوا ويشربوا ويتنفسوا ويتعلموا، لا يمتاز بعضهم من بعض إلا بالتقوى، والأعمال الصالحات التي هي خير عند ربك ثوابا، وخير مردا.
فأنت ترى فرقا بين التعليم الذي يعلمه جحا المصري للمصريين، والتعليم الذي يلقيه إليهم جحا التركي من مدرسته تلك في جمبولاد، وقد أراد الله أن يفهم المصريون لغة المصريين، وألا يفهم لغة التركي منهم إلا أفراد قليلون، وهم من أجل ذلك لا يشبهون التعليم بأوز جحا التركي، وإنما يشبهونه بهذه المائدة التي أنزلها الله من السماء فكانت عيدا للناس أولهم وآخرهم، وبهذا الطعام القليل الضئيل الذي أشبع منه النبي
صلى الله عليه وسلم
Page inconnue