مقدمة
أدب المقالة
البرتقالة الرخيصة
ذات المليمين
شيطان الجرذ
ثورة في خزانة الكتب
خطيب هايد بارك
جنة العبيط
في سوق البغال
بيضة الفيل
قصاصات الزجاج
الدقة الثالثة عشرة
شعر مصبوغ
تجويع النمر
الكبش الجريح
لست أومن بالإنسان 1
حكمة البوم
قارئ الأفكار
النساء قوامات
أعذب الشعر أصدقه
قوة الخيال
لماذا لا نخلق (1)
لماذا لا نخلق (2)
أخلاق العبيد
مقدمة
أدب المقالة
البرتقالة الرخيصة
ذات المليمين
شيطان الجرذ
ثورة في خزانة الكتب
خطيب هايد بارك
جنة العبيط
في سوق البغال
بيضة الفيل
قصاصات الزجاج
الدقة الثالثة عشرة
شعر مصبوغ
تجويع النمر
الكبش الجريح
لست أومن بالإنسان 1
حكمة البوم
قارئ الأفكار
النساء قوامات
أعذب الشعر أصدقه
قوة الخيال
لماذا لا نخلق (1)
لماذا لا نخلق (2)
أخلاق العبيد
جنة العبيط
جنة العبيط
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة
لست أقيس قامتي إلى ذرة من «وردزورث» أو «كولردج» الشاعرين الإنجليزيين اللذين أخرجا معا ديوان «الحكايات الوجدانية المنظومة» في أول القرن التاسع عشر؛ كلا، ولا أقيس شيئا في هذا الكتاب بشيء من ذلك الديوان؛ لكن كان لهذين الشاعرين أمل، كما أن لي أملا، وانتهج الشاعران في الديوان منهاجا، فانتهجت في هذا الكتاب منهاجا.
رأى الشاعران رأيا في الشعر خالفا به المعروف المألوف إذ ذاك، فبسط أحدهما - وردزورث - هذا الرأي الجديد في مقدمة طويلة للديوان، ثم جاءت بقية الديوان - مما نظم الشاعران - بمثابة التطبيق، وأصبح ديوان «الحكايات الوجدانية المنظومة» منذ ذلك الحين معلما في تاريخ الأدب يؤرخ به المؤرخون بداية عصر الابتداع.
كذلك رأيت في المقالة الأدبية رأيا أخالف به الذائع الشائع في أدبنا، وأوافق فيه رجال الأدب في الغرب، فقدمت للكتاب بفصل في شروط المقالة الأدبية وأوصافها، ثم عقبت على ذلك بمقالات هي - باستثناء عدد قليل منها في نهاية الكتاب - بمثابة التطبيق لما بسطت من قواعد.
قارئي الكريم
نشدتك الله لا تحكم على قيمة هذا الكتاب بقيمة كاتبه؛ إن كاتبه ليرجو أن يكبر في عينيك بهذا الكتاب.
نشدتك الله لا تحكم على هذا الكتاب بعدد صفحاته؛ إن صاحبه ليأمل أن يشق في المقالة الأدبية طريقا جديدا بهذه الصفحات.
نشدتك الله لا تحكم على هذا الكتاب بمعيار قادة الأدب في بلادنا؛ إنما نشرت هذا الكتاب لأناهض به أولئك القادة؛ فكأنما بهذا الكتاب أقول: من هنا الطريق يا سادة لا من هناك.
زكي نجيب محمود
أدب المقالة
إن معظم النار من مستصغر الشرر؛ ذلك ما قرأته في الكتب وما تعلمته من تجربة الحياة، وهو ما أجرى القلم بهذه الكلمات؛ فليس بعيدا أن ينبه هذا القلم المتواضع - الذي لا يكاد صريره يبلغ سمع صاحبه - أديبا واحدا من أئمة الأدب في هذا البلد، فيتجه وجهة جديدة في كتابة المقالة الأدبية.
فالمقالة توشك أن تكون في مصر القالب الأوحد الذي يصب فيه الأديب خواطره ومشاعره؛ فأديبنا قصير النفس، تكفيه المقالة الواحدة ليفرغ في أنهرها القليلة كل ما يتأجج به صدره من عاطفة وما يختلج به رأسه من فكرة؛ فإن غضب أديبنا من نقص يلمحه في بناء الجماعة أو أخلاق الفرد، فزع إلى المقالة يصب فيها ثورة غضبه؛ وإن افتتن أديبنا بجمال الطبيعة الخلاب، لجأ إلى المقالة يبث فيها ما أحس من عجب وإعجاب. أما الأديب الذي يريد أن يعالج بؤس البائسين فينشر في الناس القصة تلو القصة حتى يبلغ ما ينشره ألوف الصحائف كما فعل «دكنز»، أما الأديب الذي يعطف على العمال فيكتب في ذلك للمسرح الرواية في إثر الروية كما فعل «جولزورثي»، أما الأديب الذي يتلقى خطابا من قارئة تستفسره الاشتراكية فيرد على الرسالة بمجلدين، كما فعل «برناردشو»، أما الأديب الذي يرى علاج الإنسانية في حكومة دولية تمسك بزمام العالم كله فيكتب في ذلك كتبا تزيد على الخمسين كما فعل «ولز»؛ مثل هذا وذلك من الأدباء لم تشهده مصر، فبؤس البائسين علاجه مقالة، والعمال تكفي لنصرتهم مقالة، وحل المشكلات الدولية حسبه مقالة.
فالمقالة إذن هي عندنا ملاذ الأديب، الذي ليس له من دونها ملاذ، ولا بأس بهذا لو كانت المقالة الأدبية في مصر أدبا تعترف به قواعد الأدب الصحيح؛ ولكن الأديب المصري يكتب المقالة التي لو قيست بمعيار النقد الأدبي لطارت هباء، ولأغلقت دولة الأدب من دونها الأبواب، وإنما قصدت بمعيار النقد ما يكاد يجمع عليه النقاد من أدباء الإنجليز.
فهم هنالك يقولون: إن المقالة يجب أن تصدر عن قلق يحسه الأديب مما يحيط به من صور الحياة وأوضاع المجتمع، على شرط أن يجيء السخط في نغمة هادئة خفيفة، هي أقرب إلى الأنين الخافت منها إلى العويل الصارخ، أو قل يجب أن يكون سخطا مما يعبر عنه الساخط بهزة في كتفيه ومط في شفتيه، مصطبغا بفكاهة لطيفة، لا أن يكون سخطا مما يدفع الساخط إلى تحطيم الأثاث وتمزيق الثياب، هذا السخط على الحياة القائمة في هدوء وفكاهة، هذا السخط الذي لم يبلغ أن يكون ثورة عنيفة، هو موضوع المقالة الأدبية بمعناها الصحيح؛ فإن تضرمت في نفس الأديب ثورة كاسحة جامحة، فلا يجيز له نقدة الأدب أن يتخذ المقالة متنفسا لثورته، وليسلك - إن أراد - سبيله إلى المنابر يلقي ثورته في موعظة؛ لأنها تحتمل من الواعظ أعنف ألوان التقريع، أو ليلتمس سبيلا إلى القصيدة - إن كان شاعرا - لأن القصائد لا تتنافر بطبعها مع الحماس المشتعل.
شرط المقالة الأدبية أن يكون الأديب ناقما، وأن تكون النقمة خفيفة يشيع فيها لون باهت من التفكه الجميل؛ فإن التمست في مقالة الأديب نقمة على وضع من أوضاع الناس فلم تجدها، وإن افتقدت في مقالة الأديب هذا اللون من الفكاهة الحلوة المستساغة فلم تصبه؛ فاعلم أن المقالة ليست من الأدب الرفيع في كثير أو قليل، مهما تكن بارعة الأسلوب رائعة الفكرة؛ وإن شئت فاقرأ لرب المقالة الإنجليزية «أدسن» ما كتب، فلن تجد إلا مازجا سخطه بفكاهته، فكان ذلك أفعل أدوات الإصلاح.
نريد من كاتب المقالة الأدبية أن يكون لقارئه محدثا لا معلما، بحيث يجد القارئ نفسه إلى جانب صديق يسامره لا أمام معلم يعنفه، نريد من كاتب المقالة الأدبية أن يكون لقارئه زميلا مخلصا يحدثه عن تجاربه ووجهة نظره، لا أن يقف منه موقف الواعظ فوق منبره يميل صلفا وتيها بورعه وتقواه، أو موقف المؤدب يصطنع الوقار حين يصب في أذن سامعه الحكمة صبا ثقيلا؛ نريد للقارئ أن يشعر وهو يقرأ المقالة الأدبية أنه ضيف قد استقبله الكاتب في حديقته ليمتعه بحلو الحديث، لا أن يحس كأنما الكاتب قد دفعه دفعا عنيفا إلى مكتبته ليقرأ له فصلا من كتاب!
لهذا كله يشترط الناقد الإنجليزي في المقالة الأدبية شرطا لا أحسب شيوخ الأدب عندنا يقرونه عليه؛ يشترط أن تكون المقالة على غير نسق من المنطق، أن تكون أقرب إلى قطعة مشعثة من الأحراش الحوشية منها إلى الحديقة المنسقة المنظمة، ويعرف «جونسون» - ومكانته من الأدب الإنجليزي في الذروة العليا - يعرف المقالة فيقول: إنها نزوة عقلية لا ينبغي أن يكون لها ضابط من نظام، هي قطعة لا تجري على نسق معلوم ولم يتم هضمها في نفس كاتبها، وليس الإنشاء المنظم من المقالة الأدبية في شيء.
أين هذا من المقالة الأدبية في مصر؟ لقد سمعت أديبا كبيرا يسأل أديبا كبيرا مرة فيقول: هل قرأت مقالي في هلال هذا الشهر؟ فأجابه: أن نعم، فسأله: وماذا ترى فيه؟ هل تراني أهملت نقطة من نقط الموضوع؟ فأجابه قائلا: العفو، وهل مثلك من يهمل في مقالة يكتبها شاردة أو ورادة؟! هذه هي المقالة عند قادة الأدب: أن تكون موضوعا إنشائيا مدرسيا، كل فضله أنه جميل اللفظ واسع النظر، فالفرق بين مقالة الأديب وموضوع التلميذ فرق في الكم لا في الكيف؛ فلله درك يا معلم اللغة العربية في المدارس المصرية! إنك لتتعقب بتأثيرك شيوخ الكتاب بين كتبهم وأوراقهم، كأني بك تضغط على أذن الكاتب بين إبهامك وسبابتك حين يحمل قلمه ليكتب، مذكرا إياه: هل وفيت نقط الموضوع؟ أين نقط الموضوع؟!
كلا، ليس للمقالة الأدبية، ولا ينبغي أن يكون لها، نقط ولا تبويب ولا تنظيم؛ فإن كانت كذلك، فلا عجب أن ينفر القارئون - يا أيها الأدباء - من قراءة ما تكتبون! لا تعجبوا يا قادة الأدب المصري ألا يقرأكم إلا قلة من طبقة القارئين؛ لأنكم تصرون على أن يقف الكاتب منكم إزاء قارئه موقف المعلم لا الزميل، موقف الكاتب لا المحدث، موقف المؤدب لا الصديق، ويصطنع الوقار فلا يصل نفسه بنفسه؛ وإلا فحدثني بربك أي فرق يجده القارئ بين الصحيفة الأدبية والكتاب المدرسي؟
أرأيت كيف يتحدث الصديق إلى صديقه عن حادثة شهدها في عربة الترام وهو في طريقه إليه؟ أرأيت كيف يلاحظ الصديق لصديقه إذ هما يسيران ملاحظة من هنا وملاحظة من هناك حول ما يقع عليه البصر؟ انقل هذا بيراعة الأديب وبراعته يكن لك منه مقالة أدبية من الطراز الأول؛ أما أن تعلم القارئ فصلا في عوامل سقوط الدولة الأموية أو في أسباب انحلال المجتمع وما إلى ذلك من فصول؛ فذلك مفيد على أنه درس علمي، ونافع في عرض اطلاعك الواسع، ومثقف للقارئ كما يثقفه فصل من كتاب، ودافع إلى الفضيلة على أنه موعظة منبرية؛ ولكن لا تطمح أن تكون أديبا بما تكتب من أمثال هذه الفصول والأبواب، فلن تكون بأمثالها في دولة الأدب قزما ولا عملاقا، أنت بهذه الفصول عالم ولست بأديب، أنت بها قارئ ولست بكاتب، وفضلك أن نقلت إلى القراء ما قرأت، وإنه لفضل عظيم؛ ولكنه شيء والأدب الخالص شيء آخر.
فكاتب المقالة الأدبية على أصح صورها، هو الذي تكفيه ظاهرة ضئيلة مما يعج به العالم من حوله، فيأخذها نقطة ابتداء، ثم يسلم نفسه إلى أحلام يأخذ بعضها برقاب بعض دون أن يكون له أثر قوي في استدعائها عن عمد وتدبير، حتى إذا ما تكاملت من هذه الخواطر المتقاطرة صورة، عمد الكاتب إلى إثباتها في رزانة لا تظهر فيها حدة العاطفة، وفي رفق بالقارئ حتى لا ينفر منه نفور الجواد الجموح؛ لأن واجب الأديب الحق أن يخدع القارئ كي يمعن في القراءة كأنما هو يسري عن نفسه المكروبة عناء اليوم أو يزجي فراغه الثقيل، وهو كلما قرأ تسلل إلى نفسه ما شاع في سطور المقالة من نكتة خفية وسخرية هادئة، دون شعور منه بأن الكاتب يعمد في كتابته إلى النكتة والسخرية؛ فإذا بالقارئ آخر الأمر يضحك، أو يتأثر على أي صورة من الصور، بهذه الصورة الخيالية التي أثبتها الكاتب في مقالته، وقد يعجب القارئ: كيف يمكن أن يكون في النفوس البشرية مثل هذه اللفتات واللمحات! ولكنه لن يلبث حتى يتبين أن هذا الذي عجب منه إنما هو جزء من نفسه أو نفوس أصدقائه، فيضجره أن يكون على هذا النحو السخيف، فيكون هذا الضجر منه أول خطوات الإصلاح المنشود.
وما دمنا نشترط في المقالة الأدبية أن تكون أقرب إلى الحديث والسمر منها إلى التعليم والتلقين؛ وجب أن يكون أسلوبها عذبا سلسا دفاقا. أما إن أخذت تشذب أطراف اللفظ هنا وتزخرف تركيب العبارة هناك؛ كان ذلك متنافرا مع طبيعة السمر المحبب إلى النفوس؛ هذا من حيث الشكل، وأما من حيث الموضوع فلا يجوز عند الناقد الأدبي أن تبحث المقالة في موضوع مجرد، كأن تبحث مثلا فضل النظام الديمقراطي أو معنى الجمال أو قاعدة في علم النفس والتربية؛ لأن ذلك يبعدها عن روح المقالة بمعناها الصحيح، إذ لا بد - كما ذكرنا - أن تعبر قبل كل شيء عن تجربة معينة مست نفس الأديب فأراد أن ينقل الأثر إلى نفوس قرائه؛ ومن هنا قيل إن المقالة الأدبية قريبة جدا من القصيدة الغنائية؛ لأن كلتيهما تغوص بالقارئ إلى أعمق أعماق نفس الكاتب أو الشاعر، وتتغلغل في ثنايا روحه حتى تعثر على ضميره المكنون، وكل الفرق بين المقالة والقصيدة الغنائية هو فرق في درجة الحرارة؛ تعلو وتتناغم فتكون قصيدة، أو تهبط وتتناثر فتكون مقالة أدبية.
ولما كانت المقالة إنما تتكئ على ظاهرة مطروقة معهودة في الحياة اليومية لتنفذ خلالها إلى نقد الحياة القائمة نقدا خفيا يستره غطاء خفيف من السخرية، ولما كانت كذلك تسلك في التعبير أسلوبا سلسا مشرقا؛ فقد يظن أحيانا أنها ضرب هين من ضروب الأدب لا يدنو من القصيدة والقصة والرواية. والواقع على عكس ذلك؛ لأن أرفع الفن هو ما خفي فنه على النظرة العابرة، فما أكثر من ينجح في كتابة القصة والقصيدة! وما أقل من يجيد كتابة المقالة؛ وشأن الذي يستخف بما تطلبه المقالة من فن كشأن الذي يظن أن الشعر المرسل أيسر من القصيد المقفى، ولعل عسر المقالة ناشئ من أنها ليس لها حدود مرسومة يحفظها المبتدئ فينسج على منوالها كما يفعل في القصة أو القصيدة.
إن الذي أريد أن أؤكده مرة أخرى هو أن المقالة الأدبية لا بد أن تكون نقدا ساخرا لصورة من صور الحياة أو الأدب، وهدما لما يتشبث به الناس على أنه مثل أعلى، وما هو إلا صنم تخلف في تراث الأقدمين. أما إن كان الفصل المكتوب بحثا رصينا متسقا فسمه ما شئت؛ فقد يكون علما، وقد يكون فصلا في النقد الأدبي، وقد يكون تاريخا أو وصفا جغرافيا كتبه قلم قدير؛ ولكنه ليس مقالة أدبية، كما أنه ليس بقصيدة ولا قصة.
البرتقالة الرخيصة
لم أكد أفرغ من طعام الغداء حتى جاءني الخادم بطبق فيه برتقالة وسكين، فرفعت السكين وهممت أن أحز البرتقالة؛ ولكني أعدتها وأخذت أدير البرتقالة في قبضتي وأنظر إليها نظرة الإعجاب؛ فقد راعني إذ ذاك لونها البديع وجمالها الخلاب، وشممت لها أريجا طيبا هادئا، ولمحت في استدارتها ومسامها نضارة عجيبة؛ فأشفقت عليها من التقطيع والتشريح، ثم نظرت إلى خادمي وقلت مبتسما: لعل برتقالة اليوم يا سليمان لا يكون بها من العطب ما كان بتفاحة الأمس؟ فقال: كلا يا سيدي فلن يكون ذلك قط؛ فإن من خلال البرتقال التي يتميز بها عن سائر ألوان الفاكهة أن العطب يبدأ من خارجه لا من داخله؛ فإن وجدت قشور البرتقالة سليمة فكن على يقين جازم بأن لبابها سليم كذلك، فالبرتقالة بذلك أمينة صريحة صادقة، لا تخفي بسلامة ظاهرها خبث باطنها؛ ولا كذلك التفاحة، التي قد تبدي لك ظاهرا نضرا لامعا، فإذا ما شققت جوفه ألفيته أحيانا مباءة يضطرب فيها أخبث الدود! فقلت: تلك والله يا سليمان خلة للبرتقال لم أكن أعلمها من قبل؛ ولكني أتبين الآن أنها حق لا ريب فيه، وإنه بهذه الخلة وحدها لجدير من بائع الفاكهة أن يرصه في صناديقه الزجاجية، وأن يلفه بغلاف من ورق شفاف حرصا على هذه النفس الكريمة أن تستذل وتهان في المقاطف والأقفاص، فهو لعمري بهذه العناية أجدر من التفاح الخادع؛ وماذا تعلم يا سليمان غير ذلك من صفات البرتقال؟ فقال: إنها لتشبع الحواس جميعا؛ فهي بهجة للعين بلونها، وهي متعة للأنف بأريجها، ولذة للذوق بطعمها، ثم هي بعد ذلك راحة للأيدي حين تديرها وتدحرجها كما تفعل يا سيدي الآن؛ وقد لبست البرتقالة معطفا من جلد جميل، فإذا ما انتهت إلى آكلها نضت عن نفسها ذلك العطاف الذي لامسته الأيدي؛ لتبدو لصاحبها بكرا لم تفسدها جراثيم السوء والمرض، وهي فوق ذلك كله لم تنس أن تحنو بفضلها على الفلاح المسكين؛ لأنها قررت منذ زمن بعيد أن تمنحه جلدها ليملحه فيأكله طعاما شهيا، وليس بالقليل أن يظفر زارع البرتقال بقشوره ما دام السادة قد نعموا باللباب، فهو اعتراف بالجميل محمود على كل حال!
قلت: أفبعد هذا كله يستخف بقدرها الفاكهاني، فيقذف بها قذفا مهملا في الأوعية والسلال؟! أفبعد هذا كله تقوم البرتقالة في سوق الفاكهة بمليمين، وتقدر التفاحة بالقروش؟! تالله لو كنت موزع الأرزاق على هذه الفاكهة لغيرت معايير التقسيم وقلبتها رأسا على عقب، فأبيع هذا البرتقال الجيد بالوزن والثمن الكثير، والتفاح بالعدد والثمن البخس الرخيص؛ فلست أدري لماذا لا يكون أساس التقويم ما تبديه الفاكهة من جودة وإخلاص؟!
قلت ذلك وكانت رنة الأسى في قولي تزداد شيئا فشيئا حتى خشيت أن تنقلب إلى ثورة، فلا يجد الثائر ما يحطمه غير أثاثه، فأكلت البرتقالة وحمدت الله على نعمته.
وهنا نقر الباب طارق نقرة خفيفة، ثم دفعه في أناة وأقبل، وأخذ يدنو بخطى ثقيلة حتى اقترب من المائدة، فألقى عليها غلافا مليئا بأوراق، ثم جلس ونظر إلي نظرة يشيع منها اليأس، وابتسم ابتسامة خفيفة ينبعث منها القنوط وخيبة الرجاء، فسألته: ماذا دهاك؟ فأجاب: انظر! وأشار بإصبعه إلى الحزمة الملقاة قائلا: لقد رفض الناشر أن يتعهد طبع الكتاب، وهكذا ضاع مجهود أعوام ثلاثة أدراج الرياح! فسألته: وماذا قال الناشر؟ فأجاب: زعم لي أن الكتاب جيد لا بأس بمادته، ولكنه لا يتوقع له سوقا نافقة؛ لأن العبرة عند القارئين بالكاتب لا بالكتاب، ألست ترى في ذلك يا أخي عبثا أي عبث؟
قلت: هون على نفسك الأمر ولا تحزن، فكتابك هذا برتقالة رخيصة، وكم في الأشياء ما هو جيد ورخيص! وإن ذلك ليذكرني بيوم أشقيت فيه نفسي بتحرير مقالة جيدة ممتازة، وحملتها فخورا إلى صاحب الصحيفة الأسبوعية، وجلست أمامه أرقب كلمة التقدير تنحدر بين شفتيه، فما راعني إلا أن أراه ينفذ مسرعا إلى آخر المقالة يقرأ الإمضاء، فالمقالات عند سادتنا أولئك تقرأ من أذيالها لا من رءوسها! ثم مط شفتيه مطا فهمت معناه، ودفعها بين أوراقه حيث استقرت إلى الأبد، وها أنا ذا أتبين اليوم أن مقالتي - ككتابك - برتقالة رخيصة؛ فخير لنا وأقوم أن نكون تفاحا معطوبا من أن نكون برتقالا جيدا لذيذا.
ألا ما أكثر بين الناس هذا البرتقال الرخيص! فإن شئت حدثتك عن رجل يكيل له أولو الأمر المدح والثناء؛ ولكن كما يمدح الآكلون البرتقال؛ يستمرئونه ولا يدفعون له إلا ثمنا قليلا، وإن شئت حدثتك عن رجل أراد الزواج، فوجدت فيه المخطوبة ما تشتهي من خلق قوي ورأي مستقيم، ولكنها نظرت فإذا هو في سوق السلع بضاعة بخسة مزجاة، فهزت كتفيها ومطت شفتيها، وقالت مغضبة: ردوه! إنه برتقالة رخيصة تمتدح ولا تشترى، وإن شئت حدثتك وحدثتك.
فمتى؟ متى يا رباه يعرف الفاكهاني لهذه البرتقالة المسكينة قدرها؟
ذات المليمين
لست أدري متى وكيف تسللت هذه القطعة من ذات المليمين إلى نقودي؛ ولكن الذي أدريه في يقين هو أنها عمرت هنالك شهرا كاملا، تنتقل معي حيث أنتقل وتسير حيث أسير، تحاول جاهدة أن تجد سبيلها إلى الإنفاق، وأنا أغالب طبيعة البشر فأعاونها في ذلك، فما أجد لها السبيل؛ ولعلك تدري شيئا من هذا الصراع الدائم القائم بين المال وصاحبه، هذا يشد المال إلى جيوبه شدا لا يريد له أن يشهد النور، والمال يبتغي لنفسه أن يتنفس الهواء الحر الطليق، فيجري دافقا سيالا بين أصابع المتعاملين؛ تارة تحسه أيد ناعمة لكنها تستخف به وتزدريه، وطورا تظفر به أيد خشنة لكنها تتقبله قبولا حسنا وتكرم له المثوى، وإن ذلك لمن عجب الحياة الذي لا ينقضي؛ فإن طاب لك المأوى ألفيت به الشوك والحسك مما يستذل النفوس ويؤجج الصدور، وإن التمست لنفسك العزة وجدت مأواك خشنا غليظا، ومهما يكن من أمر، فقد ألحفت هذه القطعة تنشد لنفسها الفكاك، وغالبت نفسي وعاونتها على الإنفاق؛ ولكن كان لها القدر بالمرصاد.
فها أنا ذا عند دار السينما أضرب بمنكبي مع الضاربين، لعلي أجد السبيل إلى شباك التذاكر، وقد ضربت حوله زحمة الناس نطاقا يخنق الأنفاس، وأين من هؤلاء القوم من يواتيه حظه السعيد فيبلغ عتبة الشباك؟ إن عيون المتزاحمين لتكاد تفتك به من حسدها له على توفيقه فتكا؛ وحان الحين وكنت أنا المرموق بهاتيك العيون الفواتك، ووقفت أمام الشباك أملأ عارضته بمرفقي؛ ولكني أسرعت الحركة والكلام لتطمئن نفوس المنتظرين الناظرين فلا يحقدوا، وضربت يدي في جيبي وأخرجتها فقذفت بما أخرجت لبائعة التذاكر، فإذا بها ذات المليمين تتحرك على رخامة الشباك في رعونة الإيقاع.
وجلست في مقهى مع طائفة من الأصدقاء، لا تزال بيني وبينهم حواجز الكلفة قائمة، يحاول كل منا أن يستر من نفسه الفقر والجهل والضعة، ليظهر الثراء والعلم ورفعة المكانة بين الناس. وجاء الخادم يتقاضانا ثمن ما شربنا، فتسابقت الأيدي مخلصة إلى الجيوب - يا ليتها تدرك أصحاب المسغبة بعشر معشار هذا الوفاء لأصحاب اليسار! - فهذا موقف من المواقف النادرة التي ينعم فيها من يثبت للآخرين غناه، وأخرجت كل يد ما فيها على المنضدة في سرعة متلهفة؛ فقذف واحد بريال قوي العضلات، صداح الرنين، ونشر آخر جنيها من الورق بين إصبعيه، وقذفت على المنضدة بما حملت يدي مع القاذفين، فإذا بنصف ريال يأخذ مكانة لا بأس بها بين القذائف؛ ولكن دارت إلى جانبه ذات المليمين فحطت من قدره وقيمته، وشاء الحظ العاثر أن تتعثر هذه القطعة المنكودة في دورانها حتى هوت إلى الأرض في رنين ضئيل فانحنى أحد الأصدقاء إليها وردها إلي، فأخذتها والجبين يتندى من الخجل، فليس يشرف المرء في مثل هذه المواقف أن يضم جيبه شيئا من ذوات الملاليم!
وكنت أجالس فئة من رفاقي، وأرادت المصادفة أن يدور بيننا حديث أخذ يشتد فيه الجدال ويشتد حتى اضطرم واشتعل، فجاء زميل يجمع منا قدرا من المال نحسن به على خادم طاحت يد المنون بزوجه، وعجزت دراهمه أن تقلقل الجثة من سريرها إلى القبر، فجاءنا يطلب الإحسان - والموت يقسو على الفقير كما تقسو عليه الحياة، فلا هو إن عاش حي بين الأحياء، ولا هو إن مات واجد سبيلا ميسورة إلى مراقد الموتى! - ودار الزميل الكريم يلقف من الأصابع ما امتدت به، ومددت إصبعي ذاهلا مشتغلا بما أنا فيه من الجدل وقد كدت أنتصر، وإذا بالزميل يبتسم لي قائلا: لا بأس فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وضحك الحاضرون جميعا، ونظرت فإذا بذات المليمين بين إصبعيه فجذبتها في حركة عصبية سريعة، وفمي يتمتم ألفاظ الأسف، وأخرجت ضعف ما أحسن به الآخرون لأعوض هذه السقطة؛ فمن أمثال هذه السقطات ترتسم شخصية الرجل في أذهان الناس!
حقا إن العرق دساس، ومن تجري في عروقه دماء النذالة والضعة هيهات أن يخفي عن الناس طويته، فالنفس لا بد يوما مفضوحة بسلوكها، ولو حاولت أن تسدل على مكنونها ألف ستار وستار؛ فهذه القطعة ذات المليمين - فيما يظهر - قد استغلت شبهها بذات القرشين استغلالا دنيئا خسيسا، وأشهد الله أني من إجرامها بريء! فقد عن لي يوما أن أسلك نفسي في زمرة الوجهاء ولست منهم في عير ولا نفير؛ فركبت الترام في الدرجة الأولى وجاء الكمساري يجبي من الراكبين الأجور، وكنت منه في أقصى المقصورة، فمددت له يدي بذات قرشين، وأراد أحد الراكبين أن يعينني على ما قصرت عنه ذراعي، فأخذ مني قطعة النقد ليعطيها للعامل، ورأيته ينظر إلى القطعة في يده ثم إلي؛ ولكن أدبه قد شاء له ألا يتدخل في أمر لا يعنيه، وناولها إلى بائع التذاكر، فنظر إليها الرجل وقال: ما هذا؟ فقلت: خذ قرشا وهات قرشا، فقال: عشنا ورأينا ذات المليمين تلد من جوفها القروش! فأدخلت يدي إلى نقودي في رعشة الخجل، وأصلحت الخطأ، وقدمت للرجل المعذرة بالابتسام والكلام، وأردت أن أثبت للجالسين براءتي - ووجاهتي - فأحسنت بذات المليمين إلى فقير قفز إلى سلم العربة يطلب الإحسان، وانتهى بذلك تاريخ مؤلم طويل. •••
لكن الله الذي يضمر الخير في الشر؛ قد أراد لهذه القطعة الخبيثة ألا يذهب عني بلاؤها بغير درس مفيد، بصرني بناحية من طبائع الناس لذيذة ومضحكة معا.
فقد جلست بين جماعة ذات مساء، وكان في الحاضرين أديب شاب لم يتجاوز العشرين؛ هو الذي حشر نفسه في زمرة الأدباء حشرا بغير دعوة منهم ولا قبول، ولست أعلم من ماضيه الأدبي إلا مقالة نشرتها له مجلة أسبوعية، ولو اكتفى بهذا الحد من الأحلام لكان جميلا، لأن الأحلام الحلوة التي تنفع صاحبها ولا تؤذي الآخرين ليس بها بأس ولا ضرر؛ ولكن الغرور أخذ من هذا السخيف مأخذا شديدا، فإذا به لا يكتفي أن يكون أديبا من الأدباء؛ ولكنه - لو أنصف الزمان وعرف للناس أقدارهم - في الطليعة منهم، وشيوخ الأدب يقفون له بالمرصاد لا يخلون بينه وبين النشر؛ لأنهم ينفسون عليه ما وهبه الله من عبقرية ونبوغ! فقلت لنفسي: أليس هذا بين الناس قطعة من ذوات المليمين تستغل شبهها بذات القرشين، فتدس نفسها بين الريالات وأنصافها دسا دنيئا قد يخدع الغافلين؟!
وحدثني صديق أراد لنفسه الصدارة فالتحق بجمعية أعضاؤها طائفة ممتازة من علية القوم؛ فخالطهم، ولكنهم لما يخالطوه؛ وهش لهم وابتسم، ولكنهم تولوا عنه وعبسوا؛ فجاءني شاكيا باكيا من لؤم الطباع الذي يؤلم ويشقي، فقلت له وقد تلقيت العبرة من ذات المليمين: اعلم أن في النقود ريالات ومليمات؛ فإن وجدت واحدة من ذوات المليمين نفسها بين الريالات فظنت نفسها «عضوا» في هذه «الجماعة» فأصابها ما أساء إليها وأشقاها؛ فليس الذنب ذنب الريالات المتكبرة، لكنه ذنب ذات المليمين؛ لأنها أرادت أن تكلف الأشياء ضد طباعها، إذ أرادت - خطأ - أن تكون ريالا.
شيطان الجرذ
حدثني صاحبي، وكان ممن يفهمون عن الحيوان الأعجم؛ أن جرذا يافعا كانت تسري فيه الحياة مرحة وثابة، فكان كله قوة وكله أملا وكله حركة ونشاطا، كأنما انسكب في أعصابه من الحياة أكثر مما تسع أعصابه، فهو لا يستطيع - وإن أراد - أن يقر في مكان ساعة من زمان، ولا يعرف من دهره إلا أن يسير في مناكب الأرض سعيا وإن لقي في سبيل ذلك حتفه؛ فما أرخص الموت عنده بالقياس إلى إثبات وجوده وتقرير ذاته، حتى لا يطوى العمر دون أن يحسه الوجود؛ فإن هالك هذا الأمل العريض ينشده مثل ذلك البدن الواهن العاجز فابتسمت إشفاقا وسخرية؛ أجابك في مثل سخريتك بأن الوجود وجوده هو، وبأنه من الغفلة أن يكون وألا يكون في آن معا؛ فاضحك ما شئت فلن ينثني الجرذ عن أن يكون في دنياه شيئا كما أراد له بارئه أن يكون!
وكان الجرذ وحيد أمه، فرأت منه تلك الأم العجوز المحطمة ذلك الوثوب فلم يكن معناه في قاموس ألفاظها إلا النزق والطيش، فلم تدخر وسعا في الحد من نشاط وليدها وهو قرة عينها وأملها الذي يعيد لها الشباب بشبابه، فكانت تستقبله في لهفة الأم الحدبة الحنون، وتكيل له عظات السنين نصحا بألا ينصاع لدعوة شيطانه الخبيث: ألا ترحم يا ابناه أمك المكتهلة؟ ما ضرك أن تهدأ في كمينك بين ذراعي وأمام بصري؟ لئن يكن قد أغراك بالدنيا رعدها وبرقها؛ فما ذاك يا ولدي إلا رعد خلب وبرق كذوب! وإن يكن قد أهاب بك صوت المجد؛ فما ذاك يا بني إلا صيحة الشيطان فيك، يأبى عليك الأمن فينصب لك حبائل الموت باسم المجد والخلود! خذها كلمة أملتها تجربة السنين: لن يغنم الحي من حياته إن كان حكيما بأكثر من الدعة والهدوء؛ ماذا تجدي علي الدنيا بأسرها إن راعك سنور فدهاك ففجعني فيك؟ القناعة القناعة يا ولدي، فأقل العيش مع القناعة خير وفير، وملك الأرض كلها مع الطموح الكاذب يسير حقير!
عاد الجرذ يوما من جولة المساء فاستقبلته أمه بهذا النصح الذي وقع منه موقع السحر، فتسلل إلى مخدعه واندس في فراشه وهو يردد: نعم ماذا تجدي الدنيا بأسرها إن راعني سنور فدهاني فأوردني مر الحتوف؟! صدقت يا أماه، فلن أبرح الدار بعد اليوم، وحسبي من دهري زاد يقيم الأود ويحفظ الأنفاس، إن الشرف ليقتضيني ألا أستمع لهذا الشيطان الملعون الذي يوسوس لي كلما أقبل المساء أن أتستر تحت جناحه الأسحم وأسطو على ملك غيري من عباد الله! كلا! إن هذا الشيطان العابث ليزخرف لي الرذيلة بإكليل المجد الزائف، ويشوه في عيني الفضيلة فيسميها لي استكانة وخنوعا!
وأخذت الفأر اليافع سنة من النوم وهو يغالب في نفسه هذه الأهواء المصطرعة المتنازعة، فصوت أمه يدعوه إلى ملاينة الدهر والرضا بأخشن العيش وأغلظه ليغنم السلامة ويجنب نفسه الخطر؛ ونعيم الدنيا يغريه بالمنازلة والجهاد حتى يظفر لنفسه بأمتع العيش وأنعمه، فلا ينبغي أن يقنع باليسير وغيره غارق إلى آذانه في الوفير الغزير ويقول: هل من مزيد؛ والحياة تعطيه! ولم يكد يغط الجرذ المذكور في نعاسه حتى رأى في نومه، ويا لهول ما رأى؛ رأى في السماء سحابة حمراء أخذت تتشكل وتستوي حتى استقامت أمام ناظريه كائنا مخيفا، ترتعش شفاهه من الغيظ وتكاد تقدح عيناه الشرر؛ وأخذ يحدق في الفأر الصغير وكأنما يرسل في نفسه من نظراته سهوما مسمومة يرتعد لها الفأر ويرتاع، فقال الجرذ في رجفة الجازع: من؟ - أنا شيطانك الأمين. - اغرب عني فلن أستجيب لك بعد اليوم، إني أعوذ منك بنصيحة أمي! - بل يا أحمق لذ بقيادي من نصيحة أمك؛ نصيحة؟ إنها للضلال المبين! كأني بك قد أصخت إلى هذا الهراء الذي لقنته أمك إياك منذ حين! يا بني، لا تخدعنك ألفاظ الفضيلة والحكمة الجوفاء؛ إنها سموم أنشأها لكم القوي إنشاء لتسكن أعصابكم وتهدأ نفوسكم، حتى إذا ما تداريتم في بطون جحوركم أخذ يتقلب في نعيمه ويتمرغ في أسباب ترفه؛ لماذا يكفيك من عيشك كسرة خشنة ولغيرك أطيب الآكال؟ ألست تؤدي للحياة واجب الحياة على أتم نحو وأكمل صورة؟ فقم وانهض إلى الدنيا العريضة مجاهدا حتى تنتزع من مخلب الدهر حياة مريئة، فيكون لك بها نشوتان؛ نشوة الغنيمة نفسها ونشوة الظفر بالغنيمة، قم واملأ الدنيا ضجة وصياحا حتى يعترف لك الوجود بالوجود. - ولكن السنور الأشهب يجول في البيت فيملأ أبهاءه بموائه. - تبا لكم يا معشر الجرذان! إنكم لا تنفكون تضعون لأنفسكم الحوائل تبريرا لعجزكم أمام ضمائركم المعتلة، إن هذا السنور نفسه لداعية لك أن تنهض وتسري في أنحاء الدار، حتى إذا ما ظفرت ببغيتك صحت في استكبار الظافر، تلك بغيتي أصبتها وأنف السنور في الرغام؛ وهل يلذ السعي ويطيب الجهاد بغير ذلك العدو العنيد تغالبه فتغلبه؟ أكنت تريد أيها الجندي الخائر أن تحارب في الموقعة بغير أعداء ثم تزعم لنفسك النصر والظفر؟ - إن لكلامك يا شيطاني لسحرا أبلغ السحر، حتى لكأن ألفاظك يا لعين شواظ من نار تلتهب أوارا في حشاي، لكم وددت أن أتابعك لولا أن تقول أمي ويقول الجرذان: لقد تابع الغر شيطانه المريد! - إن فعلوا فقل لهم: لهذا الشيطان صوت الحق والحياة، وإنكم لدعاة الجمود والموت؛ فشيطاني أحق أن أتبع. إن ما يشير به الكهول يا بني باسم الحكمة خدعة باطلة، واسمه الصحيح هو الجبن والخور؛ أفأنت بحاجة إلى أن أذكرك بأنه لن يصيب نعيم الدنيا إلا الفاتك اللهج؟ هذه دول الأرض جميعا فانظر أيها الظافر، أهي التي خشيت وثبة النمر فقبعت في عقر دارها أم من تنمرت فوثبت فكان لها من رقاع الأرض أوفر الحظوظ؟ إنه لخير لك ألف مرة أن تستأسد يوما ثم تموت من أن تعيش في هذا الخمول قرنا كاملا.
فثارت نخوة الفأر واشتعلت حماسته، ونفض الفراش من حوله وأقسم ألا يستسلم بعد الساعة لدعوة أمه العجوز، وانتفض انتفاضة عنيفة استيقظ على إثرها من نعاسه، واستوى جالسا في مخدعه يستعيد ما أملاه عليه شيطانه في حلمه، وإذا به كلمة الحق والقوة والحياة، ثم جهر في صوت مسموع: نعم لن أصبر على هذا العيش الغليظ لحظة واحدة! وسمعت أمه القول فارتعدت في نومها فازعة: ماذا تقول يا بني؟ - وداعا يا أماه ، فانعمي أنت بأنفاسك الذليلة لتغنمي العافية؛ أما أنا فلن أدع نحوا من أنحاء البيت إلا ارتدته ونعمت بما فيه، وهنيئا بعد ذلك بمخلب القط.
وتسلل الجرذ إلى حجر الدار وأبهائها، فهذا طعام شهي يأكله وذاك شراب سائغ يستقيه، فإذا أثقل الكرى جفنيه تخير لنفسه بين أردية الدمقس مرقدا وثيرا. وتعاقبت الأيام والليالي والفأر الصغير النشيط ناعم في عيش هنيء مريء، حتى كان مساء مشئوم؛ وإذا بمخلب السنور يهوي في ظلمة الليل فيغرس أظافره في الجرذ الممتلئ، ويصيح هذا صيحة ترن أصداؤها في جحر الأم، فتأتي لاهثة جازعة لترى وليدها ووحيدها جريحا طريحا أمام القط الكاسر. - يا ويلتاه! لقد كان ما خفت أن يكون. - عني يا أماه؛ للموت بعد نعيم العيش أشهى من الحياة في ظلمة الجحور.
ثورة في خزانة الكتب
شاءت لي المصادفة البصيرة - والمصادفة قد لا تكون عمياء - أن أقرأ في ليلة واحدة فكرتين في كتابين مختلفين، لا علاقة لإحداهما بالأخرى؛ ولكنهما - على ما بينهما من تفاوت بعيد - تعانقتا في ذهني، واتحدتا فتكون منهما ازدواج عجيب؛ أما الأولى فهي أن آباءنا من المصريين الأقدمين كانوا ينسبون للأسماء المنقوشة على التماثيل والتوابيت قوى سحرية عجيبة، تكاد تدنيها من الأحياء؛ فهم لم ينقشوا أسماء موتاهم على تلك الأصنام الحجرية للزخرفة والزركشة والزينة، بل ليكون لها في جوف القبور قدرة أن تصيح للروح فتهتدي بصياحها إلى الجسد الراقد لتسري فيه الحياة من جديد؛ وأما الفكرة الثانية فكانت تعليقا لكاتب حديث على رأي فيلسوف قديم في أرستقراطية العقل وحلولها محل أرستقراطية المال؛ إذ أراد أن يلقي بزمام الأمر في الدولة إلى من تثبت لهم الكفاءة العقلية وألا يخلي بين الأدنين في قدرتهم الفكرية وبين مناصب الدولة العليا؛ فليس أشد عبثا في هذه الحياة من أن يحرص الإنسان ما وسعه الحرص على أن يختار أحسن الحذائين لإصلاح حذائه، وأن ينتقي أحسن السائسين لتدريب جياده؛ ثم لا يعبأ بمن يتولى إصلاح دولته!
فرغت من القراءة فأعدت الكتابين إلى خزانة كتبي، وليس فيها سوى بضع مئات قليلة منها، تتفاوت أقدارها العلمية، من كتب في المطالعة والهجاء إلى مجلدات في الفلسفة والعلوم، رصت في رفوف الخزانة الثلاثة رصا يقع بين الفوضى والنظام؛ أعدت الكتابين وأويت إلى مخدعي، فسرعان ما استغرقني نعاس دافئ جميل، ما كان أحلاه بعد يوم مليء بالعمل والعناء، وسبحت في عالم الرؤى فماذا رأيت؟
رأيتني حاكما في دولة أصرف أمور شعبها، لعلها أن تكون أعجب ما شهدت الأرض من دول، ولعله أن يكون أعجب ما ظهر على وجه الدهر من شعوب! أما دولتي فمداها بناء ضخم ذو طبقات ثلاث، لم ألبث أن أتبين فيه خزانة الكتب ضخمت في عالم الأحلام، ثم ضخمت حتى أصبحت هذا البناء الفخم الجميل؛ وأما رعيتي فكانت بضع مئات قليلة من أمساخ لا تطمئن لها العين، ما كدت أباشر شئونها حتى أدركت أنها كتبي قد أصابها في أضغاث الأحلام هذا المسخ والتشويه؛ فقد رأيتها كائنات حية ليست كالتي عهدت من كائنات، يتألف واحدها من لسان غليظ طويل في فم ضخم بشع، ولكل منها جناحان بعضها يستطيع بهما الطيران وبعضها لا يستطيع، وأحسب أن اللسان قد غلظ فيها وطال؛ لأنها لم تصطنع من أول الدهر سوى بضاعة الكلام، فتطور عضو الكلام وضمرت سائر الأعضاء؛ وأعجب ما فيها أن خواطرها مكتوبة في عقد من أوراق الشجر يتدلى من عنقها، بحيث تستطيع العين رؤيتها، وهي حين تتكلم تهز من صدرها تلك الخواطر المكتوبة هزا تتحول به من الكتابة إلى الصياح.
نظرت إلى دولتي وقلبت الرأي في رعيتي، فشاع في نفسي الأسف والأسى لسوء حالها، وكاد يقعدني اليأس عن محاولة إصلاحها فقد خيل إلي أن فوضاها فوق كل إصلاح؛ كانت دولتي مقسمة ثلاث طبقات؛ علياها تسكن الطابق الأعلى، ودنياها الأدنى، وأوساطها في الوسيط؛ وقد راعني ذات يوم أن أرى أن أطيب ما تنتج البلاد من خيرات ينصرف إلى الفئة العالية وهي لا تعمل، وأما الحثالة فإلى الفئة التي تكدح وتشقى، وهي التي سفلت في بناء الدولة حتى استقرت في قاعها؛ فقلت لنفسي: لا حييت بعد اليوم في الدولة حاكما إذا أنا أغمضت العين على هذه النقائص والعيوب، ولن تذهب ثقافتي عبثا، فسأهتدي بآراء المصلحين جميعا، من مضى منهم ومن حضر؛ لأستأصل من جسم شعبي كل داء دفين.
وآثرت قبل البدء في الإصلاح أن أخالط رعيتي عن كثب وأحادثهم، لعلي أعلم كيف علا من علا، وسفل من سفل، فإن في ذلك لبداية وهداية؛ فصعدت لتوي إلى الطابق الأعلى، فإذا فئة من شعبي تتقلب في ألوان النعيم، أسدلت من دونها الستر لتتقي مر النسيم ولفحة الضوء، أجنحتها من المخمل وأوراقها المتدلية من الحرير، وقد خط عليها ما خط بماء الذهب؛ فأخذت أسأل هؤلاء واحدا بعد واحد: ما صنع حتى جاز له أن يصعد هذا المرتقى؟ فأجاب أولهم: إن جواز صعوده هو أن اسمه المطبوع على صدره له رنين قوي إذا نطق به، وهو مكتوب بالخط الضخم العريض؛ فعجبت له كيف يمكن أن يكون رنين الأسماء وضخامة الحروف من أسباب العلا! لكنه أجاب بأن تقاليد الدولة منذ عهد بعيد قد أباحت لمن يعلو صوته على سائر الأصوات أن يتسع صيته، فيأخذ من أمته مكانا عاليا ممتازا، ولا عبرة بما في صياحه هذا من خطأ أو صواب، ثم سألني: ألست ترى - يا صاحب الجلالة - ما بين الصوت والصيت من علاقة في اللفظ؟ وأضاف قائلا: إن علاقة اللفظ عند الفلاسفة دليل على روابط المعنى. فسألت آخر، فأجاب بأن جواز صعوده هو أن جناحيه وما يتدلى على صدره من أوراق صنعت كلها من مادة جيدة مصقولة؛ فعجبت له كيف تكون نعومة الملمس جوازا للصعود! فقال: إن تقاليد الدولة منذ أقدم العصور تعنى بظواهر الأشياء دون بواطنها؛ لأن فيلسوفا قديما علمهم أن الإنسان لا يدرك من الأشياء غير الظواهر، وأما حقائق الأشياء فعلمها عند علام الغيوب. وسألت ثالثا، فقال: إنه مطبوع في بلاد الإنجليز؛ فعجبت له كيف يمكن أن يكون مكان الطباعة بذي شأن، ما دامت الأحرف هي الأحرف والكلام هو الكلام! فأجاب بأن تقاليد الدولة من أقدم عصورها تقضي أن يكون لذلك اعتبار عند قسمة الأقدار. وسألت رابعا، فقال: إنه ينتمي في نسبه إلى كاتب مشهور معروف؛ فعجبت كيف يمكن أن تكون النسبة وحدها كفيلا له بالصعود! فأجاب بأن تقاليد الدولة منذ فجر تاريخها قد جرت بأن يكون لأصحاب الأنساب في الدولة أكبر الأنصاب. وسألت خامسا وسادسا وسابعا.
هبطت السلم مسرعا لا ألوي على شيء، وأنا أوشك أن أصيح: كلا، لن يكون لمثل هذا العبث وجود في دولتي بعد اليوم. إن شيخا في الطابق الأسفل قيل إن به مسا من جنون، قد جاءني منذ أيام يقص علي قصة الإصلاح الذي يريده لأمتي، فأعرضت عنه وتوليت؛ وما كان ينبغي أن أفعل، فما يدريني؟ لعله يهدي، فما يفصل الجنون عن النبوغ إلا حاجز رقيق؛ وقصدت إلى الشيخ حانقا مغضبا، فوجدته يروح ويغدو ولا يكاد يستقر به المكان، فناديته: ادن مني أيها الشيخ وأعد على سمعي ما قصصته بالأمس. فقال: أردت لأمتك الإصلاح - يا صاحب الجلالة - فما أعرتني أذنا مصغية ولا قلبا واعيا، والأمر هين لا عناء فيه، أريد أن تسود في الدولة أرستقراطية العقل مكان أرستقراطية المال وغير المال من الأعراض التي لا تمت إلى طبيعة الإنسان في شيء؛ فهذا الفرد وهذا وذاك ممن تنطوي صدورهم على تفكير ناضج سليم، وتتألف خواطرهم التي نقشت على صدورهم من فلسفة وعلم رصين، لهم من الدولة المكان الأعلى؛ وهذا الفرد وهذا وذاك ممن تغلب عليهم العاطفة فينطقون بآيات من الشعر والنثر، لهم من الدولة المكان الأوسط؛ لأن العاطفة عندي في منزلة دون العقل الخالص، ثم احشر في الطابق الأسفل من رعيتك أصحاب العقول الفارغة والصدور الخاوية، مهما يكن حظهم من ضخامة عنوان وجمال أوراق. فلم أجد في فعل ما أشار به الشيخ شيئا من العسر، إذا استثنيت بعض نظرات ملتهبة حداد رمقني بها أفراد الطبقة الممتازة حين أنزلتهم من الدولة أسفل سافلين.
وانتبذت بعد هذا الانقلاب مكانا أستريح وأزهو؛ ولكني لم أكد آخذ من الراحة نصيبا، حتى سمعت في أرجاء الدولة ضجة وصياحا؛ فهذا صوت شيء يتحطم، وتلك صرخة إنسان يتألم؛ فسرت في جسمي قشعريرة الخوف، وأرهفت الأذن فإذا بي أتبين كلمات تنبئ بثورة الشعب، فجمدت في مكاني لا أريم حتى هدأت العاصفة، ثم طفت بأسفل الطوابق أول الأمر؛ فإذا بأصحاب الفكر وأرباب الأدب ممن أصابتهم الرفعة في الانقلاب الذي قمت به في تنظيم الدولة، قد أعيدوا إلى دركهم الأول، بعد أن تكسرت منهم أجنحة وقطعت ألسنة وتمزقت أوراق.
فجلست محزونا واعتمدت رأسي على كفي، وتمتمت في يأس: لم يأت بعد أوان الإصلاح لأمتي، فلا بد أن تنقضي قرون أخرى يعلو فيها أصحاب الظاهر البراق ويسفل أصحاب الحق المبين؛ واستيقظت فإذا موعد العمل قد حان، فارتديت ثيابي مسروعا وهرولت إلى العمل مسرعا لأرد عن نفسي عادية الأذى.
خطيب هايد بارك
أهديها إلى من ضل سواء السبيل
أمسكت السماء عن المطر بعد شهر كاد أن يكون المطر فيه موصولا في لندن، فذهبت أستنشق الهواء في «هايد بارك».
وهايد بارك متنزه فسيح يقع في قلب هذه العاصمة الكبرى، له خصائص يتميز بها في أذهان عارفيه؛ منها هؤلاء الخطباء عند مدخله، خمسة منهم أو ستة يرتقون المنابر ليخطبوا في الدين أو السياسة أو الاجتماع من شاء أن يستمع إليهم من رواد الحديقة، فهؤلاء يتحلقون حول الخطباء تفريجا عن أنفسهم وإزجاء لأوقات فراغهم، وما أقل في هذه الدنيا من يفرج عنك لوجه الله لا يريد منك جزاء ولا شكورا؛ فإن أردت لنفسك لهوا وفكاهة فاقصد سوق الخطباء في هايد بارك؛ لتقرن حماسة الخطيب باستخفاف المستمع.
قصدت الحديقة أريد الهواء النقي، ولا أريد حديث الخطباء، فقد كانت غايتي غذاء الرئتين لا غذاء الرأس؛ فالرأس عندئذ كان في تخمة مما يحمل من غذاء؛ لكن ما أكثر ما ترغمك الظروف على غير ما تريد؛ فقد استوقفني بين الخطباء منظر عجيب؛ خطيب من هؤلاء رأيته قائما على منبره يخطب ولا من سميع! لم يقف أمام الرجل إنسان واحد يستمع إليه، ومع ذلك مضى المسكين في خطابه يرفع صوته ويخفضه، ويشير بيمناه تارة وبيسراه طورا، وينحني ويستقيم، ويضرب النضد الصغير الذي أمامه بيده، مقبوضة مرة مبسوطة أخرى! دنوت منه ووقفت إزاءه أنظر إليه، وما هو إلا أن طاف برأسي خاطر عجيب، إذ خيل إلي أني أنظر إلى نفسي في مرآة، وإنها لفرصة نادرة الوقوع أن تجد لنفسك مرآة تصورها لك فتهديك بعد ضلال؛ فما أهون أن تنظر إلى وجهك في مرآتك لتصلح ما اختلط من شعرات رأسك وتشذب ما هاش من شاربيك؛ لكن أنى لك مرآة تجلو أمام ناظريك ما خفي من شعاب نفسك لتصلح منها ما اعوج إن كانت بذات عوج، أو لتزهى بها إن كانت قمينة بالإعجاب؟ رأيت في ذلك الخطيب مرآة لنفسي، وأخذت دقة الصورة تزداد في عيني جلاء ووضوحا، فابتسمت ثم ضحكت في نبرة مسموعة.
قال الخطيب: ما يضحكك يا صاحبي؟
قلت: يضحكني أننا شبيهان.
قال: شبيهان؟
قلت: نعم وليس الشبه في هيئة الجسم؛ فأنت إنجليزي أصفر الشعر أزرق العينين أحمر البشرة، وأنا مصري أسود الشعر والعينين أسمر اللون؛ لكننا شبيهان، فكلانا يبعثر في الهواء طاقة وهبه الله إياها لينفقها في الجري والقفز واللهو واللعب؛ أما هواؤك فطلق نقي، وأما هوائي فحبيس تحده الجدران؛ كلانا يبذل الجهد أدراج الرياح.
عجيب هذا الضوء الذي تلقيه تجارب الأيام على القول المكرر المعاد! فقد تردد العبارة الواحدة ألف مرة وتحسبك قد فهمت معناها لأنك عرفت معاني ألفاظها كما تشرحها القواميس، فإذا بك تنطق بها مرة أخرى فتلمس فيها حياة نابضة لم تعهدها من قبل، فكأنما أشرق عليك منها معنى جديد؛ لأنها في هذه المرة كانت قطعة من حياتك، وقبسا من روحك، ولم تكن ألفاظا مرصوصة يقولها الناس فيرن صداها بين شفتيك؛ فكم رددت مع الناس قولهم: «لا في العير ولا في النفير» ولم أكن أدري أنني إنما كنت أرددها ترديد الببغاوات عن غير فهم حي صحيح، حتى قلتها منذ قريب فأحسست لها هزة تشيع في وجودي، وأدركت أنها لم تعد مثلا يقال؛ بل أصبحت جزءا من صميم الحياة؛ وحدث مثل ذلك حين قلت لصاحبي الخطيب: إننا نبذل الجهد فيذهب الجهد أدراج الرياح!
رحمك الله يا «سيرفانتيز» ترى من ذا كنت تعني إذ صورت لنا «دون كيشوت» يمتطي جواده الهزيل الكسيح، ويحمل سيفه المحطم المثلوم، ويجوب الأرض محاربا ليعده الناس فارسا من الفرسان؟ فيأتي «دون كيشوت» إزاء طواحين الهواء ويخيل له الوهم أنها جماعة من الأعداء، ويسل سيفه ويظل يضرب في الهواء، ثم يغمد السيف منتفخ الأوداج من كبرياء؛ لأنه فتك بالعدو وصرعه وأرداه! من ذا كنت تعني حين صورت لنا هذا الفارس الحالم الذي يحارب في وهمه، وينتصر في وهمه، والناس من حوله لا يرون حربا ولا نصرا؟
أرأيت يا خطيب الهواء سيارة أمسكها الوحل فأخذت عجلاتها تدور وهي في مكانها لا تتحول؟ لو كانت هذه السيارة لتنطق لزعمت لك أنها طوت من الأرض فراسخ وأميالا؛ لأنها تحس في حر أنفاسها حرارة الجهاد، وتحس عجلاتها تدور، فهيهات أن يقع في ظنها أنها تدور في غير سير إلى أمام، إيمانا منها بأن ذلك ضد طبائع الأشياء، وما تدري أن هذا الوحل الذي يأذن لعجلاتها أن تدور ثم يمسك جسمها عن السير هو أيضا من طبائع الأشياء!
نحن أيها الخطيب شبيهان؛ كلانا رأى الهدف وأخطأ سواء السبيل، أراد لنا نحس الطالع في صبانا أن يخدعنا المعلمون، والمعلمون أحيانا يخدعون، ويبشرون بما لا يؤمنون، فأوصونا أن نجعل من النجم غايتنا، فأبت علينا الأمانة البلهاء إلا أن نكد ونكدح لنبلغ النجم؛ وفاتتنا الحيلة التي يدركها الألوف إدراك البداهة في غير عسر ولا عناء، وهي أن نلتمس النجم في صورته على صفحة الماء، وأولو الأمر لا يفرقون بين النجم وصورته، فكلاهما في أعينهم لامع لألاء؛ وبربك لا تقل إننا إذ نروم النجم في سمائه تستقيم منا الظهور، وتشرئب الأعناق، وتشمخ الأنوف؛ أما إن أردنا الصورة فلا بد من «انحناء»، فتلك حكمة القدماء، والحكمة إنما تساير وسائل النقل في تطورها، فلا ينبغي أن تكون حكمة الطائرة مثل حكمة «الحمار».
قال «مكيافلي» لأميره ناصحا: ليس المهم أن تكون رحيما بشعبك ، إنما المهم أن يقال عنك إنك رحيم، فاقس ما شئت، وابطش بمن شئت؛ لكن ليكن لك في ذلك فن يخدع الناس عن حقيقة نفسك، فإذا أنت في ظنهم الأمير الذي يحنو على البائس ويعطف على المحروم؛ ألقى مكيافلي درسه على أميره، وكان درسا في سياسة الملك، فلقفه من فمه أصحاب الفطنة وجعلوه دستور الحياة؛ فليس المهم أن تكون ذا علم، وإنما المهم أن يعدك الناس بين العلماء، وكم من رجل رأيته يتربع على كرسيه رزينا رصينا وعلى وجهه مخايل العلم والحكمة، وقد علق فوق رأسه قيثارة فخمة ضخمة مشدودة الأوتار؛ فتأتي إلاهة الشهرة فتربت على كتفه وتمضي فخورا بابنها النجيب، ولا تني تنشر ذكره في طول البلاد وعرضها؛ لأنه «لو» عزف كان خير العازفين؛ فلئن جمدت الألحان على أوتار قيثارته الآن، فما أيسر عليه أن يذيبها نغما شجيا طروبا إن أراد؛ وقد ضقت بغفلتها ذات يوم فصحت بها: يا إلاهة الشهرة لا تصدقيهم، إنهم لا يعزفون لأنهم لا يعرفون؛ لكنها ازورت عني وأدارت إلى قولي أذنا صماء؛ وما أكثر ما تحرج أولئك الإلاهات صدري؛ لأنهن ينخدعن كما ينخدع البشر!
نحن أيها الخطيب شبيهان؛ كلانا يبذل الجهد في غير موضعه فيذهب الجهد أدراج الرياح، القيمة كلها في اختيار الموضع الملائم لجهدك المبذول؛ فالمسافر الذي كان يقطع الصحراء جائعا فوجد كنزا من الجواهر، لم يعدل عنده هذا الكنز النفيس رغيفا من الخبز! لم تعد للجوهر نفاسته لأنه أخطأ المكان الصحيح؛ تسعة أعشار الرزق في التجارة، والتجارة هي أن تضع السلعة في مكان تباع فيه. إن عبارة واحدة من خطبتك تلقيها في مجلس النواب خير من مائة ألف خطبة تلقيها في «هايد بارك»؛ وكتاب واحد أقرؤه أنا في «هايد بارك» - أفهمه أو لا أفهمه - خير من مائة ألف كتاب أكتبه في حديقة قصر النيل.
قال: وما قصر النيل؟
قلت: حديقة في القاهرة، وطني الحبيب.
قال: ولماذا؟
قلت: لا تسلني لماذا؛ لماذا يكون الماء في النهر ماء فإذا انتقل إلى خزان القاطرة تحول بخارا يشد العربات؟
قال: لأنه جاور نار الأتون فاستفاد.
قلت: وقارئ الكتاب في هايد بارك ربما استفاد لأنه جاور الغيد الحسان اللائي ليس لهن أضراب في قصر النيل، أو ربما استفاد لأنه استمع إلى خطباء هذا المكان، أو من يدري؟ لعل مذهب التفاوت بين الأجناس يلعب هنا لعبته؛ فلما ساد اليونان كانوا هم الأحرار وغيرهم العبيد، ولما ساد العرب كانوا هم الأشراف وغيرهم عجم، ولما ساد الآريون حقت اللعنة على أبناء سام؛ أفلا يجوز أن يكون أصحاب السلطان من فصيلة هايد بارك، فكانوا هم العلماء وغيرهم في الجهالة يعمهون؟ وبربك لا تقل إنه لا ينبغي أن يكون لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى، فتلك حكمة القدماء.
العبرة يا صديقي في اختيار المكان الصحيح، فالوسخ وسخ؛ لأنه مادة أخطأت مكانها، ولو اختارت مكانها الملائم لشرفت كما تشرف سائر المواد؛ فهذا الغبار على منظاري قذارة يجب أن تزال، ولو اختار الغبار وجه الأرض مكانا لاختار موضعه وما عرض نفسه لألوان الهوان؛ وقل مثل ذلك في الرجال، فزيد في جماعة من الناس مجلبة للصغار، ولو انتقل زيد إلى حيث ينبغي له أن يكون لأصبح لأقرانه مدعاة للفخار.
على أن القذر قد يكون له فضل عظيم؛ فلوح الزجاج إن خلا من الغبار خفي عن العيون فصدمه السائرون وهشموه حطيما، وإن أردت له أن يرى فلا مندوحة لك عن شيء من العكر فيه؛ إذ ليس من حقك أن تكلف الناس ما لا يطيقون، فلأبصارهم حدود فرضتها عليهم الطبيعة فرضا ليس لهم عنها محيص؛ فامزج صفاءك بالعكر، ولا تقل إن الصفاء خير من القذر؛ فتلك حكمة القدماء.
جنة العبيط
أما العبيط فهو أنا؛ وأما جنتي فهي أحلام نسجتها على مر الأعوام عريشة ظليلة، تهب فيها النسائم عليلة بليلة؛ فإذا ما خطوت عنها خطوة إلى يمين أو شمال أو أمام أو وراء، ولفحتني الشمس بوقدتها الكاوية؛ عدت إلى جنتي، أنعم فيها بعزلتي، كأنما أنا الصقر الهرم، تغفو عيناه، فيتوهم أن بغاث الطير تخشاه، ويفتح عينيه، فإذا بغاث الطير تفري جناحيه، ويعود فيغفو؛ لينعم في غفوته بحلاوة غفلته.
أنا في جنتي السمح الكريم الذي ورث الجود عن آباء وجدود؛ فمن سواي كان أبوه يذبح الجمل والناقة ليطعم كل ذي مسغبة وفاقة؟ من سواي إلى حاتم ينتمي، وبهذا العنصر الكريم يحتمي؟ وهل كانت صفات آبائي وأجدادي لتذهب مع الهواء هباء، أم هي تجري في العروق مع الدماء دماء؟ ها أنا ذا أحنو على البائس عطفا وإن كنت لا أعطيه؛ وأذوب على المصاب أسى وإن كنت لا أواسيه؛ وتبت يدا حاسد يقول إن أصحاب الحاجة عندي يستجدون ولا عطاء، والمعوزين أكفهم تنقبض على هواء؛ فقلب عطوف خير للفقير من قرش إنفاقه سريع، وفؤاد ذائب أبقى له من عون لا يلبث أن يضيع. إني أعوذ بالله من إنسان يفهم الإحسان بلغة القرش والمليم؛ تلك لعمري مادية طغت موجتها على العالم كله، ولولا رحمة من ربي، ورشاد من قادتي؛ لكنت اليوم في غمرتها من المغرقين؛ لقد أقفر العالم حول جنتي فلا عطف ولا عاطفة، واستحالت فيه القلوب نيكلا ونحاسا تعرفها بالرنين لأنها لم تعد من لحم ودم! أهكذا يقوم كل شيء بالمال حتى إحسان المحسن وعطاء الكريم؟ فالقرش والمليم هو معنى الإحسان في الغرب الذميم، الذي غلظت فيه الأكباد، كأنما قدت من صخر جماد؛ كم جامعة عندهم أنشأها ثري؟ وكم دارا أعدها للفقير غني؟ كم منهم يلبي النداء إذا ما دعا الداعي بالعطاء؟ لا، بل إن هذا الغرب المنكود ليسير إلى هاوية ليس لها من قرار؛ إذ هو يسعى إلى محو الفقر محوا، حتى لا يكون لفضيلة الإحسان عنده موضع! فاللهم إني أحمدك أن رضيت لي الإسلام دينا، وجعلت لي الإحسان ديدنا.
أنا في جنتي العالم العلامة، والحبر الفهامة؛ أقرأ الكف وأحسب النجوم فأنبئ بما كان وما يكون، أفسر الأحلام فلا أخطئ التفسير، وأعبر عن الرؤيا فأحسن التعبير، لكل رمز معنى أعلمه، ولكل لفظ مغزى أفهمه؛ استفسرني ذات يوم حالم فقال: رأيت - اللهم اجعل خيرا ما رأيت - رأيتني أنظر إلى كفي، فيغيظني من الإصبع الوسطى طولها فوق أخواتها، ولا أحتمل الغيظ، فآتي من مكتبتي بمبراة مرهفة ماضية، وأجذ منها ما طال، وألقي بالجزء المبتور في النار؛ وما هو إلا أن أرى شبحا مخيفا يخرج من بين ألسنة اللهب؛ كله أصابع، أصابع في كتفيه، وأصابع في جنبيه، وأصابع في قدميه، وأصابع من رأسه ومن بطنه ومن ظهره؛ والأصابع كلها من ذوات الأظفار، حتى لكأنها المخالب، أخذت تنقبض وتتلوى، وتنبسط وتتحوى، تريد أن تنال مني لتفتك بي؛ فتملكني الفزع، والرعب والجزع، وكلما اقتربت مني تقهقرت حتى بلغت الجدار، ولم يعد بعد ذلك مهرب ولا فرار؛ ثم رأيت دمائي تسيل دفاقة من إصبعي الجريح، فصحت وصحوت.
فأطرقت قليلا ثم أجبته قائلا: لقد أضلك الشيطان الرجيم فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وكفارتك صيام عام وإطعام ألف مسكين؛ ولولا أننا نريد بك اليسر ولا نريد العسر لكان جزاؤك ما لاقى «برومثيوس» عند اليونان فيما تروي الأساطير؛ فقد أراد الآلهة أن يستأثروا بالعلم ونوره، وأراد «برومثيوس» أن يهب الإنسان قبسا منه، فسرق من الآلهة شعلة العرفان ليهدي بها البشر، وغضب الآلهة لفعلته، فشدوه على جلمود صخر فوق الجبل، وأطلقوا عليه سباع الطير تنهش كبده كل يوم مرة، فكلما انتهشت له كبدا، بدلته الآلهة كبدا أخرى. فأصابع كفك هي الناس من حولك تفاوتت أقدارهم وتباينت أرزاقهم بمشيئة ربك الذي يعطي من يشاء ويحرم من يشاء بغير حساب، والمبراة التي أتيت بها من مكتبتك رمز لضلالك بما قرأت، كأنك «فاوست» غاص في العلم فأضله العلم ضلالا بعيدا؛ وكنت بمثابة من باع للشيطان طمأنينة نفسه لقاء لغو فارغ لا يسمن ولا يغني من جوع، ثم حدثتك النفس الأمارة بالسوء أن تعدل فيما خلق الله وتبدل؛ فكان جزاؤك عذاب الدارين، فعذابك في الدنيا دماء تسيل رمزا لما أنت ملاقيه من تعذيب في النفس أو في الجسم أو فيهما معا، وعذابك في الآخرة نار تصلاها وبئس القرار، وسيظل الوحش ذو الأصابع ماثلا أبدا أمام عينيك شاهدا عليك بما أحدثته للعباد من فساد، في عالم ليس في الإمكان أن يكون أبدع مما كان؛ وأما الجدار الذي سد عليك طريق الفرار، فمعناه أن عذابك آت لا ريب فيه، إلا أن تدعو ربك بالمغفرة لعل ربك أن يستجيب لك الدعاء.
أنا في جنتي الحارس للفضيلة أرعاها من كل عدوان، لا أغض الطرف عن مجانة المجان، والعالم حول جنتي يغوص إلى أذنيه في خلاعة وإفك ورذيلة ومجون؛ دعهم يطيروا في الهواء ويغوصوا تحت الماء، فلا غناء في علم ولا خير في حياة بغير فضيلة، دعهم يحلقوا فوق رءوسنا طيرا أبابيل ترمينا بحجارة من سجيل، فليس الموت في رداء الفضيلة إلا الخلود. إني والله لأشفق على هؤلاء المساكين، جارت بهم السبيل فلا دنيا ولا دين، أتدري ما معنى الفضيلة عند هؤلاء المجانين؟ معناها كل شيء إلا الفضيلة! فالنساء عندهم يخالطن الرجال، والنساء عندهم يراقصن الرجال، ثم النساء عندهم يعملن مع الرجال، وهن يقاتلن مع الرجال! أرأيت أفحش من هذا الإفك إفكا! وأقبح من هذا المجون مجونا؟ حدثني صديق أنه رأى هناك ذات يوم بعينيه، في مكان واحد من دكان واحد؛ قبعة وقبعا (وأراد بالقبع قبعة الرجل تمييزا للذكر من الأنثى) رآهما معروضين لا يسترهما عن أنظار المارة إلا لوح من الزجاج يشف للمارة عما وراءه، وأعجب العجب أن علامة واحدة من علامات الحياء والخجل لم تبد على رجل منهم أو امرأة؛ وبعد، فهم يتحدثون عن الفضيلة كما أتحدث، لكنها تعني عندهم شيئا عجيبا؛ فإن خالطت هؤلاء القوم، فينبغي أن تكون منهم على حذر؛ لأنهم يسمون الأشياء بغير أسمائها، والرذائل والفضائل عندهم قد يلبس بعضها أثواب بعض؛ سل حكيمهم: ما الفضيلة يا مولانا في بلادكم؟ يجبك حكيمهم: إنها في اختلاط الحابل بالنابل! إي والله، لا يختلف عندهم رجل أمسك صيده بالحبال عن رجل أمسكه بالنبال، ترى هؤلاء وأولئك خليطا واحدا؛ «خليط» هذه هي الكلمة التي أريد، فهيهات أن تعرف في أرضهم أين الرعاة وأين الغنم، فكلهم - إن شئت - راع، وإن شئت فكلهم غنم؛ في هذا الخليط يقترب الإنسان من الإنسان ، وقد يكون أحد الإنسانين ذا لحية وشارب، وقد يكون الآخر حليقا ناعم الخدين أملس الصدغين، وقد يكون في اقترابهما أن يخز الأول والثاني فيدميه؛ لكنه خليط وفوضى، ولن يصلح الناس فوضى لا سراة لهم، ولا سراة إذا «عمالهم» سادوا.
في هذا الخليط يتصايح الناس بما يجيش في صدورهم، لا يكم أحد أحدا؛ لأن أحدا ليس له سلطان على أحد، كأنهم ذباب يطن، لا تملك ذبابة منها أن تسكت عن الطنين ذبابة؛ والمطبعة فاغرة فاها تلتقم من الأقلام حنظلها وشهدها، ومن الأفواه حلوها ومرها؛ لتخرجه للناس صحفا وكتبا؛ وما ظنك بقوم يأذنون لرجل من أعلام كتابهم أن يقول في كتاب مطبوع: إن الفتيان والفتيات، في المعاهد والجامعات؛ ينبغي أن تشرف الدولة على تنظيم غرائزهم، فتدبر لهم لقاء لا ينسل. إن الدولة التي تدرأ عن أهلها السموم، من واجبها أن تكم هذه الأفواه، لكنهم قوم لا يعقلون.
في هذا الخليط لا يؤمن الناس بأن الليل لا ينبغي له أن يسبق النهار، ولا الشمس أن تدرك القمر، وأن كلا في فلك يسبحون؛ فهم يريدون لأجرام السماء كلها أن تسبح في فلك واحد، ثم تختلف بعد ذلك أوضاعها وأشكالها ما شاءت أن تختلف؛ وذلك الفلك الواحد عندهم هو صفة الإنسانية التي تجعل الإنسان شيئا غير الكلب والحمار؛ فكن عندهم فقيرا ما شئت، أو كن عندهم غنيا ما شئت؛ لكنك إنسان. كن عندهم جاهلا ما شئت، أو كن عندهم عالما ما شئت؛ لكنك إنسان. كن عندهم ضعيفا ما شئت، أو كن عندهم قويا ما شئت؛ لكنك إنسان. كن عندهم زارعا أو صانعا؛ فأنت إنسان. كن عندهم خادما أو مخدوما وأنت في كلتا الحالين إنسان؛ كأنهم جماعة من النمل لا تختلف فيها نملة عن نملة! وأقرن فوضاهم هذه بالنظام في جنتي، فأحمد الله على سلامتي. أرادت زوجتي في جنتي أن تستخدم خادمة، فسألتها: اسمك ماذا؟ - بثينة يا سيدتي.
لكن زوجتي كانت بثينة كذلك، فأبى عليها حب النظام إلا أن تفرق بين الأسماء حتى لا يختلط خادم بمخدوم، وقالت في نبرة كلها مرارة، ونظرة تشع منها الحرارة: ستكونين منذ اليوم زينب، أتفهمين؟ - حاضر، سيدتي.
وبثينة بالطبع لم تفهم لماذا تكون منذ اليوم زينب؛ لأنها جاهلة صغيرة، لم تفهم بعد ما الفضيلة وما الرذيلة.
كلا! لا أريد لهذا الغرب اللعين أن ينفذ إلى جنتي، ولا لمدينة الغرب أن تفسد مدنيتي؛ وإنه لتغنيني عن سيارته حمارتي، وتكفيني دون طيارته بغلتي؛ ما دمت عن رذيلته في حصن من فضيلتي.
لكن لكل جنة إبليسها، وإبليس جنتي وسواس خناس، ما ينفك يوسوس في صدري هاتفا: يا ويح نفسك، لقد ضلت ضلالين؛ ضلالا بغفلتها، وضلالا بتضليل قادتها.
في سوق البغال
قد كنت أعلم حقا وصدقا ويقينا أن الليالي من الزمان حبالى يلدن كل عجيبة؛ لكنني لم أكن أعلم أن عجائب الزمان قد تهزأ بالخيال، ما شطح منه وما جمح، حتى سمعت أن بغلا يحتج ويحاج كما يفعل عباد الله من بني الإنسان.
فلقد حدثني صديق إنجليزي، كان ضابطا في البحرية إبان الحرب، عن زميل له طوحت به خطوب البحر إلى جزيرة نائية في عرض المحيط الهادي، لم يزد سكانها فيما رأى عن بضع مئات اختلفت طبائعهم عن طبائعه، ولسانهم عن لسانه؛ لكنه كان في خبرته بالحياة فسيح الأفق بحيث لم يدهش لاختلاف الشعوب في طرائق العيش وأساليب التفكير والتعبير، فالناس في رأيه ناس إن ابيضت جلودهم أو اقتتمت، والناس ناس إن دارت ألسنتهم في الأشداق من اليسار إلى اليمين أو دارت من اليمين إلى اليسار؛ لكن الذي أدهشه حقا من أهل الجزيرة سذاجة بلغت بهم في سرعة التصديق حدا لم يألفه فيما شهد من شعوب الأرض طرا، فهم يتناقلون رواية خلفا عن سلف يؤمنون بصدقها لإيمانهم بصدق رواتها، مع أنها تنافي أوضاع الطبيعة كلها، أو قل إنها تنافي ما ألف ذلك الزميل من هذه الأوضاع.
فقد روى له هنالك راو أنه منذ مائة عام عرضت في ساحة السوق من الجزيرة جماعة من البغال للبيع والشراء، جيء بها من أرض في شمالي أفريقيا لعلها بقعة من صحرائها لم يعرف أهل الجزيرة كيف يسمونها؛ فأخذ الأمر يجري مجراه المألوف عند القوم هناك كلما تم بينهم بيع أو شراء؛ عرضت البغال وجاء الشارون، فلم يكن بد من أن تنزع عن ظهورها السرج، ومن أفواهها اللجم، لتبدو عارية من كل زينة؛ وأخذ الخبراء يجسون عضلاتها هنا، ويختبرون مفاصلها هناك، ويفتحون أفواهها لينظروا إلى أعمارها في أسنانها، ثم يركبونها ويدورون بها في ساحة السوق دورة أو دورتين، ليروا أهي في جريها من العاديات أم الزاحفات، خفاف الحركة هي أم ثقالها؛ ويختبرون قدرتها على الحمل والجر بشتى الوسائل، ليثق الشارون أنهم لن ينفقوا مالهم عبثا إن أنفقوه ثمنا لهذه البغال.
لكن البغال فيما يظهر لم تعجبها هذه الطريقة في التقويم والتسويم؛ لأنها تختلف عما ألفته في بلادها؛ وهنا كانت المعجزة التي أدهشت صديقي وأدهشتني وستدهش كل قارئ وسامع؛ وهي أن ثارت البغال على سيدها وشقت عصا الطاعة على نحو يشبه جدا ما يصنعه البشر إذا غضبت منهم طائفة لأمر أو أعلنت عصيانها، فلم تكن ثورة البغال جموحا أو شموسا، كلا، ولا رفسا وركلا، بل كانت احتجاجا يقوم على علل وأسباب، أشبهوا فيه الآدميين لولا خلل في المنطق قل أن يزل فيه الآدميون؛ أقول لولا هذا الخلل في طريقة التفكير لخلتها في ثورتها جماعة من البشر سحرها ساحر ممن جاءتنا أنباؤهم في كتب الأقدمين، فاستحالت بغالا وما هي بالبغال، أو تقمصت أرواحها أجساد البغال فبقي لها من صفاتها الأولى شيء وزال عنها شيء.
أوشكت عملية الجس والفحص أن تنتهي بتاجر البغال أن يضع في أسفل سلم التقدير بغلا هزيلا ضئيلا رخو العود تلين عضلاته لكل غامر، فإن جرى تعثر، وإن حمل على ظهره هوى؛ لكن سرعان ما أشار هذا البغل الهزيل إلى سائر البغال فانتبذت ركنا من ساحة السوق، تتبادل الرأي والشورى؛ فإن لم تدهش لبغال تجادل وتقاول، فادهش لأن تكون الزعامة لبغل لم يكن أضخمها حجما ولا أروعها شكلا أو أسرعها حركة؛ وأغلب الظن أن قد كانت له صفات رآها البغال ولم تدركها أعين البشر!
قال البغل الزعيم لزملائه: ليس الرأي عندي أن نترك القوم يتحكمون في أقدارنا كما شاءت لهم أهواؤهم، وإنهم لعلى ضلال، فقد أراد الله لنا أن نكون بغالا، ولله حكمته فيما أراد، ثم شاء لنا أن نكون مركبا للإنسان وأداة لحمل أثقاله، ولسنا على هذا القضاء المحتوم بثائرين، فالدنيا تبادل وتعاون، نحن نحمله وأثقاله، وهو يعد لنا المأوى وينبت الغذاء؛ لكن الذي لا ينبغي أن نلين له هو هذا الظلم والحيف والإجحاف؛ فما هكذا يكون تقويم البغال، ولو تركناهم في ذلك وشأنهم اضطربت أوضاعنا، فعلا أسفلنا وسفل أعلانا، وقد خلقنا الله درجات بعضها فوق بعض، ومن الجحود بل من الكفر بنعمة الله أن نسوي بين هذه المنازل المختلفات، أو نغير فيها ونبدل؛ فهل أنوب عنكم لدى صاحب الأمر فأحتج لكم، فإما أقام للعدل ميزانه، وإما ثورة منا وعصيان؟
فاجتمع رأي البغال على أن يبايعوا ذلك البغل الزعيم.
تقدم كبير البغال وفي أثره الزملاء، والناس إزاء ذلك كله مفغورة أفواههم من عجب، مفتوحة أعينهم من رعب وخوف؛ فهم يؤمنون بالمعجزات الخوارق التي لا تجري على سنن الطبيعة، على شريطة أن تكون تلك المعجزات رواية تروى، لا حدثا يقع منهم على مرأى ومسمع.
قال البغل الزعيم لصاحب الأمر: لك أن تصنع بنا ما شئت في حدود العدل، وليس عدلا أن يكون هذا أساس التقويم، لقد نزعتم عنا اللجم والسروج، فماذا أبقيتم لنا مما تتم به المفاضلة بين الجيد والرديء؟ فما بغل بغير سرجه ولجامه؟ وفيم هذا الجس في عضلاتنا، وهذا الإرهاق كله في فحص أجسادنا؟ إن ذلك بدع لم نعتده في بلادنا.
ارتعش صاحب الأمر من فرق، وأجاب وقلبه في حلقه فزعا: لست أدري في ذلك بدعا فتلك سبيلنا في التقدير، الشيء عندنا قيمته فيما يصنعه؛ فالطبيب طبيب بمقدار ما يطب للمرضى، لا بسماعته التي يلفها حول عنقه، والحذاء حذاء بما يجيد من صناعة الأحذية لا بالغطاء الجلدي على ركبتيه، والكلب السلوقي ممتاز لما يصنع في حلبة الصيد لا بطوقه البراق، والسيف بتار بحده لا بغمده، فأي عجب في أن يكون البغل بغلا بقوته وسرعته لا بسرجه ولجامه؟
فأجاب كبير البغال: إنكم في هذا البلد تنخدعون بحقائق الأشياء، وإنكم في هذا لعلى ضلال مبين، الشمس في حقيقتها كتلة ضخمة مهلهلة من غاز مشتعل؛ لكنها عند من يعقل قرص صغير مستدير، لأنها تبدو لعينه قرصا صغيرا مستديرا، والقمر في حقيقته جسم معتم؛ لكنه عند من يفهم سراج منير، لأنه يبدو لعينه سراجا منيرا؛ الطبيعة كلها بإنسانها وحيوانها ظواهر ومظاهر، فلماذا تشذ عندكم البغال في تسويمها.
فسأل التاجر: كيف إذن يسوم البغال في بلادكم؟
فقال البغل الزعيم: في بلادنا لا الزبد يذهب جفاء ولا ما ينفع الناس يمكث في الأرض، فليست تخدعنا الحقائق عن إدراك الظواهر، ولا يزيغ اللباب أبصارنا عن رؤية القشور؛ فلنا في تسويم البغال وسائل شتى، أكثرها شيوعا أن تتناسب قيمة البغل مع قيمة راكبه صعودا وهبوطا، فليس البغل يمتطيه الغني في حريره ونضاره، كالبغل يركبه الفقير في هلاهله وأسماله، وليس البغل يختال على صهوته صاحب الحول والطول، كالبغل يعلوه من ليست له سطوة وسلطان؛ وقد تعلو قيمة البغل لأن أباه كان مشدودا إلى عربة أمير أو وزير، فتكتسب العربة هيبة من هيبة الراكب، ويستمد البغل الوالد قيمة من قيمة العربة، ثم يأتي البغل الولد فيزداد قدرا لازدياد قدر أبيه.
ليس هذا المعيار في المفاضلة والتقويم بهين ولا ميسور؛ ففيه من الدقة ما يخفى على غير الخبير؛ إذ قد تغمض الفوارق بين الراكبين أحيانا، حتى ليتعذر على مثلك ومثلي أن يعلم في يقين أي الراكبين أرجح مثقالا، ليكون بغله أعلى منزلة ومقدارا؛ وكم من بغل أخطأ في ذلك الحساب فهوى نجمه وكان يحسبه إلى صعود؛ لهذا نشأت بيننا طائفة من الخبراء مهمتها أن توازن بين أقدار الراكبين ليعتدل بذلك ميزان التسعير بين البغال، وإنك لتدهش أن ترى حساب الخبراء قد يدق ويدق حتى يصبح معادلة جبرية يحتاج فك رموزها إلى مران طويل؛ خذ لذلك مثالا:
أي الراكبين أعز سلطانا؛ راكب سطوته في قومه وسط بين الضعف والقوة لكنها سطوة تدوم وتتصل، أم راكب جبار مكتسح غير أن قوته تظهر آنا وتختفي آنا؛ فلقد رأيت في ذلك بغلين اقتتلا أيهما أقوى سندا وأعز ظهيرا؛ أحدهما يقع راكبه في الناس بين بين ولكن قوته موصولة الحلقات لا تزول، والثاني راكبه يسطع ضوءه ويخبر كمصباح النار في الليلة الظلماء، فإن سطع خطف بريقه الأبصار، ولم يكن هذا الراكب في مجده حين اعترك البغلان؛ قال البغل الأول لزميله: أنا أفحل منك راكبا وأقوى مؤيدا، لأن نفوذا وسطا خير من لا نفوذ؛ فأجاب البغل الثاني قائلا: إن الفردوس المفقود يرجى له يوما أن يعود، ولا يخدعنك الركود القائم؛ فكم من نهوض يأتي بعد ركود؛ وللجبروت الفعال لما يريد - يظهر ويختفي - خير ألف مرة من نفوذ يدوم هينا لينا. ومضى البغلان في الجدل، لم يدريا كيف ينحسم الخلاف بينهما بغير خبير، وقصدا إلى الخبير فأفتاهما بأن الحكم في مثل ذلك الأمر وسيلته العد والحساب، فعلينا أن نعد من زادت قيمته في الأسواق من بغال الصنف الأول، ومن زادت قيمته من بغال الصنف الثاني، والرجحان لما تكون في جانبه الكثرة العددية؛ فإن دلت الأرقام على أن البغال التي ارتفع سعرها بسند من الظهراء الأوساط الدائمين أكثر عددا من التي ارتفع سعرها بسند من الظهراء الأقوياء المتقطعين، كان الحكم للأول، وإن كان العكس فالحكم للثاني؛ وإن لم تخني الذاكرة كان الرجحان في هذه المشكلة للبغل الثاني؛ إذ أثبت الإحصاء أن التيار القوي المتقطع يدفع الطافي دفعات أقوى وأبعد من التيار اللين وإن اتصل، ودع عنك بغلا ليس لظهره راكب، فذلك بين القوم سخرية الساخرين.
ووسيلة أخرى لتسعير البغال عندنا: أن ينظر إلى نوع المذاود ومكانها، بغض النظر عما تحويه تلك المذاود من غذاء، أحنطة هو أم شعير؛ فبغل غلا سعرا وعلا قدرا لأنه أكل من مذود في بلد بعيد، فالمذود في هذه الحالة يكتسب قيمة من قيمة المكان الذي وضع فيه، ثم يكتسب البغل قيمة من قيمة مذوده الذي ربط إليه حينا؛ وإني لأذكر في ذلك أيضا أن بغلين اختلفا ذات يوم في قدريهما أيهما أقوم؟ أما أحدهما فاغتذى من مذود في بلاده؛ وأما الثاني فأرسلوه إلى بلد بعيد ليعلفوه، ولو عاد مليء الجوف لما كان بينهما خلاف؛ لكنه فيما روي عنه وما ثبت بالفحص الدقيق، لم يأكل هنالك شيئا إما لخلاء مذوده وإما لمرض في جوفه، وارتد إلينا خالي الأمعاء خاوي الأحشاء؛ ومهما يكن من أمر فقد اختلف البغلان واستفسرا خبيرا، لكن الأمر هذه المرة لم يحتج إلى عد وتقدير، فواضح لكل ذي بصر أنه بالمذود لا بالغذاء يكون التسويم والتسعير؛ فإن أردت أن تسوم بغلا فلا تسل ماذا أكل بل قل أين أكل؛ فإذا علمت أنه أكل من مذود في واق الواق بينك وبينه المحطات والبحار والفيافي والقفار، فذاك بغل متين مكين، أما إن علمت أنه أكل في حقل أبيه، لم يشرق ولم يغرب عن أرضه وذويه، فأهون به بغلا عند بائعه وشاريه، ثمنه بخس دراهم معدودة.
وطريقة ثالثة في تقويم البغال: قدرتها على الرفس، فأقواها رفسا أرقاها مقاما لأنه أصلحها في تنازع البقاء، وأحسبك لو سئلت في هذا لأجبت بهرائك الذي فهت به منذ حين، زاعما أن البغال لم تستخدم لترفس إنما استخدمت لتحمل الأثقال، فأعرضها ظهرا وأقواها عضلا هو أجدرها بالصعود في أسواق الشراء؛ لكن ذلك تفكير ملتو لا نسيغه في بلادنا، فقد خلق الله البغال بالظهور والحوافر، وليس سوى التجربة وحدها أن يقول هل يكون البغل بغلا بظهره أو بحوافره؛ فإن كانت الحوافر أنجح وسيلة وأقصر طريقا، كانت ميزانا عادلا للمفاضلة بين البغال.
على أننا نستخدم كذلك وسيلتكم في جس العضلات واختبار المفاصل؛ لكننا نقصرها على الطبقة الدنيا من البغال، فالدنيء منا لا السني هو الذي يمتحن امتحانا قاسيا قبل أن يدفع من ثمنه قرش واحد؛ فالفرق بيننا وبينكم هو أننا نفرق بين البغال في طريقة التسعير وأنتم لا تفرقون.
قال الرجل: إن كان هذا تسويمكم للبغال، فكيف تقويمكم للرجال؟
فقال البغل: ليس في بلادنا كبير فرق بين الرجال والبغال.
بيضة الفيل
قال الشيخ: الفيلة تلد ولا تبيض؛ والمشكلة المراد حلها هي هذه: لو كانت الفيلة لتبيض، فماذا يكون لون بيضها؟ في الجواب عن هذا السؤال اختلف العلماء؛ يقول عمارة بن الحارث بن عمارة: تكون بيضاء. واستدل على صحة قوله بدليل من القياس ودليل من اللغة؛ أما دليل القياس فهو أن كافة مخلوقات الله التي تبيض بيضها أبيض، وليس في طبيعة الفيل ما يدل على أنه لو باض أخذت بيضته لونا آخر غير البياض؛ فإذا اختلف الفيل عن غيره من الحيوان فذلك في حجمه وقوته ونابه، وهذه صفات كلها لا تستلزم في البيضة لونا غير البياض، فقد يكون الحيوان صغيرا كالذبابة أو كبيرا كالنعامة، قويا كالعقاب أو ضعيفا كالحمامة، بناب كالتمساح أو بغيره كالدجاجة، والبيضة هي هي في لونها بيضاء لا تتغير؛ ومما يزيد هذه الحجة وزنا ورجحانا هو أن الخلائق تجري على اطراد وتشابه، فالكواكب متشابهة والبحار متشابهة والطير متشابه والحيوان متشابه؛ فلو قيل مثلا: إن حيوانا جديدا سيولد بعد ألف عام، جاز لنا أن نحكم في ترجيح يقرب من اليقين بأنه سيكون ذا أذنين وأنف واحد وعينين؛ وعلى هذا القياس نفسه نحكم بالبياض على بيضة الفيل لو باض. وأما دليل اللغة فهو أن البيضة مشتقة من البياض، وإذن فالبياض أصل والبيضة فرع منه، ولا يعقل أن يتفرع عن البياض حمرة أو زرقة؛ لأن الفرع شبيه دائما بأصله، ولذلك قيل: هذا الشبل من ذاك الأسد.
ثم استطرد عمارة فتساءل عن حجم بيضة الفيل، وأجاب بأنها تكون قدر بيضة النعامة عشرين مرة، لا لأن الفيل يكبر النعامة حجما بهذا القدر كله؛ بل لأنه في قوته يوازي عشرين نعامة، والأساس في حجم البيضة هو قوة الحيوان البائض لا حجمه، فتصغر بيضة الحيوان أو تكبر بمقدار ما هو قوي أو ضعيف، لا بمقدار ما هو صغير أو كبير، على خلاف الرأي الشائع بين الناس، وقد أيد عمارة قوله هذا بأمثلة ساقها تدل على أن الحيوان ربما كان كبيرا وباض بيضا صغيرا، أو كان صغيرا وباض بيضا كبيرا.
ثم تساءل عمارة أيضا: هل كانت طبيعة الفيل لتتغير لو باض، فيكون ذا جناحين ليتخذ طبيعة الطير؟ وأجاب بأنه ليس في نواميس الكون ما يستلزم هذا الانقلاب في طبيعته، فالسمك يخرج من البيض وليس له أجنحة؛ بل له زعانف تساعده على السبح ولا تساعده على الطيران؛ وبيض الفراش وبيض الذباب وما إلى ذلك يخرج منه الدود ولا تخرج منه ذوات الجناح؛ وإذن فقد يخرج من بيضة الفيل فيل ذو أربع قوائم وليس له جناح.
وأخيرا تساءل عمارة: ما حكم الشرع في بيضة الفيل، أيحل أكلها للمسلمين أم يحرم عليهم؟ وهنا كذلك أجاب بدقته المعهودة أن بيضة الفيل حلال أكلها بشرط، حرام بشرط؛ فهي حلال إذا كانت لا تكسب الإنسان الآكل صفة الافتراس، وهي حرام إذا خيف أن تكسبه هذه الصفة، وإنما يكون الآكل بمنجى من عدوى الافتراس لو كان الفيل البائض هو الجيل العاشر من سلسلة أجيال استأنسها الإنسان. بمثل هذه الدقة العقلية والبراعة الذهنية أثار عمارة بن الحارث هذه المسائل عن بيضة الفيل وأجاب عنها، ولا عجب فهو الفقيه العالم الذي سارت بفتاواه الركبان فيما تعذر حله على غيره من العلماء.
وتصدى معسرة بن المنذر لتفنيد ما قاله عمارة بن الحارث في بيضة الفيل من حيث لونها، فقال عن دليل القياس الذي ساقه عمارة بأن كافة الحيوان الذي يبيض بيضه أبيض، ولذلك فبيضة الفيل لا بد أن تكون بيضاء اطرادا مع القاعدة: إنه دليل لا يقوم على سند من الواقع، فليس صحيحا أن كافة الحيوان الذي يبيض بيضه أبيض؛ فبيض البط فيه خضرة خفيفة، وبيض الدجاج في بعضه حمرة خفيفة، ومن الطير ما بيضه أرقط، ومنه ما بيضه أزرق. وأما دليل اللغة الذي ينبني على أن البيضة مشتقة من البياض ولذلك وجب أن تكون بيضاء، فهو استنتاج معكوس ومغلوط في آن معا؛ معكوس لأننا حتى لو فرضنا أن البيضة مشتقة من البياض، فليس هذا دليلا على أن البيضة بيضاء لأنها بيضة، بل هو دليل على أنها بيضة لأنها بيضاء. ولتوضيح المعنى المراد ضرب معسرة مثال الدقيق والخبز؛ فالدقيق أصل والخبز فرع، فإن جاز لنا أن نقول إنه خبز لأنه من دقيق، فلا يجوز أن نقول إنه من دقيق لأنه خبز. والدليل مغلوط؛ لأننا حتى إن رتبنا مراحل الاستنتاج ترتيبا صحيحا، وقلنا إن البيضة بيضة لأنها بيضاء كانت النتيجة خطأ، لأنه لا يكفي أن يكون الشيء أبيض لنحكم عليه بأنه بيضة، وإلا لجاز لنا أن نقول إن هذا الجدار بيضة لأنه أبيض، وهذا الدقيق بيضة لأنه أبيض، وهلم جرا.
وبعد أن فند معسرة أقوال عمارة، بسط رأيه في لون بيضة الفيل، فقال: إن الفيل حيوان فيه شذوذ عن مستوى الحيوان، والشذوذ لا بد أن ينتج شذوذا، وإلا لما تكافأت المقدمات والنتائج؛ والشذوذ في البيض أن يكون أسود، ولذلك فإن كان الفيل ليبيض وجب أن تكون بيضته سوداء، إذ لو باض بيضة بيضاء، كنا بمثابة من يقول إن الحيوان الشاذ تتفرع عنه نتيجة لا شذوذ فيها، وهو قول فيه تناقض بين الصدر والعجز.
وكان بين تلاميذ ابن الحارث تلميذ نجيب، فتصدى للرد على نقد معسرة، فقال: إن معسرة وهو شيخ المناطقة في زمانه، قد زل زلة ما كان ينبغي أن يقع في مثلها رجل مثله؛ فبينا هو ينكر أن يكون للبيض لون خاص، ويزعم أن من البيض ما هو أزرق أو أرقط، تراه في الوقت نفسه يقول: إنه ما دام الفيل حيوانا شاذا وجب أن يكون بيضه شاذا في لونه كذلك، والشذوذ في البيض أن يكون أسود؛ فكيف يكون الشذوذ سوادا إذا لم تكن القاعدة بياضا؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى نحن نسائل هذا العالم المنطقي: أصحيح أن الشاذ لا ينتج إلا شاذا؟ أيظن معسرة أنه ما دامت الحية لا تلد إلا حية، فالأعرج لا يلد إلا الأعرج، والأعمى لا يلد إلا الأعمى؟ فإن كان الأعرج ينسل من يمشي على قدميه، كما ينسل الأعمى من يبصر بعينيه؛ فلماذا لا يبيض الحيوان الشاذ بيضة تجري مع الإلف والعادة؟
قال الشيخ: هكذا جرى النقاش بين العلماء. •••
وزلزلت الأرض زلزالها، وقال الشيخ: ما لها؟ فقيل: يا مولانا قنبلة ذرية، في لمحة تقضي على الأصل والذرية.
قيل: فعجب الشيخ أن كان في الدنيا علم غير علمه.
قصاصات الزجاج
بإحدى الكنائس في إنجلترا نافذة أبدعتها يد صناع، فجاءت آية من آيات الفن الروائع تحفة للزائرين؛ اتسقت ألوانها، وأتقنت تصاويرها، وبلغت في كل شيء حد الكمال؛ ويقص عليك الدليل أنه لما بنيت الكنيسة جيء لزخرفتها بفنان طبقت شهرته الخافقين في الفن الجميل، واستصحب الأستاذ صبيا كان يلازمه ليتلقى عنه أصول الفن، وأخذ الأستاذ الفنان في زخرفة النوافذ، ورصت أمامه ألواح الزجاج ألوانها شتى، يجذ من هذا مرة ومن ذلك مرة، ويرشد الغلام إلى قواعد الفن في صناعته كلما وضع في النافذة قطعة من زجاج؛ فهنا مربع أزرق وإلى جانبه حلقة حمراء، وصورة القديس هنا، وهنا صورة العذراء. وكان الأستاذ خلال ذلك يقذف بقصاصات الزجاج غير مبال بها، فينثرها يمينا ويسارا، والغلام من ورائه يجمع هذه القصاصات ليلقي بها حيث تؤتمن العواقب.
لكن الغلام فنان موهوب، فلم يلق بقصاصات الزجاج حيث تلقى سائر الفضلات؛ بل أخذ يلهو بها في سويعات فراغه حتى كانت له في النهاية نافذة رائعة بارعة هي التي يقف عندها الزائرون اليوم ليقص عليهم الدليل قصتها، ويحكي أنه لما فرغ الصبي من نافذته أطلع عليها أستاذه: ما هذا الذي أرى؟ - نافذة صنعتها. - وأنى لك الزجاج؟ - قصاصات جمعتها.
ورأى الأستاذ في نافذة الغلام فنا لا يقاس إليه فنه، وكبر عليه الأمر فانتحر.
ذكرت قصة هذا الغلام الفنان ونافذته، إذ كنت جالسا أمام مدفأتي ليلة أمس، وحيدا في غرفتي، والدنيا من حولي صامتة لا تسمع فيها صوتا ولا حركة؛ فاتخذت منها نقطة ابتداء وتركت خواطري تترى خاطرا في إثر خاطر.
فخطر على ذهني أول ما خطر مؤرخ فنان أقرب ما يكون شبها في كتابته للتاريخ بذلك الغلام في صناعته للنافذة ، فقد كانت نافذته التي صنعها قصصا تاريخيا هو أحلى ما جرت به يراعة على قرطاس، وكانت قصاصاته التي صنع منها نافذته نتفا من الأخبار والحوادث تساقطت من بين أصابع الذين احترفوا كتابة التاريخ، إذ قصر هؤلاء أنفسهم على الحوادث الضخمة والرجال الأعلام، ونفضوا عن أسنة أقلامهم عامة الناس يمينا وشمالا؛ فمن ذا تعنيه قصة حمال اعترك مرة مع جاره الحمال وساد بينهما الود مرة، بقدر ما تعنيه الرءوس المتوجة تختصم آنا وتتهادن آنا؟ من ذا تعنيه قصة امرأة عجوز أحبت قطتها أو كلبها، بقدر ما تعنيه الأميرة ملأت شغاف قلبها بحب الأمير؟ لكن صاحبنا المؤرخ الفنان لم يرضه أن يلقي بهذه القصاصات في تراب الرفوف، فنقاها وصفاها وسواها قصصا هي هذه التي تقرؤها فتمتعك وتفتنك؛ لم يبهره الملوك في قصورهم ولا القادة في حومات القتال إلا بمقدار ما يكون هؤلاء الملوك والقادة بشرا من البشر؛ وكان من رأيه أن صولجان الملك قد لا يثير الخيال بمقدار ما يثيره محراث الفلاح، ولذلك ترى مادته البشرية في قصصه هي هذا الزارع الصغير وهذا الصانع وهذا البائع وهذا الجندي وهذه الفتاة الريفية الساذجة؛ فمن هؤلاء تتكون لحمة الحياة وسداها. وإنه لمن فضل الله على عباده أن جعل بينهم قدرا مشتركا لا يملكون أن يخضعوه لهذا التفاوت الذي فرضوه على أنفسهم فرضا في شتى نواحي العيش؛ فالفتاة الريفية تحب فتاها كما تحب الأميرة أميرها، وتحزن زوجة الأجير على ولدها إذا أصابه الردى كما تحزن على ولدها زوجة الوزير؛ فالحمد لله الذي جعل الناس يضحكون ويبكون على غرار واحد، ويجوعون ويشبعون ويرضون ويسخطون على نسق واحد، ويفتقرون إلى الله ويعبدونه بأسلوب واحد؛ وأدرك مؤرخنا الفنان هذا القدر المشترك وعرف له وزنه وقيمته، فجمع قصاصاته التي ألقى بها بين المهملات، ومن هذه القصاصات صنع آياته الخالدات.
ومضى هذا الخاطر وجاء في إثره خاطر.
طافت بذهني عشرون عاما مضت على صديق لم يكد يخلو فيها إلى حياته أسبوعا واحدا، وأوشك ألا يمضي يوم خلالها دون قراءة وكتابة يثقف بهما نفسه ومن حوله من الناس، فكان إنتاجه بمثابة النافذة صنعها من قصاصات؛ هي سويعات الفراغ التي أبقتها له الدولة بعد أن استأجرت معظم وقته لقاء بضعة قروش رآها أولو الأمر ثمنا عادلا له في سوق البيع والشراء، وكأنما هاض صديقي هذا ذلك الجهد الثقيل فأقعده بينما كانت القافلة في مسير، أو رأى نفسه يمشي في طريق وقافلة الناس في طريق آخر؛ هي ماضية من جنوب الأرض إلى شمالها وهو سائر من الشمال إلى الجنوب، رأى نفسه هابطا وأنداده في صعود، وأوفى هؤلاء الأنداد صداقة من كان يلقي نظرة إشفاق وهو عابر مخلفا وراءه هذا الزميل المهيض. وذات صباح مشمس ضاح، حمل صاحبنا نافذته وقصد بها إلى أحد السادة رعاة الفن الجميل وهو كالليث في مربضه: ما هذا الذي جئتني به؟ - نافذة صنعتها. - وأنى لك الزجاج؟ - قصاصات جمعتها.
وضحك السيد الذي كان من رعاة الفن الجميل، وقال: يؤسفني يا بني أن أقول إننا في هذه الدار قد تواضعنا على ألا ننعت بالفن نافذة قوامها القصاصات، فها أنت ذا ترى النافذات التي وجدت طريقها إلى جدراننا ألواحا كاملة.
وحمل المسكين نافذته وعاد إلى مأواه، ولو رآه عندئذ رسام فنان لانتهزها فرصة سانحة أن يخرج للناس آية يكتب على إطارها «خيبة الأمل» ولأصبح ذلك الصديق بعدئذ عبرة لكل من تحدثه في أرض الكنانة نفسه أن يصنع نافذة من قصاصات الزجاج.
وكادت تشيع ذكرى صديقي اليأس في نفسي، لولا أن حانت مني التفاتة إلى صورة معلقة على جدار غرفتي؛ صورة «الأمل»: كوكب مظلم خلا من آهليه إلا فتاة شد على عينيها برباط فلا ترى، وعلى إحدى أذنيها فلا تسمع إلا ضئيلا، وفي يدها قيثارة تقطعت أوتارها إلا وترا؛ ومع ذلك كله أحنت الفتاة رأسها في ذلك العالم الموحش المظلم الصامت، لعلها تسمع نغما واحدا من ذلك الوتر الواحد!
إن حدث لك يا صديقي أن تقرأ هذه السطور، فنصحي إليك ألا توئسك أحكام السادة الذين هم في أرض العزيز رعاة الفن الجميل. إنهم لن يزهقوا أرواحهم يأسا حين يرون أنفسهم صغار الفكر بالقياس إلى فكرك، ضئال الهمة بالقياس إلى همتك، كما فعل أستاذ الفن مع صبيه الموهوب؛ بل هم سيسحقونك أنت سحقا وهم سينحرونك أنت نحرا، ليبدو قليلهم كثيرا وضحلهم غزيرا.
ومضى هذا الخاطر وجاء في إثره خاطر.
فتاة في خدرها، نئوم الضحى، تستيقظ لتزين، ثم تمحو زينتها لتنام! وهي في سويعات صحوها لا تجاوز ظليل خدرها، صونا للشرف؛ لأن الشرف من صفات الخفافيش، هو وضوء الشمس نقيضان لا يجتمعان؛ فالقهرمانة الآن في الردهة، والقهرمانة الآن في الغرفة، وساعة هي في البهو وساعة في الشرفة؛ وهكذا أخذت تتعاقب الأيام، ليل يتلوه النهار ونهار يأتي بعده الليل؛ شتاء يتلوه صيف وصيف يأتي بعده الشتاء؛ والوردة الأرجة ترسل عبقها في أرض بلقع يباب انتظارا لمن يكون لها قرينا؛ والقرين المرتقب دونه إليها الصعاب؛ فهذه ساحرة تلاقيه في الطريق وتخادعه حتى تخدعه، وتغازله فتصرعه؛ حتى إذا ما أفاق لنفسه وتبين فيها غش الساحرات تركها ومضى، ليصادفه بعدئذ شيخ هرم ملتح، سكن كهفا بعيدا عن العمران، وراح بالإكسير يخرج من النحاس الخسيس ذهبا إبريزا؛ فما إن رأى الشيخ فتانا حتى أغراه بالمكث إلى جواره حينا ينفخ له النار، وله من محصول الذهب مقدار، ولبث الفتى ينفخ النار عاما وعاما وثالثا بعده رابع وخامس، ورائحة الذهب تملأ أنفه وخياشيمه فلا يترك المنفاخ، والفتاة هنالك في ارتقابها له تستيقظ لتزين ثم تمحو زينتها لتنام. تلك الفتاة قصاصة بشرية قذفت بها الرحى بين المهملات.
ومضى هذا الخاطر وجاء في إثره خاطر، بل سلسلة من الخواطر جاءت في تتابع سريع؛ فالفتاة التي تعطلت في دارها عن غير ضعف إلا ضعفا في إدراك ذويها، دعت إلى الذهن ألوف الألوف من الناس الذين انتشروا في أرجاء البلاد مدائنها والقرى، لا يعملون أو يعملون وكأنهم لا يعملون؛ فهم أقرب الناس شبها بمدينة ضاقت بأهلها سبل العيش، فاتفق الجيران على أن يتبادلوا الخدمات، فكل يغسل لجاره ثيابه، وكل تكنس لجارتها بيتها؛ ثم دهش أهل المدينة أن رأوا أنفسهم كادحين والبطون لم تزل على حالها خاوية! إن السادة إذ أعدوا لأنفسهم حياة ترضي فيهم الغرائز والشهوات، نثروا حولهم عن غير وعي هذه القصاصات.
وصاح صائح: كيف السبيل إلى الإصلاح؟
الإصلاح سبيله أن تعرف لكل قصاصة قيمتها، وأن تجد كل قصاصة مكانها من نافذة المجتمع، فمن لهذه القصاصات البشرية بمن ينسقها أمة منتجة عاملة؟ من لهذه القصاصات البشرية بمثل ذلك الصبي الفنان؟
الدقة الثالثة عشرة
إذا دقت ساعتك ثلاث عشرة دقة، كانت الدقة الثالثة عشرة خطأ في ذاتها أولا، وداعيا إلى الشك في صدق الدقات السوالف ثانيا، ثم كانت ثالثا بمثابة النذير الذي يعلن لك في صوت جهير أن الآلة كلها فاسدة لا مندوحة لها عن إصلاح وتغيير.
وقد دقت ساعتي ذات ليلة ثلاث عشرة دقة، إذ كنت بين يقظة ونعاس، ولبثت الدقة الثالثة عشرة حينا في الهواء تجر وراءها ذنبا من رنين يرتعش مائجا فيهز مسمعي بأصداء خافتة أخذ يتداخل بعضها في بعض، حتى صارت في الأذن طنينا موصولا ودارت في نفسي معانيها مضطربة غامضة كما تدور في النفس أوائل الأحلام عند من ينسحب من يقظة النهار شيئا فشيئا ليأخذ في رقدة الليل؛ حتى إذا ما أخذ مني الكرى بمعاقد الجفنين، رأيتني في بهو فسيح كتب على بابه «بهو الفراعنة»، رصت إزاء جدرانه ثلاثة عشر تابوتا نقشت على ظهورها رموز ورسوم مما تراه على توابيت الفراعنة الأجداد؛ لكنها كانت تدق كأنها الساعات، كل منها يدق ثلاث عشرة دقة، حتى إذا ما فرغت الواحدة من دقاتها بدأت الأخرى.
كان البهو فسيحا معتما لا تتبين فيه حدود الأشياء واضحة إلا إن دنوت منها ونظرت إليها عن كثب، فرشت أرضه بمنثور من الرمل يبعث صوتا أجش كلما داست على حصبائه قدم؛ وكان يضيء في وسطه قنديل ضئيل استقامت في ذبالته شعلة النار، لا تموج يمنة ولا يسرة، لسكون الهواء، أو قل لانعدامه؛ فما يسع القادم إلى «بهو الفراعنة» إلا إحساس عميق بأنه إنما أقبل من المكان على مقبرة كل ما فيها يوحي بركود الموت وجموده؛ ولأول مرة أدركت في وضوح أن الضوء إذا خفت كان في طبيعته أقرب إلى الظلام منه إلى الضياء؛ لأنه يزيد من الأشباح التي تتراءى لناظريك ولا يكاد يعينك على الإبصار، فكأنما هو ظلام منظور، أو نار بغير نور.
وقفت ذاهلا أنصت إلى الدقات التي كانت أدنى إلى حشرجة الموت منها إلى الرنين الصافي، وقد امتلأت أرجاء المكان بأصدائها حتى خيل إلي أن موجات الصوت تتراكم بعضها فوق بعض، وأنني مغموس منها في بركة من صوت؛ ولأول مرة كذلك أدركت في وضوح أن الصوت إذا انبعث من وادي الموت، كان في طبيعته أقرب إلى الصمت منه إلى الصيات؛ فقد أحسست حولي بصمت عميق رغم هذه الأصداء التي تملأ أرجاء المكان، وخشيت أن أحرك قدما فيصيت الرمل تحت قدمي، ويعلن بصوته عن وجودي في مكان أريد به في أغلب الظن أن يرمز للموت لا أن يكون مضطربا للحياة والأحياء؛ لكني لما سكتت ساعة عن دقها وبدأت ساعة، أحسست بدافع يجذبني إلى الساعة الدقاقة ولم أملك الوقوف، فخطوت نحوها خطو الخائف الوجل، جف في حلقه الريق وارتعدت منه الفرائص، وود لو استطاع أن يحقق رجاء أبي العلاء، فنسير في الهواء رويدا حتى لا يحرك حصباء الأرض بقدميه.
دنوت من الساعة الدقاقة فإذا بوجه التابوت فيها قد تبدل شيئا عجيبا تكاد تخر لرؤيته صريعا؛ انقلب وجه التابوت في ثلاثة أرباعه السفلى لوحا من زجاج وفي ربعه الأعلى مربعا من الخشب فيه ثقب مستدير؛ وكان البندول إنسانا مخنوقا أخذ جثمانه يتأرجح خلف الغلاف الزجاجي يمنة ويسرة، مشدود الذراعين موثق القدمين، وتدلى رأسه من الثقب في أعلى الإطار؛ يغطيه طربوش قديم بال مجعد السقف والجوانب، طال «زره» وطال حتى لف حول عنقه ثلاث عشرة حلقة، وجحظت عيناه وانفتح فمه وتدلى لسانه وأخذ يهتز في اتجاه معاكس لحركة جسده؛ فإن تأرجح الجسد يمينا مال لسانه نحو اليسار، وإن تأرجح الجسد يسارا مال لسانه نحو اليمين، أو خيل إلي أنه يفعل.
لم يفتني بين هذه المفازع كلها أن أعجب للقدر كيف كان في سخريته حكيما وفي حكمته ساخرا؛ فقد مات الرجل مختنقا بما اتخذه في حياته دليلا على أنه حي بين الأحياء! مات مختنقا بالذي اصطنعه رمزا لعزته! أكان السم الزعاف إذن يكمن له في خيوط هذا الإرث المجيد؟ وقع في وهمه أن تراث أجداده باعثه على الحياة والنشاط، فإذا تراث الأجداد ينحدر به إلى مهوى الموت والهلاك! مات المسكين مختنقا في أغلال وأصفاد من نسج الآباء والأجداد، ولو أخلص له النصيحة ناصح قبل أن يختنق لأشار عليه أن ينسلخ من جلده انسلاخا، لأن في جلده الضر والوباء؛ لو أخلص له النصيحة ناصح قبل أن يختنق لأشار عليه أن يلقي عن نفسه هذا الموت الرابض، وأن يحطم هذه الأغلال وهذه الأصفاد ليكون بين سائر الناس خفيفا نشيطا؛ لكن علموه فتعلم أن أصفاده سلاسل من ذهب، وهل يطرح الذهب النضار إلا أحمق مجنون؟ علموه فتعلم أن في الدنيا شرقا وغربا، وأن للشرق هذا البريق الذي تلمع به تلك السلاسل الذهبية؛ ولو أخلص له النصيحة ناصح قبل أن يختنق لأفهمه أن ليس في الدنيا شرق وغرب، لكن في الدنيا إنسانا يحيا ويتقدم فيقال له غرب، ويتدهور ويموت فيقال له شرق، وله بعد ذلك أن يختار بين الحياة والموت. لكن مات المسكين - وا أسفا - مغلول اليدين موثق القدمين؛ غلوه بسلسلة ذرعها خمسة آلاف عام تمتد إلى حيث كان أجداده عن الحياة في شغل يبنون الأهرام الشوامخ استعدادا للموت والفناء، ومن يدري؟ لعله مات بعد أن بذر في أبنائه بذور الرجاء.
هنا دقت الساعة دقتها الثالثة عشرة، واتسعت من الرأس المتدلي ثغرة فمه، فإذا هي باب والشفتان مصراعاه، وانقلب اللسان حارسا شد على وسطه حزاما أحمر، وانحنى في احترام يدعوني للدخول.
دخلت لأجدني واقفا أمام بناء فخم ضخم رفيع العماد، ودخلت الدار فكان الذي دخلته حجرة دراسية تحلق في صحنها ثلاثة عشر صبيا وقف في وسطهم معلمهم، على نحو ما تحلقت التوابيت في البهو واستقامت في وسطها شعلة القنديل، ولسبب لا أدريه حدجت بصري في المعلم حينا لا أكاد أتحول عنه، لم تعجبني هيئته، ولم أشهد على وجهه علامات الصقل والتهذيب التي يتركها العلم عادة على وجوه أصحابه؛ كان طربوشه أوسع من رأسه فهبط حتى ارتكز على أذنيه، وغطى جبهته إلا قليلا وكاد يلمس حاجبيه، وكان على صدغيه خليط متنافر من آثار الجدري ومن بقع جلدية مختلفة ألوانها، حلق شاربيه إلا جزءا صغيرا جدا تكوم تحت أنفه كالخنفساء. ثيابه كلها عجائب؛ فبدلته مصنوعة من قماش لم يرد ناسجه أن ينتهي إلى هذا الذي انتهى إليه، وسترته طالت حتى بلغت ركبتيه، فهي سترة ونصف سترة أو هي ثلاثة أرباع الجبة، فلا هي هذه ولا هي تلك، وقميصه لم تنظمه مكواة، وحذاؤه طويل شاحب، وقد علق أحد سرواليه بأعلى فرد من حذاءيه فانحسر عن شيء من ساقه، وكان الطباشير يلون يديه وكميه وصدر سترته، وتناثرت منه بقعة أو بقعتان فوق طربوشه؛ أخذ يبدل الكتاب بين يديه، فيمسكه بيمناه تارة وبيسراه تارة، وكلما صنع ذلك جذب صدر سترته بيده التي أطلق سراحها، ثم وضع يده في جيبه، ثم أخرجها، ثم سعل سعالا خفيفا، ثم استرق إلي نظر المتهيب المرتاب كأنه طير وأنا صائده، ولم أعجب لهذا منه؛ إذ الناس في بلادنا رجلان: صائد ومصيد، وقد يكون الرجل صائدا في موضع، مصيدا في موضع آخر، وقد يكون مصيد اليوم صائد الغد.
يا سبحان الله العلي العظيم! أمن هذا الرجل يستمد هؤلاء الأطفال العلم، ويستقون الأخلاق، ويستوحون أصول الذوق الجميل؟ أي عجب بعد ذلك إن شب هؤلاء الأطفال رجالا وساروا في شارع البحر بثغر الإسكندرية الجميل فأكلوا الخس وقذفوا بأوراقه في طول الشارع وعرضه، لا ترى أبصارهم قبح ما يصنعون؟ أي عجب إن شب هؤلاء الأطفال رجالا فمصوا القصب في عربات الترام وألقوا بالثفل في أرض العربة، لا يدركون في ذلك شيئا يذم ويعاب؟ أي عجب إن شب هؤلاء الأطفال رجالا فلبسوا عمائم وطرابيش وطراطير وطاقيات ولاسات وبدلات وجبات، كأنهم البهلوانات في سوق الأراجيح، ولا تقع أبصارهم من ذلك كله على شيء يخدش الذوق الجميل؟ إن هذا المعلم بين هؤلاء الصبيان هو بعينه ذلك القنديل الضئيل في البهو بين التوابيت، هو أقرب في طبيعته إلى الظلام منه إلى الضياء، هو إلى الجهل والتجهيل أدنى منه إلى العلم والتعليم.
ووقف سيل خواطري حين قال المعلم بصوت خشن غليظ: «اقرأ يا شاطر.»
وقرأ الشاطر: جلس، وقف، أكل، ضرب؛ حتى أكمل على هذا النحو اثنتي عشرة كلمة، فقلت له في لهجة المفتشين - وللمفتشين نغمة خاصة: «تهج الكلمة التالية يا شاطر.»
فنظر الشاطر إلي فإلى الكتاب فإلي مرة أخرى فإلى معلمه فإلى الكتاب، وقال: ب فتحة ب، ت فتحة ت، ك فتحة ك؛ زرع.
هي الدقة الثالثة عشرة التي هي خطأ في ذاتها أولا، ومدعاة إلى الشك في صدق الدقات السوالف ثانيا، وهي ثالثا بمثابة النذير الذي يعلن لك في صوت جهير أن الآلة كلها فاسدة لا مندوحة لها عن إصلاح وتغيير؛ لم يتعلم هذا الصبي علما، ولم يتعلم خلقا، ولم يتعلم شيئا من قواعد الذوق الجميل.
وغادرت حجرة الدراسة من فوري لألتقي مرة أخرى بالحارس الذي شد على وسطه حزاما أحمر، فأدخلني مصعدا وضغط فيه على زر وتركني، فطلع بي المصعد ثلاثة عشر طابقا حتى بلغ بي قمة البناء، وانفتح بابه على مقهى صاخب بالأصوات المتنافرة: طق، طاق، سأ، صأ، سأ، دودو، كشش، طق، طاق، تصفيق وصياح وضرب بأحجار النرد وقهقهة من رجال جلسوا إلى مناضد رصت في ثلاثة صفوف، في كل منها أربع، ثم انفردت المنضدة الثالثة عشرة في ركن وحدها، وجلس إليها رجل في نحو الخامسة والثلاثين، فجلست إلى جانبه وحييته فحيى: ما هذا المكان؟ - ندوة الجامعة. - وأنت من أبنائها؟ - تعني من أبناء الجامعة؟ نعم، تخرجت فيها منذ ثلاثة عشر عاما، تلاميذي هم اليوم طلاب الجامعة. - أية مادة درست؟ - أنا دكتور في التاريخ كانت رسالتي «إسكندرية الإسكندر». - موضوع لطيف. - لم أختره للطفه، إنما اخترته في إثر حادث وقع لي في الإسكندرية؛ كانت لي سيارة جميلة أسوقها، وحدث ذات يوم إذ كنت أصطاف، أن انثنيت بسيارتي من شارع إلى شارع فصدمتني سيارة جاءت من الجهة المقابلة، صدمتني صدمة ينحطم لها الصلب الصليب، فما انخدشت من سيارتي قلامة ظفر، وعجب الناس للمعجزة، ولو عرفوا سر المعجزة ما عجبوا، فقد كان في سيارتي مصحف شريف؛ ويشاء الله أن يجالس والدي في هذه اللحظة عينها وهو في داره رجل كشف الله عنه حجاب الغيب، فصاح: الله أكبر! وسأل والدي: ما الخبر؟ فقال الرجل: كان ابنك بين أنياب الموت فأنقذه من الموت سر من الله.
هنا دقت ساعة الندوة ثلاث عشرة دقة، واستيقظت عند الدقة الثالثة عشرة لأرى أن غرفتي لم تزل في ظلمة من الليل البهيم.
شعر مصبوغ
رأيت رجلا بين خمسينه وستينه صبغ بالحناء رأسه وشاربيه ليطمس بالصبغة ترقيم الزمن.
لكن الزمن أبى أن يلين ويستكين، فطفق كل منهما يناوش الآخر في لباقة المحتال الماهر، مناوشة كانت أقرب إلى الملاعبة والمداعبة منها إلى القتال الجاد العنيف؛ فصاحبنا ما ينفك لشيبه راصدا - زجاجة الصبغة في يمناه والمرآة في يسراه - كلما لاح له من شيبه ضوء هنا أو لمع له برق هناك، قابله بهذا الذي أعده له الصيدلي في دقة الفن كله والعلم كله، حتى يخدع الناس عن هذه الشيخوخة الكريهة التي أنشبت فيه الأنياب والأظفار، بل حتى يخدع نفسه عن هذا الهرم الذي يدنو به نحو الفناء بخطو دءوب؛ ثم ما ينفك الشيب أن يغافله حينا بعد حين، فيطل عليه بشعرات بيض ينثرها في الشمال مرة وفي الجنوب مرة، وفي وسط الرأس تارة؛ وطورا يستبدل بهذا الضرب من قتال الكر والفر هجوما عاما منظما، فيدفع لصاحبنا شعره المصبوغ كله إلى الوراء خطوة، فيبديه أخضب الأعالي أبيض الأسافل؛ وينبغي أن نسجل للحقيقة والتاريخ أن الشيب في هذه المعركة كان أنبل من صاحبه؛ فصاحبه دائما يسدد طعنته في الخفاء، ولا يبوح بسر قتاله إلا إلى أخلص الخلصاء، وأما الشيب فيرد له الطعنة علنا وفي وضح النهار.
وأعجب العجب أن صاحب الشعر المصبوغ لم يدرك أن موطن الشيب في دمائه، وأن جذوره قد ضربت في جوفه وأحشائه، وأنه إن أراد للشباب رجعة، فليتوكل على الله وليضع أمله في أبنائه.
ذكرت صاحب الرأس المصبوغ حين خرجت بالأمس إلى ضاحية ريفية في شمال لندن، ونحن الآن من فصول العام في فصل الخريف؛ والفصول في إنجلترا بينة المعالم واضحة الحدود؛ فلست بمستطيع أن تخطئ الشتاء إذ يكسو لك ما حولك بين آونة وأخرى بالثلج والصقيع؛ ولست بمستطيع أن تخطئ الربيع والدنيا من حولك كلها تورق وتزهر؛ أو أن تخطئ الصيف وقد خمدت النار في المدافئ وانقطع عنك نداء العداد الذي لا يشبع بسيال من الشلنات تلقيها في جوفه صبحا وعصرا ومساء؛ ثم لست بمستطيع أن تخطئ الخريف وكل ورقة تقع عليها عينك فوق الشجر قد أخذت تجف وتذبل استعدادا للسقوط.
ذكرته حين خرجت بالأمس إلى خلاء ريفي وافترشت معطف المطر، وأسندت ظهري إلى جذع سنديانة ضخمة، وعلى بعد أمتار مني دار ريفية صغيرة إلى جانبها شجرة لم أدر ما نوعها، لم يلبث أن جاءها غلام في نحو الثانية عشرة من عمره، وارتقى صندوقا خشبيا وفي إحدى يديه وعاء فيه طلاء وفي الأخرى فرجون؛ ثم أخذ يغمس فرجونه في الوعاء ويطلي ما اصفر من حواشي الورق ليرد له لونه المفقود، ولبث على هذا النحو ساعة يعمل في أناة وصبر؛ ولم يكن خلال هذه الساعة قد أكمل نصف غصن واحد، وهبت ريح خفيفة أسقطت له بعض ما صبغ؛ وعندئذ خرج من الدار شيخ محدودب الظهر، وصاح بالغلام: ماذا تصنع يا وليم؟ - أصبغ بالطلاء الأخضر ما اصفر من أوراق شجرتي، إنها يا عماه تذوي وتنحدر إلى فناء سريع.
فأمر الشيخ كفه على صدغيه وابتسم، لكنه لم يقل شيئا. وإنه لمن العجب حقا ألا يفطن الغلام - مهما يكن من غفلته وقلة خبرته - إلى أن الصبغة الخضراء لن تقف دورة الفلك في وجه الشتاء، كلا ولن تجدي شيئا في دفع الفناء؛ وأنه إن أراد للشجرة حياة فليتوكل على الله وليحسن لها الغذاء وليرقب بالرجاء نهضة الربيع.
وذكرت صاحب الرأس المصبوغ، حين رأيت صبيا له ساعة اختلت عدتها فضلت عقاربها، وعز عليه ألا تدل ساعته على الزمن كما تدل عليه الساعات عند سائر الناس، فصمم أن يهديها هو إلى الزمن بدل أن تهديه؛ وكان في بهو منزلهم ساعة دقاقة كلما دقت ربع الساعة أو نصفها، أدار الصبي عقارب ساعته بيديه، حتى ضاق صدرا بهذا العناء المتصل، فقد كان يرجو أن يؤدي إلحاحه وإخلاصه في أن تتخذ العقارب وضعها الصحيح إلى إصلاح ما فسد، ولم يدرك أبدا أن ساعته لن يصلح لها أمر إلا إذا أصلحت عجلاتها وتروسها حيث العطب والفساد.
وذكرته إذ ذكرت جارة لنا مرض وحيدها وارتفعت حرارته إلى درجة أشرفت به على الموت، ولم تدر الأم المسكينة ماذا تصنع، فأخذت تضع على رأس مريضها وجسده ثلجا بعد ثلج، لتزيل عنه العلة بإزالة ظواهرها، فما لبثت أن أزالت فعلا عن ولدها العلة وظواهرها معا، لأنها أزالته عن الحياة.
وذكرته حين ذكرت أمة بأسرها نسجت إصلاحها على منوال الشعر المصبوغ، الذي يبدي لك كل علامات الشباب إلا شيئا واحدا، هو فتوة الشباب! ففي مدارسها كل ما في مدارس العالمين من أدوات ومعدات وتلاميذ وأساتيذ، إلا شيئا واحدا هو التعليم، إذا أردنا بالتعليم تربية تقلب وجهة النظر إلى الحياة رأسا على عقب؛ وفي جيشها كل ما في جيوش العالمين من ضباط وجنود وذخيرة وعتاد، إلا شيئا واحدا هو أنه لا يقاتل؛ وفي دستورها كل ما في دساتير الأرض من مساواة بين الأفراد، إلا شيئا واحدا هو أن ليس بين الأفراد هذه المساواة.
ذكرت صاحب الرأس المصبوغ حين ذكرت أمة بأسرها سرى الطغيان في دمائها، وتمكن من أنسجتها وأعضائها، ثم أرادت لدائها دواء، فأثبتت في محفوظاتها أن الناس سواسية، وسجلت في دستورها أن يكون فيها - كما في سائر الأمم - انتخاب ونواب؛ ولعلها لم تدر أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
فإن وجدت - وما أظنك واجدا - بين شعوب الأرض شعبا؛ الوالد فيه يرى أن لا أبوة بغير سياسة الحجاج في بيته، والولد يرى أن لا بنوة بغير خشوع وخضوع؛ الزوج فيه يرى أن لا رجولة بغير احتكار للرأي، والزوجة ترى أن لا قرار لحياتها بغير إذعان؛ المعلم فيه يرى أن لا تعليم بغير أن ينصت التلاميذ في صمت لعباراته كأنما هو راع في معبد ينطق لعباد الله بما خط لهم القضاء في اللوح المحفوظ، ويرى التلاميذ أن لا تعلم بغير أن يحفظوا مؤمنين مصدقين لما قاله المعلم من قول مأثور؛ الصانع فيه لا يلقن صناعته لصبيه إلا إذا سامه صنوف العذاب ألوانا، وصبيه يرى أن لا سبيل إلى تلقي الحرفة دون أن يستسلم لهذا القضاء المحتوم؛ الرئيس فيه يرى من حقه على مرءوسه أن يطغى ويتجبر، والمرءوس يرى من واجبه نحو رئيسه أن يستضأل ويستصغر؛ المالك فيه يرى من حقه على أجيره أن يستغله ويستذله؛ والأجير يرى من واجبه نحو المالك أن يستغل وأن يستذل؛ المخدوم فيه لا يهديه ضميره أن يكون لخادمه ما لأبنائه من حقوق البشر، والخادم لا يحس أنه كهؤلاء الأبناء، بشر له ما لهم من حقوق؛ الشرطي فيه يرى من حقه أن يسب ويصفع، وصاحب الحاجة عند الشرطي يرى من واجبه أن يغضي عن شيء من السباب والصفعات.
إن وجدت - وما أظنك واجدا - بين شعوب الأرض شعبا فيه هذا كله، وأكثر من هذا كله، ثم وجدت في محفوظاته أن الناس سواسية، وفي دستوره أن له انتخابا ونوابا؛ فاعلم أنه شعب عز عليه أن يرى ضعفه ماثلا أمام عينيه، فصبغ بالحناء رأسه وشاربيه.
تجويع النمر
أنا مدين بساعة من أجمل ساعات التفكير للكاتب الفاضل الذي أدخل تعديلا على نظرية التطور كما رآها دارون، فجعل الأناسي تنتمي إلى أصول عدة، لا إلى أصل واحد؛ فالناس في رأي الكاتب الفاضل منهم الكلب الذليل، ومنهم الخنزير القذر، والفأر الجبان، والثعلب الماكر، والحمار العبيط، كما أن منهم الليث الهصور؛ وإنه لمن الشطط والإسراف حقا أن نحاول التوحيد فيما أراد له الله اختلافا وتباينا.
تلك لمسة عبقري لا شك في نبوغه، والرأي فيما يظهر حق لا ريب فيه؛ فليس الأمر هنا خيالا شطح بالكاتب فطار به عن الواقع، أو شطح به الكاتب وهو من برجه العاجي في عزلة عن الناس، بل هو مستمد من ذلك الواقع نفسه ومن هؤلاء الناس؛ ودنيا الواقع لم تختف، ولن تختفي إلى آخر الدهر؛ فإن شئت تحقيقا لما نزعمه لك فسر في الطريق مفتوح العينين، لا نطلب منك أكثر من هذا ولا أقل؛ على أننا نشترط شرطا واحدا، وهو ألا تنخدع بالإهاب البشري الذي يلبسه الناس في الطريق، بل احلل عراه بخيالك - ولا شك أن لك نصيبا من الخيال قل أو كثر - وسترى في جوفه الكلب أو الخنزير أو الفأر أو الحمار أو ما شاءت لك الظروف أن تجد؛ ونقول احلل عرى هذا الإهاب البشري بخيالك، لا لأننا نظن أن هذه الصنوف الحيوانية الكامنة في أجواف الآدميين ضرب من ضروب الخيال؛ ولكننا نريد لك السلامة والعافية، فقد تبقر إنسانا لتخرج منه حيوانه المستور، فإذا الدولة تقتضيك حياتك ثمنا لما صنعت يداك.
والساعة الجميلة التي أنا مدين بها لكاتبنا الفاضل، هي ساعة استبطنت فيها دخيلة نفسي أولا، ثم استعرضت بعدئذ «ش» و«ب» ممن أعرف من الناس، وحاولت أن أتعقب كلا إلى عروقه الأولى؛ وما إن بدأت بالنظر إلى طوية نفسي حتى اعتراني مزيج عجيب من غبطة وذهول، فقد سرني أن أصيب في التطبيق نجاحا سريعا، فقد كان حسبي نظرة واحدة سريعة لأشهد الحيوان الكامن في جوفي جليا واضحا برأسه الضخم وأذنيه الكبيرتين ونظرته البلهاء؛ ولكن كم حز في نفسي ألا أجد في إهابي إلا هذا الحمار العبيط! لم أجد هناك الليث الهصور الذي تمنيت، بل لم أجد هناك الثعلب الماكر، فلأن أكون ماكرا ذا دهاء والتواء خير ألف مرة من أن أكون حمارا تتعاقب عليه الأعوام عقدا بعد عقد، فلا يعرف كيف يظفر منها بما يظفر به سواه في أيام معدودة؛ على أني ما كدت أبدأ في كشف الغطاء عن دخيلة «ش» و«ب» حتى تعثرت وبدت لي صعاب لم أكن أتوهم وجودها؛ فمذهب الكاتب الفاضل بسيط في ظاهره شديد التعقيد في حقيقته؛ وقد لا يكون في الأمر تعقيد، وإنما هو قصور مني وعجز في قدرتي؛ ولا بأس هنا من الاعتراف للقارئ بما يصعب جدا على إنسان أن يعترف به، وهو أني في موقف لا أحسد عليه من ضعف الإدراك؛ أنا لا أتواضع، فقد علمتني التجربة المرة في أعوام جاوزت بها الأربعين؛ أن التواضع في مصر المحروسة بعناية الله سرعان ما يصبح ضعة، والتهاون فيها لا يلبث أن ينقلب هوانا؛ وإن شئت الدليل على صدق ما أقول، فدونك مقياس الحياة العملية الناجحة، قسني بهذا المقياس، ترني أنحدر إلى شيخوختي بما يبدأ به الناس عادة شوط الشباب، تر البداية عند الناس منتهاي؛ وإذا علمت أن منزلتك عند الناس معيارها نجاحك في الحياة العملية عرفت فداحة المصاب؛ ثم ألم أنبئك منذ قليل أني صوبت نظري إلى جوفي فما راعني إلا حمار عبيط ينكشف عنه الستار؟
إذن فقد لا يكون في الأمر تعقيد، وقد تكون العلة قصوري وعجزي؛ وسواء كانت هذه أو تلك، فنحن الآن في موقف المؤرخ يقص على الناس ما وقع، والذي وقع هو أني أزلت الغطاء البشري عن «ش» و«ب» فوجدت في كل منهما أكثر من حيوان واحد، وكان النمر عنصرا مشتركا فيهما معا؛ ففي «ش» رأيت كلبا ونمرا وفي «ب» رأيت فأرا ونمرا؛ هنا أسقط في يدي، ولم أدر بماذا أفسر ما أرى، فلا هو يجري مع دارون في جمع الناس تحت أصل واحد، ولا هو يجري مع مذهب الكاتب الفاضل في تعدد الأصول؛ بل الأمر فيما أرى يقع وسطا بين المذهبين، فأيهما أختار لنفسي رأيا ومذهبا؟
ولم تدم حيرتي إلا لحظة قصيرة، ثم استجمعت شجاعتي وقواي، وانتهيت إلى قرار، فلماذا أضعف أمام دارون؟ ولماذا أضعف أمام الكاتب الفاضل صاحب التعديل؟ أليست الحقائق أمامي جهيرة الصوت لا تدع مجالا لريب مرتاب؟ أليس هذا «ش» أمام ناظري فيه الكلب والنمر في آن معا، ثم أليس «ب» فيه الفأر والنمر جنبا إلى جنب؟ إن سلامة المنطق تقضي بأنه إذا تعارضت النظرية والحقائق فلا بد من نسخ النظرية استمساكا بالحقائق، ولا بد من إعادة التفكير لعلنا نهتدي إلى نظرية أخرى تتكافأ مع الحقائق التي تراها العيون وتحسها الأيدي؛ فلماذا لا أدلي بدلوي في الدلاء لعلها تخرج للناس بقليل من الماء؟ وإذن فهاك ما انتهيت إليه.
ليس الناس جميعا فروعا عن أصل واحد، كلا ولا هم بغير هذا الأصل الواحد؛ فإذا استثنينا الحمار العبيط دون سواه، وجدنا كافة الناس تتفق في شيء هو النمر، ثم تختلف في أشياء هي شتى صنوف الحيوان؛ فكل فرد من الناس - ما خلا الحمار - في جوفه نوع من الحيوان وإلى جانبه نمر، وهو يبدي من هذين التوءمين ما يقابل به الموقف على أتم وجه وأوفاه؛ فقد رأيت «ش» في موقف بذاته كلبا ذليلا وضيعا خافت الصوت خافض البصر، حتى إذا ما سنحت له الفرصة المواتية «تنمر»؛ وقد رأيت «ب» ذات ساعة فأرا ضئيلا هزيلا رعديدا جبانا، حتى إذا ما سنحت له الفرصة أيضا «تنمر»؛ وهكذا قل في شتى أفراد الإنسان، إلا من كان يؤوي في بطنه حمارا عبيطا، فهذا قد تواتيه ظروف «التنمر» ولا يفعل، لسبب بسيط جدا، هو أنه ليس في جوفه نمر إلى جانب الحمار، والشيء لا يخلق من العدم.
أحب أن أؤكد للقارئ الكريم أنني فيما أروي له عن «ش» و«ب» إنما أصدر عن واقع شهدته بعيني، ولست هنا بالمأجور الذي تضطره إلى الكذب دواعي الارتزاق؛ ولو كان «ش» و«ب» هذان من صغار الناس، لجاز لك أن تقول: لكن هذين الرجلين اللذين سقتهما مثلا، صغيران حقيران، تجوز عليهما الذلة والمسكنة، ولو وقعت على رجلين من كبار القوم لوجدتهما في أغلب الظن نمرين خالصين لوجه الله، لا يشوب بأس النمر فيهما ضعة الكلاب ولا جبن الفئران؛ ولكن اعتراضك مردود عليك قبل أن تبديه، لأن «ش» كان صاحب عزة و«ب» كان صاحب سعادة؛ والعزة في بلادنا - كما تعلم - أقل شأنا من السعادة، فكل أربع عزات أو خمس فيما أظن تساوي سعادة واحدة - ولا بأس هنا من تذكيرك أيها القارئ «مفترضا أنك مثلي لست من أصحاب العزة ولا من أصحاب السعادة، لأن الطيور على أشكالها تقع» لا بأس من تذكيرك هنا بالحقيقة المرة التي لا بد أن تكون قد عرفتها وأحسستها منذ زمن طويل، وهي أن الأعزاء في مصر قليلون، وأقل منهم السعداء، وأنه لا يجوز لك أن تكون عزيزا أو سعيدا إلا إذا صدر لك بذلك قانون، وإلى أن يصدر لك مثل هذا القانون ينبغي أن تظل شقيا ذليلا - ونعود إلى صاحب العزة «ش» وصاحب السعادة «ب» وقد التقيا ذات يوم؛ وقد كنت وثيق الصلة بصاحب العزة، فلم أعهد فيه إلا نمرا يكشر للناس عن أنيابه ويلفظ الشرر من عينيه، لا يخرج الألفاظ من شفتيه هينة لينة، كما أخرجها أنا أو كما تخرجها أنت، بل كانت له طريقة عجيبة في إخراجها، إذ كان يضغط على بعض النبرات ويصعد بصوته تدريجا بحيث يتحتم أن يجيء آخر الكلام أعلى صوتا من أوله، وكنت أسمع أن حظوته مكسوبة عند رؤسائه لهذا، كما كنت أعلم أن جانبه مرهوب عند مرءوسيه لهذا أيضا - وكم أثار هذا الرجل في نفسي أعمق الحسرات؛ لأن في صوتي تسلخا يستحيل معه الصعود في مناصب الدولة - رأيت هذا النمر الضاري ذات يوم بين يدي صاحب السعادة فرأيت عجبا، رأيته باسطا كفيه على صدره كأنه أمام ربه ساعة الصلاة، ثم رأيته ... وفيم الوصف وكل مصري يعلم ما أردت أن أقول؟ وهنا لا أستثني صاحب عزة أو سعادة؛ فأنا أتحدى علنا صاحب عزة ألا يكون له نمر بين أصحاب السعادة، أو صاحب سعادة ألا يكون له نمر بين أصحاب الدولة، أو صاحب دولة ألا يكون له نمر بين أصحاب الرفعة.
النمر! النمر! النمر!
هذا النمر الرابض في جلودنا هو بيت الداء وأس البلاء؛ لو بعون الله أخرجناه، ومن جذوره اقتلعناه، صلح من أمرنا ما فسد واستقام من حياتنا ما اعوج؛ لو أخرجنا من أجوافنا هذا النمر الضاري ما وجد الكلب منا داعيا أن يذل، ولا الفأر مبررا أن يجبن؛ لكن كيف السبيل إلى تحقيق هذه الأمنية ودونها - فيما يبدو - خرط القتاد؟
لكن مهلا، فأصعب المسائل قد يزول بأسهل الحلول.
فقد ذكرت الآن شكسبير - لك الله يا شيخ شعراء العالمين! - وذكرت روايته «ترويض النمرة»: رجل عريض الثراء له ابنتان، كبراهما نمرة شموس جموح، وصغراهما وديعة رقيقة، والخاطبون للصغرى كثيرون، لكن الوالد أبى أن يأذن بزواج الصغرى قبل أختها الكبرى، فمن لهذه الكبرى بالخاطب وهي النمرة الضارية؟ وسمع رجل بقصة الغني وابنتيه وعرض على الغني الزواج من كبرى ابنتيه إذا هو أعطاه مقدارا معينا من المال، وتمت الصفقة وأخذ العريس عروسه إلى بلده، فكان كأنما وضع مع الوحش المفترس في قفص واحد؛ لكن صاحبنا استسهل الصعب وابتسم استخفافا بما استثقله سواه من الرجال، وكان علاج المشكلة عنده هينا يسيرا، وهو تجويع هذه النمرة، فيأتي وقت الغداء فلا طعام، ويأتي وقت العشاء ولا طعام؛ وتم ذلك في لباقة كادت تقنع النمرة البشرية أن الرجل إنما صدر في كل ذلك عن حب أصيل، لكنها ككل الناس تريد الطعام لتعيش؛ وما زال الرجل بها تجويعا حتى صارت في قبضة يده، يشير لها إلى الشمس قائلا هذا هو القمر. فتقول: نعم إنه القمر يا مولاي. ويشير لها إلى الرجل الشيخ تغضن وجهه وابيضت لحيته قائلا وهذه فتاة حسناء. فتقول: نعم يا مولاي ما أروعها من فتاة حسناء!
وشبيه جدا بهذا منهج جماعة اشتراكية في إنجلترا نشأت في أواخر القرن الماضي، وكان لها كل الفضل في قلب الحياة الإنجليزية بحيث آل الحكم كما نرى إلى أيد اشتراكية خالصة؛ هذه الجماعة تسمي نفسها «الجمعية الفابية» نسبة إلى قائد روماني كان يدعى «فابيوس» وكانت خطته في الحرب مراوغة العدو حتى يرهقه دون أن يهجم عليه هجمة واحدة؛ وكذلك أرادت هذه الجماعة أن تحارب أعداءها، لا بالثورة عليهم، بل بإرهاقهم، بحيث يتلفتون فلا يجدون في الميدان مادة تمكنهم من الصولان والجولان.
والآن إليك أيها القارئ أسوق الحديث، فليس من شك في أن عليك نمرا يتربص بك الدوائر - وأنت سعيد إذا كان لك نمر واحد - ثم ليس من شك في أنك تريد القضاء على هذا النمر لينزاح عن صدرك كابوس يقض لك في الليل مضجعك؛ فها أنا ذا أصف لك خطة القتال، لا أريد منك جزاء، وإن كنت أريد الشكور؛ التجويع هو وسيلة القضاء على النمر، إن النمر يتغذى وينمو ويترعرع كلما أفسحت له أنت من مجال «التنمر»، وأنا لا أشير عليك بأن تطلق عليه نمرك لتجازيه تنمرا بتنمر؛ إنك تخلص لنفسك ولوطنك لو جوعت هذا النمر أينما وجدته، فكلما بدت على المتسلط عليك أعراض «التنمر» انسحب من غرفته واتركه وحيدا بغير غذاء، عندئذ يأكل النمر بعضه، ويقضي على نفسه القضاء الأخير، فيريح ويستريح.
الكبش الجريح
وثب الذئب على الكبش فمزق منه وانتهش؛ وفرح الذئب لأن في طبيعته أن ينهش ويمزق؛ كذلك فرح الكبش، ولم أكن أعلم أن في طبيعته ما يستطيب النهش والتمزيق.
فرح الذئب حين مزق وانتهش؛ لأن له في ذلك طعاما وشرابا فغذاء ونماء. إن من يلوم الذئب لافتراسه الكبش كان كمن يلوم النار لأنها تلتهم الهشيم، والسيل لأنه يندفق هدارا من قمة الجبل.
لقد قيل إن الدليل على وجود الله أقوى الدليل هو ما تراه في الكون من تنسيق جميل. قلت: وهذا التنسيق ما معناه؟ قيل: معناه الذي ليس له معنى سواه هو ما بين الأشياء من توافق كأنها فيه على اتفاق؛ فضوء الشمس له طبيعة خاصة، وشبكية العين لها طبيعة خاصة، أعدت بحيث تتلقى ذلك الضوء؛ ولو تغير ضوء الشمس قيد أنملة أو تغيرت شبكية العين قيد شعرة، لكان ضوء الشمس لنا عبثا في عبث، ولكانت أعين الإنسان والحيوان ضربا من الإسراف والتبذير؛ وكذلك قل في الذئب والكبش، فلولا طراوة الكبش لكانت أنياب الذئب ومخالبه زوائد لا تقتضيها الحكمة ولا يرتضيها حسن التدبير، فمن كمال الله وجلاله أن للذئب أنيابا تنهش الكبش ومخالب تمزقه وتفريه.
قال الإنسان: إني موجود لأني أفكر. فكان بقوله هذا فيلسوفا. وقال الذئب: إني موجود لأني آكل وأفترس. فأثبت أن الفلسفة ليست وقفا على الإنسان.
قلت للذئب: هلا سموت بنفسك فأشفقت على هذا المسكين؟ فقال الذئب ساخرا: هكذا يسمو الناس، لكن ما هكذا تسمو الذئاب. ومن الذئاب ما يسكن البيوت مع الناس ومنها ما يسكن الغاب.
ليس على الذئب في ذلك كله لوم ولا تثريب.
إنما يقع اللوم والتثريب على صاحبنا «الخروف» الذي استمرأ ضرب المخالب واستلذ وقع الأنياب، دماؤه تسيل وعلى شفتيه ابتسامة، ويلغ الذئب فيه ويلعق وفي عينيه نظرة استسلام ورضا.
عبثا ينبري بقلمه كاتب ليدفع الأذى عن هذا الخروف، وعبثا يرتقي المنبر في سبيله خطيب؛ لأن عدوان الذئب يصادف في نفسه القبول، فليعدل الخروف من طبيعته أولا، وبعد ذلك فليكتب الكتاب ليدفعوا عنه العدوان وليخطب الخطباء.
يضحكني آنا ويحزنني آنا أن أرى أنصار الكرامة الإنسانية يتصدون للذئب قائلين: أهكذا يا ذئب يكون الإخاء وتكون المساواة بين عباد الله؟ ولو أنصفوا لاتجهوا نحو الخروف وحقنوه بما يشيع في عضلاته الصلابة وفي لحمه المرارة؛ ليخاطب الذئب في ثقة وإيمان كلما خطر للذئب خاطر العدوان: التمس يا ذئب غيري إن لحمي كان مرا.
قلت للخروف: هلا أخذتك النخوة يوما فغضبت غضبة الكرام التي لا تقف عند حد اللغو والكلام؟ هلا أخذتك النخوة يوما فأبيت على الذئب هذا العدوان؟
قال: كيف عرفتني خروفا وقد تخفيت في ثياب الرجال؟
قلت: عرفتك في مائة موضع وموضع، أسوق لك منها مثلين:
عرفتك حين أردت أن تخاطب سيدك الذئب يوما، فضغطت على القرطاس بحافر وأمسكت القلم بحافر، وهززت قرنيك تفكر كيف توجه إلى الذئب الخطاب، بحيث تباعد بينك وبينه، كأنه السليم وكأنك الأجرب، وكأنك تخشى عليه المرض إن دنوت منه؛ أردت في الخطاب أن تجعل بينكما من الكلمات عددا يضمن له الرفعة ولا يفسد عليك الضعة التي استمرأت مذاقها. إنك تعلم أن قوانين الغابة تجعل منكما زميلين من ذوات الأربع، فلو خاطبته بقولك «إلى الذئب» لما كان عليك لوم ولا عتاب؛ لكنك استكبرته واستصغرت نفسك، أعززته وأذللت نفسك، عظمته وحقرت نفسك، لأن الصغار والذلة والحقارة أصبحت جزءا من طبعك، لا تطمئن إلا بها ولا تجد نفسك إلا بينها؛ عرفتك خروفا حين رأيتك يوم أخذت تحرر الخطاب لسيدك الذئب، وتهز قرنيك مفكرا كيف توجه إليه الخطاب، بحيث ترضي كبرياءه وتشيع في نفسك ذل العبيد؛ فكتبت أول ما كتبت «إلى حضرة الذئب»، ولكنك رأيت المسافة بينكما تكون بمثل هذا الخطاب أقصر مما ينبغي، فلا يكفي أن تتجه بالخطاب إلى «الحضرة» مباشرة - و«الحضرة» معناها فيما أظن مكان الذئب لو خلا من الذئب - فلم تحتمل أن تواجه بخيالك مكان الذئب، حتى وإن خلا منه، مواجهة مباشرة لا تحميك دونها الموانع والحواجز؛ فمحوت وكتبت: «سيدي حضرة الذئب»؛ لكنك وجدت مرة ثانية أن الشقة بينكما لم تزل أقصر مما ينبغي، فهززت قرنيك ومحوت ثم كتبت: «سيدي ومولاي حضرة الذئب»؛ لكنك وجدت مرة ثالثة أن المسافة لم تزل بعد قصيرة، وأنها ينبغي أن تطول بقدر المستطاع فمحوت وكتبت: «سيدي ومولاي حضرة صاحب المجد الذئب»؛ لكنك للمرة الرابعة لم ترض عما كتبت وطاف برأسك خاطر أزعجك وخوفك، إذ قلت لنفسك: إن الذئاب في الغاب كثيرة، فكيف أسوي بين سيدي هذا وبين زملائه؟ لا بد لي من علامة تعلو بذئبي فوق الذئاب، ليزداد ضخامة فازداد ضآلة، فمحوت وكتبت «سيدي ومولاي حضرة صاحب المجد ذئب الذئاب وملك الغاب»؛ وهنا افترت شفتاك عن ابتسامة رأيت فيها الغبطة والرضا.
وعرفتك خروفا حين رأيتك ذات يوم وقد ارتديت بدلة من الحرير الأبيض الناصع، وأخذ يرفرف على صدرك العريض رباط ملون بالأحمر والأبيض يخطف البصر بجمال ألوانه؛ فتلت شاربيك، وغطيت بالطربوش قرنيك، وضربت الأرض بحافريك، ثم إلى المقهى الفاخر أويت، وعلى مائدة في صدر الصفوف استويت، وصفقت تصفيقا ارتجت له الجدران: واحد قهوة يا منولي.
ليس من طبيعة لغتك أن تقول «واحد قهوة»؛ ولو تركت لنفسك لقلت «قهوة يا منولي»، فإن أردت تحديدا عدديا قلت «قهوة واحدة يا منولي». إنك لا تقول لخادمك في البيت - وأنا الآن أفترض فيك ما افترضته في نفسك وهو أنك رجل لا خروف، رجل له بيت وخادم - لا تقول لخادمك في البيت «واحد طبق يا حسن» بل تقول «طبق يا حسن» وإن أردت تحديدا عدديا قلت «طبق واحد يا حسن».
لكن «منولي» جاءك سيدا غازيا، وظن بك أول الأمر خيرا، فحاول أن يخاطبك بلسانك، ولكنه أخطأ في تركيب الكلام وترتيب الكلمات، فانفتحت أمامك بخطئه طرق ثلاثة وكان لك أن تختار لنفسك منها طريقا:
الأول:
أن تعلو بنفسك وتسفل به، وذلك بأن تصححه حين يخطئ فتضع نفسك في موضع الذين يعلمون، وتضعه في موضع الذين لا يعلمون، وبالطبع هؤلاء وأولئك لا يستوون.
والثاني:
أن تعلو بنفسك دون أن تسفل به، وذلك بأن تنطق بلغتك سليمة، وله أن ينطق بها كيف شاء.
والثالث:
أن تسفل بنفسك وتعلو به، وذلك بألا تبين له أنه أخطأ حرصا على شعوره وإبقاء على عزة نفسه؛ لأن الخطأ - على أي نحو جاء - نقص وعيب، فتخطئ أنت في كلامك ليبرأ هو من العيب والنقص.
ولأمر ما يا خروف اخترت لنفسك هذا الطريق الثالث.
قل في ذلك ما شئت يا خروف؛ قل إنها وداعة الحملان، أو قل إنه التواضع، وإن في التواضع عند الله رفعة الشأن، أو قل إنه كرم النفس، وليس الكرم بغريب على بني القطعان.
قل في ذلك ما شئت يا خروف؛ لكنه عندي علامة لا تخطئ على ما في نفسك من ذل العبيد، الذي يستمرئ ضرب المخالب، ويستلذ وقع الأنياب.
لست أومن بالإنسان 1
وقع لي منذ سبع سنوات كتاب، لعله أنفع ما قرأت من الكتب، لأنه غاص بي إلى قلب الطبيعة ولبابها؛ فقد كنت قبل قراءته لا أفهم إلا عن بني الإنسان دون ألوف الألوف من الكائنات التي تملأ فجاج اليابس وأغوار الماء، فعلمني هذا الكتاب النفيس كيف أفهم عن الحيوان ما يريد؛ فلئن كان الإنسان يلوك لسانه يمينا ويسارا ويخبط به في أعلى وأسفل ليرمز بهذه الحركات إلى معان، فليس الحيوان بأقل قدرة منه في ذلك، يتناقل أفراده المعاني بهز الأذناب وتحريك الأهداب؛ وقد كان علمي بلغة الحيوان موضوع فكاهة وسخرية من أصدقائي جميعا، يلذعونني بنكاتهم كلما نهق حمار أو زقزق عصفور؛ ولكني مضيت في دراستي لا يثنيني ما لقيت في الدرس من مشقة وعناء، لأني رأيت أنه إن جاز لمعاهد العلم أن تفني من طلابها زهرات أعمارهم في دراسة لغة قديمة درس أهلها وطواهم الزمن في جوفه العميق، فخليق لواحد من بني آدم أن يعنى بلغات «أقوام» تعاصرنا وتعاشرنا وتبدل لنا وحشة العالم بهجة وأنسا. وأحمد الله أن كتب لي التوفيق فأعانني على بلوغ ما أريد؛ فها أنا ذا أجلس إلى مكتبي ذات مساء، والليل منشور الذوائب ضارب بجرانه، والسكون عميق لا أسمع فيه إلا حفيفا خفيفا وهمسا خافتا، وهاتان فراشتان قد التقتا تحت مصباحي وأخذتا تسمران بحديث رائع جذاب، لم أملك معه إلا أن ألقي الكتاب جانبا لأنصت. - لقد أنبأتني زميلة حديثا عجيبا هذا المساء، أنبأتني أن كاتبا بليغا من بني الإنسان قد رفع القلم يجول به ويصول في عشيرته من بني آدم، ليقول في ورع وإيمان إنه يؤمن بالإنسان! - وفيم كل هذا العناء؟ - لأنه واحد من بني الإنسان! يا ليت شعري ماذا تقول الأبقار لو تحركت بين حوافرها الأقلام، وماذا تزعم الأطيار لو كان تغريدها كلاما من الكلام؟ - وهل تؤمن البقرة إلا بفصيلة الأبقار، والعصفور إلا بقبيلة الأطيار؟
وجاء برغوث يقفز حول الفراشتين جذلان فرحا، ويحوم فوقهما صاعدا هابطا؛ ولم أكن وا أسفاه قد أتقنت لغة البراغيث لما فيها من عسر وتعقيد، ولكني استطعت رغم ذلك أن ألتقط من حديثه مع إحدى الفراشتين ألفاظا متناثرة علمت منها ما يريد.
قالت فراشة تحدث البرغوث الوثاب، وقد ضاق صدرها بلهوه وعبثه: هلا اصطنعت يا أخي شيئا من الجد في ساعة يجد فيها الحديث؟ ما كل ساعة للهو والطرب. - وفي أي أمر خطير تتحدثان؟ - في هذه النشوة التي أخذتك بغير مبرر معقول. - وأي حافز للطرب أشد وأقوى من عالم فسيح خلقه الله لي ألهو فيه وأمرح؟
فقالت الفراشة الثانية: أخلق الله هذا العالم الفسيح لك أنت؟ وماذا تقول إذن في الإنسان الذي سخر الطبيعة بعقله الجبار؟! - ومن تقصدين؟ أتريدين هذا الحيوان الذي ضمرت فيه رجلان وطالت رجلان؟ هل تعلمين لماذا خلق الله هذا الإنسان؟ هل تعلمين فيم سعى هذا المسكين آناء الليل وأطراف النهار؟ ليطعم فيجود لحمه فيصبح طعاما شهيا للبراغيث؛ ألا ما أشقى عالم البراغيث إن لم يكن بين صنوف الحيوان هذا الإنسان!
وجاءت بعوضة تسعى، تهز جناحيها الصغيرين طيا ونشرا، وأخذت تدنو من الفراشتين قليلا قليلا، ومالت برأسها تستمع للحديث، فلما استجمعت أطرافه اقتربت من الفراشتين ولبثت بينهما صامتة. وحدث ما شئت عما ملأ نفسي من سرور حين رأيت البعوضة تهم بالكلام؛ لأنني بلغت في فهمها حدا بعيدا بحيث لا تخفى علي من ألفاظها خافية، ولأني عهدت في البعوض حكمة عجيبة وعلما واسعا، لست أدري أنى له بمثله، ولا أنفك يوما عن التفكير في هذه الحشرة الغريبة، فهل جاءها العلم مكسوبا من تجاريب الحياة، أم هو موهوب مفطور في جبلتها؟
قالت البعوضة بعد صمت: فيم الحوار؟
فأجابت الفراشة المتحمسة، ولعل حماستها مستمدة من شبابها: في آدمي زعم لقومه أن كل شيء في الطبيعة يرقب أملا واحدا هو الإنسان، كما ينتظر كبار البيت بلوغ طفل عزيز؛ كل شيء في البيت مسخر للطفل، يضحك له إذا ضحك، ويألم إذا تألم! ثم زعم لقومه - ويا هول ما زعم - أن الليل والنهار والحيوان الآبد والداجن، والأزهار والثمار والأنهار والجبال، وألوان الشفق في الأصائل والأسحار؛ كل هذا وغير هذا من صنوف ما يطوي الكون بين دفتيه، إنما خلق للإنسان!
قالت البعوضة: ومن يكون هذا الإنسان؟ - قرد نهض على قدميه. - أويكون النهوض على الأقدام كفيلا له بهذا كله؟ هل تعلمين يا عزيزتي أن هذا الإنسان أحدث صنوف الحيوان عهدا بهذه الأرض؟ - عرفت ذلك من زميلتي منذ دقائق. - إن كانت كائنات الله قد خلقت لينعم بها الإنسان وحده، فمن ذا كان يستمتع بها قبل ظهوره؟
فأجابت الفراشة العجوز في رزانة: قال كاتبهم هذا البليغ: إن ذلك كله صور جاءت قبله لتزخرف له المسرح، إنها حروف تتألف منها الرواية التي يمثلها الإنسان! - ويحه! هل صور الخيال لهذا المغرور أن الله قد زين الطاووس بريشه الجميل ليمتع الإنسان ناظريه، ورقش الأفعى لينظر إليها الإنسان وهي تتلوى وتتحوى في صندوقها الزجاجي في حديقة الحيوان؟ وماذا هو قائل في الجراثيم التي تفتك ببدنه لتعيش؛ تلك الجراثيم التي إن أفلح في نزع واحدة منها مما يسكن في جوفه، باضت له ألوف الألوف من صغارها؟ لو أنصف المسكين لعلم أن الله جلت قدرته أبدع قصيدة الكون العظمى منظومة منغومة، والإنسان بيت من أبياتها، إن سر الوجود ليستعلن في الجرثومة الضئيلة كما يستعلن في الإنسان والقرد والأفعى! إنها أنغام تتسق كلها لتنشئ موسيقى الوجود! وهل يعظم الشاعر ببيت واحد أكثر مما يعظم بقصيدة عامرة بالأبيات والقوافي؟
فقالت الفراشة العجوز: أراكم تعجبون وليس في الأمر ما يدعو إلى العجب؟ لقد ذكرتم أن الإنسان بين صنوف الحيوان طفل وليد، إنه ما يزال يعبث في مهده ويلهو، أفيكون عجيبا من الطفل أن يتشبث بالأشياء ويمسك بها في قبضته صائحا: هذا كله لي، لي وحدي دون سواي؟ فاغفروا له هذه النزعة الصبيانية حتى تعلمه الدهور أنه جزء من كل عظيم.
وهنا قفز البرغوث قفزات لفتت له الأنظار، وقال: حدثوني - نشدتكم الله - ماذا حدا بالإنسان أن يتبجح فيزعم لنفسه ما زعم؟
فأجابت الفراشة المتحمسة: أغراه بذلك ما له من علم وأخلاق؟ وما يدري أنه بعلمه يكمل النقص في غريزته وفطرته، وأن أخلاقه حين تحلم بالمثل الأعلى فهي في أحلامها دون ما يسود ممالك النمل والنحل من أخلاق! إن الحيوان لا يعرف العري والجوع، وأما الإنسان بكل ما له من علم وأخلاق ... آه! وددت لو خرج هذا الكاتب البليغ من لفائفه «الصوفية» فيخوض في برد الليل ساعة فيرى بني جنسه قد ألقاهم البؤس في العراء، حرمتهم الطبيعة الفراء اتكالا على علم الإنسان وأخلاقه، فعجز العلم والأخلاق أن يهيئا لهؤلاء الأشقياء وطاء أو غطاء! وددت لو خرج الكاتب البليغ لحظة من «تصوفه» الذي يدفئه بين جدران داره وفوق حشايا مخدعه ليرى كم من بطون قومه قد باتت خاوية على الطوى؛ ولكنه لن يبارح هذا الغشاء «الصوفي» ليرى الحقيقة «عارية» حتى يخزه في رقاده واخز.
فقال البرغوث وهو يثب في جذل طروب: لكم مني هذا الصنيع؛ والله لأقضن مضجعه هذا المساء، لعل السهاد أن يحفزه على التفكير في هؤلاء الذين ينبتون القمح حتى يملأ الأهراء ثم لا يأكلون، والذين يزرعون القطن حتى تغص به المخازن ثم لا يكتسون؛ والله لأؤرقنه هذا المساء لعله يعيد التفكير في هذا الإنسان الذي يقتل بعضه بعضا بأدوات من العلم، ويهلك بعضه بعضا بنزوات من الأخلاق.
قال ذلك البرغوث وانصرف، وكان الليل قد انتصف، فأطفأت سراجي وأويت إلى مخدعي، وبي إشفاق على صديقي «خلاف» من هذا البرغوث اللعين! •••
خلاف يا صديقي، لا تسرف! أفيكون هذا الإنسان الذي جارت به السبيل وحار الدليل جديرا منك بالإيمان؟
حكمة البوم
تتخذ البومة شعارا للحكمة وبعد النظر؛ تراها مرسومة على الكتب أحيانا ليدل الناشر على ما تحويه كتبه في بطونها من حكمة خالدة؛ وتراها مصورة في إعلان تذيعه الحكومة الإنجليزية في بلادها هذه الأيام، لتحفز شعبها على الادخار، تمثلا - فيما ينطوي عليه الادخار من حكمة - بالبومة التي شهد لها الناس منذ الأزل بصدق النظر.
وحدث أني كنت أقرأ كتابا منذ أمد قريب، وكانت البومة على غلافه شعارا للناشر، فسألت نفسي: ليت شعري لماذا اتخذ هذا الطائر المشئوم رمزا للحكمة؟ أيكون ذلك لهاتين العينين المفتوحتين اللتين لا ينسدل عليهما الجفنان في ظلمة المساء، كما تنسدل الأجفان عند عباد الله من إنس وجان؟ أتكون هاتان العينان المفتوحتان قد أغرتا الرامزين أن يتخذوا من دوام الإبصار دليلا على سداد البصيرة وبعد النظر؟
أم يكون ذلك لما تعانيه البومة في الليل من سهر ورعاية للنجوم بما فيهما من هم وتسهيد، حين يكون الخليون في مخادعهم نوما غافلين عن الطبيعة بكل ما فيها أثناء الليل من جلال وجمال؟
أم تكون هذه الجلسة الساكنة الهادئة الرزينة الرصينة، التي لا تكاد تعرف الحركة، هي التي أغرت الرامزين أن يشيروا بها إلى التأمل العميق والتفكير الدقيق، فاتخذوا البومة شعارا لهذا كله؟
ذلك ما حدثت به نفسي حين نظرت إلى صورة مرسومة على غلاف الكتاب؛ لكن فكرة جديدة أوحي بها إلي فأشرقت علي بالأمس القريب، إذ كنت أسير في الطريق مفكرا فيما أنا فيه مما تضطرب له النفس عند أشد الناس ضبطا لنفسه وإمساكا بزمام أعصابه؛ فقد تعذرت علي متابعة فكري لكثرة ما في الطريق من أصوات؛ وعندئذ حلا لي - وقد تعطل الفكر - أن أعد هذه الأصوات، وآخذ في تبويبها وترتيبها، فإذا بي أبلغ في عدها المئات!
وبغتة قفزت قفزة خفيفة لو رآها الناس لقالوا مسه الجنون، وصحت لنفسي - كما فعل أرشميدس في زمانه - صحت قائلا: وجدتها وجدتها! وجدت العلة في اتخاذ البومة شعارا للحكمة ورمزا لبعد النظر؛ العلة هي الصمت؛ بل وجدت العلة، لماذا أقفرت بلادنا وأصابها العقم آلاف السنين، لا تنجب المصلحين العاملين؛ العلة هي هذا العجيج والضجيج، هي هذه الجلبة وهذا الصياح!
إي والله، لقد صدق من قال إنه إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب؛ وأنا أريد هنا بالكلام والسكوت أوسع ما يفهم من هاتين اللفظتين من معنى؛ فإذا فهمت من اللفظتين معناهما الواسع، أدركت ما أريد أن أسوقه إليك حين أنبئك أن الصمت هو السر في حكمة البوم، وأن الجلبة هي التي أعقمت بلادنا عن إنجاب المصلحين العاملين.
فمن باب الصمت أن تختار لجلوسك مكانا مستورا تخلو فيه إلى نفسك، أو إلى من تتحدث إليه من الأصدقاء فيكون لك بهذا التخفي وجود واضح بارز؛ ومن باب الجلبة والصياح أن تجلس مكشوفا على طوار الشارع في المقهى، حيث تصبح جزءا من بضائع الدكاكين وحركة المرور!
ومن الصمت أن تختار لملابسك وأثاث منزلك ألوانا خافتة هادئة يرتاح إليها البصر، كما أن من الجلبة والصياح أن تختار هذه الأشياء من ذوات الألوان الصارخة الزاعقة التي تلفت الأنظار رغم الأنوف.
ومن الصمت أن تعلن عن عيادتك إن كنت طبيبا، أو مكتبك إن كنت محاميا، أو دكانك إن كنت تاجرا؛ بلافتة صغيرة متواضعة، كما أن من الجلبة والصياح أن تعلن عن نفسك بلافتة طويلة عريضة تسد على الناس مسالك الطريق، واذكر دائما أن ارتفاع الصوت قد يدل على تفاهة الصائت؛ فالكلب الذي ينبح لا يعض - كما يقول الإنجليز - وكلما ازدادت الشاة صياحا، قل على ظهرها الصوف - كما يقول الإنجليز كذلك - والضفدعة الهزيلة الضئيلة تملأ الآفاق ضجة ونقيقا.
يستحيل أن تكون من الصاخبين ومن العاملين في وقت واحد؛ ويستحيل أن تكون من الصائحين ومن المفكرين في وقت واحد؛ فقد يتعذر أن يجتمع الكلام والعمل، لأن الفكرة إذا طافت برأسك فصحت بها كلاما، انتهى بذلك أمرها؛ أما إذا حبستها في نفسك، وأغلقت دونها صدرك بمغاليق الصمت، فقد تتفجر في صورة عمل عاجلا أو آجلا.
كذلك محال أن تضج وتفكر في آن معا؛ هلا سألت نفسك يوما: لماذا اختار اليونان لآلهتهم جبل الأولمب، ولم يسكنوهم دارا في ساحة السوق؟ وهل جاءك في الأساطير أن «جوبتر» كان يخلق الكائنات بإيماءة خفيفة دون أن ينطق إلا قليلا، أو يتحرك إلا يسيرا؟
هل سألت نفسك يوما: لماذا يصوم غاندي عن الكلام يوما في كل أسبوع؟ وهل وقفت دقيقة أو دقيقتين كلما قصوا عليك سيرة النبي، فتسأل: لماذا اختار الله لنبيه الصحراء الصامتة منبتا، ولماذا اختار له مغارة معزولة في سكون الجبل مهبطا لوحيه؟
أين يسكن الفيلسوف فيما تظن؟ أيسكن برجا - سواء كان البرج من عاج أو خشب - أم يسكن غرفة تطل بشرفتها ونوافذها على العتبة الخضراء؟
ألست تؤثر للعالم الباحث أن يعتزل في مكان هادئ بين كتبه وأنابيبه، ثم ألست تؤثر للشاعر أن «يجوب وحيدا كالسحابة» - كما يقول «وردزورث» شاعر الإنجليز؟
أيهما أقرب إلى الشعور الديني الصحيح فيما تظن: رجل فتح المذياع على آخره ساعة تلاوة القرآن، فجعل من القراءة ضجة ترج الهواء رجا؛ أم رجل جعل التلاوة همسا في أذنه لا يكاد يسمعه من يجلس إلى جواره؟ أتحسب أنه من قبيل المصادفة العمياء أن تواضع الناس في كل زمان وفي كل مكان وفي جميع الأديان أن تكون بيوت الله - مساجد كانت أو كنائس أو معابد أو ما شئت لها أن تكون - خافتة الضوء خافضة الصوت، إذا أضيئت فبالقنديل الضئيل، أو ما يشبهه، وإذا تكلم فيها متكلم فهمسا، أو مشى على أرضها ماش فعلى أطراف أصابعه؟ ثم هل يخلو من المعنى أن يوعد المؤمنون جنة لا يسمعون فيها لغوا؟
أنت أقرب إلى الله في صمتك منك في صخبك وضجتك، ولهذا اختار المتعبدون صوامع في الجبل، ولم يختاروا الميادين الفخمة في كبريات المدن!
خذها عني نصيحة ناصح: ضع ثقتك فيمن يتلعثم إذا تكلم، أضعاف أضعاف ما تضعها فيمن يكثر من الجدل والنقاش؛ فالأرجح أن ينتج الأول عملا ينفعك وينفعه، والأرجح ألا ينتج الثاني شيئا ذا غناء؛ ولعل «فورد» - صاحب الثراء الضخم وصاحب السيارة المعروفة - لعله لم يكن محسنا فقط حين جعل من مبادئه أن يبدأ في مصانعه باستخدام الأبكم، بل لعله كان في ذلك رجلا من رجال الأعمال الذين حالفهم صواب الرأي؛ فمع البكم إنتاج وعمل، ومع الثرثرة مضيعة للوقت والمجهود؛ ورحم الله مالكا حين قال: «لا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل.» ورحم الله ابن حنبل حين قال: «لا يفلح صاحب كلام أبدا.»
هل تدري ما معنى «تفكير»؟ معناه الدقيق: مناقشة الإنسان لنفسه، يلقي على نفسه سؤالا ويحاول عنه الجواب؛ فإذا قلت «إني أفكر» كان معنى ذلك على وجه الدقة أني سألت نفسي سؤالا أو أسئلة أحاول عنها الجواب؛ ولا يكون ذلك إلا إذا خلوت لنفسك وساد حولك الصمت.
وإنه لمن أعجب العجب أن يشاء الله لأعظم موسيقي أنجبته الدنيا - أعني بيتهوفن - أن يصاب بالصمم، فلا يسمع حتى موسيقاه! ترى هل ساعده العالم الصامت الذي عاش فيه على خلق تغريده وألحانه؟
دارت في رأسي هذه الخواطر، ثم أراد الله أن يزيدني يأسا على يأس، فذكرني بالمكتب والبيت والشارع.
دخلت مكتبا في ديوان حكومي لأقضي بعض شأني، فوجدته يموج بالزائرين الصائحين الصاخبين، فقلت: يستحيل أن ينتج هذا المكان شيئا.
ودخلت داري فوجدتها مفتحة النوافذ ساطعة الضوء كثيرة الصياح، فقلت: يستحيل أن تكون هذه الدار بيئة صالحة لتكوين رجل صامت عامل.
ومشيت في الشارع فسمعت عجيجا وضجيجا وجلبة وصياحا، فقلت: يستحيل أن يكون هذا مكانا من بلد يعرف أهله العمل والإنتاج.
اللهم رحماك! والله لو انفتحت لي أبواب السماء «ليلة القدر»، ما تمنيت لأمتي إلا شيئا واحدا: أن يهبها الله شيئا من حكمة البوم.
قارئ الأفكار
كنت أساكن صديقا بضاحية الزيتون في دار صغيرة جميلة ذات طابقين، وكان هذا الصديق يشاركني ألوان الثقافة والتفكير ومنازع الحياة والسلوك؛ اللهم إلا جانبا واحدا بارزا اختلفت معه فيه، فقد كان يؤمن بما للنفس من قوى؛ يؤمن بإحضار أرواح الموتى، وبانتقال الخوالج النفسية بين الأحياء دون تفاهم واتصال؛ كان يؤمن بهذا وبغيره من قوى النفس المزعومة الموهومة؛ وكنت لا أومن بشيء من هذا قل أو أكثر؛ ولم يكف هذا الصديق أن يأخذ بالرأي في صمت وهدوء، بل تحمس له حماسة يمازجها شيء من الصخب، وساهم في جمعية نفسية تألفت في القاهرة من بعض المشتغلين بهذه الأبحاث، ولم تكن لجماعتهم هذه دار يلتقون فيها، فاتفق الأعضاء على أن تكون الجلسات في ديارهم.
وفي يوم برده زمهرير، دبر صديقي اجتماعا في دارنا، وكان محتوما علي أن أساهم في الحفاوة بالزائرين، أو أغادر الدار؛ وقد آثرت أن أخوض في برد الشتاء، على أن أستمع مرغما إلى ما يديره أولئك الأعضاء من هراء؛ ولكن شاء حظي المنكود أن يفاجأ صديقي بما ألزمه بالسفر في تلك اللية إلزاما لا سبيل إلى الفرار منه، فماذا يصنع والاجتماع بعد ساعتين أو أقصر؟ أمامه مخرج واحد، وذاك أن أظل بالدار لأستقبل الأضياف.
وحدث ما شئت عما أصاب نفسي من حرج وضيق، ولكني جحدت هذا الغم في كبدي، ورسمت ابتسامة على محياي لألقى بها الزائرين؛ وحان الحين ، وأقبل المقبلون، فأخذت أصافح وأسامر في بشر وترحاب، كأني كنت لهذا اللقاء في لوعة المشتاق، وما هو إلا أن فرغنا من العشاء، فانتقل الزائرون إلى غرفة المكتبة، وكنا قد أعددناها للجلوس؛ وهنا أقبل صديقي حسن، وهو يفهم موقفي من هذه الأبحاث النفسية، ويشاركني وجهة النظر، وجلس بعد أن صافح الحاضرين؛ ولم تمض دقيقتان حتى سادنا الصمت، ووقف رئيس الجماعة، وسعل سعلة خفيفة، تمهيدا لكلمة يلقيها في الحضور، ثم قال: «سادتي! إنا لنأسف أسفا شديدا لغياب زميلنا يوسف هذا المساء، ولكن أهي العناية الإلهية دبرت هذا لأكشف لكم في صديقه وصديقنا محمود عن عضو جديد وعضد قوي مستنير؟! لقد رأيتم جميعا كيف استقبلنا بحفاوة الأكرمين، ولكني رأيت فيه جانبا آخر، فقد أخذ يحدثني ونحن جلوس إلى مائدة الطعام حديث المتعمق، الخبير بالنفس البشرية وسرها المكنون، فعجبت لأمره أشد العجب، فقد ذكره لي صديقه وصديقنا يوسف في غضون حديث له معي منذ أيام، فأنبأني عنه أنه واسع الثقافة كثير المطالعة، وأنه كان يصلح لجماعتنا هذه عضوا مفيدا، لولا أنه ينفر نفورا شديدا من أبحاثنا الروحية، ولا يصفها بأكثر مما يوصف به خلط المجانين ...»
فقاطعته قائلا: ليس هذا حقا يا سيدي، لقد ساء فهمه إياي أو أساء الإفهام؛ لأني مشغوف بالروح وما يتصل بها من بحوث، إن أصدقائي جميعا يعلمون عني أني أعيش في كتب الأقدمين أكثر مما أعيش بين الأحياء المعاصرين؛ وأشباه هذه البحوث الروحية كثيرة في تلك الكتب، بل جاءت عصور بأسرها لا تعرف من العلم إلا أشباه هذه البحوث، وليس من المعقول أن أخرج من هذا المحصول الضخم صفر اليدين؛ ولم أقف من الأمر عند المعرفة النظرية، بل طبقتها مرتين حين كنت في مراكز الريف فأفلحت إفلاحا عجيبا؛ ولو شئتم عرضت أمامكم بعض هذه التجارب التي أجريتها في قدرة النفس البشرية على نقل الخواطر من ذهن إلى ذهن بغير ما يعهد الناس من وسائل التعبير.
فحدق صديقي حسن نظراته في وجهي، ولمحت فيه ميلا إلى الضحك، عرفته فيه منذ ائتلف قلبانا في هذه الصداقة القوية؛ ولكنه حين رآني أسترسل جادا في الحديث، أخذ يعلوه العجب، وتبدو في عينه الدهشة مما أقول، كأنه أراد أن يهمس: أأنت مازح أم هذا جانب منك خدعتني فيه؟!
ولكني لم آبه لما يختلج في نفس صديقي حسن آنئذ، ودرت ببصري في أعضاء الجماعة النفسية قائلا: هل تؤمنون بقدرة الروح على نقل الخواطر من شخص إلى شخص على بعد ما بينهما من شقة؟ فأجاب الرئيس: «إنك يا سيدي كمن يسأل بائع الفاكهة هل يبيع فاكهة! إن نقل الأفكار والخواطر في مقدمة البحوث التي تعنى بها جماعتنا، بل إنه علة ائتلافها وسبب وجودها؛ نحن معيروك آذانا مرهفة مصغية، فحدثنا في هذا الأمر ما شئت من حديث، وأجر ما شئت من تجارب، فما أحسب إلا أن الجمعية قد كسبتك عضوا قديرا خطيرا.»
قلت: إذن فاسمعوا؛ سأخرج من الغرفة الآن، فاختاروا من هذه الأشياء التي حولكم شيئا، ثم شبكوا أيديكم بحيث يمسك كل بجاره، وركزوا أذهانكم جميعا في الشيء المختار، على أن يشير أولكم بيده المطلقة إلى ذلك الشيء؛ أما أنا فسأصعد إلى الغرفة العليا، ثم أغلق من دوني الباب، وأنقر بعصاي على الأرض نقرات متصلة، فإذا ما أخذت في هذا النقر بالعصا، فاجلسوا وشبكوا أيديكم على النحو الذي أسلفت، وركزوا تفكيركم فيما تختارون؛ وسأخبط أرض الغرفة بعصاي خبطتين غليظتين لتعودوا إلى حيث كنتم، قبل أن أهبط إليكم؛ فلو استطعتم أن تركزوا عقولكم في الشيء المختار، فلن أجد عسرا في قراءة ما تفكرون فيه على صفحات أذهانكم، كأنني أقرأ في كتاب منشور.
فقال الرئيس: إن حدث هذا كان مثالا ناصعا، وبرهانا قاطعا على قوة النفس البشرية في قراءة الأفكار؛ ابدأ بتجربتك يا محمود، فنحن منفذون لك ما تريد؛ وأما صديقي حسن فلم يزدد إلا دهشة وعجبا، أهذا هو صديقي الذي خالطته أعواما، فلم أشهد منه إلا ضحكا وسخرية من سخف العقول التي تأخذ بهذه الآراء؟!
أخذت عصاي واتجهت صوب الباب، وقد أوصيتهم قبل أن أغيب عن أنظارهم، أن يركزوا أفكارهم في الشيء المختار تركيزا شديدا، وخرجت إلى البهو وصعدت السلم، وفتحت باب الغرفة العليا في صوت مسموع، ثم أقفلته في عنف ليعلموا أني قد بلغت مكاني فيأخذوا فيما أوصيتهم به؛ هنا وقف الرئيس وأقفل باب المكتبة ليزدادوا استحكاما، وشبكوا أيديهم، وكنت قد بدأت أنقر بعصاي نقرا خفيفا على أرض الغرفة العليا؛ وقد مد الرئيس يده المطلقة - وكان هو الذي وقف في نهاية السلسلة - ووضع إصبعه على مصباح المكتب، فهز الباقون رءوسهم بالموافقة، وأخذوا جميعا يركزون عقولهم في هذا الصباح، وقد ساد بينهم صمت عميق تكاد تسمع فيه تردد الأنفاس؛ فكان صوت عصاي وهي تنقر على أرض الغرفة العليا يدوي في أرجاء المكان، ثم وقفت نقرات العصا لحظة قصيرة، ثم خبطت بها خبطتين غليظتين إيذانا بالنهاية؛ ففك الأعضاء أيديهم وعادوا إلى أماكنهم الأولى، وفتح الرئيس باب المكتبة؛ فهبطت السلم وأقبلت على الجالسين كأني أعنت الذهن إعناتا مرهقا، وقلت: لا تنظروا إلى الشيء المختار، بل فكروا فيه لتنتقل الفكرة من عقولكم إلى عقلي. فلبثوا جالسين في صمت رزين يزيغون الأبصار هنا وهنالك، وطفقت أعبر الغرفة جيئة وذهابا ثم خطوت خطوا فسيحا سريعا مفاجئا نحو المكتب، ورفعت المصباح وأنا أتهلل بالبشر، وقلت: هذا ما اخترتموه، لقد قرأت الفكرة في عقولكم جلية واضحة، كأني أقرأ في كتاب منشور!
فضج المكان بعد ذلك الصمت الرهيب، وقال الرئيس في صوت المتحمس: ألا فلينظر إلى هذه التجربة الرائعة كل كافر بالنفس البشرية وقواها! فلنسجل هذا في دفاترنا برهانا قاطعا على إمكان قراءة الأفكار، ننشره في الناس يوم ننشر خلاصة ما نقوم به من الأبحاث.
فقلت وقد أحسست بنفسي التيه والإعجاب: لو شئتم أجريت لكم تجربة أخرى، ولكم أن تزيدوا الأمر دقة وصعوبة؛ وأخذت العصا وصعدت السلم وبدأت أنقر على أرض الغرفة العليا نقرا خفيفا؛ قال الرئيس لزملائه: «سنختار هذه المرة شيئا دقيقا بحيث لو عرفه لم يعد محل لريب مرتاب، سأختار كتابا من أحد هذه الرفوف، وسأفتحه كما اتفق، وستكون الصفحة المفتوحة هي ما نركز فيه الفكر»؛ فوافق الزملاء وشبكوا أيديهم، وخطا الرئيس إلى أحد الرفوف وانتزع كتابا وضعه على المكتب، ثم دس سبابته بين صفحاته وفتح، فإذا هي صفحة 176 فأشار إليها بيسراه، وشبك يمناه في يد جاره، ووقف الجميع في صمت يفكرون في الشيء المختار، ونقرات العصا متصلة على أرض الغرفة العليا، ثم وقف النقر لحظة قصيرة، ثم ضربت الأرض بالعصا ضربتين غليظتين إيذانا بالنهاية؛ ففكت الأيدي وأعيد الكتاب حيث كان، واتخذ كل من في الغرفة مجلسه، وهبطت السلم ودخلت حجرة المكتب، فألفيت الجميع في سكون رصين رزين لا تسمع فيه نأمة ولا حركة؛ وقد أخذت أذرع الغرفة بخطاي كأنني أفكر؛ وما هي إلا أن وقفت بغتة وقلت في لهجة حادة: «إن بينكم رجلا لا يركز تفكيره في الشيء المختار تركيزا شديدا»؛ ونظرت إلى صديقي حسن، فرشقه أعضاء الجماعة النفسية بنظرات ملؤها اللوم والتأنيب، وبدا على وجه حسن من العلائم ما يدل على أنه كان بالفعل شارد الفكر، ولكنه أحس أنه في قوم جادين فيما هم فيه، لا يلهون ولا يعبثون، فحصر ذهنه في الصفحة المختارة حصرا قويا؛ وساد الصمت، ووقفت أجيل البصر في أرجاء الغرفة، أصعده وأصوبه، ثم خطوت خطوا سريعا مباغتا إلى رف بين رفوف الكتب، وأنزلت منه كتابا وضعته على المكتب وفتحته في صفحة 173، ونظرت إلى الرئيس قائلا: ألم يقع اختياركم على هذه الصفحة؟ فاندفع الجالسون إلى المكتب يشرئبون بأعناقهم إلى الكتاب، وقد فغروا أفواههم عجبا وإعجابا؛ فسألتهم: هل أصبت هذه المرة أيضا؟
قال الرئيس: لقد قاربت الصواب قربا شديدا، لقد اخترنا صفحة 176، فلم تخطئ إلا قليلا حين حسبتها صفحة 173، إن في المكتبة مئات من الكتب فيها ألوف الألوف من الصفحات، فيا له من نصر عظيم حين تخطئ في صفحات ثلاث! أستغفر الله ماذا أقول؟ أأقول إنك أخطأت مع أن هذا الخطأ اليسير هو بعينه دليل الصواب؟ ألم يشرد صاحبنا - وأشار إلى حسن - بفكره لحظة هي كفيلة أن تسبب هذا الانحراف القليل؟!
فقلت: نعم، سيدي الرئيس، لم أكد أدخل الغرفة، حتى أحسست إحساسا عجيبا، أحسست كأن جاذبا يجذب فكري عن غاية يقصد إليها، أحسست كأن عاملا يحول بيني وبين ما أريد، فأدركت من فوري أن أحد الحضور قد شرد بفكره عن الشيء المختار.
قال الرئيس: هذه تجربة نادرة! هذا مثال عجيب لقراءة الأفكار! هذه حالة تنهض دليلا قويا على أن تركيز الفكر في شيء سبب في انتقال الفكرة إلى شخص آخر، وشروده حائل يحول دون هذا الانتقال، إن زلة صديقنا هذا قد جاءت مؤكدة للتجربة مؤيدة لها؛ فلولا هذه الغفوة منه ما عرفنا كيف تكون الحال إذا ما حيل دون تركيز الفكر. ماذا تقول؟ أتقول إنك أحسست كأن شيئا يقف في طريقك ويصرفك عن غايتك؟
قلت: نعم، سيدي الرئيس، شعرت بذلك شعورا قويا، فقد رأيت نفسي بادئ الأمر منجذبة نحو الكتاب حين دخلت الغرفة، ولكني أحسست فجأة أن الفكرة الواضحة في نفسي قد غشاها غموض واضطراب؛ ولما عاد صديقي حسن إلى تركيز فكره رأيت فكرة الكتاب تزداد في ذهني وضوحا شيئا فشيئا، وشعرت كأنما يدفعني إليه دافع ليس إلى مقاومته من سبيل.
فدار الحديث بين الأعضاء ساعة حول هذه القدرة العجيبة للنفس الإنسانية على استطلاع ما يختلج في نفوس الآخرين من خلجات وأفكار؛ ولما آن موعد انصرافهم صافحوني مهنئين معجبين، وخرجوا إلا حسنا، فقد بقى ليقضي معي شطرا أطول من الليل؛ فما كدنا نعود إلى مجلسينا حتى نظر إلي حسن في دهشة، وقال: ما ظننتك يا محمود مشغوفا بالبحوث النفسية قبل الليلة، فلطالما زعمت لي عن نفسك أنك منطقي جاف صارم في منطقك، ولطالما أنكرت لي ما يذيع في مجالس الناس من أنباء عن قوى النفس وأسرارها، لأنها كانت لا تتفق في رأيك مع المنطق العقلي المستقيم.
فقلت: ماذا؟ أتراك قد انخدعت يا حسن كهؤلاء المجانين؟
قال: ما أرى في الأمر خداعا، لقد تحوطنا للأمر تحوطا شديدا، ومع ذلك فقد أبديت قدرة عجيبة على استطلاع خلجات العقول!
فقلت: إذن لقد وفقت في خداعكم أكثر مما توقعت لنفسي، إن الأمر كله خداع في خداع، كنت أصعد السلم وأبدأ في النقر الخفيف بعصاي، ثم آمر الخادم أن يواصل هذا النقر حتى أخف مسرعا من السلم الخلفي لأنظر إليكم من ثغرة ضئيلة في النافذة المطلة على الحديقة، حتى أشهد ما تفعلون، فأعود سريعا إلى الغرفة العليا وآخذ عصاي من الخادم فأخبط بها خبطتين غليظتين ثم أهبط إليكم عالما بكل أمركم.
قال: لئن كان هذا الخداع الساذج مما يجوز على هؤلاء المثقفين، أفيكون عجيبا بعد هذا أن تنخدع عامة الناس؟
النساء قوامات
إذا عشت في أمة هازلة حملك الناس محمل الهزل إن كنت جادا، وأخذوك مأخذ الجد إن كنت مازحا، حتى لا تدري إن أردت معهم الجد ولم تسعفك روح الفكاهة، كيف تتوجه إليهم بالخطاب؛ ولست أرى لك حيلة سوى أن تقسم لهم في مستهل الحديث بالذي بسط لهم الأرض ورفع السماء، أنك فيما تحدثهم به إنما قصدت إلى الجد ولم تقصد إلى المزاح.
والذي أتقدم به الآن بين يديك أيها القارئ الكريم أتقدم به في استحياء وخجل لما أحسه فيه من نبو وشذوذ وخروج على مألوف الرأي والعادة، ملتمسا منك الغفران إن كنت على ضلال، وراجيا منك التأييد والتعضيد والفعل والتنفيذ إذا رأيتني قد وفقت إلى صواب؛ الذي أتقدم به الآن بين يديك جادا كل الجد مؤمنا كل الإيمان، رأي في الإصلاح لست أرى للإصلاح سبيلا سواه، بعد تفكير أدرته في رأسي أعواما طوالا؛ وقد هداني إليه حادث عابر - وكم في تاريخ الإنسان من كشف عظيم هدى إليه حادث عابر - والرأي في بساطة واختصار هو أن نلقي بزمام أمرنا في أيدي نسائنا حينا من الدهر، فنجعل النساء قوامات على الرجال قرنا كاملا، لعلهن في نصفه الأول مستطيعات أن يصلحن ما أفسدت أيدي الرجال مدى خمسين قرنا، وأن يضعن في نصفه الثاني أساسا جديدا لحياة جديدة؛ وللرجال بعد ذلك أن يستردوا قوامتهم على النساء، إن وجدوا أن ذلك عندئذ في حدود المستطاع؛ أريد أن تكون الكلمة العليا في الأسرة للمرأة لا للرجل، بحيث يفاخر المرء أقرانه بأنه قد تعهدته أمه لا أبوه؛ أريد أن أرى في مناصب الدولة جميعا - رفيعها ووضيعها على السواء - نساء لا رجالا، فيكون منهن الوزيرات والمديرات والمأمورات والضباط والشرطيات والقاضيات ونائبات البرلمان، وأن يحرم الرجال حق الانتخاب على النحو الذي حرمته المرأة اليوم؛ أريد أن يكون الرأي للمرأة في كل شيء قرنا كاملا من الزمان.
أوحى إلي بهذه الفكرة حديث قصير مع فتى وفتاة، كلاهما تخرج في الجامعة؛ فوجدت في الفتى خفة ورعونة وتفاهة رأي، بقدر ما وجدت في الفتاة تماسكا واتزانا وسدادا؛ فلم يسعني إذ كنت أجالسهما وأستمع إلى الحوار بينهما سوى أن أسائل نفسي متعجبا: أيكون هذا الفتى قواما على هذه الفتاة لو تزوج منها؟! ألا يكون لهذه الفتاة الرزينة الرصينة المتزنة العاقلة رأي في سياسة بلدها، وأن يطلب الرأي من مثل هذا الفتى؟! أستغفر الله، بل لا يكون لهذه الفتاة رأي في سياسة بلدها ويطلب الرأي من «عبد الله الطبال»، وهو رجل ذو بلاهة كان يبيع في حارتنا الطعمية منذ أكثر من ثلاثين عاما، وكان لنا موضع العبث والهزل والفكاهة ونحن أطفال.
عدت إلى داري بعد هذا الحادث العابر، أسائل نفسي في الطريق متعجبا مرة أخرى: أيكون هذا التفاوت الفسيح الذي شهدته بين الفتاة والفتى شذوذا يحدث مرة ويتخلف مائة مرة، أم يكون هو القاعدة السارية الجارية التي تقع مائة مرة وتتخلف مرة؟ وما كدت أبلغ داري وأستقر إلى مكتبي حتى أخذت الأمر مأخذ الجد والعلم الصحيح؛ فمن العبث أن نعيش في عصر يفوح هواؤه بالعلم والعلماء، وتدار أداته في الأنابيب والمعامل، ثم نقف حيال ذلك كله، موقف المتحدى، فنطرح وراء ظهورنا وسائل العلم وأساليب العلماء؛ وأبسط هذه الوسائل والأساليب أن نبني أحكامنا على حقائق محسوسة ملموسة، وألا نقيمها على خيال واهم أو رأي عابر؛ ينبغي لك إن أردت اليقين أن تبسط الحقائق أمام نظرك أولا، لتهتدي بهديها، وتنتزع منها الحكم الصحيح، والحقائق التي لا بد لك أن تبسطها في هذا البحث الذي نحن الآن بصدده ليست حشرات ولا غازات ولا صخورا ولا معادن؛ الحقائق المطلوبة ها هنا أساسا للبحث عدد من النساء وعدد من الرجال، تجمعهم بالذاكرة في رأسك ولا تدعوهم للاحتشاد في ردهة دارك، واجعل العدد أكبر عدد ممكن، ثم قارن بينهما اثنين اثنين، بحيث تقرن الرجل إلى من يساويه من النساء سنا وتعليما وظروفا، ثم انظر أي الجنسين كان أسلم نظرا وأسد رأيا في مواقف بذاتها مرت بك وكونت جزءا من تجاربك.
هذا ما صنعته أنا، استعدت بالذاكرة عشرات المواقف التي تعارض فيها رجل وامرأة ممن تقاربت ظروفهم، فوجدت في كل زوج اخترته للبحث، أنه حيثما اختلف الاثنان في وجهة النظر، كان الرجحان حليف المرأة في تسع مرات من كل عشر؛ وإني أيها القارئ لأناشدك الذمة والضمير والإخلاص، إني لأستحلفك الله والوطن الذي نريد معا أن نصلحه، أن تخلو لنفسك ساعة واحدة فتعرض لمن تعرف من ذكور وإناث، هادئ النفس خالص النية مبرأ من الهوى؛ اعرض لمن تعرف من أزواج وزوجات، وبنين وبنات، وإخوة وأخوات، وطلاب وطالبات، وموظفين وموظفات؛ اعرض هؤلاء أزواجا أزواجا، وكن أمينا في عرضك، فلا تقرن الجاهلة إلى المتعلم، ولا الصغيرة إلى الكبير، لا توازن بين قروية ومتحضر، بل اختر أمثلتك ممن تشابهت حالهم وتقارب محيطهم، ثم نبئني بعد ذلك أي الجنسين وجدته أسلم تفكيرا وأنفذ بصيرة؟ أما أنا فلم يعد عندي في الأمر موضع لريب، لقد آمنت إيمانا أرسخ من شم الجبال، بأن المرأة في مصر أحكم رأيا من الرجل في مصر، وأنه ينبغي لذلك أن يكون لها الأمر والسلطان ولو إلى حين.
لعلك لحظت أني أحدد القول بالرجل في مصر والمرأة في مصر ولا أطلق الحكم إطلاقا؛ وأراني هاهنا مضطرا إلى تنبيهك إلى خطأ يقع فيه كثيرون وأعيذك أن تقع فيه إذا ما أخذت في البحث؛ والخطأ أن تبدأ بقول عام تلقيه على عواهنه وتتشبث به؛ هذا لا يجمل أن تصنعه مهما يكن قائل هذا الرأي ومهما تكن منزلته من نفسك ونفوس الناس؛ فاجعل بداية بحثك أمثلة فردية جزئية واقعة، واترك نفسك على الحياد، وانظر إلام تؤدي بك هذه الأمثلة المختارة؛ أنا أشير عليك بهذا بعد خبرة طويلة؛ فكم من مرة ثار فيها هذا الجدل: أيهما أقدر على تصريف الأمور، الرجل أم المرأة؟ وكم من مرة كلما ثار الجدل أخذتني الغيرة على الرجولة والرجال، وخشيت أن يكتسح سلطانهم وتضيع حقوقهم، فكنت أحتج للرجل على المرأة بكثرة النابغين وقلة النابغات وما إلى ذلك من جدل نظري عقيم؛ لكني الآن أوثر طريقة أخرى في التفكير منتجة مفيدة، وهي أن أخصص ولا أعمم إلا بعد تخصيص، أوثر الآن أن أختبر الموقف الفرد وألا أرف بجناحين عريضين في أطباق الهواء مسرعا لأنتهي إلى تعميم في الحكم بين طرفة عين وانتباهها؛ فليس ذا غناء أن أوازن بين المرأة والرجل، كائنة من كانت المرأة، وكائنا من كان الرجل؛ بل لا بد لي أن أحصر موضوع البحث وأضيق حدوده، فأبدأ بهذه المرأة وهذا الرجل، وبهذه المرأة الأخرى وهذا الرجل الآخر، وبهذه المرأة الثالثة وهذا الرجل الثالث؛ ثم أنتقل بعد ذلك إلى المرأة في مصر والرجل في مصر، إن وجدت أن الأفراد الذين أخضعتهم للبحث يبررون مثل هذا التعميم؛ وليس من حقي أن أقول عن المرأة في أنحاء العالم ما أقوله عن المرأة في مصر، ولا عن الرجل في أنحاء العالم ما أقوله عن الرجل في مصر، إذ قد يكون في مصر من الظروف الخاصة التي لا تشاركها فيها سائر الأقطار، والتي قد يكون من شأنها أن تكون المرأة في مصر أسلم نظرا من الرجل وأسد رأيا؛ والواقع أن هذا هو ما انتهيت إليه وما آمنت به وما أزعمه لك وما أرجو لك أن تأخذ به بعد بحث وتحقيق.
وإذا اتفقنا على صواب الرأي بقي علينا أن نعلله، وقد فتح علي الله بتعليلين أذكرهما لك وأرجو منك المزيد.
التعليل الأول هو أن الذكر في مصر مدلل لذكورته والأنثى مهيضة الجناح لأنوثتها؛ قد تكون هذه ظاهرة طبيعية في العالم كله وفي عصور التاريخ كلها، لكني لا أكاد أراها في بلد من بلاد الأرض قد بلغت ما بلغته في مصر، وتكاد الآية الكريمة:
وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت
تتجه بالسؤال إلى المصريين اليوم كما اتجهت به إلى جاهلية القرون الغابرة؛ فلست أرى كبير فرق بين وأدهن بالجسم ووأدهن بالروح.
هذا الولد المدلل يشعر منذ اللحظة الأولى لحياته الواعية أن فعله مقبول وقوله مستطاب، فماذا عليه لو فعل الفضائح وقال الهراء؟ إنه «ولد» وإنه مدلل وإن مكانته في القلوب عالية رفيعة؛ إن تجهم له الوالد لفعله فهو يعلم في يقين أن الوالد هازل في تجهمه، وإن انتهرته الوالدة لقوله، فهو كذلك يعلم أنها مازحة في انتهارها؛ وتأتي بعدئذ مرحلة قريبة جدا من هذا، الانزلاق إليها سهل ممهد يسير، وهي أن يستبد هذا الولد ويطغى، لن يعود طلبه رجاء، بل أمرا يجب أن يطاع، ولن تعود الحدود الضابطة لفعله وقوله هي ما له من حق وما لغيره من حقوق، بل يصبح الأمر كله رغبة يريد إشباعها بأسرع الطرق؛ فلماذا يتأنى دقيقة أو دقيقتين ليفكر هل أسرع الطرق لإشباع رغبته مشروع أو غير مشروع، فيه الإنصاف لغيره أو فيه الإجحاف عليهم؟
خذ هذا الولد المدلل الذي استبد في بيته، وضع على شفته العليا شاربا، يكن لك الرجل المصري في شتى وجوه الحياة؛ هو لا يعنيه قلامة ظفر أن يعمل بحيث لا يجاوز حدود الحكمة والعدل والإنصاف، إنه رجل لا يعرف إلا أن يسلك لغايته أقصر السبل، ولتكن السبل المختارة ما تكون؛ ومن هنا كان الطغيان الضارب بأطنابه وكان الفساد؛ ولن أعتذر للقارئ عن كثرة ما قلته وما سأقوله ما استطعت أن أحمل القلم، عن الطغيان والطغاة، فذلك عندي ذنب الأفعى ورأسها.
وعلى نقيض ذلك ما نشأت عليه الفتاة؛ فقد أدركت منذ اللحظة الأولى لحياتها الواعية أنها «بنت» وأنها بالقياس إلى شقيقها الذكر لا تساوي شروى نقير، وإذن فلا بد لها من إقامة الدليل على أنها إنسان - ولا تقل إن هذه بديهية لا تحتاج إلى برهان، فأنت في كثير جدا من الأحيان مضطر إلى البرهنة على أنك إنسان كغيرك من بني الإنسان - إي والله، أدركت البنت منذ اللحظة الأولى لحياتها الواعية ألا مندوحة لها عن إقامة الدليل على أنها إنسان كإخوتها الذكور، وإذن فلتفكر مرتين قبل أن تنطق، حتى لا يقال: أأنثى وتنطق بالهراء؟ أحشفا وسوء كيلة؟ ولتتدبر الأمر مرتين قبل أن تعمل، فيكفيها من مصائب الزمن أنها أنثى! وهكذا ينشأ لك من هذه الفتاة إنسان أقرب ما يكون إلى الحاكم الذي يضبطه برلمان يحاسبه على ما يقول ويفعل؛ فلئن كانت ظروف الأسرة المصرية قد خلقت من الولد طاغية مستبدا، فقد خلقت هذه الظروف نفسها من البنت إنسانا عاقلا متزنا صائب الرأي سديد النظر.
وتعليل آخر لتفوق المصرية على المصري: أن المرأة أقرب إلى الحكم بغريزتها من الرجل، والرجل أقرب إلى الحكم بمنطق العقل من المرأة؛ فلو عاش رجل وامرأة في ظروف سوية تهذب الغريزة والعقل المنطقي معا، لكان من العسير أن تحكم لأحدهما على الآخر، إلا أن تغوص في بحث فلسفي عويص في أيهما آمن دليلا: الغريزة أم منطق العقل؟ أما وظروف الحياة في مصر ليست مما يعين العقل على التفكير بمنطق سليم، إذ توشك ألا تجد فيها شيئا تنبني فيه النتائج الصحيحة على مقدمات صحيحة، أما وظروف الحياة المصرية تفعل هذا الصنيع في منطق الرجل، ولا تفسد شيئا من غريزة المرأة، لأن الغريزة أرسخ في النفس أساسا وأعمق جذورا من أن تنال منها الزعازع، فهذه الغريزة عند المرأة لم يعد يقابلها شيء عند الرجل؛ أمامك في كفة الميزان غريزة فطرية وفي الكفة الأخرى عقل مختل فاسد، فقل بعد ذلك ما شئت في صدق الغريزة دائما أو خطئها أحيانا، فهي على كل حال شيء يقابله لا شيء - أستغفر الحق - بل يقابله ما هو شر من لا شيء؛ لأن الفساد خير منه العدم.
أعود أيها القارئ فأستحلفك الذمة والضمير والإخلاص للوطن، أن تتدبر الأمر في روية وهدوء؛ فإن رأيت صوابا ما زعمته لك، فاستجمع قواك وتوكل على الله، وانزل عن سلطانك لمن هي أحق منك بالسلطان.
أعذب الشعر أصدقه
زعم ناقد عربي قديم أن أعذب الشعر أكذبه؛ وسواء كان هذا الناقد جادا في زعمه أو هازلا، فقد جرت عبارته مجرى القول الصادق الجميل، وكان لها أثر عميق في توجيه الشعراء، وفي تكوين الذوق الفني عند القراء؛ فماذا يريد «بالكذب» في الشعر؟ هل كان من السذاجة بحيث أغراه السجع، فصرفه عن دقة الحكم وصدق الرأي، وآثر أن يمتع سمعه بإيقاع اللفظتين «أعذب» و«أكذب» فأرسل العبارة لاهيا عابثا؟ ربما كان الأمر كذلك، لأن العناية بالألفاظ كثيرا ما تطغى على دقة التفكير.
أو لعله أبصر من ذلك وأعمق، وأراد بعبارته الموجزة أن يقرر أن العيش مر أليم، وأن خيال الشاعر كفيل أن يخلق عالما جديدا حلوا مستساغا، يلوذ به فرارا من دنيا الحقيقة والواقع؛ فهو كلما اشتد بعدا عن الواقع فيما يصور، كان أكثر توفيقا في تحقيق الغرض الذي يقصد إليه.
وخير الفروض إنصافا له واعترافا بعمق نظره، أن نفسر إيثاره للكذب في الشعر بأنه إيثار «للذاتي» دون «الموضوعي» في عالم الفنون؛ فنحن إذا حللنا حمرة الشفق مثلا، كان معناها إحساس العين باللون حين يتجه الرائي ببصره نحو السماء، فليست الحمرة الجميلة كائنة في الشفق ذاته، ولكنها صنيعة عين الإنسان، هي التي خلقتها خلقا حين تلقت ضوء الشفق؛ وإذن فليس الشفق أحمر إلا لأن عينا تنظر إليه، وهكذا قل في سائر الصفات الثانوية التي تؤلف شطرا كبيرا من حقائق الأشياء؛ وإن كان الأمر كذلك، فماذا نطلب من الشاعر؟ أنطالبه أن يتقصى بعقله حقائق الأشياء في ذاتها ليصفها كما هي في الواقع، مستقلة عن حواس الإنسان؟ إنه لو فعل، كان بهذا الوصف الموضوعي أقرب إلى الفلاسفة والعلماء منه إلى أصحاب الفن والشعراء؛ أم نطالبه بأن يصف دنياه كما تقع من نفسه، مهما تكن هذه الصورة الذاتية بعيدة عن الواقع؟ نعم، إنه ينبغي للشاعر في رأي الناقد ألا يكترث بالأشياء في ذاتها، بل واجبه أن يصورها بالنسبة إليه؛ ولهذا كان أعذب الشعر عنده أكذبه.
وأيا ما كان غرضه ، فلسنا نحب لرأيه أن يشيع، ونؤثر في ذلك رأي الناقدين من أدباء الإنجليز، الذين يتخذون الصدق مقياسا لجودة الشعر، وسأسوق في إيجاز شديد رأي ناقدين يقعان من الأدب الإنجليزي في أعلى منازله، وهما «ما كولي» و«جون رسكن».
أما «ما كولي» (1800-1859م) فقد كتب كثيرا في نقد الشعراء والناثرين، ومن ذلك كتاب رصده لنقد الكاتب الشاعر «أدسن»، فجاء في سياق البحث أن القائد الإنجليزي المعروف «مولبرا» حين ظفر بالنصر في موقعة بلنهيم «وقعت في أغسطس 1704م»، أخذ الشعراء الإنجليز ينظمون القصائد في مدحه، والإشادة بنصره، ولكن التوفيق الفني أخطأهم جميعا، لأنهم أخذوا يمتدحون في «مولبرا» أنه صبغ الأنهار، وخضب السهول بدماء الأعداء، فلم يصادف هذا القول وأشباهه قبولا من نقدة الشعر، وأحس الناس أن هذه الواقعة الفاصلة ينبغي أن تلتمس سبيلها إلى الخلود عن طريق الشعر الرفيع؛ لذا لجأ بعض الوزراء إلى شاعر فذ، هو «أدسن» وطلبوا إليه أن يجود بقصيدة من شعره الخالد في «مولبرا» اعترافا بفضله، ففعل، وصادف عند النقاد كل إعجاب؛ وأشد ما أثار إعجابهم سطر بلغ في رأيهم ذروة الشعر، يشبه فيه مولبرا بالملك المدبر في عاصفة القتال الهوجاء، فالدنيا ترتج من حوله، وهو رصين رزين يفكر ويدبر؛ فقال «ما كولي» تعليقا على هذا السطر رأيه في وجوب الصدق في الشعر، إذ قال ما ملخصه:
في رأينا أن أهم ما تمتاز به قصيدة «أدسن» هو أنه اصطنع في شعره رصانة الرجولة ورزانة العقل الحكيم، ونبذ الإغراق في الخيال نبذا محمودا. إن الشاعر العظيم «هوميروس» قد تغنى بالحروب قبل أن تصبح الحروب علما وفنا، فكان إذا دبت العداوة في عهده بين مدينتين صغيرتين، بعثت كل منهما بأبنائها جميعا إلى ساحة القتال لا يفقهون من وسائل النظام شيئا، وكل سلاحهم أدوات الصناعة شذبوها وهيئوها على نحو ساذج غليظ؛ وكان كل فريق من المتحاربين يقوده نفر قليل من الرؤساء البارزين الذين مكنتهم الثروة أن يظفروا لأنفسهم بعدة حربية جيدة متينة وجياد كريمة وعربات حربية، كما أتاح لهم الفراغ أن يدربوا أنفسهم على القتال تدريبا طويلا؛ فكان الموهوب من هؤلاء القادة بقوة ممتازة وشجاعة نادرة، أشد عنفا وأعمق أثرا في ميدان الحرب من عشرين رجلا من أوساط الرجال، فهو يستطيع بقوته ورشاقته وشجاعته ومهارته في الرماية، أن يكون له أبلغ الأثر في تقرير مجرى القتال؛ هكذا كانت المواقع أيام هوميروس، للرجل الواحد الممتاز شأن عظيم في رجحان كفة النصر في هذا الفريق أو ذاك؛ فمتى يكون «هوميروس» صادقا في شعره حين يصور الأبطال؟ إنه يصدق لو رسم المحارب البارع في صورة العملاق الجبار، الذي يقوى على قذف رواسخ الصخر، وثقال الحراب والرماح؛ إنه حين صور «أخيل» وقد ادرع بعدته الحربية، وحمل رمحه الذي لا يقوى على حمله سواه من الرجال، فساق أمامه جيوش الأعداء جميعا، لم يزد بذلك على أن بالغ مبالغة جميلة لصورة المحارب الباسل كما يتصوره أهل زمانه، يصرع بيمينه الأعداء رجلا في إثر رجل، في جرأة ومهارة وقوة؛ ولو اختار «هوميروس» لبطله صورة الرجل الرزين البارع في رسم الخطط الحربية في غير حاجة إلى قوة عضلية ومهارة في الرماية وركوب الخيل، لكان شعره كاذبا لا يستحق منا التقدير والإعجاب؛ وإن الشعوب البدائية كلها لتفهم البطل على نحو ما تصوره اليونان وصوره «هوميروس»؛ فيروى عن المماليك أنهم حين رأوا بونابرت أخذتهم دهشة عميقة، أن يكون أعظم قادة أوروبا رجلا لا يزيد طوله على خمس أقدام، ولا يحسن ركوب جواده! فأين هو من بطلهم مراد بك الذي يمتاز بضخامة الجسم وقوة العضلات ومهارة التصرف في الرمح والجواد؟
كان «هوميروس» إذن صادقا حين صور الحروب كما صورها، وحين رسم الأبطال كما رسمهم، ولكن شعراءنا حين مجدوا «مولبرا» قلدوا «هوميروس»، فجاء تصويرهم كاذبا يمجه الذوق السليم؛ فهذا أحدهم يصف الجراح الدامية التي أنزلها «مولبرا» في أجساد الأعداء، وهذا آخر يزعم أن «مولبرا» كان يرمي الرمح فيحصد الأعناق، وهذا ثالث يقول إنه استطاع وحده أن يسوق أمامه ألوف الرجال وأن يصبغ الأرض بالدماء؛ ولكن هذه الصور جميعا إن امتدحناها في «هوميروس»، فإنما ننكرها من هؤلاء الشعراء.
فلما أراد «أدسن» أن يمجد «مولبرا» كانت براعته أن تخلص من هذه الصور التقليدية، إذ مجد في بطله صفات أخرى، هي النشاط والحكمة والعلم الحربي ورباطة الجأش التي مكنته أن يظل في معمعة القتال الصاخبة، محتفظا بقوته العقلية التي يختبر بها الموقف ويصرف بها الجنود.
فالصدق عند ما كولي - كما ترى - هو مقياس الشعر الصحيح.
وكذلك يرى «جون رسكن» (1819-1900م) أن الصدق أساس لجودة الشعر؛ ولكن ماذا يعني بالصدق؟ إن الشاعر إنسان تثور فيه العواطف فاترة حينا عنيفة حينا آخر.
فهو حين ينظر إلى الأشياء لا ينظر إليها نظر العقل الفلسفي المجرد، بل إن عاطفته لتصبغ نظره هذا بصبغة خاصة، راضيا كان أو كارها؛ وكل قارئ في وسعه أن يذكر حالات من حزنه وفرحه، فيقارن بين نظره إلى الدنيا في كلتا الحالتين، هي باكية في عينه إذا حزن، باسمة إذا ابتسم؛ فالشاعر الطروب حين ينظر إلى زهرة صفراء قد تدفعه العاطفة أن يصورها كأسا من ذهب، وحين يسمع خرير الماء يصور الماء مغردا شاديا، والشاعر الحزين يسمع صوت العاصفة يظنها مزمجرة غاضبة؛ أفنقول إن هذا قول كاذب لا يصور الحق؟
يقول «رسكن» إن الخطأ نوعان: خطأ الخيال المريد، الذي يختار بنفسه الصورة الخيالية وهو عالم أنها خيال، ولا يتوقع من القارئ أن يختلط عليه الأمر فيصدقها على أنها الحقيقة الواقعة، كمن يصور الهلال سفينة من فضة أثقلتها حمولة من عنبر؛ وخطأ سببه اضطراب المشاعر اضطرابا يحول دون الحكم الصحيح، كالذي يرى البحر يلتهم الغرقى أثناء العاصفة، فيصوره وحشا ضاريا أراد أن ينتقم؛ فالعقل في مثل هذه الحالة يضيف للشيء صفات الأحياء، لأن قواه العاقلة قد هدها الحزن وأوهنتها قوة المشاعر؛ وقد تعود الناس أن يعدوا هذه الأباطيل تصويرا شعريا جيدا، وأن يظنوا أن الحالة النفسية التي تجيز أكاذيب العواطف جديرة بالشاعر؛ ولكن «رسكن» يرفض ذلك، ويعتقد أن الشعراء الفحول يأبون على أنفسهم هذا الضرب من الكذب، وأن شعراء المرتبة الثانية هم الذين يجيزون هذا ويسيغونه؛ وهنا يسرع «رسكن» فيثبت رأيا جديرا - في نظري - أن ننشره بكل قوة هنا في مصر، وهو أن شعراء الطبقة الأولى وحدهم هم الذين يستحقون منا العناية؛ وأما من دونهم فليس خليقا بنا أن ننفق في قراءة شعرهم وقتا ولا مجهودا؛ وفيم هذه التضحية وأمامنا من الشعر الجيد ما يملأ أيام الحياة؟ «إنها جريمة ترتكبها في حق نفسك أن تفني شيئا من فراغك في شعر لم يبلغ من الجودة حدها الأقصى، ولست أقبل هذه الأعذار التي يرددها القائلون بأن صغار الشعراء لهم يوم ينبغون فيه، وأن ما يكتبونه فيه بعض الخير، وعندي أنه إذا لم يكن في الشعر كل الخير فلا خير فيه؛ فليشعل صغار الشعراء النار في إنتاجهم، ولينتظروا اليوم الذي يجودون فيه.»
إن من يستسيغ الخطأ العاطفي شاعر خارت قواه حتى لم يعد يقوى على ما هو بصدده، فطغى عليه هذا وأزاغ بصره عن الحق. إننا نريد العاطفة لا لتصرعنا بل لنغالبها فنغلبها، وهذه هي سمة العبقرية الشعرية وعلامة النبوغ الفني، نعم إنها منزلة لا بأس بها أن تبلغ العواطف من القوة ما يغري العقل بتصديقها؛ ولكن منزلة أسمى من هذه وأرفع، أن تقوى العاطفة ويقوى العقل معها، ليقرر سلطانه أمام طغيانها، أو ليؤازرها مؤازرة لا تنتهي بضعفه واندحاره؛ بهذا يبلغ الشاعر أعلى مراتب النبوغ.
فالناس عند «رسكن» ثلاثة رجال: رجل يدرك الحق خالصا لأنه لا يشعر، فيرى الوردة وردة لا أكثر، لأنه لا يحبها حبا يزيد على حقيقتها شيئا، وهذا بعيد عن الشعر لا يقع منه في كثير أو قليل؛ ورجل يدرك إدراكا باطلا لأنه يشعر، فالوردة قد تكون في نظره أي شيء إلا أنها وردة، فتكون نجما ساطعا، أو حجرا كريما، أو غادة راقصة، ولكنها لا تكون وردة أبدا، وهذا هو شاعر الطبقة الثانية؛ ورجل يدرك إدراكا صحيحا على الرغم من شعوره القوي، فيرى الوردة وردة دائما، ولكنه يضيف إلى حقيقتها ما تزدحم به مشاعره، وهذا هو شاعر الطبقة الأولى.
فعظمة الشاعر إذن مرهونة بعاملين: دقة الشعور، والسيطرة عليه؛ فهو لا ينطق إلا بما يحس ويشعر؛ فالشاعر الجيد قد يصف البحر الهائج بالغضب، وكذلك يفعل الشاعر الرديء، ولكن الفرق بينهما أن هذا الشاعر الرديء لا يستطيع أن يصف البحر إلا غاضبا، وأما الجيد فقادر على ضبط العادات الفكرية وأخذ نفسه بالحقيقة الخالصة.
وهكذا يرى الناقد المثقف البصير أن أعذب الشعر أصدقه، فليسمع الشعراء.
قوة الخيال
نقد أديب أديبا منذ حين، فقال إنه مستطيع لو حلل كلامه أن يرده إلى أربابه جزءا جزءا؛ وقرأت هذا فقلت لنفسي: يا ليت شعري، أين الكائن الحي الذي لا يستطيع العلم أن يرجعه في المخابير إلى أصوله عنصرا عنصرا؟ ووقعت عيني حينئذ على أناملي ممسكة بالصحيفة، فقلت: وداعا أيتها الأنامل، فلم تعودي بعد اليوم بأناملي؛ وكيف تكونين، وهذه الكيمياء تتربص بك الدوائر لتحملك إلى معاملها فتخلص إلى نتيجة محتومة، هي أنك تأليف من عناصر عندها أنباؤها؟ بل وداعا أيتها النفس، وأنت مني سر وجودي! فما أنت سوى حلقات متتابعات من المشاعر والخواطر، أستطيع أن أرد كل حلقة منها إلى أصل مما وقعت عليه الحواس!
ثم شاء الله لي الهداية بعد حين لم يطل، فما هي إلا دقائق معدودات حتى تناولت كتابا كان ملقى أمامي؛ ودسست فيه إصبعي، فإذا بمقال منشور، كاتبه «إمرسن»، وعنوانه «شكسبير، أو الشاعر»، فوجدته يقول ما ملخصه:
يتميز عظماء الرجال بسعة آفاقهم وامتدادها أكثر مما يتميزون بالأصالة والابتكار؛ فإذا اشترطت للنبوغ أصالة قوامها أن ينسج النابغ ديباجته مما يستخرج من أمعائه كما تفعل العناكب، وأن ينشيء لبنائه اللبنات إنشاء من طين يخلقه من جوفه خلقا، فلن تجد بين النابغين الفحول عظيما واحدا جديرا منك بهذا اللقب، إن أنبغ العباقرة هو أكثرهم دينا لغيره من الناس، إن العبقري لا يستيقظ ذات صباح مشرق جميل فيقول: «أنا اليوم مليء بالحياة، سآخذ سمتي نحو البحر لأخلق من العدم قارة جديدة، إني اليوم سأربع الدائرة، وسأجد للإنسان طعاما جديدا ...» كلا، بل إنه ليجد نفسه في خضم يضطرب من حوله بالأفكار والحوادث، فيندفع في تياره مع سائر معاصريه ؛ إنه يقف ليشخص ببصره حيث تشخص أبصار الناس جميعا، ويتجه إلى حيث تشير أيديهم؛ إنى لأكاد أجزم بأن أعظم مراتب النبوغ لا ترتكز على الأصالة قطعا، بل عظمة النبوغ في أن يكون الرجل مستقبلا للآثار من حوله وحسب. إن شكسبير في حقيقة أمره مدين لغيره في كل جوانب نبوغه، وقد كان قادرا على استخدام كل شيء وقعت عليه يداه؛ فأنت تعلم كم استعار إذا قرأت هذا البحث المجهد الذي قام به «مالون» في تحليل رواية «هنري السادس»، إذ قال: «إن مجموع أسطرها 6043، من هذه الأسطر 1771 كتبها بنصها أسلاف لشكسبير، و2373 كتبها بلغته، ولكنها من أفكار السابقين، ولا يخلص له سوى 1899 سطرا.»
إن لشوسر أثرا عميقا في الأدب الإنجليزي القديم بأسره، كما أثر - في العصر الحديث - في «بوب» و«دريدن» وغيرهما من الكتاب الإنجليز؛ فيا لها من تربة خصبة أطعمت كل هؤلاء الآكلين، ولكن شوسر هذا كان «مستعيرا» عظيما، فقد كان يأخذ عن غيره كل أدبه، حتى إن بعض إنتاجه ليس يزيد عن الترجمة الصريحة.
إن شوسر يسطو على غيره، ولكنه يعتذر عن ذلك بقوله إن ما يأخذه لا قيمة له حيث يجده، ولكن له أعظم القيمة حيث يضعه من جديد؛ ولقد باتت قاعدة في الأدب أن الأديب إذا برهن مرة على أنه قادر على الكتابة المبتكرة فله الحق بعد ذلك أن يسطو ما يشاء على إنتاج الآخرين؛ ذلك لأن الفكر ملك لكل من يستطيع أن يستخدمه استخداما حسنا، وأن يضعه وضعا ملائما. إن الفكر المستعار يظل بغيضا حتى تعرف ماذا تصنع به، وعندئذ يكون ملكا لك.
تلك خلاصة موجزة أشد إيجاز لما قرأت لأمرسن في ذلك المقال؛ ولكن ما لي ولنقاد الأدب في هذا، وها هم أولاء علماء النفس يجمعون على أن الخيال المبتكر ليس لمبتكره فيه إلا فضل التأليف بين عناصر موجودة فعلا. إن قوة الخيال هي أن تجمع أشتاتا متفرقات مما حولك، فتنفخ فيها من روحك فإذا هي خلق جديد! إن قوة الخيال هي أن تربط العلاقة بين شيئين أو مجموعة من الأشياء لم يسبقك إلى ربطها على هذا النحو إنسان؛ فقد كان «بنيامين فرانكلن» ذا خيال بديع حين أدرك الرابطة بين البرق والكهرباء، ولم يكن - بالطبع - خالقا للبرق ولا للكهرباء؛ وكان «جيمس وات» ذا خيال مبتكر حين كشف عن الصلة بين البخار في وعاء الشاي وبينه إذا وضع في قاطرة تنساب على قضبانها فتربط أطراف العالمين؛ وكان شكسبير ذا خيال مبدع حين تناول قبضة من أشتات التجارب التي يشهدها مضطربة في الدنيا من حوله، ويشهدها معه الناس جميعا، فربط بين أجزائها، فإذا هي ملوك تحكم وقواد تغزو وخدم تطيع؛ ثم اهبط من سماء العلم والأدب إلى عالم الأعمال من حولك، فهذا تاجر عرف كيف يكسب المال ألوفا، وذلك زارع عرف كيف يستدر الأرض ذهبا نضارا؛ فبم امتاز الزارع والتاجر حين تقلبا في أعطاف النعيم، والناس من حولهم ينظرون نظرة ملؤها الحسرات لهذه الدنيا تفلت من أيديهم جرداء جدباء؟ قد امتازا بقوة الخيال الذي يربط بين شتي الحقائق التي يدركها كل إنسان!
نعم إن الدنيا لا تفسح صدرها إلا لذوي الخيال الخلاق، ولكن حذار يا صاحبي أن تظن بهذه القوة أنها ضرب من إدارة القدر أو سر من أسرار الروح يعز عنك بلوغه، إنك إن ظننت هذا فقد ظلمت نفسك، وكتبت لها الحرمان، إن عناصر الخيال تحت يدك وطوع أمرك، فمرها إن شئت تكن لك خلقا جديدا! ولست أعني بتلك العناصر إلا تجاربك التي أخذت في تحصيلها مذ كنت إنسانا واعيا؛ فحرك هذه التجارب في نفسك، وحاول أن تربط بين أجزائها ربطا جديدا، فتصبها في قالب جديد؛ اتخذ من تجاربك ما يتخذ النحات من قطعة الرخام، والكاتب من الألفاظ، والطاهي من مواد الطعام، والبناء من عناصر البناء. إنك إن فعلت فأنت ذو خيال مبدع مبتكر.
كأني بقارئي لا يزال يائسا من نفسه، ظانا بها العقم فلا تلد، والجمود فلا تخلق! فإن كنت كذلك فاحمل قلمك الآن قبل أن تمضي في القراءة وابسط أمامك قطعة من ورق، أو - إن أردت - فاستخدم هامش هذه الصحيفة، وارسم حيوانا لم تقع على مثله عيناك ولم تسمع بوصفه أذناك؛ امض فيما أشير عليك به الآن، وأنا زعيم لك بقدرة خيالك على تصوير هذا الخلق الجديد، ولا يوئسنك أن يخرج رسمك قبيحا خاليا من الفن، لأنه خلق جديد على كل حال، ينهض أمام عينيك برهانا على أن لديك ما زعمته لك من قوة الخيال؛ ولعلك إن رعيتها بالغ بها أمدا بعيدا؛ قد تنظر إلى رسمك فتقول: ولكني لم أخلق شيئا فهذا الجناح رأيته في الطائر، وذلك السنام شهدته على جمل، وذلك الخرطوم وجدته في الفيل، وهذا الذنب عرفته في قطتي، ولم يكن لي من الخلق سوى أن جمعت الجناح إلى السنام إلى الخرطوم إلى الذنب؛ قد تقول هذا، ولكن ما ظنك يا صاحبي إن أنبأتك أن «شكسبير» أو «فيكتور هيجو» أو «المتنبي» لم يكن له في إنتاجه سوى أن ألف بين جناح وسنام؟ تلك هي قوة الخيال؛ فلا عيب في أن تجمع بين أجزاء عرفتها، وإنما العيب أن تترك الأجزاء منثورة فلا تصل بينها برباط.
فاحفظ إذن هذا الدرس الأول في قوة الخيال، وهو أن في مقدورك أن تصوغ تجاربك التي حصلتها أثناء الحياة بحيث تبدع منها خيالا هو في مجموعه جديد لم يسبقك إليه إنسان؛ وعلى قدر ما حصلت من التجارب، وعلى قدر جهدك في استغلال هذا المحصول تكون منزلتك بين أصحاب الخيال؛ فلئن شاقك أن تكون بين قومك شكسبير زمانهم، فاجمع ما ظفر به من تجربة، ثم حرك أجزاءه في نفسك حركة عنيفة حتى تتبعثر وتنتثر، ثم ألف بين جوهرة من هنا وجوهرة من هنالك، يكن لك من خيالك عقد فريد مبتكر! نعم إن بعض الأذهان مغلق لا خيال له، ولكنك لست واحدا من هؤلاء، فحسبك دليلا على قدرتك العقلية أنك احتملت قراءة هذا القدر من هذا المقال؛ وما دمت ذا خيال مبدع فهات دلوك أدل به في الدلاء، لعله يخرج إليك بكثير أو قليل من الماء، فها هو ذا العالم مليء بمشكلاته التي تتطلب كل ضرب من ضروب الخيال لحلها، فانظر كم في مصر من مشكلات الاقتصاد والاجتماع! إن العناصر المطلوبة لعلاجها موجودة كلها، كن من ذلك على يقين؛ عناصر العلاج موزعة بين الناس جميعا، ولكن ما أقل من يستخدم معرفته من الناس! ما أقل من يعمل خياله، فيجمع بين منثور الحقائق، ليصل إلى حكم جديد مفيد! فهل يستحيل أن تكون أيها القارئ واحدا من هؤلاء القليل؟ كلا، فانسج لنا مما عرفت ديباجة فكرية جديدة لعلها تقوم معوجا أو تصلح سقيما؛ ولا تخش أن يقول قائل عنها إنها ديباجة يمكن للنقد أن يرد لحمتها وسداها إلى أربابها.
ولكن حذار أن تكون في خيالك حالما، فحدد خيالك بالحقائق الواقعة، وإلا طار مجهودك أدراج الرياح؛ فاحلم في خيالك ما شئت، على أن تكون هذه الأحلام ممكنة الوقوع، فليس من الحكمة أن تطير بخيالك في الهواء، وعلى هذه الأرض ما يحتاج ألف خيال.
كم قرأت من القصص؟ وكم شهدت وسمعت من ألوان الوسائل التي تدر ربحا هنا وشهرة هناك؟ ألم يتردد في نفسك شيء من الندم حين قرأت القصة الجميلة أن لم تكن كاتبها؟ ألم تحس ظلا خفيا من الحسرة حين رأيت فلانا يكسب المال بفكرة ابتكرها، وفلانا يظفر بالصيت البعيد لرأي خلقه وابتدعه؟ فقد أردت اليوم أن أدلك على أن تلك الفكرة وهذا الرأي وما إليهما، ضروب من الخيال، نسجه أصحابه من عناصر تحت الأبصار والأسماع؛ وفي وسعك وفي وسعي أن ننسج منها على منوال جديد مبتكر، لو أخذنا أنفسنا منذ الآن بالتدريب والمران؛ وأؤكد لك يا صاحبي أنك واجد في إعمال الخيال لخلق جديد متعة قل أن صادفت لها ضريبا في ألوان المتاع، مهما يكن هذا الوليد الذي تخلقه بخيالك؛ قصة، أو قصيدة، أو تمثالا، أو زخرفا، أو فكرة جديدة في الصناعة إن كنت صانعا، وفي التجارة إن كنت تاجرا؛ إن كنت من رفقاء المحابر والأقلام، فحاول الكتابة تكن كاتبا بعد فشل قليل أو كثير، ما دمت قد مرنت على تصنيف أجزاء تجاربك - بما لك من قوة الخيال - في ثوب جديد؛ وإن كنت من أرباب العمل فقلب النظر في زحمة الناس، في القطار والحديقة والطريق، وسائل نفسك مرتكزا على تجاربك: ماذا يريد هؤلاء الناس فلا يجدونه؟ فقد تستعين بخيالك على ربط حقيقتين أو طائفة من الحقائق، فيهبط عليك الثراء من حيث لا تحتسب.
خذها كلمة ناصح: تناول قوة الخيال عندك بالتهذيب والتدريب، يتسع أمامك في هذا العالم الضيق آفاق بعد آفاق.
لماذا لا نخلق (1)
لست أعرف للحياة معنى إلا أنها قدرة الكائن الحي على الخلق والإبداع؛ هذه الشجرة كائن حي، لأنها تخلق من التراب غصونا وأوراقا وزهورا وثمارا؛ وهذا الطائر كائن حي، لأنه يخلق مما يشبه العدم بيضا تخرج منه الأفراخ؛ والإنسان حي بقدر ما هو مبدع خلاق، والأمة تسري فيها الحياة بمقدار ما هي قادرة على الخلق والإبداع.
قال صاحبي: هذا كلام مكرور معاد؛ ماذا يجدي أن تقول القول فلا تأتينا في القول بجديد؟
قلت: معذرة يا صاحبي، فلكم لقيت من الناس من يضطرك اضطرارا أن تقسم له أغلظ الأيمان أن الحشائش خضر وأن السماء زرقاء! لكم لقيت من الناس في هذا البلد الأمين من يحزنه أن يقال عن الإنسان إنه خالق مبتكر قوي غلاب، بقدر ما يفرحه أن يقال له عنه إنه ضعيف عاجز مسكين! إن من الناس من أصابهم الله في أنفسهم بالعقم والجمود، ونظروا إلى الدنيا من حولهم بمناظير نفوسهم، فلم يروا فيها إلا ضعفا وعجزا وعقما وجمودا؛ قل لهم: إن الإنسان مستطيع ذات يوم أن يغزو الكون بعلمه، وأن يستخرج أسرار الطبيعة من بطونها ليسخرها تسخيرا، يعبسوا لك ويقطبوا الجبين؛ وقل لهم: إن هذا الإنسان مخلوق ضعيف متهافت هزيل، يصفقوا لك إعجابا وتعظيما! إنهم يرحبون بما يحد من قدرة الإنسان، وتتهلل بالبشر أساريرهم إن قيل إن سلطان القدر فوق كل سلطان؛ إن سادت طبقة من الناس على طبقة فهذا حكم القدر، وإن هبطت أثمان السلع في السوق فهذا حكم القدر، أو ارتفعت الأثمان فهذا حكم القدر، وإن تفشى البؤس والمرض والفقر والجوع فهذا أيضا حكم القدر؛ وسأنسى كثيرا جدا مما قرأت، ولكن مهما أنسيت فلن أنسى أبد الدهر مقالا قرأته لأديب فاضل جليل فنزل على نفسي نزول الصواعق، وكان قد زاد من حسرتي أنه مقال جميل! قرأت مقالا ينهى فيه الأديب الجليل الفاضل ابنه أن يحزن لمنظر بائس جائع يجمع الفتات من ثنايا القمامة والروث والطين، قائلا لابنه: يا بني لا يجمل بك أن تحزن فهذا حكم القدر، وإن في حكم القدر لحكمة تخفى عن الأبصار! ثم قرأت للأديب الفاضل نفسه مقالا يعرض فيه على قرائه بعض ما وصل إليه العلماء في الغرب، فأشاع في كلامه تهكما على العلماء ومجهودهم، لأنهم في رأيه يخبطون رءوسهم في جدر صماء! إننا لا ننقد العلماء لأننا نعرف أين يخطئون وكيف يصلحون، لكننا ننقدهم لأنهم يخلقون ونحن لا نحب الخالقين! ننقدهم لأنهم قادرون ونحن لا نحب القادرين، ننقدهم لأنهم لم يستسلموا للعجز ونحن إنما نحب العاجزين!
نحن لا نخلق جديدا، ولا نريد أن نخلق جديدا، بل يسيء إلينا أن نسمع عن إنسان أو عن أمة أنها تحاول أن تخلق جديدا؛ لكن الحياة معناها القدرة على خلق الجديد، والإنسان حي بمقدار ما هو مبدع خلاق، والأمة تسري فيها الحياة بمقدار ما هي قادرة على الخلق والإبداع؛ ألا يأخذك يا صاحبي الهم والغم والحزن أن تتلفت فلا ترى إلا جدبا ونضوبا وعقما وجمودا؟ إننا لا نكاد نخلق شيئا واحدا جديدا في العلم أو الأدب أو الفلسفة أو الفن نتقدم به بين يدي الله يوم الحساب، فنقيم الدليل على أن الحياة التي هيأت لنا أسبابها لم تذهب أباديد.
لا نكاد نخلق شيئا واحدا جديدا في العلم، وأعيذك يا صاحبي أن تخدع فتمزج بين العلماء وطلبة العلم؛ فالفرق بعيد بعد ما بين الأرض والسماء، بين عالم ينتج الرأي الجديد وبين رجل يحفظ ويفهم ما أنتجه العالم من رأي جديد؛ علماؤنا تلاميذ كبار، والفرق بينهم وبين التلاميذ الصغار هو أن هؤلاء الصغار لا يزالون يحفظون ما درسوه ، وأما أولئك الكبار فقد أنستهم مشاغل الزمن ما حفظوه؛ الفرق بعيد بعد ما بين السماء والأرض بين الرياضي وطالب الرياضة، وقد يكون طالب الرياضة طفلا قصير السراويل، وقد يكون رجلا له لحية وشارب، الفرق بعيد بين فيثاغورس حين أقام البرهان على نظريته في الهندسة وبين التلميذ - صغيرا كان أو كبيرا - يحفظ هذا البرهان؛ هذا التلميذ وفيثاغورس قد يتساويان في العلم بهذه النظرية وبرهانها، ومع ذلك ففيثاغورس رياضي لأنه خلق البرهان خلقا من العدم أو ما يشبه العدم، والتلميذ تلميذ لا أكثر ولا أقل لأنه لم يزد على أن حفظ وفهم؛ فإن زعم لك زاعم بعد اليوم أن بيننا العلماء والرياضيين، فاسأل: ماذا خلقوا من جديد في العلم أو الرياضة، ولا تسأل ماذا حفظوا، وإن كان للحفاظ عند الله أجر وثواب!
ونحن لا نكاد نخلق شيئا جديدا في الأدب، وإني أعيذك مرة أخرى أن يخدعك الترقيم الأسود على الصفحات البيض، أعيذك أن تخدع بما يقوله أدباؤنا عن أنفسهم وما يتقارضونه فيما بينهم من حمد وثناء؛ واجعل مقياسك شيئا واحدا إن أردت الهداية والسداد، وهو الخلق والإبداع؛ سل أدباءنا: كم «شخصية» خلقها الأدب المصري كله من أول الزمان إلى يومنا هذا، بحيث أضاف بخلقها إلى مخلوقات الله إنسانا جديدا يشيع ذكره بين الناس أضعاف ما يشيع ذكر سائر الناس؛ ولست أريد أن أزيد من يأسك أيها القارئ الكريم، وإلا لذكرت لك حقيقة مروعة ستهولك وتشيع الحسرة في نفسك، وهي أن من أدباء الغرب من خلق وحده ستين «شخصية» أو سبعين! أديبنا - مثل العالم عندنا والرياضي - تلميذ كبير، مقالته تختلف عن موضوع الإنشاء يكتبه التلميذ الصغير في الكم لا في الكيف، تختلف في الدرجة لا في النوع، فالأديب محصوله من الأفكار أعظم من محصول التلميذ الصغير، وثروته من الألفاظ أغزر، فإذا قيل للتلميذ الصغير - مثلا - اكتب موضوعا في «وجوب العناية بالأطفال»، ثم قيل للأديب الكبير اكتب مقالا في هذا الموضوع، جاءنا الأول في موضوعه الإنشائي بفكرة واحدة وجاءنا الثاني في مقالته بعشرة أفكار أو عشرين، وربما أخطأ التلميذ الصغير في النحو واستعمال الكلمات عشر مرات، وأخطأ الأديب الكبير مرة واحدة؛ فالفرق - كما ترى - بين التلميذ والأديب فرق عددي لا فرق في نوع المكتوب؛ أما أن يكتب أديبنا شيئا من نوع آخر فليس ذلك في مقدوره، لسبب بسيط، وهو أنه عاجز عن الخلق، وليس في استطاعته أن يبدع وأن يبتكر؛ ستقول: وماذا تريد من الأديب أن يصنع سوى أن يكتب أفكارا كثيرة في لغة جميلة لكي يجيء ما كتبه مقالة أدبية ممتازة؟ وليس لي جواب عن سؤالك إلا أن أشير عليك بقراءة المقالة الأدبية عند أبطالها «مونتيني» و«أدسن» و«لام» وغيرهم لتعلم في يقين أن الأدب المصري كله لا يكاد يحتوي على مقالة أدبية واحدة من الطراز الممتاز؛ ولست أريد أن أزيد من يأسك، وإلا لذكرت لك حقيقة مروعة ستهولك وتشيع الحسرة في نفسك، وهي أن الأديب المصري لا يكاد يعرف إلا المقالة وسيلة للتعبير، على حين أن المقالة في الآداب الغربية لا تكاد تكفي وحدها أن تنشئ أديبا.
لقد حدث مرة أني كنت أمثل بلادنا في مؤتمر ثقافي جمع عشرات من ممثلي الدول الأخرى، وأريد منا أن يكتب كل قائمة تحتوي على عشرة كتب أدبية من إنتاج بلده مما يصح أن يترجم إلى سائر اللغات فيكون أدبا عالميا، لأنهم رأوا في ذلك وسيلة لتوثيق العرى بين الأمم، فانتبذت في المساء ركنا أفكر وأفكر ثم أفكر، لعلي مهتد إلى عشرة كتب أقدمها للعالم نموذجا لأدبنا، مما يصح أن يكون أدبا عالميا، فلم أجد، وإني أتحدى قارئا يزعم عني الخطأ والضلال أن يذكرني بما قد نسيت من روائعنا الأدبية التي يجوز لنا أن نتقدم بها إلى العالم فخورين! ولست أريد أن أزيد من يأسك أيها القارئ الكريم، وإلا لذكرت لك حقيقة مروعة ستهولك وتشيع الحسرة في نفسك، وهي أن الرجل من إنجلترا أو فرنسا - مثلا - لو سئل هذا السؤال لأغمض عينيه، ووضع يده على كاتب واحد من أدباء بلده، في جيل واحد من الزمان ، وانتقى للناس عشرة كتب لهذا الكاتب الواحد في هذا الجيل الواحد!
إننا لا نكاد نخلق من الأدب شيئا جديدا، هذا ما أزعمه وما أعتقد أن قارئي سيجادل فيه أشد الجدل، لأنه سيجد حوله كتبا تطبع وخطبا تسمع، وسيجد في الصحف أنهارا بعد أنهار من النثر والنظم؛ ما هذا كله إن لم يكن أدبا؟ والحق أني أقدر كل التقدير شيئا كثيرا جدا من هذا كله وإن تمنيت على الله شيئا فهو أن يكثر لنا من أمثاله ليزيل عن أبصارنا غشاوة وعن بصائرنا حجابا؛ لكني مع هذا التقدير كله والإعجاب كله لا زلت أزعم - وفي القلب حسرة - أننا لا نكاد نخلق في الأدب شيئا جديدا؛ قد يكتب لك الأديب المصري، فإذا الذي يكتبه رأي في علم الاجتماع يبسطه، أو في علم النفس يشرحه، أو قطعة من التاريخ يرويها، أو مذهب في السياسة يريد له الذيوع والشيوع؛ قد يكتب لك الأديب المصري عن المتنبي ليقول لك إنه شاعر عظيم، أو يترجم لك عن شكسبير ليقول إنه شاعر أعظم؛ وهذا كله نافع جدا ومفيد جدا، ونتمنى على الله أن يزيد لنا منه، لكنه رغم نفعه وفائدته شيء والخلق الأدبي شيء آخر.
كلا، ولم نخلق شيئا واحدا جديدا في الفلسفة، وإني أعيذك مرة ثالثة أن تخدع بما يزعمه لك «تلاميذ» الفلسفة عن أنفسهم، فأقسم لك بالله غير حانث أنني ضحكت وقهقهت حتى استلقيت في مقعدي حين قرأت ذات يوم لأستاذ جليل تعلم الفلسفة ويعلمها، يقول في مجرى كلامه: «نحن الفلاسفة ...»! وقل مثل هذا في الفن وما شئت من نواحي الفكر.
أعود فأقول إن الإنسان حي بمقدار ما هو مبدع خلاق، والأمة تسري فيها الحياة بمقدار ما هي قادرة على الخلق والإبداع؛ ثم أعود فأزعم أننا لا نكاد نخلق شيئا واحدا جديدا في الأدب أو العلم أو الفلسفة أو الفن.
لماذا لا نخلق ولا نبتكر؟ هذا هو السؤال.
والجواب عندي هو أننا لا نخلق ولا نبتكر؛ لأن لنا أخلاق العبيد، والخلق لا يكون إلا بعد سيادة وعزة وطموح؛ وسأشرح لك هذا الرأي في المقال التالي.
لماذا لا نخلق (2)
زعمت لك في المقال السابق أننا لا نكاد نخلق شيئا واحدا جديدا في العلم أو الأدب أو الفلسفة أو الفن، وأعذتها نظرات منك صادقة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم، حين أعذتك بالله من خديعة الشيطان التي قد توهمك بشبه بين العالم وطالب العلم، بين الأديب وشارح الأفكار، بين الفيلسوف وقارئ الفلسفة، أو بين الفنان ومن يتحدث في الفن وينقده؛ وزعمت لك أن الفرق بعيد بعد ما بين السماء والأرض بين الرجل يخلق ما يقوله خلقا من العدم أو ما يشبه العدم، وبينه يفهم ما خلقه سواه ويعيه، بل يطبقه ويستخدمه أحسن استخدام وتطبيق؛ فربما رأيت طلابنا في المدارس يتعلمون الطبيعة والكيمياء، والرياضة والأدب، ورأيت الناس في شوارعنا وبيوتنا يستخدمون السيارة والمسرة والبرق والمذياع، ربما رأيت ذلك كله فصحت لنفسك في إعجاب: أما والله إن منا لعلماء ومعلمين ومتعلمين، أين الفرق - إذن - بيننا وبين بلاد الغرب التي سارت بذكرها الركبان؟ فأنا أعلم سرعة الوقوع في مثل هذا الخطأ؛ مثال ذلك أني كنت أتحدث إلى طبيب مصري قدير نابه على شاطئ البحر من مدينة «برايتن» في إنجلترا.
قال الطبيب الصديق: جئت إلى هذه البلاد «إنجلترا» يحدوني الأمل أني لا شك واجد عند أساطين الطب ما يستثير مني العجب والإعجاب، فإذا بالأساطين لا يكادون يسمعونني في الطب جديدا؛ أفنحن بعد ذلك مصدقون لما يذيعه المعجبون بهذه البلاد وأصحابها؟
فقلت له: لا تخلط يا صديقي بين الإبداع والتقليد، وحذار أن تمزج بين الابتكار والتكرار؛ فهؤلاء الناس هم الذين خلقوا لك الطب خلقا بعد بحث ودراسة وتمحيص، ثم دونوا علمهم في كتاب ثم أرسلوا لك الكتاب وأنت في القاهرة المعزية ناعم البال، فنشطت كما ينشط «الشطار» وحفظت الكتاب عن ظهر قلب من الغلاف إلى الغلاف، فإذا ما جئت اليوم ها هنا وسمعت صاحب الكتاب ومبدع ما فيه يتحدث إليك بما يرن في أذنيك رنين المعهود والمألوف، فلا يخدعنك ذلك عن الحقيقة الساطعة ، وهي أن من بحث ودرس ومحص ثم دون نتائج بحثه ودرسه وتمحيصه هو الطبيب العالم؛ أما أنت فتلميذ «شاطر» حفظ ووعى وطبق ما حفظ وما وعى.
فلو فرضنا أن جماعة من الجن تآمرت على ثمار المدنية كلها فمحتها محوا بين عشية وضحاها، واستيقظ الناس ذات يوم ليروا أن بلادهم قد خلت من سياراتها وطياراتها وعلومها وآدابها وتصاويرها وتماثيلها، بل لو فرضنا أن جماعة الجن المتآمرة قد أحكمت تدبير المؤامرة فعمدت إلى محو كل أثر لهذه الأشياء من أذهان عارفيها، لو فرضنا ذلك لتوقعنا لإنجلترا أو فرنسا - مثلا - أن تنتج السيارة والطيارة من جديد، وأن تخلق علومها وتنشئ آدابها من جديد، وأن ترسم تصاويرها وتنحت تماثيلها من جديد، لأن هذه الأشياء كلها كانت من خلقها وإبداعها، وليس أيسر على الخالق من أن يعيد خلقه سيرته الأولى؛ أما نحن الذين لم نخلق من هذا كله شيئا، فسيكتب علينا بعد مؤامرة الجن أن ننتظر في خلاء حتى يفرغ أولئك الخالقون من خلقهم وإنتاجهم، فننقل بعض ما خلقوا وما أنتجوا؛ ثم سرعان ما يأخذنا الغرور فنصيح لأنفسنا هاتفين: الآن قد استوى الماء والخشبة! لقد زال ما بيننا وبين الغرب من فروق! لكن الفرق بعيد بعد ما بين السماء والأرض، بين الابتكار والتكرار؛ هم في الغرب يخلقون، وقصارى جهدنا أن ننقل عنهم بعض ما خلقوا؛ فلماذا لا نخلق ولا نبتكر؟ هذا هو السؤال الذي ألقيته في ختام المقال السابق ورددت عليه في إيجاز بما أراه جوابا صوابا، وهو أننا لا نخلق ولا نبتكر لأن لنا أخلاق العبيد، والخلق إنما يحتاج إلى سيادة وعزة وطموح، وقد وعدتك أن أفصل القول في هذا الرأي بعض التفصيل.
والرأي عندي هو أننا عبيد في فلسفتنا الأخلاقية، وعبيد في فلسفتنا الاجتماعية، وعبيد في بطانتنا الثقافية.
فنحن عبيد في فلسفتنا الأخلاقية؛ لأن مقياس الفضيلة والرذيلة عندنا هو طاعة سلطة خارجة عن أنفسنا أو عصيانها، فأنت فاضل إن أطعت، فاسق إن عصيت، فلست أنت الذي يشرع لنفسه ما يأخذ وما يدع وما يعمل وما لا يعمل، ويستحيل أن تكون إنسانا حرا إلا إذا كان لك من نفسك مشرع يهديك سواء السبيل، بغض النظر عما تمليه السلطة الخارجة عن نفسك، وبغض النظر عن كل ما يترتب على عملك من ثواب أو عقاب؛ إذا أنت أحسنت إلى الفقير لأنك مأمور أن تحسن إلى الفقير، فأنت في إحسانك عبد يأتمر بأمر سيده، وقد يكون هذا السيد رأس القبيلة أو رئيس الحكومة أو قانون الدولة أو أباك أو كائنا من كان، لكن جوهر الأمر واحد في جميع الحالات؛ أما إذا أحسنت إلى الفقير صادرا في ذلك عما تمليه عليك نفسك من واجب يحتمه العقل الخالص ومنطقه، كنت في ذلك سيدا حرا يستهدي نفسه سواء السبيل.
قد يعمل زيد من الناس عملا فاضلا حين ينفذ بعمله هذا أمرا صدر له من سلطة خارجة عن نفسه، وعدته ثوابا إن عمله، وتوعدته عقابا إن تركه؛ وقد يعمل عمرو نفس العمل الفاضل الذي عمله زيد، لا لأنه مأمور بفعله، بل لأن منطق عقله يهديه من تلقاء نفسه إلى فعله؛ أقول قد يتشابه زيد وعمرو كل التشابه فيما يعملان في موقف معين، لكنهما يختلفان في الدافع إلى العمل، فيكون الدافع عند زيد هو تنفيذ الأمر الذي صدر إليه، بينما يكون الدافع عند عمرو هو الاهتداء بهدى نفسه، فيكون زيد في عمله عبدا، ويكون عمرو في عمله حرا، على الرغم من تشابه ما يعملان.
وأنا زعيم لك أننا نحمل في صدورنا أنفس العبيد، لأن فلسفتنا الأخلاقية كلها قائمة على تنفيذ ما نؤمر به.
ونحن كذلك عبيد في فلسفتنا الاجتماعية، سواء في ذلك الأسرة بصفة خاصة والمجتمع كله بصفة عامة؛ فالأسرة عندنا قائمة - من الوجهة النظرية على الأقل - على الاستبداد من صاحب الأمر والطاعة العمياء ممن يعتمدون في حياتهم عليه؛ فالزوج صاحب الكلمة النافذة على زوجته، وللوالدين كليهما سلطة التحكم في الأبناء؛ وكثيرا ما قلت ذلك لأصدقائي فأجابوني بإشارات التهكم من وجوههم وأيديهم: تعال فانظر، تر الزوجة مستبدة طاغية ، وتر الأبناء ذوي إرادة نافذة ودلال؛ لكن تهكم الأصدقاء لا يقنع، لأنني لا أزال أنظر إلى الناس من حولي فألاحظ أن الأسرة المثالية التي يفخر بها سيدها ويتمدح بها الناس، هي التي يكون للزوج فيها على زوجته كلمة لا ترد، ويكون للوالدين فيها حق الأمر الذي يجب على الأبناء أن يصدعوا به؛ ولا أزال أنظر إلى الناس من حولي فألاحظ أنه بمقدار ما يكون للزوجة من مساواة بزوجها، وللأبناء حق مناقشة الوالدين فيما يرغبون وما لا يرغبون، تكون الأسرة بعيدة عن الكمال في أعين الناس.
مثل هذه الأسرة شبيه بالدولة الاستبدادية على نطاق ضيق، فيها حاكم بأمره طاغية، وشعب يطيع ولا يناقش، فيها راع ورعيته بالمعنى الحرفي لهاتين الكلمتين، أعني أن فيها راعيا وقطيعا من الخراف؛ لو كان سيد الأسرة ممن يحبون الصمت في الدار وجب على العيال أن يصمتوا في حضرته، وفي ذلك تضحية واضحة لمصلحة العيال في سبيل مزاج العائل؛ ولو كانت الأسرة دولة حرة، لفكر الكبير في سبيل مصلحة الصغير بمقدار ما يتوقع من الصغير أن يفكر له في صالحه، الكبير من طبيعته الصمت والصغير من طبيعته الزياط؛ فبأي حق يكم أصحاب الجيل الحاضر أبناء الجيل المقبل؟ لكنها فلسفة اجتماعية ورثناها في نظام الأسرة وتمسكنا بها، وهي تنطوي - كما قدمت - على بث أخلاق العبيد في نفوس الناشئين.
ونحن عبيد في فلسفتنا الاجتماعية أيضا بالنسبة للمجتمع كله على وجه العموم؛ فالمجتمع عندنا قائم على أساس أن الناس درجات؛ وليس من اليسير على عقولنا أن تفهم ولا أن تسيغ أن الناس قد تختلف أعمالهم مع تساويهم في القيمة الإنسانية؛ فمن يحتل درجة أعلى له الحق - من الوجهة النظرية على الأقل - أن يستبد بمن هو في درجة أدنى، والعكس صحيح؛ أي أن من يحتل في المجتمع درجة أدنى عليه واجب أن يذل لمن هو أعلى منه؛ وإنه ليكفيك أن تلقي نظرة خاطفة على تتابع الدرجات بين موظفي الحكومة، وشدة اهتمام الموظفين بها اهتماما يكاد لا يبقي لهم من الوقت لحظة واحدة يأكلون فيها هنيئا ويشربون مريئا - ولا أقول لحظة واحدة يعملون فيها ما يؤجرون على عمله - يكفيك هذا لترى أساس المجتمع واضحا منعكسا في نظام الحكومة؛ والنظر إلى الناس على أنهم درجات منطو على عبودية وطغيان، عبودية لمن يقع فوقك، وطغيان بمن هو دونك في سلم البشر.
ونحن كذلك عبيد في بطانتنا الثقافية، نكره المتشكك ونمقته، ونحب المؤمن المصدق ونقدره؛ يسودنا ميل شديد إلى الإيمان بصدق ما قاله الأولون، كأنما هؤلاء الأولون ملائكة مقربون، وكأننا أنجاس مناكيد، ولو حللت هذا الموقف تحليلا صحيحا، ألفيته موقف العبد نحو سيده، فأنت تقرأ الكتاب - والكتاب القديم بوجه خاص - فلا ينشط فيك عقل الناقد الذي ينظر إلى الكاتب نظرة الند للند يناقشه الحساب فيما يقول، بل تقف مما تقرؤه موقف المستمع الذي حرم الله عليه أن يتشكك في صدق ما يقال؛ ومن هذا القبيل ميل الناس بصفة عامة إلى تصديق المطبوع، وميل التلاميذ إلى الإيمان بصدق ما يقوله المعلم؛ هذه وأمثالها عبودية فكرية، ويستحيل أن تكون إنسانا حرا بغير شيء من الفكر المستقل الناقد الحر.
فلئن زعمت لك أننا لا نكاد نخلق شيئا جديدا في العلم أو الأدب أو الفلسفة أو الفن، ثم زعمت لك أن علة ذلك العجز هو ما نحمله في صدورنا من أنفس العبيد، لأن الخلق لا يكون بغير عزة وطموح، فإنما أردت شيئا كهذا الذي سقته إليك مثلا يوضح ما أريد.
أخلاق العبيد
سأقول وأعيد، ثم أقول وأعيد، إننا نتخلق بأخلاق العبيد، مهما بدا علينا من علائم الحرية وسمات السيادة؛ سأقول ذلك وأعيده ألف ألف مرة، لعله يطن في الآذان فيرن صداه في الرءوس، فتقر آثاره في النفوس؛ ولو كان جزائي من ذلك كله أن أحول رجلا واحدا، أستغفر الله، بل لو كان جزائي من ذلك كله أن أحول نفسي من العبودية إلى الحرية، ومن الذل إلى العزة والسيادة، لعددت ذلك جزاء وافيا شافيا، ولاستقبلت منيتي بعدئذ مطمئنا راضيا.
لقد زعمت لك
1
أيها القارئ الكريم أننا عيال على العالم المنتج ، لا نكاد نخلق شيئا واحدا جديدا في الأدب أو العلم أو الفلسفة أو الفن، لا أقول اليوم، ولا أقول أمس، ولكني أقول إننا لم نكد نخلق جديدا من أول الزمان إلى يومنا هذا؛ لقد كنت أتحدث منذ أيام إلى إمام من أئمة الأدب في الشرق العربي، فقال: إن مصر في كذا ألفا من السنين لم تنجب أديبا عظيما. فرددت عليه في ابتسامة الخجل: بل إن مصر يا سيدي في كذا ألفا من السنين لم تنجب عظيما، لا في الأدب، ولا في غيره من شتى نواحي الفكر والحياة.
زعمت لك ذلك وعللته بما «نتحلى» به من أخلاق العبيد، لأن الخلق عندي لا يكون إلا بعد عزة وسيادة وطموح؛ فلاحظت لك أننا عبيد في فلسفتنا الأخلاقية، لأننا نصدر فيما نفعل عن طاعة لأمر سلطان خارج عن نفوسنا، ولاحظت لك أننا عبيد في فلسفتنا الاجتماعية، لأننا نقيم نظام الأسرة ونظام المجتمع على أساس من سيد ومسود، ثم لاحظت لك أننا عبيد في بطانتنا الثقافية، لأننا ننصاع في يسر يشبه الانزلاق نحو الإيمان والإعجاب بما قاله الأولون.
ولو كنا عبيدا ناقمين ساخطين على ما نحن فيه، جاهدين ساعين نحو إعزاز النفس وتحريرها، لهان الخطب وخف البلاء، لأن أول مدارج الإصلاح نقمة وسخط على الحاضر، ورغبة في التغيير وسعي نحو تحقيقه؛ لكن الخطب - فيما أرى - فادح، والبلاء جسيم، لأننا نجد من العبودية مرتعا خصيبا نسرح فيه ونمرح، مغتبطين أشد الغبطة، راضين أكمل الرضا؛ وقد عبرت عن ذلك في مقال «الكبش الجريح»، إذ عجبت لهذا «الخروف» - وقد وثب عليه الذئب فمزق منه وانتهش - عجبت له كيف استمرأ ضرب المخالب، واستلذ وقع الأنياب؛ دماؤه تسيل وعلى شفتيه ابتسامة، ويلغ الذئب فيه ويلعق وفي عينيه نظرة استسلام ورضا!
لكن لما زعمت أننا عبيد، عجب فريق مما زعمت، وأخذ كل يتلفت حوله لعله يرى في جاره مصداق ما أقول؛ وا عجبا! كيف نكون عبيدا وليس في أرجلنا أصفاد ولا في أيدينا أغلال؟ بل كيف نكون عبيدا وقد حفظنا في المدارس أن أمهاتنا قد ولدتنا أحرارا، ولا يجوز لأحد أن يستعبد أحدا؟ كلا! أنت أنت العبد لا تتلفت، والأغلال والأصفاد في طوية فؤادك ودخيلة نفسك، ولو كانت في يديك أو قدميك، لكان الخطب أيسر، لأن تحطيمها عندئذ يهون؛ أنت أنت العبد لا تتلفت، فلست تستطيب لنفسك عيشا بغير سيد، إن لم تجده في الأرض التمسته في السماء.
لقد رأيت بعيني رأسي - إذ كنت في لندن - وزيرا في الوزارة الإنجليزية الحاضرة (مستر نويل بيكر) كان يمثل حكومته في جمعية الأمم المتحدة، رأيته بعيني رأسي ذات يوم، حين آن أوان الشاي في العصر، ينزل إلى طابق البناء الأسفل ليقف في صف كان بين أفراده صغار الكتبة والخدم! وقف هناك ينتظر دوره ليشتري فنجانا من الشاي وقطعة من الكعك؛ وما فكر هو، ولا فكر أحد ممن وقفوا أمامه أن تكون له أسبقية بحكم منصبه، فسألت نفسي: هل يمكن أن يحدث ذلك في مصر؟ وأجبت نفسي: إن حدوث ذلك في بلادنا مستحيل لسببين:
الأول:
وهو أخف السببين شرا وأقلهما وبالا، هو أن الوزير المصري لا يرضى لنفسه أن يكون في جمهرة من الناس تضم بين أفرادها عددا من صغار الكتبة والخدم، لأنه - كغيره من البشر - يريد لنفسه سطوة وسيادة، وهاتان شرطهما «الترفع» و«التعالي».
الثاني:
وهو المأساة الحقيقية التي تمزق النفوس كمدا، لو كان لنا نفوس يمزقها الكمد؛ الثاني هو أنه حتى لو فرضنا حدوث المستحيل، ففرضنا أن الله قد هيأ لنا الوزير الذي يجد في نفسه «رفعة» لا تحتاج إلى «ترفع» و«علوا» لا يعوزه «التعالي»، فلم يجد مضاضة في الوقوف في صف الكتبة والخدم ساعة العصر، ليأخذ في دوره فنجانه من الشاي؛ أقول إننا لو فرضنا حدوث هذا المستحيل، لأبى الناس أنفسهم على الوزير أن يكون مثلهم، وأن يقف معهم على قدم المساواة في شئون حياته الخاصة التي لا يكون فيها وزيرا؛ لو تنازل الوزير المصري ووقف في الصف مع الكتبة والخدم، لأبى عليه ذلك هؤلاء الكتبة والخدم، وتسابقوا إلى التنحي للوزير الخطير عن مكان الصدارة في الصف، بل لتسابقوا إلى دفع القرش أو القرشين نيابة عنه، بل لتسابقوا إلى حمل فنجانه إلى حيث يطيب للوزير الجلوس.
ولو حدث ذلك وقلت لأحد ممن وقفوا في الصف: هذه منك عبودية وذلة، لدهش من قولك وأخذه العجب ونظر إلى يديه وإلى رجليه، حتى إذا لم يجد بها أغلالا وأصفادا، صاح في وجهك محتجا غاضبا: وا عجبا! كيف أكون عبدا وليس في قدمي أصفاد ولا في يدي أغلال؟ وأعود فأستعير شيئا مما قلته في مقالة «الكبش الجريح»: «قل في ذلك ما شئت يا «خروف»؛ قل إنها وداعة الحملان، أو قل إنه التواضع، وإن للتواضع عند الله رفعة الشأن، أو قل إنه كرم النفس، وليس الكرم بغريب على بني القطعان؛ قل في ذلك ما شئت يا خروف؛ لكنه عندي علامة لا تخطئ على ما في نفسك من ذل العبيد، الذي يستمرئ ضرب المخالب، ويستلذ وقع الأنياب.»
وأحب أن أذكر لك على سبيل الموازنة بالوزير الإنجليزي الذي وقف في صف الكتبة والخدم، مصريا كبيرا - إذا قيس الكبر بدرجات الوظائف، كما تقاس حرارة الماء بالترمومتر - أعرفه حق المعرفة، ويعرفني حق المعرفة كذلك، لقيته بعد غيبتي أعواما، وشاءت الظروف أن نلتقي في ديوان حكومي، فأرادت له أوضاع المجتمع أن يسلم علي تسليم الذي لا يعرفني كثيرا أو قليلا، وأنا لا أتهمه هو، لأني موقن أنه طيب النفس كريم العنصر، إنما أتهم المجتمع بأسره الذي هو عضو فيه، لأن هذا المجتمع - فيما يظهر - هو الذي وسوس له ألا يسلم على الناس أمام الناس في شيء من الترحيب، خشية أن يظن الناس أنه أمسى وبات مساويا للناس! وعندئذ ابتسمت لنفسي؛ أعني أنني ابتسمت ابتسامة أحسها دون أن يراها الناس - وأنا كثير الابتسام لنفسي هذه الأيام - ابتسمت لنفسي لما أدركت أن المصري الكبير قد فوت الغرض على نفسه وهو لا يدري، وإليك البيان:
أراد المصري الكبير أن يكون كبيرا - مع أنه كبير - فاتخذ لغايته سبيلا يعرفها علم النفس ودارسوه، ألا وهي اصطناع القوة ليمتاز من سائر الناس، ولا شك أن من دواعي القوة أن يسلم عليك الناس فلا تأبه للناس! وهذا في ذاته من المصري الكبير جميل جد جميل؛ لأن هذا هو ما أراده الله لعباده، وليس في وسع مصري كبير أو صغير أن يعصي ما أراده الله لعباده؛ لكن الذي غاب عن المصري الكبير فلم يدركه، هو أن القوة المنشودة لها سبيلان: إحداهما حقيقية تؤدي إلى القوة بمعناها الصحيح، وأما الأخرى فسبيل زائفة تخدعه وتخدع أمثاله ممن لا يتعمقون الأمور إلى لبابها؛ وسبيلا القوة هما المقدرة والسيطرة، المقدرة هي السبيل التي لا زيف فيها ولا خداع، والسيطرة لذاتها هي السبيل المضللة الخادعة؛ وهي مضللة خادعة، لأنها تؤدي بسالكها إلى عكس ما أراد لنفسه، إذ تؤدي به إلى الضعف والعجز، وإنما أراد لنفسه قوة وسلطانا.
والعجيب في هاتين السبيلين، سبيلي القدرة والسيطرة أنهما نقيضان لا يجتمعان، فإن كنت قويا بسبب قدرتك فيستحيل أن تلجأ إلى بسط سيطرتك على الآخرين، وإن كنت راغبا في بسط سيطرتك، فيستحيل أن تكون قادرا ماهرا، وقد يبدو هذا الكلام عجيبا، لكنه فيما أعتقد كلام صواب؛ فهل تتصور - مثلا - عالما متبحرا في علمه متملكا نواصيه، يعمل في معمله بغية الوصول إلى نتائج في العلم جديدة، هل تتصور مثل هذا العالم راغبا في بسط نفوذه على الناس؟ لا أظن ذلك؛ لأنه ليس بحاجة إلى مثل ذلك، فهو يتجه بأمله ومجهوده نحو الطبيعة يريد أن يملك زمامها، لا نحو عباد الله يبتغي إذلال رقابهم؛ هو لا يريد بغيا ولا طغيانا، لأنه قادر ماهر، مكتف بنفسه، والعكس صحيح؛ أي أن الإنسان إذا ما شعر بخواء نفسه وعجزها وهي وحدها، التمس القوة عن طريق الآخرين، فبطش وتعسف.
الطاغية في صميم طبيعته عبد يذل للقوة حيث يراها، كما أنه يبطش بالضعف أينما رآه؛ الضعف عند الإنسان القوي القادر يستثير العطف والإشفاق، أما الضعف عند الذي صاغه الله طاغية بطبعه فيغري بالاعتداء، وكلما ازدادت الفريسة ضعفا، ازداد الطاغية بطشا وعسفا وطغيانا؛ والعبودية والطغيان وجهان لشيء واحد.
والرأي عندي هو أننا عبيد لأننا طغاة، وطغاة لأننا عبيد؛ وأما الإنسان الحر القادر المكتفي بنفسه في عزة وكبرياء، فلا هو يطغى بالضعيف، ولا هو يعنو بوجهه ذلا لطاغية.
Page inconnue