ولكن عددا كبيرا من المسلمين فى قرون مضت حسب الذكر آثر عند الله، وأدنى إلى إرضاءه من أى عمل آخر، أو ربما حسب أن درجة الإحسان لا تنال إلا بطول الذكر، سواء فى الصوامع المعزولة، أو المجالس الحافلة، فكان الاستكثار من الأوراد، وأنواع التلاوات، وانتشرت السبح فى الأيدى تعد الأصابع على حباتها ما يمكن عده من أسماء الله الحسنى!! نحن نستعيذ بالله من تهوين عبادة كريمة، وندعوه جل شأنه كما علمنا على لسان نبيه فنقول: اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. ونحب أن ننبه المعجبين بمسالك القوم وقد مضت أيامهم أن مقام الإحسان ينال بمسلك أرشد من ذلك وأدنى إلى الصراط المستقيم. إن ابن عطاء الله السكندرى وهو من أكابر الصوفية الأولين يغرى بالذكر، ويطمع رجاله فى مقام الإحسان فيقول : " لا تترك الذكر لعدم حضور قلبك مع الله فيه، فإن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك فى وجود ذكره. فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة. ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور. ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع رغبة سوى المذكور، " وما ذلك على الله بعزيز ". وهدف ابن عطاء الله واضح إن الإنسان قد يسأم تكرار ورد ما لانشغال ذهنه فى أثناء تلاوته. ويرى ابن عطاء الله أنه لا ينبغى للمرء أن يترك الذكر ولو كان قلبه مشغولا فإن 0 ص 3 إصراره على الذكر سوف يترقى به إلى أعلى المراتب. إنه قبيح بالإنسان أن ينسى ربه أو يسأم ذكره، وهو ملحوظ بعناية الله فى كل حين. وقد تطغى صور الوجود الأدنى على الفؤاد، فيكون ذكر المرء لله حركة لسان لا يصحبها جنان، وربما شعر بأن هذا الذكر الشفهى قليل الجدوى فيتركه، والأولى به أن يصر عليه، فإن هذا الإصرار حميد العقبى. ولو فرضنا أنه انتهى إليه فهو خير من السكوت، إنه انشغال عضو بطاعة الله، وهذه المشغلة على تفاهتها حاجز عن معصيته! فكيف لو ترقى به هذا الإدمان لذكر الله ففض مغاليق الغفلة عن قلبه وجعله يقظان المشاعر فهو يذكر الله بلسانه وبقلبه جميعا؟ وابن عطاء الله يبغى تحصين المسلم ضد حالة الارتكاس لا تليق به فقد يزدرى اللسان لأنه وسيلة فاشلة.. فى تحريك القلب، فتكون النتيجة أن يهمد فمه وقلبه معا وتجرفه تيارات الحياة بعيدا بعيدا فقلما يخطر على باله ذكر ربه. والقمة التى يحدونا إليها هذا الصوفى الذكى هى حالة الاستغراق! وما حالة الاستغراق؟ إن أحوال الاستغراق فى شىء ما تزحم حياة الناس العادية. قد تنادى بأعلى صوت رجلا يسير قريبا منك فى الطريق فلا يلتفت إليك لأنه غارق فى فكر سيطر عليه، فهو ينطلق فى الطريق ضعيف الإحساس بما حوله... وقد جربت فى نفسى هذه الحالة اجلس إلى جوار المنبر فى الجامع الأزهر يوم الجمعة، ولما أعد بعد الخطبة التى حضرت الألوف لاستماعها. فأعبئ قواى الذهنية، وأحضر مشاعرى كلها لتحديد الموضوع، وجمع نصوصه وشواهده، وأتابع فى نفسى ربط العناصر، وتسلسل المعانى ، وضبط بعض الجمل الدقيقة حتى لا يند زمام التعبير فى نقطة حساسة. ثم أصحو من هذه السياحة العقلية وقارئ السورة فى المسجد يصرخ بالآيات فلا أدرى من أين بدأ؟ ولا أين وصل؟ وكأنى ما سمعت منه حرفا مع أن مكبرات الصوت تملأ به جو المكان! إن حالات 0 ص 4 الاستغراق هذه شىء معتاد فى حياة الناس. ومن أهل الصلاح من تصفو سرائرهم، وتزكو بواطنهم، وتتوطد مع الله علائقهم، ويمس حبه شغاف قلوبهم، وربما تضطرم مشاعر الذكرى فى أنفسهم إثر طائف يمر بها من الملأ الأعلى، كما تتقد الجذوة نفخت فيها الرياح، فتمر بهؤلاء لحظات ليست من حياة الناس، يذهلون فيها عن أنفسهم ويبقون مع ربهم فى استغراق يطول أو يقصر...!!! أى عجب فى هذا؟ إن الإيمان يربو أحيانا كما تربو أمواج البحر، ثم يعود رهوا، ساكن الصفحة، كأن لم يعره شىء... وهذه السويعات، فى حياة المؤمنين أمر معتاد! وأنا أكره تسميتها فناء، كما أستنكر تسميتها جذبا. وأحسب أن هذه الاطلاقات تنقصها الدقة والآدب. ولنا أن نسأل : هل هذه اللحظات هدف يسعى إليه؟ والجواب: لا... إنها أحوال تعرض وليست غايات تقصد. وذكر الله بالقلب، أو باللسان لا ينبغى أن يتوسل به لهذه اللحظات، وإنما ينبغى أن يتحول إلى الأعمال العظيمة التى رسمها الشارع، وناط بها كيان الفرد والمجتمع. إن جيشان عاطفة ما أمر قد يعترض حياة العاملين، ولكنه لا يتجاوز هذه الحدود. وقد كرهنا أن نسمى هذه الحالة فناء، لأن هذا التعبير كان مزلقة لانسلاخ البعض عن ذواتهم. ورأينا البعض يسميها وحدة الشهود لينفى بها خرافة وحدة الوجود! ومع ذلك فمان تعبير ابن عطاء الله على استقامته مهد الطريق لهذه المحظورات واسمع إلى ابن عجيبة يشرح عبارته التى ذكرناها آنفا. قال: " فإن دمت على ذكر الحضور رفعك إلى ذكر مع الغيبة عما سوى المذكور، لما يغمر قلبك من النور. وربما يعظم قرب نور المذكور فيغرق الذاكر فى النور، حتى يغيب عما سوى المذكور، وحتى يصير الذاكر مذكورا، والطالب مطلوبا والواصل موصولا، وما ذلك على الله بعزيز... ". 0 ص 5 ثم يقول: " إن الذاكرين الله بالقلوب هم فى حال ذكرهم لله بلسانهم أشد غفلة من التاركين لذكره " لماذا؟ لأن ذكره باللسان يقتضى وجود النفس وهو شرك؟ والشرك أقبح من الغفلة ". ونحن نرفض هذا الكلام جملة وتفصيلا، بل نرى ابن عطاء الله بريئا من قصده فإن الذاكر غير المذكور قطعا. وشعور المخلوق بأنه غير الخالق توحيد لا شرك. والواقع أن فى عبارات الصوفية من هذا القبيل تشويشا يجعلنا نستبعدها من ميدان التعليم والتربية مهما التمس لها من الشروح وقصد المجاز لا الحقيقة. إن الإحسان ورد فى الكتاب والسنة شىء آخر غير هذا الاستغراق الذاتى وغير التأمل العميق الذى قد يغيب المرء فيه عن نفسه أحيانا... والمسلم إذا أطاع الله ورسوله لم يحتبس داخل صومعة محدودة الأركان يفسح جنباتها بالخيال الجامع، هانما صومعة المسلم هذه الأرض ذات الطول والعرض، يملأ جنباتها بالعمل المتقن والواجبات المطلوبة. وليس الإحسان تجويد جزء من العبادات وإهمال أجزاء أخرى قد تكون أخطر وأجل، وإنما الإحسان أداء فروض العين وفروض الكفاية، وتناول شئون الدنيا وشئون الآخرة معا. هو إشراب الحياة الإنسانية حقائق الأمر الإلهى، وإضفاء صبغة السماء على أحوال الأرض. هو ترقية كل عمل بذكر الله فيه، لا الفرار من الأعمال بدعوى ذكر الله فى العراء. روى عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا سأل فقال: " أى المجاهدين أعظم أجرا؟ قال: أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرا. قال: فأى الصالحين أعظم أجرا؟ قال: أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرا ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة! كل ذلك ورسول الله يقول: أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرا. فقال أبو بكر لعمر: يا أبا حفص، ذهب الذاكرون بكل خير! فقال رسول الله : أجل ". 0 ص 6 هذا هو الذكر يقارن الأعمال، ويتحول الاستغراق فيه إلى خلوص قلب ومهارة يد، ونبالة غاية... الإحسان مراقبة ومشاهدة، والرقابة الإلهية لا تتناول عملا، وتدع آخر، بل تتناول الأعمال كلها. من اللقمة تضعها فى فم زوجتك كى تبنى البيوت على الحب، إلى الرصاصة تطلقها على عدوك فى ساحة الوغى كى يبنى العالم على العدل. من الثوب تلبسه لتكتسى به وتتزين فيه، إلى الكفن تختار على نحو معين لتلف فيه الجثة وتوارى تحت الثرى... الإحسان يشمل الأحوال والأعمال جميعا قال تعالى : (وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه)
الذكر عبادة اجتماعية:
Page 66