ولن يبلغ المرء درجة الإحسان حتى يستوعب هذه القواعد فقها وأداء وحتى يرقى من طور السلامة إلى طور الإجادة والتبريز للكلام قواعد نحوية وصرفية لا يقبل إلا مع توفرها فيه. والكلام يكون صحيحا عندما يتفق مع هذه القواعد، ولكن لا يوصف بأنه بيان حسن إلا إذا كان عليه من رواء البلاغة طابع جميل. للصلاة سنن وأركان ينبغى أن يستجمعها المصلى، فإذا تمت كانت صلاته 065 صحيحة، ولكنها لا تبلغ درجة الإحسان إلا إذا تألق فى حركاتها وسكناتها روح الخشوع، واطمئنان البصيرة إلى الله، وخلوص القلب فى حضرته. قيادة السيارات لها تعاليم وشروط، والقدرة على القيادة تشيع بين خلق كثير، ولكن البراعة التى تدفع صاحبها إلى الأمام فى ميادين السباق لا تتاح إلا لنفر قليل. إن الإحسان ليس علما عاديا ولا عملا عاديا، إنما هو الشأو البعيد، الذى تبلغ الأشياء فيه تمامها، وتزهى فيه بجودتها ونقاؤها. والمسلم مخاطب بنشدان هذه المنزلة فى كل ما يمس من عمل. العادات، والعبادات فى ذوقه وفقهه سواء، إذ العادات بمجرد اقترانها بنية الخير تتحول إلى عبادات. ولا يفرق بين الأمرين إلا أن لهذه صورا انفرد الشارع برسمها، أما تلك فهى متروكة لعلم الناس وتجربتهم على مر العصور. حدد الشارع أعداد الصلوات وهيئاتها، ولم يحدد طرق الزراعة وأنواع المزروعات، وجعل هذه فرض عين وتلك فرض كفاية. ولكن هذا الاختلاف فى الوصف والتحديد لا أثر له فى درجة الإحسان المفروضة على كل شىء. وغاية ما يستفاد منه أن الشارع فتح باب الابتداع والانطلاق فى شئون الدنيا وأتاح للبشر أن يتصرفوا فيه كيف شاءوا. أما شئون العبادات فهى مجمدة على صورها المأثورة لا مجال فيها لتحوير أو تطوير. وذاك خير. ومجموعة الأعمال التى يتحرك بها جهاز الأمة فى كل مجال، تختار لها المواهب الصالحة ويعد لها الأكفاء من كل بيئة، وذلك لضمان الإحسان المكتوب على كل شىء. ويرى الإمام الشاطبى أن ذلك يتطلب مرحلتين: التعليم العام، ثم الإعداد الخاص. قال : ".. وذلك أن الله عز وجل خلق الخلق غير عالمين بوجوه مصالحهم، 066 لا فى الدنيا ولا فى الآخرة! ألا ترى إلى قوله تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا). ثم وضع فيهم العلم بذلك على التدريج والتربية، تارة بالإلهام كما يلهم الطفل التقام الثدى ومصه، وتارة بالعلم، فطلب من الناس أن يتعلموا جميع ما تستجلب به المصالح، وكافة ما تدرأ به المفاسد، إنهاضا لما جبل فيهم من غرائز فطرية ومطالب إلهامية. لأن ذلك كالأصل للقيام بتفاصيل المصالح الكافلة لحياتهم سواء كانت من قبيل الأفعال، أو الأقوال، أو العلوم، أو الاعتقادات، أو الآداب الشرعية والعادية. وفى أثناء العناية بالأجيال الناشئة، وتنمية مواهبها الفطرية يقوى فى كل واحد من الخلق ما امتاز به، ويبرز فيه على أقرانه الذين لم تهيئهم الأقدار على غراره، فلا يأتى زمان التعقل حتى ينضج فيه ما اختص به من ملكات، فهذا يطلب العلوم، وهذا يعشق الآداب، وهذا يتجه لبعض المهن، وهذا يهوى الرياضة والفروسية، وهذا يحب الكفاح والجلاد، وهذا ينشد التقدم والرياسة... الخ. وإذا كان كل واحد قد غرزت فيه القدرة على التصرف العام، والفهم لقدر مشترك من شتى المعارف إلا أن العادة جرت بغلبة بعض الميول الأدبية والمادية عليه، فتكون التربية الصحيحة تتبع هذه الميول بالإنماء والرعاية، ثم توزيع الأعمال على المكلفين بما يوائم طبائعهم، وعندئذ ينهض كل مكلف بأداء ما هو راغب فيه محسن له ". وبعد أن شرح الشاطبى النظام الدراسى الذى يقترحه للطلاب وفق خصائصهم النفسية قال: " وهكذا يكون الترتيب مع من ظهرت عليه صفات الإقدام والشجاعة وتدبير الأمور فإنه يمال بهذا الصنف إلى ما يرغب، ويعلم آدابه المشتركة، ثم يختار له الأولى فالأولى من صنائع التدبير كالعرافة أو النقابة أو الجندية أو الهداية أو الإمامة أو غير ذلك مما يليق به، وما ظفرت له فيه نجابة ونهضة. وبذلك يتربى لكل عمل هو فرض كفاية قوم يؤدونه. وطريق المعرفة الطويل يبدأ بمرحلة مشتركة حيث يقف السائر، ويعجز عن المسير فقد وقف عند مرتبة من الثقافة تحتاج إليها الأمة فى الجملة، وإن كانت به قوة، ومضى فى السير حتى وصل إلى أقصى الغايات فإنه سيحرز من الكفاية ما يرشحه 06 ص
لأداء فروض كفائية أخرى رفيعة القدر فى شئون الدين والدنيا. قال الشاطبى ونلتزم هنا النص الحرفى : فأنت ترى أن الترقى فى طلب الكفاية ليس على ترتيب واحد، ولا هو على الكافة بإطلاق، أو على البعض بإطلاق، ولا هو مطلوب من حيث المقاصد دون الوسائل أو العكس، بل لا يصح أن ينظر فيه بنظر واحد... حتى يفصل بنحو من التفصيل، ويوزع فى أهل الإسلام فى مثل هذا التوزيع، وإلا لم ينضبط القول فيه بوجه من الوجوه، والله أعلم وأحكم. وقريب من كلام الشاطبى فى توزيع الأعمال على من يحسنونها وفق استعداداهم النفسى والعقلى ما قاله ابن القيم فى تغاير التكاليف والواجبات بالنسبة إلى ميول الأشخاص ومواهبهم. قال : " فالغنى الذى بلغ له مال كثير ونفسه لا تسمح ببذل شىء منه، فصدقته وإيثاره أفضل له من قيام الليل وصيام النهار نافلة. والشجاع الشديد الذى يهاب العدو سطوته: وقوفه فى الصف ساعة، وجهاده أعداء الله أفضل من الحج والصوم والصدقة والتطوع. والعالم الذى قد عرف السنة، والحلال والحرام، وطرق الخير والشر: مخالطته للناس وتعليمهم ونصحهم فى دينهم أفضل من اعتزاله وتفريغ وقته للصلاة وقراءة القرآن والتسبيح. وولى الأمر الذى قد نصبه الله للحكم بين عباده، جلوسه ساعة للنظر فى المظالم، وإنصاف المظلوم من الظالم، وإقامة الحدود، ونصر المحق، وقمع المبطل أفضل من عبادة سنين من غيره. ومن غلبت عليه شهوة النساء، فصومه له أنفع وأفضل من ذكر غيره وصدقته. وتأمل تولية النبى صلى الله عليه وسلم "لعمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد، وغيرهما من أمرائه وعماله، وترك تولية أبى ذر، بل قال له: إنى أراك ضعيفا، وإنى أحب لك ما أحب لنفسى، لا تؤمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم.
Page 57