عند صدق الإيمان وتمام الإسلام يجىء الإحسان نتيجة لازمة لهما قال تبارك وتعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) لقد علمت أن الإيمان حسن معرفة لله وثقة نامية فيه، وأن الإسلام استجابة مطلقة لتعاليمه، وتحر دقيق لرضاه، فإذا تجمعت هذه العناصر، وجرت فيها مشاعر اليقين، وأينعت فيها صوالح الأعمال، فإن المرء يكون لا محالة محسنا.. والحديث الذى بين أيدينا عرف الإحسان... أن تعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك. ورؤية وجه الله فى العمل هى الباعث على إجادته والحادى على إتقانه، وهى ليست تخيلا لقوة موهومة، بل هى شعور بالوجود القائم، وإدراك لحقه. فإذا لم يبلغ المرء هذه المرتبة من الحس فلن ينزل عن المرتبة الأخرى، وهى الشعور بإشراف الله ورقابته عليه وعلى كل شىء حوله. ونريد أن نقف عند هذه الكلمة " أن تعبد الله... ". إن العبادة تشمل نوعين من الأعمال: الأول: الفروض العينية التى لا يخلو منها مكلف. وهى فروض تنتظم الناس فردا فردا، ويعتبر كل أحد مسئولا برأسه عن أدائها. الآخر: الفروض التى يسأل المجتمع بجملته عنها، ويكلف بتوفيرها فى نطاقه العام، ويعد أفراده قاطبة مقصرين ملومين إذا خلا المجتمع منها، وهذا ما يسمى فى اصطلاح الفقهاء بالفروض الكفائية. والفروض العينية تتصل بالخصائص المادية والأدبية التى يتساوى البشر فى أصلها فما من إنسان على ظهر الأرض يمكن أن تسقط عنه الصلاة أو يمكن أن يباح له الزنى. إن هذه الفروض تستهدف تزكية كل نفس، فما تصلح أى نفس إلا بها ومن هنا كان وجوبها عينيا. أما الفروض الكفائية فهى تتصل ابتداء بالملكات والمواهب التى يتفاوت الأفراد 061 فيها، وتختلف ميولهم إليها اختلافا بينا، ومع ذلك فإن المجتمع يقوم على أداء كل فرد لما يحسن منها... لو أن الناس كلهم فلاحون فمن يتاجر؟ ولو كانوا جميعا صناعا فمن يزرع؟ إن إيجاب عمل بعينه على فرد بعينه شىء متعذر، وإنما تفرق الأعمال عليهم وفق رغباتهم ويرشحهم استعدادهم له. وهذا التوزيع يقوم المجتمع به تلقائيا، لضمان مصالحه كلها، فإذا وقع خلل فى ذلك كان مسئولا عن تلافيه. وربما سأل سائل. وما علاقة هذه الأعمال العادية بالدين؟ والجواب أنها من صميم العبادات، وأنها حفا فروض كفايات، وأن الهندسة، والطب والفلاحة، والصناعة، ومختلف الحرف وأسباب العمران من أركان الإسلام، وأنها تدخل دخولا محتوما فى دائرة الإحسان التى تناولها الحديث الشريف بهذه العبارة الموجزة: " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". وذلك لأن الإنسان وهو محور النشاط الدينى وموضع التكاليف السماوية لا تستقر له حياة، ولا يستقيم له وجود إلا إذا كفلت له معايشه وتعاونت ظروف البيئة على ضمانها. أى أنه يوجد ويستقر أولا ثم تلاحقه الواجبات بعد ذلك. وهذا الوجود منوط بالكدح سحابة النهار والاستعداد له بالراحة أثناء الليل قال تعالى: (هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا) وقال تعالى: (وجعلنا الليل لباسا * وجعلنا النهار معاشا) . إن تعاقب الليل والنهار مجال النشاط العمرانى الذى تقوم به الحياة الدنيا، وهو كذلك مجال النشاط الدينى الذي يعرف به الله، وتكفل به الحياة الأخرى قال تعالى: (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا). فلابد للإنسان من أن يعمل عملا ما، عملا ترشحه له ملكاته وخصائصه ويلزمه المجتمع الذى يعيش فيه بأن يقوم به. وفى شبكة الأعمال المنثورة على هذا وذاك، يسرى تيار الحياة العامة قويا، ويتوزع على الأفراد ما يصون معاشهم، ولن يستطيع أحدهم صلاة وصياما إلا إذا 062 تحقق هذا المعاش الحتم، ففروض العين لا توجد إلا بعد أن تتحقق فروض الكفاية!! وربما استطاعت أمة من الأمم أن تحيا على نحو بدائى ييسر الكفاف لبنيها ويجعل ما يقيم أودهم شيئا ضئيلا لا يتطلب إلا أدنى الجهد، وبذلك يكون كفاحهم العمرانى ضيق الدائرة، ينصرفون بعده إلى الفروض العينية من صلاة وصيام. وإذا كان ذلك عسير التصور فى حياة الجماعات فهو سهل التصوير فى حياة الأفراد.
الإحسان فريضة مكتوبة على كل شىء:
Page 52