وقد شرع الله جملة فرائض تعد مع شهادة التوحيد أركان الإسلام. والحكمة من إقامة هذه الأركان تدريب الناس على طاعة الله وإحسان الخضوع له والبعد عن الرذائل التى زجر عنها. ولهذه الأركان آثار نفسية واجتماعية بعيدة المدى لا مجال هنا لشرحها. وإنما الذى نسارع بتوضيحه أن من أداها ولم يستفد منها الخضوع الواجب لله فى كل شىء، فكأنه ما أدى شيئا، مهما استكثر من هذا الأداء. ما قيمة صلاة أو صيام لا يعلمان الإنسان نظافة الضمير والجوارح؟ عن ثوبان خادم رسول الله عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لأعلمن أقواما من أمتى يأتون يوم القيامة بأعمال أمثال جبال تهامة بيضاء، فيجعلها الله هباء منثورا!! قال ثوبان يا رسول الله، صفهم لنا حلهم لنا لا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: أما هم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها " . هؤلاء كما ترى يؤدون الأركان الظاهرة، غير أنهم لا يستفيدون منها الخشوع المطلوب، ولا تخلق فيهم الضمير الصاحى المراقب لله فى السر والعلن، ولا تكون فى نفوسهم روح الخضوع المطلق تجاه كل ما نهى الله عنه، وما أمر به. 055 لهذا لم تحسب لهم مع أنها تبلغ الجبال!. وما نحب أن نرسل كلاما يغض ظاهره من شأن العبادات المفروضة من صلاة وصيام، فإن هذه العبادات حركة حقيقية فى صقل الإنسان وترويضه على الخضوع لله فى سلوكه كله. ولكننا نلفت الأنظار إلى الفروق الطبيعية بين الحركات الحقيقية والحركات التمثيلية! إذا قلت: إنك بنيت دارا فى فضاء ما من الأرض، فلكى تكون صادقا يجب أن يرى الراءون هذه الدار رأى العين، وإذا قلت إنك غسلت هذا الثوب من أوساخه فيجب لتكون صادقا أن ينشر هذا الثوب على الملأ، فلا يبين به أثر قذر. وأركان الإسلام عمل حقيقى لبناء النفوس على الخير، وصياغتها على نحو مترفع يتنزه عن الدنايا ويبتعد عن الرذائل. وقول الله تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر). خبر حق. فإذا رأيت مصليا لا ينتهى عنها، فالسبب لا يعود إلى ريبة فى الخبر الإلهى، بل السبب أن الرجل يمثل حركات صلاة وليس مصليا حقيقيا. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " خبر حق. ومعناه أن الصيام يعفى على آثار الماضى السيئ، ويمسح أكداره عن مرآة القلب فتعود مجلوة نقية ثم يستأنف الصائم بعد خلاصه من أدران ماضيه حياة تكاد تلحقه بالملأ الأعلى... فإذا رأيت صائما معتكر النفس غائم الصفحة، فاعلم أنه ممثل فحسب يتشبه بالصوام فى ترك الأكل حينا، ليغرق فيه بعد. إن العبادات التى تكون أركان الإسلام، أو التى تصور جمهرة شرائعه رياضة جليلة الآثار فى تربية الأخلاق وتقويم الطباع. وهذا بعض ما ينشأ عنها. 056 أما الأساس الأول لشرعها فهو أداء حق الله، والقيام بوظيفة العبودية واعتراف البشر بأن الله الذى خلقهم ورزقهم يجب أن يعبد ويشكر. إن أغلب الناس فى هذا العصر المادى يحسبون الحياة لا تعدو الخمسين أو الستين سنة التى يقضونها على ظهر هذه الأرض يقضونها وهم فى عماية من أمرهم لا يدرون من أين جاءوا ولا إلى أين يصيرون، يقضونها وهم يصطرخون فى طلب القوت ورفع مستوى المعيشة، ظانين أن رسالة البشرية محبوسة داخل هذه الحدود وحسب. والذين يعرفون الله لا ينظرون إلى الحياة هذه النظرة الصغيرة. إنهم يرونها قنطرة لحياة أخرى عنده ويبنون سلوكهم فى هذه الحياة الأولى على تحرى رضاه، وإقامة هداه. وهم لذلك يعدون " العبادة " شيئا يقصد لذاته، ويوثقون صلتهم بالله لأن الله أول من ينبغى توثيق الصلة به، إجلالا لألوهيته، وإقرارا بفضله، وابتغاء لثوابه، واتقاء لعقابه... إن شهادة التوحيد وهى الركن الأول فى الإسلام إسهام من البشر فى إعلان تنزيه الله، هذا الإعلان الذى تتجاوب به مواد الكون علوا وسفلا (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) . واسم الله أحق اسم بالهتاف والتقديس والدعاء والتمجيد. فماذا زمت الشفاه دون النطق بهذه الشهادة الواجبة، وإذا صرف الناس عن الاعتراف بهذه العظمة السائدة، فأين يذهبون؟ وكيف يعيشون؟ (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون) . إننا نطلب من الناس أن يهتموا بهذه الوظيفة التى خلقوا لها، وظيفة عبادة الله واستشعار نعمائه والاستعداد للقائه، والفزع إلى طوله، ومد اليد إلى عطائه. ولن يبارك للعالم فى يومه وغده إلا إذا استقام على هذا المنهج.. والله جل وعز لن يمنع الناس فضله ما بقيت أكفهم ممدودة إليه، فإن أبو إلا النسيان فيسصرعهم القلق والعنت ولن يضروه شيئا، إنهم أحوج ما يكونون إليه وهو غنى عنهم أبدا. 05 ص عن أبى ذر رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه قال: يقول الله عز وجل: "يا بنى آدم كلكم مذنب إلا من عافيت فاستغفرونى أغفر لكم. وكلكم فقير إلا من أغنيت فاسألونى أعطكم. وكلكم ضال إلا من هديت فاسألونى الهدى أهدكم. ومن استغفرنى وهو يعلم أنى ذو قدرة على أن أغفر له غفرت له ولا أبالى. ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على قلب أشقى رجل واحد منكم ما نقص ذلك من سلطانى مثل جناح بعوضة. ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زادوا فى سلطانى مثل جناح بعوضة. ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم سألونى حتى تنتهى مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم ما سألونى ما نقص ذلك مما عندى كمغرز أبرة لو غمسها أحدكم فى البحر. وذلك أنى جواد واجد ماجد، عطائى كلام وعذابى كلام. إنما أمرى لشىء إذا أردته أن أقول له: كن فيكون " . وأركان الإسلام لم تشرع لشخص واحد يقيمها إذا شاء ويهملها إذا شاء. بل شرعت لأمة من الناس تحيا عليها، وتتواصى بنصرتها، وتستبطن الولاء لها، وتغرس فى أرجاء الجماعة شاراتها وشعائرها، ويتوارث الأخلاف ذلك كله عن الأسلاف. خذ مثلا الصلاة وهى فى لبابها مناجاة عبد لربه إن الإسلام لم يشرعها عملا فرديا، بل نظاما جماعيا تتراص الصفوف له وتشرف الدولة عليه!! نعم فالتعبير المختار فى الكتاب والسنة لأداء الصلاة هو إقامة الصلاة. ولم يقل: صلوا، أو إئتوا الصلاة، أو افعلوا الصلاة، بل أقيموا الصلاة! وفى تفسير قوله تعالى: (هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة) 058 قال العلماء: يؤدونها فى جماعة! لماذا؟ لقوله صلى الله عليه وسلم : "سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة ". والواقع أن التجمع للصلاة جزء من إقامتها، والإقامة الكاملة تكون بتنظيم الإقبال عليها، وإشعار البيئة كلها بالمبادرة إليها، والمحافظة على أوقاتها، واحترام ركوعها وسجودها وقراءاتها وتسابيحها واستحياء معانيها بعد انقضائها. (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) . إن الدين ينشد أن يكون الخضوع لله ظاهرة اجتماعية عامة لا مسلكا فرديا خاصا. وإقامة الصلاة من أبرز الأعمال لدعم هذه الغاية ودوام تحققها، وفى سبيل ذلك أعدت المساجد لاستقبال النساء والأولاد والرجال كى ينتظموا صفوفا وراء إمام يتلو القرآن ويكبر الرحمن. وقبل كل صلاة يشق صوت المؤذن حجاب الصمت السائد، أو يعلو صخب الحياة المعتادة مهيبا بالناس أن يدعوا ما يباشرون من أعمال ويستعدوا للمثول بين يدى الله. إن هذا الأذان العالى المتكرر المتصل مع اختلاف الليل والنهار، شعار أى شعار لكل مجتمع مسلم. وعند اندلاع فتنة الردة أيام الخليفة الأول، كانت الوصاة للمجاهدين أن يتسمعوا الأذان فى أوقات الصلاة، فإذا حملت إليهم الريح أصداء التكبير عرفوا أنهم بإزاء جماعة مؤمنة، وإذا استمر الصمت، ولم يرتفع النداء بذكر الله، عرفوا أنهم أمام قوم مرتدين، فاستعدوا للقتال... وإنى لأعجب أشد العجب لأقوام يضيقون اليوم بإذاعة أذان الفجر من مكبرات الصوت. لقد جاءنى وأنا مدير للمساجد من يعلنون تأذيهم لذلك، محتجين بإزعاج المرضى أو التعكير على الهاجعين، لا أغمض اللهم لهم جفنا. 059 وترددت شكايات هؤلاء على ألسنة صحافيين ما يعرف أحدهم الفرق بين طهارة وجنابة، وصدرت الأوامر ألا يذاع من مكبرات الصوت أذان الفجر كى تبقى القاهرة نائمة لا يعكر صفوها ذكر الله!! إن هذا بلا ريب أثر الجاهلية التى حملها الغرب إلينا، ولقن ألوفا مولفة من الناس تعاليمها... والإسلام شىء غير هذا، إنه يضفى على أرجاء أمته روح الخضوع لله ويجعل من رسالتها الإنسانية الكبرى إذا مكنت فى الأرض أن تشرب الجماهير عاطفة الحب للمسجد وإلف النداء المنبعث منه. (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور). أى إن من عمل الحكومة الإسلامية أن تحافظ على الأمن مثلا برجال الشرطة، وأن تحافظ على الإيمان بإقامة الصلاة، وأن ترفع المستوى الاقتصادى بشتى المشروعات والجهود، وأن ترفع المستوى الروحى مع ذلك، وقبله، وبعده، بمختلف وسائل الإعلام التى تملكها. ولا يحسبن غافل أن الإسلام يتوسل بالحكم لإكراه مخالفيه على الدخول فيه وإقامة شعائره، كلا، فليس فى ديننا إكراه. لقد قال العلماء: إن الزوج المسلم يرسل زوجته إلى الكنيسة يوم الأحد إذا كانت نصرانية، فلها دينها وله دينه!! إنما المراد أن تقوم الدولة فى الإسلام بواجبها فى رعاية حقوق الله، كما فصلها الكتاب والسنة بوصفها ممثلة لجمهور المسلمين، وحارسة على مثلهم الأعلى. إن شرائع الإسلام كثيرة، والأركان الخمسة المذكورة هنا هى بعض الإسلام لا كله. والمهم أن الإسلام خضوع تام لكل صغيرة وكبيرة جاء بها الوحى. ولن يتم إسلام المرء إلا إذا قال من أعماق قلبه بإزاء كل ما أوصى الله به (سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) . 060
Page 49