040 وربما ظن القارئ أن هذا الكلام خيال شاعر سخيف، أو تصور طفل غرير! لكننا نسارع إلى زيادة دهشته فنقول له... بل هذا الكلام يوصف بأنه تفكير علمى لدى بعض الناس!. هذا المنطق الصبيانى هو للأسف محاولة علمية لتفسير لغز الحياة! وحل مشكلة الوجود! وبيان أن العالم مادة وحسب، وأنه لا إله. هذا المنطق يرثد أن ينقل خصائص الألوهية إلى المادة نفسها جاعلا السنن الكونية المنتظمة لها علامة تفكير واختيار لدى الأحياء والجمادات على سواء. يقول الكاتب: " اسمعوا. هذه ليست نكته. إن الوردة فيها عقل. وشجرة البلوط لها عقل. وإن كان عقلا ثخينا مثل جذعها الثخين. إن حركة زهرة عباد الشمس وهى تلوى عنقها لتتجه نحو الشمس لا تختلف كثيرا عن حركة النحلة وهى تطير إلى الحقل لتجمع العسل. ولا عن حركة الإنسان الواعية العاقلة وهو يطير ليقتحم المخاطر مستهدفا رسالة سامية. إن الحركات الثلاثة منظومة متصلة الحلقات، الفارق بينها فارق فى الدرجة فقط إن حركة زهرة عباد الشمس فى بساطتها. عقل . فما هو العقل؟ إنه قدرة تصرف وتكيف بالبيئة. إنه فى كلمات قليلة بسيطة. القدرة على اتخاذ موقف انتقائى أكثر ملاءمة للحياة فى كل لحظة، والزهرة حينما تلوى أوراقها نحو الضوء تتخذ موقفا انتقائيا أكثر ملاءمة لحياتها. إنها تتحرك عاقلة. ومعنى هذا أن العقل ليس شيئا جديدا فى الإنسان. إنه فى الطبيعة الحية كلها. كل الفرق أن الإنسان لديه وسائل أكثر يتصرف بها ويحتال على بلوغ أهدافه، الإنسان بحكم كونه مخلوقا معقدا يملك يدين فيها عشرة أصابع. ويملك لسانا ناطقا. ويملك عينين مبصرتين. وأذنين حادتين. وبشرة حساسة. وأنفا شماما. وكل هذه الأجهزة فى خدمة عقله. 041 الإنسان حيوان إقطاعى عنده عشرة آلاف فدان من المواهب وعمارات من الأعصاب والحواس المرهفة. وهو لهذا ظلم نفسه وظلم غيره من المخلوقات حينما اعتبر نفسه الوحيد العاقل بينها. وهذه خرافة إقطاعية غير صحيحة. العقل باطن كامن فى كل الطبيعة الحية. ومنذ أن انبثت الحياة فى الأميبا الحقيرة ذات الخلية الواحدة. وحركة هذه الأميبا فيها كل الحذر والتلصص والخبث والنية التى فى الإنسان: لا جديد فى الإنسان. وإنما هناك تطور فقط ". أقرأت هذا الكلام العجيب ووعيت مراميه؟ إن أرضنا هذه لم يصنعها أحد خارج عنها، فإن كل ذرة فيها تؤدى رسالتها وفق عقلها الخاص ورأيها المستقيم!. فإذا خرجت بعرة من دبر بهيمة، فبرأيها خرجت، وبرغبتها وقعت حيث وقعت! وإذا تحركت جرثومة بمرض فبعقلها سادت وبمشيئتها أصابت من أصابت. وهذا الكلام ليس نكتة. بل هذا هو التفكير العلمى كما استقر فى أذهان بعض الغافلين، وهو الحل الموفق للغز الحياة، كما يتخيل نفر من الحاقدين على الله الكارهين لاسمه المحاولين إطفاء نوره. والجنون فنون. الله. هو الحق المبين. إن بعض الناس يتناول الحقائق العليا بعبارات ساخرة، فلا حرج علينا إذا دافعنا قضايا الإيمان بأسلوب يمزج بين الجد والتهكم. وليعذرنا القراء إذا رأونا نسوق الأمثلة والشواهد جامعة بين هذه الأطراف البعيدة. لو قيل لك إن إسكافا فى إحدى حارات القاهرة شارك بعلمه فى إرسال 042 صواريخ الفضاء! وبعث الأقمار المصنوعة! فماذا تقول؟. ستقول يقينا: هذه أضحوكة! لماذا؟ لأن إطارة هذه الأقمار توفر عليها نفر من العلماء العمالقة أتقنوا من الدراسات الكونية ما يعجز أمثالهم عن مناله. إن سبعين قنطارا تنطلق فى الفضاء وتعود وفق خطة مرسومة متحدية قوانين الجاذبية وعواصف المجهول عمل هائل، تراصت عقول كبيرة فى إتقان كل أنملة منه. وليس ثم مجال للقاصرين والجاهلين لتحمل وجودهم بله مشاركتهم، فما للأساكفة وهذا الأفق؟ ولو قيل لك: أنظر هذا القصر الوسيق الأركان السامق البنيان! إن أحد البغال التى تشد عربات النقل هو الذى شاده!! إنك بداهة ستثق من أن القائل قد جن. لماذا؟ لأنك تعلم أن أفكارا نيرة وأيديا قادرة هى التى خططت الشكل، ثم أقامت الأركان، وصاغت الأبواب والنوافذ، ونسجت شبكة الضوء والماء، ووزعت عليه، علوا وسفلا، أنواع الطلاء. وأنى للبغالى كلها هذه القدرة؟ ولكن العقل الإنسانى الذى يستسخف هذه الفروض، لا يزال يهوى عند بعض الناس حتى يحول هذه الفروض الغبية إلى حقائق محترمة. إطارة قمر صغير تحتاج إلى ذكاء لامع، وعلم واسع وتقدير دقيق، وبصر عميق. أما إطارة الألوف المؤلفة من الكواكب الضخمة الرحبة فلا تحتاج إلى شىء من هذه الصفات؟ إن اسكاف أفندى بغبائه هو الذى يطيرها ويديرها!! بناء بيت محدود يحتاج إلى هندسة وقدرة وفن وابداع، وهذه الصفات لابد أن تكون طبعا فى ذات لا فى فراغ. أما بناء الكون الكبير الطويل العريض، فلا يحتاج إلى شىء من هذه الصفات. إن بغل أفندى يستطيع ببهيمته أن يضع الرسم، ويبرز البناء. 043 إن الإيجاد والتدبير وظائف عالية، لا يمكن أن تتم إلا إذا تصورنا إرادة عليا، وقدرة عليا، وحكمة عليا وعلما أعلى. وابداعا أعلى. وهذه الصفات لا تتصور إلا فى ذات المريد القادر الحكيم العليم بديع السموات والأرض ذى الجلال والإكرام. هذه بداهة لا تحتاج إلى كد الذهن، وإجهاد الفكر، ومع ذلك فإن أحد الكتاب أخذ يتناول لغز الحياة، لماذا؟ ليحل هذا اللغز على أساس أن اسكافا طير القمر الصناعى، وأن بغلا بنى أهرام الجيزة. وأن شيئا باطنا فى تراب الأرض هو الذى أنبت سنابل القمح، ولف كل حبة فى غلالها، ونسقها صفوفا متراكبة، وأودع بها النشا والزلال والسكر... الخ. شىء باطن فى تراب الأرض لا عقل له، ولا إحساس، ولا مشيئة، ولا تدبير هو الذى صنع هذا. هكذا يريد منا أن نفهم وأن نصدق. إنها غرائز فى الطين ليس لها مصدر إلا الطين جعلت هذا الطين، ينبثق عن الحدائق الزاهرة والحقول العامرة.!! فما تلمح على صدور الأغصان من ثمار، وما تشم رائحته من أزهار، وما تقيم به حياتك من عناصر طيبة كمنت فى هذه الحبوب المحصودة والفواكه الجنية، هذا كله، من صنع "العلامة طين أفندى" قام من تلقاء نفسه، فلا ألوهية هنالك، ولا وجود أعلى. وطين أفندى هذا هو أخو إسكاف أفندى الذى شارك علماء الروس والأمريكان تطيير أقمارهم!! لا إله والحياة مادة، هكذا يريد أن يعلمنا الكاتب البائس الباحث عن حل للغز الحياة! اسمعه يقول: " ما الحياة؟ وما سرها؟ من الذى علم الكتكوت أن يكسر البيضة عند أضعف أجزائها ويخرج...؟ ". إنه طبعا اهتدى إلى ذلك بعقله الخاص! " من الذى علم الطيور الهجرة عبر البحار والصحارى إلى حيث تجد الغذاء الأوفر والجو الأحسن، وإلى حيث تتلاقى وتتوالد؟ ومن الذى يسدد خطاها طول هذه الرحلة من ألوف الأميال فلا تضل ولا تتوه؟ ". 044 إنها طبعا عرفت ذلك بعبقريتها الملهمة! " من الذى علم دودة القز أن تنسلخ من ثوبها مرة بعد أخرى، ثم تنزوى فى ركن لتبنى لنفسها شرنقة من حرير تنام فيها ليالى طويلة مثل أهل الكهف، ثم تخرج منها فراشة بيضاء جميلة. يقول الكاتب الألمعى: هذا الانتقال المنظم الدقيق من نمط فى الخلق إلى نمط آخر. هذا التطور من دودة إلى حشرة، الذى تتعاون فيه الألوف المؤلفة من الخلايا، يحدث تلقائيا بلا معلم؟ ". أى ليس هناك ملهم من الخارج تولى هذا الأمر وأشرف عليه، إذن كيف حدث؟ يقول : "إن المعلم هو الفطرة المرشدة المغروسة فى المادة الحية بطريقة لا يعرفها أحد... ". والطريقة التى لا يعرفها أحد هذه، هى الحل الموفق المحترم للغز الحياة..!! قل أى شىء فى قطع صلة الموجودات ببارئها الأعلى يكن الكلام علما تقدميا مسموعا. مهما كان الكلام سخيفا سمجا. النطفة تحولت إلى إنسان سوى العضلات، مكتمل الحواس، ذكى العقل، لا لأن موجدا أعلى تولى ذلك وأشرف عليه، بل لأن النطفة من تلقاء نفسها مشت فى هذا الطريق، وبلغت تمامها كما يتحول الشخص المفلس إلى غنى مكثر بجده واجتهاده..!! هذا هو منطق العلم، ولا بأس أن نتمشى مع هذا المنطق فى مراحل خلق الإنسان لنستقر على حقيقة واضحة فيه. يبدأ وجود الإنسان عقيب التقاء الحيوان المنوى بالبويضة السابحة فى رحم الأنثى والحيوان المنوى كائن عجيب فهو مع ضآلته المتناهية يحتوى على خصائص الرجل المادية والمعنوية، وعنه تكون وراثة المشابه فى طول القامة وقصرها مثلا، فى سواد الشعر أو شقرته، فى لون الجلد، فى حدة المزاج والذكاء أو فى ضد ذلك... الخ. ونسأل: من صنع هذا الكائن العجيب؟ أهو الرجل؟ أنا وأنت خلقنا هذا الحيوان وأودعنا فيه أسرار السلالة البشرية والمواهب الشخصية؟ لا بداهة، فما يذكر أحد منا أنه فعل شيئا من هذا! أم أن لقمة الخبز التى أفلتت من بين الأسنان أخذت تكافح فى سبيل الترقى 045 فتحولت من تلقاء نفسها إلى دم، ثم إلى منى؟ إنه شىء مضحك أن نتصور هذه اللقمة من الخبز قد رسمت لنفسها خطة كاملة لإيجاد بشر، أو للتحول إلى بشر يمشى على ظهر الأرض. إذن من الذى خلق هذا الحيوان وجعل فى كيانه الدقيق مشروع بناء إنسان؟ ليس إلا الله ! (أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) . إن هذا الخالق الكبير يحكم الأسباب ولا تحكمه الأسباب، وهو مستطيع أن يخلق البشر بوسائط أخرى غير ما يعرف فى النشأة الأولى للإنسان الآن. ولذلك يقول بعد الآيات السابقة: (نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشأكم فيما لا تعلمون) . ولنتابع النظر فى أطوار خلق الإنسان بعد النطفة المعلومة، إنه يتدرج فى أعماق الرحم آخذا طريقه إلى التمام. ترى من يشرف على تكوينه وتصويره، الأب أم الأم؟ إن دور الأب انتهى فماذا تصنع الأم فى تطوير هذا الجنين؟ من الذى يشق الأجفان ليضع العين المبصرة، ومن الذى يصنع الآذان، ويضع فيها حاسة السمع، ومن ومن؟؟؟.. الخ. إن الجنين فى بطن الأم تحت أمعاء مشحونة بالطعام والفضلات، ووسط أجهزة لا تعى إلا ما سخرت له من وظائف معينة فهل يراد منا أن نتصور الخالق للسمع والبصر والفؤاد هو الجهاز البولى أو الجهاز الدورى؟. إننا نتصور بغلا يبنى الأهرام، ولا نتصور هذا الذى يفترضه الملحدون حين ينكرون الألوهية فى هذا المجال الناطق باسمها الدال على عظمتها... إن الخلق يا أولى الألباب وظيفة لها مؤهلات، إن إيجاد شىء من عدم أو من غير عدم يقتضى أوصافا معينة لابد منها، إن تجميع آلات الراديو ووصلها بالتيار لتنطق عمل لا تطيقه دابة من الدواب، ففاقد الشىء لا يعطيه، إنما يستطيع هذا امرؤ له عقل وخبرة. 046 والذين يتصورون العالم المنسق الرتيب قد كونته مادة لا روح بها ولا وعى، قوم يريدون أن يشيعوا غفلتهم أو تغفيلهم بين الناس وهيهات..!! قال لى أحد هؤلاء: أتنكر نظرية التطور؟ فقلت له: لنفرض جدلا أن نظرية التطور أضحت حقيقة علمية ثابتة، وليست نظرية يمكن أن يعدل العلماء عنها إلى تفسير أصدق لأصل الأنواع فماذا تفيده تلك النظرية؟ هب الإنسان كان أولا " أميبا " ثم ارتقى حتى أصبح كما هو الآن، أفمعنى ذلك أنه لا إله؟ كلا إن الزعم بأن هذا التطور يتم من تلقاء نفسه لأن بالأشياء خصائص تجعلها تتدحرج من فوق إلى تحت أو تتدرج من تحت إلى فوق، هكذا من غير مؤثر خارجى، زعم فارغ من العلم والمنطق!! إنك تتصور فى تراب الحقول الذى تأنقت فوقه الأزهار والأثمار عبقرية مصورة خلاقة، وأنا لا أتصور فى تراب الحقول شيئا من هذا وأرجع وجود الأزهار والأثمار إلى كائن أعلى هو الجدير بأن يسمى الخالق المصور. إنك تستقبل الوليد حين ينفتح عنه الرحم، زاعما أن فى جسم الأم المصانع التى نسجت اللحم، وأنشأت العظم، وأوجدت المخ قابلا للذكاء والتفكير. وأنا لا أرى فى جسم الأم إلا مجالا لعمل المشرف الأعلى. الذى يقول: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) . إنك تنظر إلى القصر المشيد فتقول: بناه ما فى البلاط من خصائص. وما فى الأخشاب من طبائع! وأنا أقول: لا. بل مهندس معه أدوات التفكير والتنفيذ. إن ما تسمونه علما هو الجهل بعينه (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) . 04 ص
Page 36