Le Recueil des Explications des Versets du Coran
جامع البيان في تفسير القرآن
فعربت غير بإعراب «من»، فالعرب تفعل ذلك خاصة في «من» و«ما» تعرب صلاتهما بإعرابهما لأنهما يكونان معرفة أحيانا ونكرة أحيانا.
وأما الوجه الآخر، فأن يكون معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها، ثم حذف ذكر «بين» و«إلى»، إذ كان في نصب البعوضة ودخول الفاء في «ما» الثانية دلالة عليهما، كما قالت العرب: «مطرنا ما زبالة فالثعلبية»، و«له عشرون ما ناقة فجملا»، و«هي أحسن الناس ما قرنا فقدما»، يعنون: ما بين قرنها إلى قدمها، وكذلك يقولون في كل ما حسن فيه من الكلام دخول «ما بين كذا إلى كذا»، ينصبون الأول والثاني ليدل النصب فيهما على المحذوف من الكلام. فكذلك ذلك في قوله: ما بعوضة فما فوقها. وقد زعم بعض أهل العربية أن «ما» التي مع المثل صلة في الكلام بمعنى التطول، وأن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة مثلا فما فوقها. فعلى هذا التأويل يجب أن تكون بعوضة منصوبة ب«يضرب»، وأن تكون «ما» الثانية التي في «فما فوقها» معطوفة على البعوضة لا على «ما». وأما تأويل قوله: { فما فوقها }: فما هو أعظم منها عندي لما ذكرنا قبل من قول قتادة وابن جريج أن البعوضة أضعف خلق الله، فإذا كانت أضعف خلق الله فهي نهاية في القلة والضعف، وإذ كانت كذلك فلا شك أن ما فوق أضعف الأشياء لا يكون إلا أقوى منه، فقد يجب أن يكون المعنى على ما قالاه فما فوقها في العظم والكبر، إذ كانت البعوضة نهاية في الضعف والقلة. وقيل في تأويل قوله: { فما فوقها } في الصغر والقلة، كما يقال في الرجل يذكره الذاكر فيصفه باللؤم والشح، فيقول السامع: نعم، وفوق ذاك، يعني فوق الذي وصف في الشح واللؤم. وهذا قول خلاف تأويل أهل العلم الذين ترتضى معرفتهم بتأويل القرآن، فقد تبين إذا بما وصفنا أن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يصف شبها لما شبه به الذي هو ما بين بعوضة إلى ما فوق البعوضة. فأما تأويل الكلام لو رفعت البعوضة فغير جائز في ما إلا ما قلنا من أن تكون اسما لا صلة بمعنى التطول. القول في تأويل قوله تعالى: { فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذآ أراد الله بهذا مثلا }. قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ذكره: { فأما الذين آمنوا } فأما الذين صدقوا الله ورسوله. وقوله: { فيعلمون أنه الحق من ربهم } يعني فيعرفون أن المثل الذي ضربه الله لما ضربه له مثل. كما. حدثني به المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: { فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم } أن هذا المثل الحق من ربهم أنه كلام الله ومن عنده. وكما: حدثنا بشر بن معاذ، قال : حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، قوله: { فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم }: أي يعلمون أنه كلام الرحمن وأنه الحق من الله.
{ وأما الذين كفروا فيقولون ماذآ أراد الله بهذا مثلا } قال أبو جعفر: وقوله: { وأما الذين كفروا } يعني الذين جحدوا آيات الله وأنكروا ما عرفوا وستروا ما علموا أنه حق. وذلك صفة المنافقين، وإياهم عنى الله جل وعز ومن كان من نظرائهم وشركائهم من المشركين من أهل الكتاب وغيرهم بهذه الآية، فيقولون: ماذا أراد الله بهذا مثلا، كما قد ذكرنا قبل من الخبر الذي رويناه عن مجاهد الذي. حدثنا به محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: { فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم } الآية، قال: يؤمن بها المؤمنون، ويعلمون أنها الحق من ربهم، ويهديهم الله بها ويضل بها الفاسقون. يقول: يعرفه المؤمنون فيؤمنون به، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به. وتأويل قوله: { ماذآ أراد الله بهذا مثلا } ما الذي أراد الله بهذا المثل مثلا، ف«ذا» الذي مع «ما» في معنى «الذي» وأراد صلته، وهذا إشارة إلى المثل. القول في تأويل قوله تعالى: { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا }. قال أبو جعفر: يعني بقوله جل وعز: { يضل به كثيرا } يضل الله به كثيرا من خلقه، والهاء في «به» من ذكر المثل. وهذا خبر من الله جل ثناؤه مبتدأ، ومعنى الكلام: أن الله يضل بالمثل الذي يضربه كثيرا من أهل النفاق والكفر. كما: حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: { يضل به كثيرا } يعني المنافقين، { ويهدي به كثيرا } يعني المؤمنين فيزيد هؤلاء ضلالا إلى ضلالهم لتكذيبهم بما قد علموه حقا يقينا من المثل الذي ضربه الله لما ضربه له وأنه لما ضربه له موافق، فذلك إضلال الله إياهم به. ويهدي به يعني بالمثل كثيرا من أهل الإيمان والتصديق، فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانا إلى إيمانهم، لتصديقهم بما قد علموه حقا يقينا أنه موافق ما ضربه الله له مثلا وإقرارهم به، وذلك هداية من الله لهم به. وقد زعم بعضهم أن ذلك خبر عن المنافقين، كأنهم قالوا: ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد يضل به هذا ويهدي به هذا. ثم استؤنف الكلام والخبر عن الله فقال الله: { وما يضل به إلا الفسقين } وفيما في سورة المدثر من قول الله:
وليقول الذين في قلوبهم مرض والكفرون ماذآ أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشآء ويهدي من يشآء
[المدثر: 31] ما ينبىء عن أنه في سورة البقرة كذلك مبتدأ، أعني قوله: { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا }. القول في تأويل قوله تعالى: { وما يضل به إلا الفسقين }. وتأويل ذلك ما: حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: { وما يضل به إلا الفسقين }: هم المنافقون. وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: { وما يضل به إلا الفسقين } فسقوا فأضلهم الله على فسقهم. وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: { وما يضل به إلا الفسقين }: هم أهل النفاق. قال أبو جعفر: وأصل الفسق في كلام العرب: الخروج عن الشيء، يقال منه: فسقت الرطبة، إذا خرجت من قشرها ومن ذلك سميت الفأرة فويسقة، لخروجها عن جحرها. فكذلك المنافق والكافر سميا فاسقين لخروجهما عن طاعة ربهما، ولذلك قال جل ذكره في صفة إبليس:
إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه
[الكهف: 50] يعني به: خرج عن طاعته واتباع أمره. كما: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق عن داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس في قوله:
بما كانوا يفسقون
[البقرة: 59] أي بما بعدوا عن أمري. فمعنى قوله: { وما يضل به إلا الفسقين }: وما يضل الله بالمثل الذي يضربه لأهل الضلال والنفاق إلا الخارجين عن طاعته والتاركين اتباع أمره من أهل الكفر به من أهل الكتاب وأهل الضلال من أهل النفاق.
[2.27]
Page inconnue