Le Recueil des Explications des Versets du Coran
جامع البيان في تفسير القرآن
[البقرة: 19] يعني بذلك يتقون وعيد الله الذي أنزله في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بما يبدونه بألسنتهم من ظاهر الإقرار، كما يتقي الخائف أصوات الصواعق بتغطية أذنيه وتصيير أصابعه فيها حذرا على نفسه منها.
وقد ذكرنا الخبر الذي روي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما كانا يقولان: إن المنافقين كانوا إذا حضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء، أو يذكروا بشيء فيقتلوا. فإن كان ذلك صحيحا، ولست أعلمه صحيحا، إذ كنت بإسناده مرتابا فإن القول الذي روي عنهما هو القول. وإن يكن غير صحيح، فأولى بتأويل الآية ما قلنا لأن الله إنما قص علينا من خبرهم في أول مبتدأ قصصهم أنهم يخادعون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم آمنا بالله وباليوم الآخر، مع شك قلوبهم ومرض أفئدتهم في حقيقة ما زعموا أنهم به مؤمنون مما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربهم، وبذلك وصفهم في جميع آي القرآن التي ذكر فيها صفتهم. فكذلك ذلك في هذه الآية. وإنما جعل الله إدخالهم أصابعهم في آذانهم مثلا لاتقائهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما ذكرنا أنهم يتقونهم به كما يتقي سامع صوت الصاعقة بإدخال أصابعه في أذنيه. وذلك من المثل نظير تمثيل الله جل ثناؤه ما أنزل فيهم من الوعيد في آي كتابه بأصوات الصواعق، وكذلك قوله: { حذر الموت } جعله جل ثناؤه مثلا لخوفهم وإشفاقهم من حلول عاجل العقاب المهلك الذي توعده بساحتهم، كما يجعل سامع أصوات الصواعق أصابعه في أذنيه حذر العطب والموت على نفسه أن تزهق من شدتها. وإنما نصب قوله: حذر الموت على نحو ما تنصب به التكرمة في قولك: زرتك تكرمة لك، تريد بذلك: من أجل تكرمتك، وكما قال جل ثناؤه: { ويدعوننا رغبا ورهبا } على التفسير للفعل. وقد روي عن قتادة أنه كان يتأول قوله: { حذر الموت }: حذرا من الموت. حدثنا بذلك الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر عنه. وذلك مذهب من التأويل ضعيف، لأن القوم لم يجعلوا أصابعهم في آذانهم حذرا من الموت فيكون معناه ما قال إنه مراد به حذرا من الموت، وإنما جعلوها من حذار الموت في آذانهم. وكان قتادة وابن جريج يتأولان قوله:
يجعلون أصبعهم في آذانهم من الصوعق حذر الموت
[البقرة: 19] أن ذلك من الله جل ثناؤه صفة للمنافقين بالهلع. وضعف القلوب، وكراهة الموت، ويتأولان في ذلك قوله:
يحسبون كل صيحة عليهم
[المنافقون: 4] وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالا. وذلك أنه قد كان فيهم من لا تنكر شجاعته ولا تدفع بسالته كقزمان الذي لم يقم مقامه أحد من المؤمنين بأحد و دونه. وإنما كانت كراهتهم شهود المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركهم معاونته على أعدائه لأنهم لم يكونوا في أديانهم مستبصرين ولا برسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقين، فكانوا للحضور معه مشاهده كارهين، إلا بالتخذيل عنه.
ولكن ذلك وصف من الله جل ثناؤه لهم بالإشفاق من حلول عقوبة الله بهم على نفاقهم، إما عاجلا، وإما آجلا. ثم أخبر جل ثناؤه أن المنافقين الذين نعتهم النعت الذي ذكر وضرب لهم الأمثال التي وصف وإن اتقوا عقابه وأشفقوا عذابه إشفاق الجاعل في أذنيه أصابعه حذار حلول الوعيد الذي توعدهم به في آي كتابه، غير منجيهم ذلك من نزوله بعقوتهم وحلوله بساحتهم، إما عاجلا في الدنيا، وإما آجلا في الآخرة، للذي في قلوبهم من مرضها والشك في اعتقادها، فقال:
والله محيط بالكفرين
[البقرة: 19] بمعنى جامعهم فمحل بهم عقوبته. وكان مجاهد يتأول ذلك كما: حدثني محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم عن عيسى ابن ميمون، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:
والله محيط بالكفرين
Page inconnue