Le Recueil des Explications des Versets du Coran
جامع البيان في تفسير القرآن
فأوليت «هل» لطلبها الاسم العماد. القول في تأويل قوله تعالى: { فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا }. يعني بقوله جل ثناؤه: { فما جزاء من يفعل ذلك منكم } فليس لمن قتل منكم قتيلا فكفر بقتله إياه بنقض عهد الله الذي حكم به عليه في التوراة، وأخرج منكم فريقا من ديارهم مظاهرا عليهم أعداءهم من أهل الشرك ظلما وعدوانا وخلافا لما أمره الله به في كتابه الذي أنزله إلى موسى، جزاء يعني بالجزاء: الثواب وهو العوض مما فعل من ذلك والأجر عليه، { إلا خزي في الحياة الدنيا } والخزي الذل والصغار، يقال منه: «خزي» الرجل يخزى خزيا». { في الحياة الدنيا } ، يعني في عاجل الدنيا قبل الآخرة. ثم اختلف في الخزي الذي أخزاهم الله بما سلف من معصيتهم إياه. فقال بعضهم: ذلك هو حكم الله الذي أنزله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من أخذ القاتل بمن قتل والقود به قصاصا، والانتقام للمظلوم من الظالم.
وقال آخرون: بل ذلك هو أخذ الجزية منهم ما أقاموا على دينهم ذلة لهم وصغارا. وقال آخرون: بل ذلك الخزي الذي جوزوا به في الدنيا إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم النضير من ديارهم لأول الحشر، وقتل مقاتلة قريظة وسبي ذراريهم فكان ذلك خزيا في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم. القول في تأويل قوله تعالى: { ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب }. يعني بقوله: { ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب }: ويوم تقوم الساعة يرد من يفعل ذلك منكم بعد الخزي الذي يحل به في الدنيا جزاء على معصية الله إلى أشد العذاب الذي أعد الله لأعدائه. وقد قال بعضهم: معنى ذلك: { ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب } من عذاب الدنيا. ولا معنى لقول قائل ذلك. ذلك بأن الله جل ثناؤه إنما أخبر أنهم يردون إلى أشد معاني العذاب ولذلك أدخل فيه الألف واللام، لأنه عنى به جنس العذاب كله دون نوع منه. القول في تأويل قوله تعالى: { وما الله بغافل عما تعملون }. اختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: «وما الله بغافل عما يعملون» بالياء على وجه الإخبار عنهم، فكأنهم نحوا بقراءتهم معنى «فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما يعملون» يعني عما يعمله الذين أخبر الله عنهم أنه ليس لهم جزاء على فعلهم إلا الخزي في الحياة الدنيا، ومرجعهم في الآخرة إلى أشد العذاب. وقرأه آخرون: { وما الله بغافل عما تعملون } بالتاء على وجه المخاطبة قال: فكأنهم نحوا بقراءتهم: { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض... وما الله بغافل } يا معشر اليهود { عما تعملون } أنتم. وأعجب القراءتين إلي قراءة من قرأ بالياء إتباعا لقوله: { فما جزاء من يفعل ذلك منكم } ولقوله: { ويوم القيامة يردون } لأن قوله: «وما الله بغافل عما يعملون» إلى ذلك أقرب منه إلى قوله: { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } فإتباعه الأقرب إليه أولى من إلحاقه بالأبعد منه. والوجه الآخر غير بعيد من الصواب. وتأويل قوله: وما الله بساه عن أعمالهم الخبيثة، بل هو محص لها وحافظها عليهم حتى يجازيهم بها في الآخرة ويخزيهم في الدنيا فيذلهم ويفضحهم.
[2.86]
يعني بقوله جل ثناؤه أولئك الذين أخبر عنهم أنهم يؤمنون ببعض الكتاب فيفادون أسراهم من اليهود، ويكفرون ببعض، فيقتلون من حرم الله عليهم قتله من أهل ملتهم، ويخرجون من داره من حرم الله عليهم إخراجه من داره، نقضا لعهد الله وميثاقه في التوراة إليهم. فأخبر جل ثناؤه أن هؤلاء الذين اشتروا رياسة الحياة الدنيا على الضعفاء وأهل الجهل والغباء من أهل ملتهم، وابتاعوا المآكل الخسيسة الرديئة فيها، بالإيمان الذي كان يكون لهم به في الآخرة لو كانوا أتوا به مكان الكفر الخلود في الجنان. وإنما وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة لأنهم رضوا بالدنيا بكفرهم بالله فيها عوضا من نعيم الآخرة الذي أعده الله للمؤمنين، فجعل حظوظهم من نعيم الآخرة بكفرهم بالله ثمنا لما ابتاعوه به من خسيس الدنيا. كما: حدثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: { أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة }: استحبوا قليل الدنيا على كثير الآخرة . قال أبو جعفر: ثم أخبر الله جل ثناؤه أنهم إذ باعوا حظوظهم من نعيم الآخرة بتركهم طاعته، وإيثارهم الكفر به والخسيس من الدنيا عليه، لا حظ لهم في نعيم الآخرة، وأن الذي لهم في الآخرة العذاب غير مخفف عنهم فيها العذاب لأن الذي يخفف عنه فيها من العذاب هو الذي له حظ في نعيمها، ولا حظ لهؤلاء لاشترائهم الذي كان في الدنيا ودنياهم بآخرتهم. وأما قوله: { ولا هم ينصرون } فإنه أخبر عنهم أنه لا ينصرهم في الآخرة أحد فيدفع عنهم بنصرته عذاب الله، لا بقوته ولا بشفاعته ولا غيرهما.
[2.87]
يعني بقوله جل ثناؤه: { آتينا موسى الكتاب }: أنزلناه إليه. وقد بينا أن معنى الإيتاء: الإعطاء فيما مضى قبل، والكتاب الذي آتاه الله موسى عليه السلام هو التوراة. وأما قوله: { وقفينا } فإنه يعني: وأردفنا وأتبعنا بعضهم خلف بعض، كما يقفو الرجل الرجل إذا سار في أثره من ورائه. وأصله من القفا، يقال منه: قفوت فلانا: إذا صرت خلف قفاه، كما يقال دبرته: إذا صرت في دبره. ويعني بقوله: { من بعده }: من بعد موسى. ويعني { بالرسل } الأنبياء، وهم جمع رسول، يقال: هو رسول وهم رسل، كما يقال: هو صبور وهم قوم صبر، وهو رجل شكور وهم قوم شكر. وإنما يعني جل ثناؤه بقوله: { وقفينا من بعده بالرسل } أي أتبعنا بعضهم بعضا على منهاج واحد وشريعة واحدة لأن كل من بعثه الله نبيا بعد موسى صلى الله عليه وسلم إلى زمان عيسى ابن مريم، فإنما بعثه يأمر بني إسرائيل بإقامة التوراة والعمل بما فيها والدعاء إلى ما فيها، فلذلك قيل: { وقفينا من بعده بالرسل } يعني على منهاجه وشريعته، والعمل بما كان يعمل به. القول في تأويل قوله تعالى: { وآتينا عيسى ابن مريم البينات }. يعني بقوله: { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } أعطينا عيسى ابن مريم. ويعني بالبينات التي آتاه الله إياها ما أظهر على يديه من الحجج والدلالة على نبوته من إحياء الموتى وإبراء الأكمة ونحو ذلك من الآيات التي أبانت منزلته من الله، ودلت على صدقه وصحة نبوته. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: ثنا محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } أي الآيات التي وضع على يديه من إحياء الموتى، وخلقه من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طائرا بإذن الله، وإبراء الأسقام، والخبر بكثير من الغيوب مما يدخرون في بيوتهم، وما رد عليهم من التوراة مع الإنجيل الذي أحدث الله إليه. القول في تأويل قوله تعالى: { وأيدناه بروح القدس }. أما معنى قوله: { وأيدناه } فإنه قويناه فأعناه، كما: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير عن جويبر، عن الضحاك: { وأيدناه } يقول: نصرناه. يقال منه: أيدك الله: أي قواك، وهو رجل ذو أيد وذو آد، يراد: ذو قوة. ومنه قول العجاج:
من أن تبدلت بآدي آدا
يعني بشبابي قوة المشيب. ومنه قول الآخر:
إن القداح إذا اجتمعن فرامها
بالكسر ذو جلد وبطش أيد
Page inconnue