جَمْهَرةُ مَقَالَاتٍ وَرَسَائِل
الشَيْخِ الإِمَامِ مُحَمَّدٍ الطَّاهِر ابْنِ عَاشُور
جمعها وقرأها ووثقها
محمد الطاهِر الميسَاوي
المجَلّدُ الأَوّل
دار النفائس
للنشر والتوزيع - الأردن
1 / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 2
جَمْهَرةُ مَقَالَاتٍ وَرَسَائِل
الشَيْخِ الإِمَامِ مُحَمَّدٍ الطَّاهِر ابْنِ عَاشُور
(١)
1 / 3
حُقوق الطبع محفوظة C
١٤٣٦ هـ - ٢٠١٥ م
الطبعة الأولى
رقم الإيداع لدى دائرة المكتبة الوطنية
٢٢٠٣/ ٦/ ٢٠١٣
ابن عاشور، محمد الطاهر
توجيهات وأنظار جمهرة مقالات ورسائل ومراجعات ابن عاشور/ محمد الطاهر بن عاشور، ت: محمد الطاهر الميساوي. - عمان - دار النفائس للنشر والتوزيع، ٢٠١٤
() ص.
ر. إ.: ٢٢٠٣/ ٦/ ٢٠١٣
يمنع تصوير هذا الكتاب أو استخدامه بكافة أنواع النشر العادي أو الالكتروني، تحت طائلة المسائلة القانونية.
دار النفائس
للنشر والتوزيع - الأردن
ردمك ISBN
العبدلي - مقابل مركز جوهرة القدس
ص. ب ٩٢٧٥١١ عمان ١١١٩٠ الأردن
هاتف: ٠٠٩٦٢٦٥٦٩٣٩٤٠
فاكس: ٠٠٩٦٢٦٥٦٩٣٩٤١
Email: [email protected]
www.al-nafaes.com
1 / 4
إهداء
إلى الأجيال الناشئة الصاعدة في عالم العروبة والإسلام. . .
وصلًا للحاضر بالماضي، واستشرافًا للمستقبل. . .
من أجل نهضة شاملة رشيدة، ضاربة الجذور سامقة الفروع. . .
شجرةً طيبة: أصلها ثابث وفرعها في السماء.
وإلى روح والدي الذي كان أولَ من حدثني عن ابن عاشور في مرحلة "لا شعوري" الفكري، وغادر دنيانا وأنا أضع اللمسات الأخيرة في هذه الجمهرة، وإلى والدتي الصابرة المحتسبة، رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا.
المحقق: محمد الطاهر الميساوي
1 / 5
فَاتِحَةُ الكِتَاب
" فجعلت حقًّا عليَّ أن أُبديَ في تفسير القرآن نكتًا لم أر مَنْ سبقني إليها، وأن أقف موقفَ الحكَم بين طوائف المفسرين، تارة لها وآونة عليها. فإن الاقتصار على الحديث المعاد تعطيلٌ لفيض القرآن الذي ما له من نفاد.
ولقد رأيتُ الناسَ حول كلام الأقدمين أحدَ رجلين: رجل معتكف فيما شاده الأقدمون، وآخر آخذٌ بمعوله في هدم ما مضت عليه القرون، وفي كلتا الحالتين ضُرٌّ كثير.
وهنالك حالةٌ أخرى ينجبر بها الجناحُ الكسير، وهي أن نعمِدَ إلى ما أشاده الأقدمون فنهذِّبَه ونزيده، وحاشا أن نَنْقُضَه أو نُبيده، عالِمًا بأن غمضَ فضلهم كفرانٌ للنعمة، وجحدُ مزايا سَلَفِها ليس من حميد خصال الأمة، فالحمد لله الذي صدق الأمل ويسر إلى هذا الخير ودلّ".
محمد الطاهر ابن عاشور:
تفسير التحرير والتنوير، ج ١، ص ٧
1 / 7
الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور وابنه الفاضل ابن عاشور ويتوسطهما طه حسين
الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور وعن شماله تلميذه الشيخ المختار بن محمود
1 / 10
بين يدي مقالات ابن عاشور ورسائله
تمهيد: أنا وتراث ابن عاشور:
الحمد لله حقَّ حمده، والصلاة والسلام على صفوته من خلقه محمد خاتم أنبيائه ورسله، ثم الرضوانُ على من سلك سبيله وسار على نهجه واهتدى بهديه، أما بعد:
ففي منتصف عام ١٤١٩ (أواخر ١٩٩٨) وصفتُ حالَ مصنَّفاتِ الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور عليه رحمة الله فقلتُ ما يلي: "إن آثاره العلمية لم يتح لها من الانتشار والتداول ما يجعلها في متناول الدارسين والباحثين، فضلًا عن سواهم من طلاب المعرفة والمثقفين. فكثيرٌ مِمَّا طُبِع منها قد تطاول عليه العهد ونفد من المكتبات، ولم يجد من أهل العزم من المحققين والناشرين من يتولَّى نفضَ الغبار عنه وإخراجه للناس إخراجًا جديدًا. أما ما لَمْ يُطبع - وهو غزير - فلا يزال طيَّ النسيان والإهمال، يقبع مخطوطًا على رفوف المكتبة العاشورية بالمرسى في تونس، ويتراكم عليه غبارُ السنين وتتهدده آفاتُها بالإتلاف، وكأنما تواطأت صروفُ الزمان وتدبيرُ الإنسان على تغييب مَعْلَمٍ مهم من معالمِ الحياة الفكرية والعلميّة للمسلمين بها القرن العشرين! " (١)
حين كتبتُ هذا الكلام كان في خاطري - بصورة خاصة - العددُ الكبير من المقالات التي نشرها ابن عاشور في مجلات وصحف شتى، ينضاف إليها غير قليل من الرسائل، وقد تناءى بجميعها المكان بين تونس والقاهرة ودمشق (وربما غيرها)، وتمادى بها الزمانُ خلال ما لا يقل عن عقود ستة، ومن تلك المجلات والصحف ما لم يُمدَّ في عمره إلا برهة قصيرة فكان حاله كبارق صيف مثل مجلة
_________
(١) الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق محمد الطاهر الميساوي (عمان: دار النفائس، ١٤٢١/ ٢٠٠١)، ص ١٨.
1 / 11
"السعادة العظمى" التي أنشأها زميلُه وصديقُه الشيخ محمد الخضر حسين في تونس، ومنها ما عُمر لسنوات عدة شبَّ فيها وما اكتهل مثل مجلة "الهداية الإِسلامية" التي أسسها كذلك الشيخ الخضر في القاهرة و"المجلة الزيتونية" التي أسسها بعضُ تلاميذ ابن عاشور في تونس، ومنها ما عُمر طويلًا واكتهل وما زال يصدر حتى يوم الناس هذا مثل مجلتي مجمع دمشق ومجمع القاهرة.
إلا أنه لم يكن في خاطري حينذاك أن أنتهض يومًا لجمع تلك المقالات والرسائل وأن أنشغل بها قراءة وضبطًا وتوثيقًا و"تحقيقًا"، بل لم يكن من "خارطة طريقي" عندها أن أجعل الفكرَ المقاصدي الاجتماعي عند ابن عاشور موضوعًا لأطروحتي في الدكتوراه. ولكن يبدو أن جاذبًا خفيًّا ودافعًا قويًّا كانا يتملكانني فلا أملك منهما فكاكًا، فكما عكفتُ من قبلُ على أعمال المفكر الجزائري اللامع مالك بن نبي دراسة وتأليفًا وترجمة، ألفيتني منغمسًا في تراث علامة تونس الزيتونة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور بالقدر ذاته إن لم يكن على نحو أكبر. على أن لي مع ابن عاشور صلةً أقدم من تلك التي تربطني بمالك بن نبي (١)، أرى من المناسب الكشفَ عنها هنا لما فيها من بعض الغرابة، ولعلها تفيد مَنْ يروم التبصر بالأبعاد النفسية
_________
(١) كان أول تعرفي على مالك بن نبي حوالي منتصف العقد السابع من القرن العشرين الميلادي - أو بعده بقليل - قبل مرحلة الدراسة الجامعية، وذلك من خلال مقال كتبه عنه الشيخ راشد الغنوشي ونُشر في أحد أعداد مجلة "المعرفة" لا أتذكر الآن تاريخه، ثم تجددت صلتي به خلال السنة الأولى (١٩٧٧/ ١٩٧٨) من دراستي الجامعية بدار المعلمين العليا بمدينة تونس عندما اقتنيتُ نسخةً من الطبعة الفرنسية لكتابه "الظاهرة القرآنية" الذي لا يبدو أني فهمت وقتها كثيرٌ من مضمونه الفكري أو أدركت شيئًا مهمًّا من مغزاه المنهجي، ولكني أذكر جيّدًا أني قرأت طرفًا منه على بعض زملاء الدراسة والسكنى - منهم الأساتذة زهير بن يوسف ومصباح الباشا وتوفيق عبد الكافي حفظهم الله - وجرى بيننا بعضُ النقاش حول ذلك، وخاصة الفصل الخاص بالظاهرة الدينية الذي تكلم فيه ابن نبي على "المذهب المادي" و"المذهب الغيبي" اللذين يتنازعان تفسير علاقة الإنسان بالدين.
1 / 12
والاجتماعية لحركة الأفكار وتحليل مساقات نشأتها وتطورها وانتشارها وحلها وترحالها عبر الأشخاص والأجيال.
عندما كنتُ في الفصل الرابع أو الخامس من الدراسة الابتدائية (على ما أذكر، وكان ذلك في منتصف الستينيات من القرن العشرين)، كان والدي حفظه الله - البالغ الآن السابعة والتسعين من عمره - (١) عندما أعود من المدرسة، ويكون هو قد فرغ من عمله، يجلس ويُجْلِسني أمامه لأقرأ له إما من القرآن الكريم (وغالبًا ما كان ذلك من جزء عم) أو من كتاب لا أذكر الآن عنوانه، ولكنه كان كتابًا يحكي قصّة أصحاب الكهف وما جرى لهم مع الإمبراطور الروماني دقيوس أو دوقيانوس، وكان ذلك الكتاب مطبوعًا على ورق أصفر مثل غيره من الكتب ذات المضمون الديني التي كان الكثيرُ منها مما يعتمد عليه المتعلمون في الكتاتيب القرآنية أو حتى في جامع الزيتونة وفروعه عندما كان هو المؤسسة التعليمية الأولى في البلاد. وفي تلك الجلسات المتكررة - التي كنتُ أتضايق منها لِمَا كانت تحبسني عن اللعب ومطاردة أو صيد بعض أنواع الطيور أو اليرابيع التي توشك الآن أن تنقرض بسبب ما حصل من تحول في البيئة الطبيعية والبشرية في الريف الذي كنا نعيش فيه - طنَّ على سمعي اسمَا كلٍّ من محمد الطاهر ابن عاشور وجده لأمه محمد العزيز بوعَتُّور، إذ كان والدي كثيرًا ما يردد هذين الاسمين، ولم أكن عندها أدري مَن هما هذان الشخصان ولا أدرك نوع العلاقة التي بينهما.
ومن الأمور العجيبة أو الغريبة التي لا أزال أذكرها جيدًا أن والدي ذكر في بعض تلك الجلسات أنه سماني "محمد الطاهر" تيمنًا بالشيخ ابن عاشور! لا أستطيع
_________
(١) عندما انتهيت من تحرير هذا التقديم كان والدي ما يزال حيًّا يعاني من بعض التوعك من حين لآخر، وقد توفي فجر يوم السبت بتاريخ ١٥ مارس ٢٠١٤ على الساعة الرابعة والنصف صباحًا بتوقيت تونس، وأنا بمطار الدوحة أنتظر موعد الطائرة التي تقلني منها في الجزء الثاني من رحلة طويلة بين ماليزيا وتونس. فرحمه الله رحمةً واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وجازاه بأحسن ما يجازي به والدًا عن ولده، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
1 / 13
أن أدعيَ معرفةَ السبب في ذلك، ولا أتذكر أني سألتُه عنه، وخاصة أنه لم يكن درس في الزيتونة أو في فرع من فروعها ولا في غيرها من المدارس القليلة التي كانت موجودةً بتونس خلال الثلث الأول من القرن العشرين، ولا يبدو أن ذلك أثار في نفسي شيئًا في ذلك الطور من حياتي. وغايةُ ما يمكنني قولُه أنَّ والدي بلقاسم - الذي تعلم القراءة والكتابة بسعيه الشخصي ومعاونة بعض زملائه عندما كان مُجنَّدًا في الجيش الفرنسي في منطقة ليون بفرنسا التي كانت تخيم عليها نذرُ الحرب العالمية الثانية - كان كثيرًا ما يتحسَّر على ما فرط والدُه في جنبه بعدم إرساله إلى "المؤدب" ليتعلم، وخاصة أن بعضَ أبناء جيله من أقاربه قد فعل أهلُوهم ذلك حينما جلب الحاج الباشا - أحد أعيان المنطقة - في نهاية العشرينيات أو بداية الثلاثينيات من القرن العشرين مؤدبًا لتعليم ابنيه. وقد تكون معرفته بابن عاشور وجده حصلت عن طريق نجلي الحاج الباشا المذكور (صالح وعلي، وهما ابنا خالته)، أو بواسطة بعض رفاقه أثناء الخدمة العسكرية، أو أثناء حضوره دروسًا في بعض المساجد التي ارتادها في بعض مدن البلاد.
تلك كانت البداية البعيدة وغير الواعية لصلتي بابن عاشور. وعندما كنتُ في السنة الثانية من الدراسة الثانوية بمدينة سيدي بوزيد (التي توقدت فيها شرارة الثورة في ديسمبر ٢٠١٠)، أذكر أن الأستاذ الذي كان يتولى الإشراف علينا أثناء ما كان يعرف بحصص المراجعة (classes d'etudes) قادنا في أحد أيام عام ١٩٧٢ إلى المكتبة العامة الوحيدة التي كان يأويها مبنى ما كان يُعرف بلجنة التنسيق الحزبي (للحزب الاشتراكي الدستوري الذي كان يحكم البلادَ بقيادة الحبيب بورقيبة). كان الغرضُ من زيارة تلك المكتبة أن نستعير كتبًا للمطالعة، وكانت مدةُ الاستعارة أسبوعين أو ثلاثة. المهم أنه كان علي، شأني في ذلك شأن بقية التلاميذ في الفصل، أن أستعير كتابًا، وفعلًا تناولت أحدَ الكتب المصفوفة على الرفوف، ولست أدري على أي أساس أخذته، وكان ذلك الكتاب يحتوي على مقدمات تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور في طبعة ذات غلاف ورقي بلون أخضر فاتر. وعدتُ بالكتاب
1 / 14
وحاولت أن أقرأ فيه، ولكني لا أذكر أني فقهتُ منه شيئًا ألبتة؛ لأني في الحقيقة لم أستطع مواصلةَ القراءة فيه فضلًا عن إكماله، إذ كانت لغتُه وأسلوبه ومضمونه فوق إدراكي بمقام بعيد. وعندما انتهت مدةُ الاستعارة قادنا الأستاذ مرة أخرى إلى المكتبة، وأعدتُ الكتابَ في حالة جيدة لم يصب بسوء!
ومرت الأيامُ وتصرمت السنون، ومرَّ عليَّ اسمُ الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور كطيف حلم، أو كما يمر أيُّ حدثٍ عاديٍّ عابر على وعْيِ يافعٍ حَدَث، وانخرطتُ في ضروب من الدراسة والقراءة النظامية وغير النظامية لم يكن أيٌّ من مؤلفات ابن عاشور من بينها، فانقطعتْ صلتي به انقطاعًا طويلًا. حتى إذا كان العام ١٩٨٨ وقد تمكنت في نفسي فكرةُ التجديد والبحث في لوازمها ومتعلقاتها - مسالك وقضايا ومجالات ومآلات - بفضل المناقشات التي كنتُ أحضرها في بعض المنتديات الفكرية بجامعة الخرطوم وجامعة أم درمان الإسلامية وغيرهما من المواقع، وبفضل ما كان يعتمل في أوساط الحركة الإسلامية في السودان بقيادة الدكتور حسن الترابي من زخم فكري، سعيتُ إلى الحصول على نسخةٍ من كتاب "مقاصد الشريعة الإسلامية" لابن عاشور. وإذ كنتُ منقطعًا عن الأهل وعن تونس مذ غادرتها قهرًا أواخر عام ١٩٨١، وكان الكتابُ نادرَ الوجود في المكتبات العامة والخاصة بالخرطوم، رجوتُ من الأخ الأستاذ الفاضل البلدي حفظه الله مساعدتي في ذلك فما تأخر عن تلبية بغيتي. وعلى الرغم من أني قرأت الكتاب بنهم ودون انقطاع حتى آخره، إلا أني لم أعْدُ ذلك إلى أيِّ نوعٍ من المدارسة العميقة لمباحثه والنظر في مسائله وقضاياه.
وانقضت أعوامٌ عِشْتُ فيها أصنافًا أخرى من التجارب تركت آثارًا متفاوتة في وعيي الفكري ونموِّي العقلي وفي رؤيتي للأمور، وإذا بي أُراني في العام ١٩٩٧ مسوقًا، مع انشراح صدر ومن دون سابق تخطيط، إلى العناية بذلك الكتاب وبصنوه "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام"، دراسةً وتوثيقًا وتحقيقًا، على الرغم من أن ذلك كان على حساب دراستي في مرحلة الدكتوراه التي تخليتُ عنها وانخرطت في
1 / 15
أعمال علمية أخرى. كان ذلك في ماليزيا التي قدمت إليها في شهر أبريل من العام ١٩٩١ لمواصلة الدراسة العليا بالجامعة الإسلامية العالمية. وكم كانت غبطتي بالغةً حين فرغتُ من إعداد الكتابين ودفعتُهما للنشر، وكانت سعادتي أكبر حين صدرا وكأنما كنت أنا مؤلفهما!
وحين عدتُ إلى مشروع الدراسة العليا الذي جمدته، ألفيتُني مندفعًا بدون تفكير طويل إلى أن أجعل موضوعَ أطروحتي في مقاصد الشريعة وأسس النظام الاجتماعي من خلال أعمال ابن عاشور. ولم يقف الأمر عند ذلك، بل ما أن انتهيتُ من كتابة الأطروحة حتى وجدتني منخرطًا في مغامرة ترجمةٍ لكتاب المقاصد إلى اللسان الإنجليزي على الرغم من علوّ لغته وكثافة أسلوبه فضلًا عن دقة مباحثه، متجشِّمًا بذلك الاجتهادَ في التعبير عن مفاهيم ونقل مصطلحات يشكو القاموس الفني الإسلامي في اللسان الإنجليزي من نقص كبير فيها. ولكن يسر الله، وآتت المغامرة ثمرتها، واستوى سفينُها على جودي، ثم لقي الكتابُ من أهل ذلك اللسان مَنْ يقوِّم عوجه، ويصقل عبارته، ويسبك أسلوبه.
وهكذا يبدو لي وكأنما نوعٌ من استبطان ما كان يجيش بخاطر والدي قد استبد بي وساقني سوقًا رفيقًا إلى تمتين صلتي بابن عاشور والاعتناء بتراثه مطالعة ودراسةً وتدريسًا ونشرًا، قضاءً لدَين أو قيامًا بواجب لا أدري على التحديد منشأه. وحين عزمت - في النصف الثاني من سنة ٢٠٠٦ - على جمع مقالات الشيخ ورسائله، لم أكن أتوقع أن سيمتد بيَ الزمنُ معها سنوات عدة، ولا أن سيبلغ حجمها القدر الذي بلغ.
محاولات سابقة لجمع مقالات ابن عاشور، ولكن . .:
ليس اعتنائي بمقالات الشيخ ابن عاشور أمرًا أُنُفًا، وإنما هو استئنافٌ واستكمال لجهود سلفت. فهناك - فيما أعلم - ثلاثُ محاولات سعى أصحابها إلى جمع شيء من تلك المقالات ونشرها في سفر واحد: الأولى نهض بها نجلُه الأستاذ عبد الملك ابن عاشور عليه رحمة الله ونشرها بعنوان "تحقيقات وأنظار في القرآن
1 / 16
والسنة" (١). وقد اشتمل هذا المجموعُ على إحدى وعشرين مقالة تتفاوت طولًا وقصرًا، نظمها جامعُها في قسمين: قسم خاص بالقرآن (ست مقالات) وقسم خاص بالسنة (خمسة عشر مقالة). ومن هذه المقالات ما نشر في مجلة "الهداية الإسلامية"، ومنها ما نشرته مجلات أخرى، ومنها ما يبدو أنه لم يسبق نشره.
أما المحاولة الثانية فنهض بها الأستاذ الأديب علي الرضا الحسيني المحامي (ابن أخت الشيخ محمد الخضر حسين) نزيل دمشق، ونشرها بعنوان "مقالات الإمام محمد الطاهر ابن عاشور" في سلسلة "روائع مجلة الهداية الإسلامية" (٢). وكما هو واضح من اسم السلسلة، فقد اقتصر الحسيني في هذا المجموع على اثني عشر مقالًا مما نشر في مجلة "الهداية الإسلامية". والحقيقة أن ما أودعه الأستاذ الحسيني في هذا الكتاب هو المجموعة الأخيرة من مقالات ابن عاشور التي نشرتها المجلة المذكورة، والتي يبدو أن الحسيني أصدرها في حلقات تحت اسم السلسلة نفسها متوخيًا في ترتيبها الرابط الموضوعي بين مقالات كل حلقة، كما ينبئ عن ذلك ظاهرُ كلامه في تقديمه للمجموعة التي اطلعنا عليها (٣).
أما المحاولة الثالثة فنهض بها الأستاذ محمد إبراهيم الحمد من الزلفي بالمملكة العربية السعودية، وهي ليست ممحضة لابن عاشور، وإنما شملت مجموعًا منتخبًا من المقالات لعدد من الكتاب العرب البارزين في القرن الميلادي الماضي نشرها جامعُها في ثلاثة مجلدات بعنوان "مقالات لكبار كتاب العربية" (٤). وقد نسق
_________
(١) نُشر هذا المجموع سنة ١٩٨٥ نشرًا مشتركًا بواسطة الدار التونسية للنشر بتونس والمؤسسة الوطنية للكتاب بالجزائر، وصدر حديثًا عن دار السلام بالقاهرة سنة ١٤٢٨/ ٢٠٠٧.
(٢) صدر هذا المجموع سنة ١٤٢٢/ ٢٠٠١ عن الدار الحسينية للكتاب التي من الراجح أن مقرها دمشق حيث يقيم الأستاذ الحسيني، ولست أدري على وجه اليقين إن كان التاريخ المذكور هو تاريخ الطبعة الأولى للكتاب أم أنه لم يسبق طبعه؛ إذ لا ذكرَ لرقم الطبعة.
(٣) الحسيني، علي الرضا: مقالات الإمام محمد الطاهر ابن عاشور، ص ١٣ - ١٥.
(٤) صدر هذا المنتخب في طبعته الأولى سنة ١٤٢٦/ ٢٠٠٥ عن دار ابن خزيمة بالرياض.
1 / 17
الأستاذ الحمد مختاراته وفق ترتيب موضوعي، فجاءت مقالاتُ ابن عاشور البالغ عددها ستة موزعة في مواضع مختلفة تبعًا لذلك الترتيب، وهي مأخوذةٌ كلها من مجلتي "السعادة العظمى" و"الهداية الإسلامية". إلا أن أحدها - وهو "من يجدد لهذه الأمة أمر دينها" - جاء منقوصًا نقصًا كبيرًا يتجاوز النصف، وقد اعتذر الأستاذ الحمد عن ذلك بأنه لم يتيسر له الاطلاعُ على جميع حلقات المقال (١).
وتختلف هذه المحاولات الثلاث من حيث المقالات التي اشتملت عليها إلا واحدًا، هو مقال "من يجدد لهذه أمر دينها الذي نشرته مجلة "الهداية الإسلامية" في تسعة نجوم. ولكنها تشترك جميعًا في أنها خلت خلوًّا تامًّا من أيِّ توثيقٍ لما جاء في تلك المقالات من آثار أو أقوال أو أشعار، كما خلت من أيِّ تعليق على ما بثه ابن عاشور في ثناياها من آراء، أو آثاره من مسائل، أو أومأ إليه من مواقف ومفاهيم. وبينما حرص علي الرضا الحسيني ومحمد إبراهيم الحمد على بيان مصادر المقالات التي جمعاها بذكر أعداد المجلة أو المجلات التي نُشرت فيها، جاءت محاولةُ عبد الملك ابن عاشور خالية من ذلك إلا قليلًا. والحقيقة أن خلو المحاولات المذكورة من التوثيق والتعليق والتحقيق أمرٌ لا يختص بها، فهو حالُ كل ما تيسر لنا الاطلاعُ عليه من مجاميع المقالات والفتاوى لعدد من العلماء والمفكرين (٢). ويبدو أن سببَ ذلك هو ما تتطلبه عمليةُ التوثيق والتعليق والتحقيق من جهد مضن ووقت طويل ونفس أطول، ولا ينبئك مثلُ خبير! وربما كان الداعيَ إلى ذلك حرصُ الجامعين لتلك المقالات على إيصالها إلى القراء تعجيلًا لانتفاعهم بها. ومهما
_________
(١) محمد إبراهيم الحمد: مقالات لكبار كتاب العربية (المجموعة الثالثة)، ص ٣٤٩، الحاشية رقم ٣.
(٢) من ذلك جمهرة مقالات الشيخ محمود محمد شاكر، وفتاوى الشيخ محمد أبو زهرة، وآثار الشيخ مصطفى عبد الرازق، وفتاوى الشيخ مصطفى الزرقا، وفتاوى ورسائل الشيخ عبد الرزاق عفيفي، ومقالات الشيخ السيد أحمد صقر، ومقالات الشيخ محمد الغزالي (التي نشرت في مجلة "الوعي الإسلامي").
1 / 18
كان السبب أو الداعي، فإنه لا مراء في أن ذلك يعد نقصًا وقصورًا في ميزان التحقيق العلمي.
ويمكن أن نضيف إلى الجهود السابقة في جمع ما تناثر من تراث ابن عاشور ما صنعه كلٌّ من الأستاذين محمد بن يونس السويسي ومحمد بن إبراهيم بوزغيبة، وإن كان عملُهما قد اقتصر على الفتاوى دون البحوث والمقالات العلمية. وبصرف النظر عن أيهما سابق في ذلك، فإنا نعرض هنا لما أنجزه كلٌّ منهما حسب تاريخ نشره. محض بوزغيبة جهده لجمع فتاوى ابن عاشور دون غيره ونشرها بعنوان "فتاوى الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور" (١) محتويًا على مائة وثلاثة عشر فتوى، بينما يندرج صنيعُ السويسي في سياق أوسع هو مجموع ما صدر عن علماء تونس من فتاوى خلال قرن من الزمان، وذلك في كتابه "الفتاوى التونسية في القرن الرابع عشر الهجري" الذي اشتمل على ثمان وثمانين فتوى (٢). وكانت مصادرهما الرئيسة في ذلك الصحف اليومية والأسبوعية والمجلات العلمية التي كانت تصدر بتونس وفتحت صفحاتها لفتاوى ابن عاشور.
وقد سلك بوزغيبة والسويسي في محاولتيهما نهجًا موضوعيًّا في ترتيب الفتاوى على أبواب تتفاوت في حجمها حسب وفرة المادة المنضوية في كل باب. ومما يميز هاتين المحاولتين توثيق الشواهد والأقوال، والتعليق على جملة من المواضع شرحًا للفظ، أو بيانًا لمعنى، أو تصحيحًا لخطأ، حسبما قدره القائمان بهما من الحاجة إلى ذلك. على أننا نلاحظ أن بعضَ نصوص ابن عاشور التي عدها الأستاذان من قبيل الفتوى هو محلُّ نظر، إذا عايرناها بمعيار علمي دقيق في صناعة الفتوى، سواء
_________
(١) صدر الكتاب سنة ١٤٢٥/ ٢٠٠٤ عن مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي في ٤٩٥ صفحة (بما في ذلك قائمة المراجع والفهارس).
(٢) صدر الكتاب سنة ١٤٣٠/ ٢٠٠٩ عن دار سحنون في تونس ودار ابن حزم في بيروت بعنوان "الفتاوى التونسية في القرن الرابع عشر الهجري جمعًا وتحقيقًا ودراسة لما نشر بتونس" في مجلدين من ١٢٧٦ صفحة (بما في ذلك قائمة المراجع والفهارس).
1 / 19
كان ذلك من حيث الموضوع أو من حيث الأركان والشروط أو من حيث المخرج، إلا أن يُحمل معنى الفتوى على غير قليل من التجوز والتسامح (١).
تلك هي الجهود التي وقفنا عليها والتي اهتم أصحابها بجمع شيء من مقالات ابن عاشور. ومهما كان من محدودية تلك الجهود من حيث الإحاطة والشمول، ومهما كان تفاوتها وقصور بعضها من حيث الدقة والاستقصاء في التحقيق والتوثيق، فإنها أسدت لا محالة خدمةً جليلة بجعل جزء مهم من تراث ابن عاشور - المنثور في مجلات وصحف متعددة باعد الزمان بيننا وبينها عبر بلدان مختلفة - في متناول القراء والباحثين. وهي بذلك مهدت جانبًا من الطريق وفتحت أمامنا أفقًا مهمًّا، فيسرت علينا ما أقدمنا عليه وتجشمناه في صناعة هذا المجموع أو الجمهرة لمقالات ابن عاشور ورسائله وما ألحقناه بها، وذلك على الأقل بأن نبهتنا إلى تدارك بعض ما شابها من مظاهر القصور التي ألمحنا إليها. ولذلك فليس جهدُنا فيما عزمنا عليه إلا بناءً على ما صنعه أولئك السابقون وتكميلًا لما بدؤوه.
منهجنا في هذه الجمهرة جمعا وترتيبا:
قام عملُنا في هذا المجموع على قاعدة الاستيعاب لما أمكننا الوصول إليه من المقالات والبحوث العلمية، مما نشره عدد من المجلات التي تعامل معها ابن عاشور من أول مسيرته الفكرية كاتبًا ومصنفًا، منذ منتصف العقد الأول من القرن الميلادي العشرين، ومن الرسائل والأبحاث التي نُشرت مستقلةً سواء لتكون جزءًا من المقررات العلمية لطلبة الزيتونة أم لا، معرضين عن الفتاوى إلا نزرًا يسيرًا جدًّا أدرجناه في الموضع الذي خصصناه للمسائل الفقهية الفرعية. وقد حدانا إلى هذا الاختيار من الاستيعاب والاستبعاد سببان رئيسان: الأول أن فتاوى ابن عاشور قد كفانا مؤنتَها
_________
(١) انظر مثالًا لذلك في مراجعتنا لكتاب "فتاوى الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور"، مجلة التجديد (المجلد ١٠، العدد ٢٠، ١٤٢٧/ ٢٠٠٦)، ص ٢٢٦ - ٢٢٨.
1 / 20
الأستاذان السويسي وبوزغيبة، والثاني أننا أردنا إبرازَ التراث الفكري الذي تجلت فيه قدرةُ ابن عاشور ومهارته في كتابة المقال العلمي القائم على منهج في إثارة المسائل وتحليلها ومناقشتها وتحقيقها على نحوٍ يكشف عن عمق في التناول وأصالة في الرأي، فضلًا عن التنوع والسعة في الموضوعات والقضايا التي طرقها.
وقد رأينا أن نعضِّد تلك المقالات والرسائل بضمائم من مادة أخرى نُشرت بين يدي تحقيقه لعدد من دواوين الشعر وكتب الأدب كالدراسة الممتعة التي قدم بها لديوان بشار بن برد، وقد بينّا ذلك في مواضعه. بل رفدنا هذا المجموع بطائفة من الخطب التي ألقاها العلامة ابن عاشور في مناسبات مختلفة متصلًا جميعها بموقعه شيخًا لجامع الزيتونة وفروعه، كما حليناه بمخاطبات ورسائل (هي طرائف من النثر والشعر) صدرت منه لأشخاص من شيوخه وزملائه وأصدقائه. وجريًا على ما قالته العرب: "هذا الشبل من ذاك الأسد"، رأينا من المناسب أن نُدرج في هذا المجموع نَصَّيْن مهمين لنجله الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور ضممنا كلًّا منهما إلى المحور المناسب له، تتميمًا للفائدة وتعميقًا للنظر في القضايا المنضوية تحت ذلك المحور.
ومع ذلك كله، فلا مجالَ للزعم بأن ما تيسر لنا الوقوفُ عليه مما جمعناه في هذه الجمهرة قد أحاط بكل ما كتبه ونشره الشيخ ابن عاشور من مقالات وبحوث ورسائل، فهناك بعضُ المجلات - منها على سبيل الذكر لا الحصر مجلة "هدى الإِسلام" - حُليت صحائفُها بشيء من مبتكرات قلمه أعيانا البحثُ والسؤال عنها، ولم نقف لها على أثر، وهناك بحوثٌ دبجتها يراعُه وعلمنا بمكان وجودها، ولكن لم يمكن الحصولُ عليه (١). ولا نستبعد - بل نكاد نجزم - أن تكون هنالك مظانّ
_________
(١) أخبرني الشيخ الدكتور عبد الستار أبو غدة - حفظه الله - قبل بضع سنوات بأنه يحتفظ بنسخة من بحث عن الزواج ومقاصده في الشريعة الإسلامية كان الإمام ابن عاشور قد كتبه استجابة لطلب من إدارة تحرير "الموسوعة الفقهية الكويتية" إبان طور تأسيسها، وقد وعدني بتصويره لي، لكن تعذر عليه جلبُه من مكتبته بحلب الشهباء (فرج الله عنها وعن أهل الشام).
1 / 21
أخرى تحوي من تراث ابن عاشور العلمي والفكري قدرًا غير يسير، وخاصة مكتبته الزاخرة بالمرسى في تونس. ولعل قادمَ الأيام أن يزيل عن ذلك حجبَ الستر، وينفض عنه غبارَ السنين، فيخرج من زوايا النسيان والإهمال، فنزيد معرفةً بمدى سعة ذلك التراث وتنوعه وغناه وبما ينطوي عليه من قضايا وإشكالات.
ذلك عن الجانب الكمي لعملنا في هذا المجموع. أما الجانب المنهجي الخاص بتصنيف مادته وترتيبها فقد ترددنا فيه بين طريقتين: إما أن نتبع نهجًا زمنيًّا خطّيًّا تندرج فيه المقالاتُ والرسائل وغيرها حسب تاريخ نشرها من الأقدم إلى الأحدث، وهو نهجٌ مفيد يمكن أن يوقفنا على التطور العلمي والفكري لكاتبها، وأن يُبِينَ عن أثر تقدم السن وتراكم الخبرة في تحديد القضايا التي عالجها، وفي تشكيل الرؤية أو الرؤى التي بلورها. أما الطريقةُ الثانية فهي أن نسلك في تصنيفها وتبويبها نهجًا موضوعيًّا تتوزع فيه وفقًا لطبيعة المجالات العلمية التي تنتمي إليها تلك المقالاتُ والرسائل وما لحق بها، فترتسم لنا بذلك صورةٌ كلية للمشاغل العلمية والقضايا الفكرية والهموم العملية التي استبدت بعقل ابن عاشور خلال مسيرة علمية وعملية امتدت لما لا يقل عن ستة عقود. وقد رجح لدينا الخيارُ الثاني لما لا يخفى من جدواه في إدراك الجوانب المختلفة لعطائه العلمي وإسهامه الفكري، دون أن يعنيَ هذا الترجيحُ تهوينًا لجدوى الخيار الأول.
وبناءً على هذا النهج الموضوعي الذي رجحناه، اجتهدنا في توزيع مادة هذا المجموع على خمسة محاور كبرى يندرج في كل محورٍ منها جملةٌ من الفروع. فكان المحور الأول للمقالات الخاصة بمسائل العقيدة والتفسير والفكر والحكمة، وقد أقمناه على فرعين، الأول للعقيدة والتفسير (ومسائل التفسير التي عرض لها ابن عاشور هي أساسًا مسائل عقدية)، والثاني للفكر والحكمة. أما المحور الثاني فتنضوي فيه المقالاتُ الخاصة بفقه السنة بمعناها العام الذي يشمل الحديث والسيرة، ومن ثم انتظم هذا المحور في فرعين: الأول لفقه الحديث، والثاني لفقه السيرة. ثم خصصنا المحورَ الثالث لمسائل أصول الفقه والفقه والفتوى، وهو كذلك يشتمل
1 / 22
على فرعين: واحد للبحوث التي تتناول مسائل وموضوعات في أصول الفقه، والآخر يضم المقالات التي تعالج مسائل وموضوعات فقهية تطبيقية.
وقد خرجنا في هذا المحور عما التزمناه من استبعاد للفتاوى في هذا المجموع ربطًا للمباحث الأصولية بشيء من المسائل الفقهية الفرعية التي يتضح بها جانبٌ من المنهج وتطبيقه عند ابن عاشور، خاصة وأن نصوصَ الفتاوى التي أدرجناها فيه ليست تقريرًا مجردًا للأحكام، وإنما هي في حقيقتها بحوث علمية قائمة على التحليل والتحقيق والاستدلال. وقد أتبعنا هذا المحورَ الثالث بملحق يتمثل في مقال الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور عن "المصطلح الفقهي في المذهب المالكي"، وهو أقرب إلى البحث الأصولي التاريخي.
وجريًا على المنوال نفسه، جعلنا محورًا رابعًا للغة والأدب، وقد فرعناه هو الآخر إلى فروع ثلاثة: الأول للبحوث والتحقيقات اللغوية، والثاني لعلوم البلاغة، والثالث للدراسات الأدبية. وألحقنا بهذا المحور بحثًا تاريخيًّا عن "السند التونسي في علم متن اللغة" لنجل المصنف الشيخ محمد الفاضل.
ولا ندعي أن ما انضوى تحت المحاور والفروع المذكورة قد جرى تبويبُه وتوزيعُه فيها على نحو صارم يتوخى قواعدَ دقيقة من منطق تمايز العلوم واستقلال بعضها عن بعض، بل هناك بين المقالات والبحوث التي أدرجناها فيها ما لا يخفى من الاتصال والتداخل الذي ليس ههنا مجالُ بيانه وتفصيل القول في وجوهه. وإنما قصدنا بذلك أن تنتظم مادةُ هذا المجموع في أطر كلية تضبط انتسابها إلى المجالات المختلفة للمعرفة الإسلامية التي تعاطى معها المصنف.
على أنا لم نجر في تصنيف جميع محتويات الكتاب على نحو واحد مطرد من الاعتداد بالجانب الموضوعي فيها، كما هو الشأنُ في المحاور الأربعة التي وصفناها. بل راعينا في المحور الخامس (وهو الأخير) جانبَ الشكل والمنهج والمقام في المادة التي أدرجناها فيه منضويةً تحت فروع خمسة: أولها لمراجعات الكتب والتعليق عليها
1 / 23