وقيل لعقيل بن علفة: لم تقصر شعرك؟ فقال: يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق. وقيل لآخر مثل ذلك. فقال: لم أر المثل السائر إلا بيتًا واحدًا.
ولم يكن للجماز حظ في التطويل، وإنما كان يقول البيتين والثلاثة، وإنما قال بيتًا واحدًا:
وقعنا من أبي خزيٍ ... على خزيٍ من الخزي
لم يقل غير هذا، وكذلك ابن بسام، ومنصور بن إسماعيل الفقيه. والمصريون يقولون: احذر منصورًا إذا رمح بالروح. وهو القائل لما ذهب بصره وجفاه الإخوان والرفقاء:
من قال مات ولم يستوف مدّته ... بعظم نازلةٍ نالته مضرور
وليس في الحقّ أن يحيا فتىً بلغت ... به نهاية ما يخشى المقادير
فقل له غير مرتابٍ بفعلته ... أو سوء مذهبه قد عاش منصور
ومن ظريف شعره:
تكاد تضيق الأرض عنه برحبها ... إذا نحن قلنا خيرنا الباذل السّمح
فإن قيل من هذا البغيض أقل لكم ... على شرط كتمان الحديث هو الفتح
وقال منصور:
يا من يرى المتعة في دينه ... جلًاّ وإن كانت بلا مهر
ولا يرى تسعين تطليقةً ... تبين منها ربّة الخدر
من ههنا طابت مواليكم ... فاجتهدوا في الحمد والشكر
وقال:
أبى الناس أن يدعوا موسرًا ... سليم الأديم سليم النسب
وقد خبّروك فإن لم تطب ... بعرضك نفسًا فطب بالذهب
وقال:
يا من تولّى فأبدى ... لنا الجفا وتبدّل
أليس منك سمعنا ... من لم يمت فسيعزل
وأتى باب بعض الأشراف الرئيسيين، فحجبه خادم اسمه شقيف فقال:
إذا وقع الضرير على خصيّ ... فقد وقع المصاب على مصاب
وكانت أم هذا الشريف أمةً ثمنها ثمانية عشر دينارًا؛ فعتب على منصور فقال:
من فاتني بأبيه ... ولم يفتني بأمّه
ورام شتمي ظلمًا ... سكتّ عن نصف شتمه
فدفع إليه مائة دينار. وقال: اسكت عن الجميع.
فانظر أعزك الله البليغ إذا شاء كيف يجعل الجد هزلًا، والمعرى محلىً.
هذا المعنى إنما اهتدى إليه من قول عنترة بن شداد العبسي وأمه أمة سوداء اسمها زبيبة:
إني امرؤٌ من خير عبسٍ منصبًا ... شطري وأحمي سائري بالمنصل
وسأستقل إن شاء الله، ذكر ابن بسام، ونقل ظريف ما له في غير هذا الموضع.
طرف وأخبار متفرقة
وكتب ابن الكلبي صاح الخبر إلى المتوكل أن المعروف بابن المغربي القائد اجتاز البارحة بالجسر سكران، فشخر ونخر، وبربر وزمجر وجرجر، وبأبأ بفيه، وخرق الشريحة، ومر منصلتًا، وقال: أنا الكركدن فاعرفوني.
فضحك المتوكل حتى استلقى، وقال: قد عرفنا ما كتب به البغيض إلا حرفًا واحدًا فعلي به.
فلما جاء قال: ما معنى قولك: بأبأ بفيه؟ قال: يا مولاي؛ لما توسط الجسر قال بفيه: بب بب. فقال له المتوكل: انصرف في غير حفظ الله.
وركب المأمون ليلًا فإذا بثمامة بن أشرس سكران، فلما علم بالمأمون توارى عنه، فقصده المأمون حتى وقف عليه. فقال: ثمامة؟ قال: إي والله. قال: أسكران؟ قال: لا والله. قال: فمن أنا؟ فال: لا أدري والله. قال: عليك لعنة الله. قال: تترى إن شاء الله. فضحك وتركه.
فراسة المهدي
ولما فرغ المهدي من قصره بعيساباذ ركب في جماعة للنظر إليه، فدخله مفاجأة، وأخرج كل من هناك من الناس، وبقي رجلان خفيا عن أبصار الأعوان؛ فرأى المهدي أحدهما وهو دهش لا يعقل. فقال: من أنت؟ قال: أنا أنا أنا أنا. فقال: من أنت؟ ويلك! قال: لا أدري لا أدري لا أدري لا أدري. قال: ألك حاجة؟ قال: لا لا لا لا. قال: أخرجوه، أخرج الله روحه. فلما خرج قال المهدي لغلامه: اتبعه إلى منزله، وسل عنه، فإني أراه حائكًا، فخرج الغلام يقفوه.
1 / 46