وانهزم رجل، فدخل على أميره فشتمه وقال: أعطيت بيدك وهربت، ولم توغل ولا صبرت! فقال: لئن تشتمني أصلحك الله وأنا حي خير من أن تترحم علي وأنا ميت.
وقيل لأعرابي: اخرج إلى الغزو! فقال: أنا والله أكره الموت على فراشي، فكيف أمشي إليه ركضًا؟!.
أخذ هذا المعنى أحمد بن أبي فنن فقال مستطردًا يمدح أبا دلف القاسم بن عيسى العجلي والاستطراد أن يريك الفارس أنه ولى، وإنما ولى لتتبعه فيكر عليك كذلك الشاعر يريك أنه يصف شيئًا، ثم يعن له معنىً فيأتي به، وكأنه ليس من قصده ولم يقصد غيره:
ما لي وما لك قد كلّفتني شططًا ... حمل السلاح وقول الدارعين قف
أمن رجال المنايا خلتني رجلًا ... أُمسي وأُصبح مشتاقًا إلى التلف
أرى المنايا على غيري فأكرهها ... فكيف أمشي إليها بارز الكتف؟
أخلت أنّ سواد الليل غيّرني ... أو أنّ قلبي في جنبي أبي دلف؟
لأنه كان شديد السواد.
ولما دخل على المعتز قال: هذا الشاعر الأسود؟ قال: لا يضره سواده، أعزكم الله تعالى؛ فإن بيض أباديكم عنده.
وقال المنصور لبعض الخوارج وقد أتي به أسيرا: أخبرني أي أصحابي كان أشد إقدامًا في مبارزتكم؟ فقال: ما أعرف وجوههم مقبلين، وإنما أعرف أقفاءهم؛ فمرهم أن يدبروا لأعرفك أشدهم إدبارًا.
أخذه ابن الرومي فقال في سليمان بن عبد الله بن طاهر وكان قد خرج في بعض الوجوه فهزم:
قرن سليمان قد أضرّ به ... شوقٌ إلى وجهه سيدنفه
أعرض عن قرنه وفرّ فما ... أصبح شيءٌ عليه يعطفه
كم يعد القرن باللقاء وكم ... يكذب في وعده ويخلفه
لا يعرف القرن وجهه ويرى ... قفاه من فرسخٍ فيعرفه
وله في هذا المعنى أهاج كثيرة فمن ظريفها:
سليمان ميمون النقيبة حازم ... ولكنّه حتمٌ عليه الهزائم
ألا عوّذوه من توالي فتوحه ... عسى أن تردّ العين عنه التمائم
وقال:
جاء سليمان بني طاهر ... فاجتاح معتزّ بني المعتصم
كأنّ بغداد لدن أبصرت ... طلعته نائحةٌ تلتدم
مستقبل منه ومستدبر ... وجه بخيلٌ وقفًا منهزم
من ملح أبي دلامة
وقال روح بن حاتم لأبي دلامة: اخرج معي وهذه عشرة آلاف درهم. فقال:
إني أعوذ بروحٍ أن يقرّبني ... إلى الحمام فتشقى بي بنو أسد
إنّ المهلّب حبّ الموت أورثكم ... وما ورثت اختيار الموت من أحد
وكان أبو دلامة شاعرًا فصيحًا، وماجنًا مليحًا، واسمه زند بن الجون الأزدي.
ودخل على أبي جعفر المنصور فأنشده وذكر زوجته:
فاخرنطمت ثم قالت وهي مغضبةٌ ... أأنت تتلو كتاب الله يالكع؟!
قم كي تبيع لنا نخلًا ومزدرعًا ... كما لجارتنا نخلٌ ومزدرع
خادع خليفتنا عنها بمسألةٍ ... إنّ الخليفة للسؤّال ينخدع
قال: قد أمرنا لك بمائة جريب عامر، ومائة جريب غامر. فقال: وما الغامر يا أمير المؤمنين؟ قال: الذي لا ينبت، قال: فإني أقطعك عشرة آلاف جريب من فيافي بني أسد. فضحك وأمر له بالجميع عامرًا، فقال: إئذن لي في تقبيل يدك يا أمير المؤمنين؟ فقال: أما هذه فدعها، فقال: ما منعت عيالي شيئًا أسهل عليهم من هذه.
ودخل أبو دلامة يومًا على أبي جعفر المنصور فأنشده:
إنّي رأيتك في المنا ... م وأنت تعطيني خياره
مملوءةً بدراهم ... وعليك تأويل العباره
فقال له المنصور: امض فأتني بخيارة أملؤها لك دراهم. فمضى فأتى بأعظم دباءة توجد. ما هذا؟ قال: يلزمني الطلاق إن كنت رأيت إلا دباءة، ولكني نسيت، فلما رأيت الدباءة في السوق ذكرتها.
وهذا إنما أخذه من ابن عبدل الأسدي، وقد دخل على بعض بني مروان، فقال: تأذن لي أصلحك الله أن أقص عليك رؤيا رأيتها؟ فقال: هات؛ فأنشد:
أغفيت قبل الصبح نوم مسهّدٍ ... في ليلةٍ ما كنت قبل أنامها
فرأيت أنّك رعتني بوليدةٍ ... فتذانةٍ حسن عليّ قيامها
1 / 38