ثم رجع إلى مكانه من الدهليز، فلما خرج روح من الغلس، وتبعه غلمانه خرج الفتى في جملتهم متنكرًا وخلص.
فلما أسفر الصبح دخل روح فتأمل الكتابة فراعه وقال: ما كتب هذا إنسي، وما يدخل هذه الدار سواي، ولا حظ في المقام بالعراق؛ ثم نهض من ساعته ودخل على بشر وقال: يابن أخي، أوصني بما أحببت من حاجة أو سبب عند أمير المؤمنين. فقال له: هل رأيت منا ما تكره؛ أو أنكرت شيئًا من سيرتنا فلم يسعك المقام؟ فقال: لا والله، جزاك الله عن نفسك وعن سلطانك خيرًا، ولكن حدث أمر لا بد لي من الشخوص فيه. فأقسم عليه ليخبرنه بالخبر. فقال: إن أمير المؤمنين قد مات أو هو ميت. فقال بشر: ومن أين علمت ذلك؟ فأخبره بخبر الكتابة، وقال: ليس يدخل داري أحد غيري، وما كتبه إلا الملائكة أو الجن. فقال بشر: أقم فإني لأرجو ألا يكون لهذا حقيقة. فأبى.
وقدم على عبد الملك فقال له: ما أقدمك؟ أنكرت شيئًا من حال بشر؟ قال: لا والله، وذكر حسن سيرته، وقال: إنما جئت في أمر لا يمكنني ذكره إلا خاليًا. فقال عبد الملك: إن شئتم، وخلا بروح فأخبره القصة، وأنشد الأبيات؛ فضحك عبد الملك حتى فحص برجليه، وقال: ثقلت والله على بشر؛ فاحتال عليك ليخلوا له أمره.
من مزح الجادين
قال إسحاق: حدثني رجل من قريش قال: قال لي محمد بن خالد القرشي: ذكرت لي جارية عند أبي فلان القاضي، فامض بنا إليه. قال: فصرنا إليه واستأذنا فإذا هو يصلي؛ فلما فرغ من صلاته قال: لأمر ما جئتم؟ قلت: فلانة. قال لغلامه: يا غلام، علي بفلانة لتخرج، فخرجت علينا جارية كأنها مها تتثنى في مشيتها؛ فلما قعدت وضع عود في حجرها، فجسته واندفعت تغني:
عوجي عليّ وسلّمي جبر ... كيف الوقوف وأنتم سفر
ما نلتقي إلا ثلاث منى ... حتى يفرّق بيننا النّفر
فقام القاضي على أربعة، قال: انحروني فإني بدنة، أهدوني فإني بدنة، والله لا أبيعها بمال يكال، ولا بمال يوزن، ولا بالخلافة، ولا بالدنيا، انصرفوا.
وأتى إسحاق بن إبراهيم الموصلي باب الفضل بن يحيى فحجبه خادم اسمه نافذ مرات؛ فلقيه الفضل فقال: ما لك لا تأتينا يا إسحاق؟ فقال: أتيت أعز الله الأمير فحجبني نافذ. قال: ف ...، قال: لا يمكنني، فأتى بعد ذلك فحجبه فكتب إلى الفضل:
جعلت فداءك من كل سوءٍ ... إلى حسن رأيك أشكو أناسا
يحولون بيني وبين السلام ... فلست أسلّم إلا اختلاسا
وأنفذت أمرك في نافذٍ ... فما زاده ذاك إلاّ شماسا
فلقيه بعد ذلك فقال: يا إسحاق، أكان ما ذكرت؟ فقال: بعض ذلك أصلح الله الأمير، فضحك وتقدم ألا يحجبه أحد إن أراد الدخول، وإنما كان الفضل استثقل إسحاق لبأو كان فيه، وكان الفضل أكبر الناس كبرًا، وأعظمهم تعاظمًا. وقال بعض الشعراء:
وما على المرء ما لم يأت فاحشةً ... في لذة العيش لا عارٌ ولا حرج
يأيها اللائمي فيما لهوت به ... عرّج بلومك إني عنه منعرج
بعض من كرهوا المزاح
فإن كره قوم المزاح فلقول أكثم بن صيفي: المزاح يزيح بهجة الأشراف.
وقال أبو سليمان الداراني: أنا أكره المزاح لأنه مزاح عن الحق.
وقال الحسن البصري: المزاح اختراع من الهواء.
وقال زياد: من كثر مزاحه قل إلى النباهة ارتياحه.
وقال عمر بن عبد العزيز: إياك والمزاح فإنه يجر القبيحة، ويورث الضغينة.
وقال الأحنف: لن يسود مزاح، ولن يعظم مفاكه.
وقال سعيد بن العاص لابنه: لا تمازح الشريف فيحقد عليك، ولا الدنيء فيجترىء عليك.
وقال أبو نواس:
صار جدًّا ما مزحت به ... رب جدّ ساقه اللعب
متى يكون المزاح مكروهًا
وقال ابن المعتز: من كثر مزاحه لم يخل من استخفاف به، أو حقد عليه. فإنما ذلك إذا كان المزاح غالبًا على المرء، وكان المرء فيه غالبًا يجريه في كل مكان ومع كل إنسان. وقد قال عمر ﵁ للأحنف: من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر مزاحه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل ورعه، وذهب حياؤه، ومن ذهب حياؤه مات قلبه.
أو ينزله الممازح تعريضًا بالمعايب، وتنبيهًا على المثالب؛ فذلك المكروه الذميم وصاحبه الملوم.
1 / 13