قبل أن تقرأ
شكر واجب
موسكو 1973
قبل أن تقرأ
شكر واجب
موسكو 1973
الجليد
الجليد
تأليف
صنع الله إبراهيم
قبل أن تقرأ
واكبت سنوات مراهقتي نهاية العهد الملكي في مصر. كانت البلاد تموج بدعوات التحرر الوطني من الوجود الإنجليزي العسكري، والتحرر الاجتماعي من سيطرة الإقطاع، ومن الأمية والمرض والحفاء! .. وشكلت هذه البيئة وجداني، وخاصة الحديث عن أن المعرفة هي كالماء والهواء يجب أن تكون للجميع وبالمجان.
وفي مغرب يوم من سنة 1951م، كنا أنا وأبي عائدين من زيارة لأحد أقاربنا في شرق القاهرة. توقفنا في ميدان العتبة لنأخذ «الباص» إلى غربها حيث نقطن. اتخذنا أماكننا في مقاعد الدرجة الثانية. نعم! كانت مقاعد «الباص» آنذاك - والترام أيضا - مقسمة إلى درجتين بثمنين متفاوتين للتذاكر التي يوزعها «كمساري» برداء أصفر مميز أثناء مروره على الركاب.
جلسنا أنا وأبي خلف الحاجز الزجاجي الذي يفصل الدرجتين، وتابعت في حسد ركاب الدرجة الأولى، بينما كان أبي غارقا في أفكاره التي تثيرها دائما أمثال هذه الزيارات.
قلت بحماس طفولي: «سيأتي اليوم الذي يزول فيه هذا الحاجز، بل ويصبح الركوب بالمجان.»
تذكرت الروايات التي أعشق قراءتها فأضفت: «والكتب أيضا!»
تطلع إلي باستياء من سذاجتي: نعم! الكتب بالمجان؟ يا لها من سذاجة!
ولم أتصور وقتها أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه كتبي أنا متاحة للقراءة بالمجان! وذلك بفضل مبادرة جريئة من مؤسسة مصرية طموحة، فشكرا لها!
صنع الله إبراهيم
شكر واجب
للدكتورة نادية محمد يوسف الجندي
والدكتور إيمان يحيى
على ملاحظاتهم عند قراءة المخطوطة،
كما يشكر المؤلف الأستاذ عادل الغرباوي
على ما بذله من جهد
في إعداد الرواية للطبع.
موسكو 1973
1
ظهرت القومندانة قرب الظهر على باب الحجرة بوجهها المستدير المتجهم الذي يجلله شعر رمادي. ملأت فتحته بجسدها البدين. قالت إنها ستضم إلينا طالبا روسيا. قلت لها إن هناك ثلاثة أسرة فقط، فأشارت إلى واحد مفكوك وملقى فوق الدولاب. قلت: سني 35 ولا أحتمل التكدس والضجة، ثم إني مفروض أن أقيم في غرفة مفردة كبقية طلاب الدكتوراه. نظرت إلي برهة كأنما تقيس حجمي الضئيل وإذا ما كنت أستحق فعلا غرفة كاملة. قالت:
تفاريش (رفيق)
شكري ،
لادنا (حسنا) ستبقون ثلاثة كما أنتم.
أصلح
ماريو
البرازيلي بعد انصرافها من وضع تقويم العام 1973 المثبت على الحائط قرب الباب. كان نحيفا في طولي، ذا عينين ضيقتين عصبيتين، ويرتدي قميصا صوفيا مخططا وبنطلونا من الجينز. قال وهو يعبث بالحلق المدلى من إحدى أذنيه: إنهم يحرصون على وضع طالب روسي مع الأجانب لينقل أخبارهم. قال
جلال الدينوف ، الطويل ذو الملامح الآسيوية، ابن جمهورية
قرغيزيا ، إحدى جمهوريات
الاتحاد السوفييتي ، كأنما يحاول درء الشبهة عنه: ليس هناك ما يستحق النقل.
ارتديت معطفي ووضعت
الشابكا (القبعة الصوفية) فوق رأسي، ولففت الكوفية حول عنقي، وارتديت الحذاء المبطن بالفراء ذا النعل المناسب للمشي فوق الجليد. تأكدت من وجود القفاز في جيبي، هبطت الدرج النظيف إلى الطابق الأرضي ووجهت التحية إلى
الدجورنايا (حارسة الباب) ثم غادرت
الأبشجيتي (بيت الطلاب). كانت الشمس قد اختفت وهاجمني الثلج المتساقط والهواء البارد. سالت إفرازات أنفي، وأنزلت زائدتي
الشابكا
اللتين تغطيان الأذنين، وارتديت القفاز. مشيت فوق الجليد بحذر. كانت الواجهة الزجاجية
للمجازين (الحانوت) مكدسة - مثل كل الحوانيت - بأهرامات من العلب المعدنية للبن المركز، ولا شيء غيرها. وتمتد في أعلاها لافتة من القماش تحمل هذه العبارة: «نحن ننفذ الخطة. إلى الأمام نحو الشيوعية». وتجمع عند المدخل عدد من السكارى، ضم أحدهم إصبعين فوق ياقة سترته؛ دعوة للاشتراك مع اثنين آخرين في زجاجة فودكا.
لم يكن الاختيار صعبا بسبب محدودية المعروضات. فوقفت في طابور الشراء أتأمل صورة
بريجنيف
المعلقة على الجدار. اختفت إحدى البائعات اللاتي يرتدين معاطف بيضاء. وانهمكت أخرى في حديث طويل مع ثالثة. أخذت إيصالا بما أريده. ثم انتقلت إلى طابور آخر للدفع، وحسبت البائعة ثمن مشترياتي على الحاسبة الخشبية: 310
كبيكات (بيض)، 30
كيفير (لبن رائب)، 463 فودكا و80 خبز. دفعت وأخذت إيصالا بالمبلغ ثم انتقلت إلى طابور ثالث لأستلم مشترياتي.
أردت أن أنتقي الخبز بيدي المجردة فنهرتني العاملة في عنف، واستخدمت شوكة معدنية في التقاط الخبز. غادرت الحانوت ووقفت أتفرج على شرطي دفع رجلا إلى الحائط وأخذ يضربه بوحشية بالغة، ثم ألقى به في سيارة الشرطة.
تجاوزت عجوزا في معطف أبيض وبوط أسود خلف صندوق لفطائر
البيروشكي . فتحته لتبيع واحدة فلفحها البخار المتصاعد منه. اتجهت إلى كشك السجائر الذي يتولاه عجوز أشيب الشعر. عندما أصبحت أمام نافذة الكشك فوجئت بالبائع يغلقها وينهمك في مراجعة عدة صناديق من السجائر طبقا لكشف في يده. كان يفعل ذلك ببطء شديد ويده ترتجف. راجع محتويات الكشف مرة أخرى، ثم عد النقود المتحصلة لديه، ثم بحث عن شيء ما. خلال ذلك تكون طابور خلفي وأخذت أتقافز فوق قدمي لأبث فيهما الدفء. سمعت من يقول إن الحرارة تحت الصفر بعشر درجات. وقال آخر: العجوز يبحث عن قضيبه. وسأل ثالث: هل وجده؟ أجاب الأول: طبعا لا. أخذ البائع يصف أصنافا جديدة من السجائر خلف الزجاج ويضع عليها علامات بأسعارها. وانفلتت إحدى العلامات فأعاد تثبيتها في بطء. وأخيرا فتح النافذة. اشتريت علبة سجائر
تيو 144
وعدت إلى
الأبشجيتي .
كانت يداي قد تجمدتا من البرد، فأسرعت إلى حمام الطابق الأرضي، ووضعتهما تحت الماء البارد كما نصحت بأن أفعل. وشعرت بالألم في أطراف أصابعي عندما بدأت تدب فيهما الحرارة.
قابلت القومندانة وأخذت منها ملاءات نظيفة. كدت أصطدم
بفيرا
اليهودية التي ترتدي دائما جوبات قصيرة. صعدت إلى غرفتي في الطابق الرابع. لم يكن بها أحد. أعددت ثلاث بيضات في المطبخ المشترك للطابق. أكلتها ثم أعقبتها بكوب من الشاي الجورزيني (الجيورجي) الجيد، نسبة إلى جمهورية
جورجيا
السوفييتية. أشعلت سيجارة وسحبت الدخان بقوة فقفز الفلتر في فمي. شعرت بالرغبة في النعاس، فاستلقيت فوق فراشي القائم في الركن الأيمن مقابل فراش
ماريو
في الركن الأيسر. وكان سرير
جلال الدينوف
ملاصقا لسريري يصنع معه خطا مستقيما بحيث يرقد عند أقدامي.
أيقظني
جلال الدينوف
عند دخوله. استند إلى الدولاب الخشبي الصغير وقال:
تفاريش شكري ، أعرف أن المصريين كرماء، وأنا مسلم مثلك وأريد معروفا. قلت: تكلم. قال إن له صديقة روسية في بلده ينوي الزواج بها وليس معها تصريح بالإقامة في
موسكو ، فهل يستطيع إحضارها لتقيم معنا؟ سألته: كيف ستنام؟ قال: في سريري، وسنضع ستارة حولنا. سألته: هل أخذت رأي
ماريو ؟ أجاب: نعم، وافق. أبديت موافقتي، فتهلل وجهه وأخذ يعد حقيبته للسفر كي يحضر صديقته.
علمت منه أن
ماريو
سيسافر بالليل إلى
ليننجراد ، نزلت إلى الطابق الأرضي ووضعت اثنين من
الكبيكات
في جهاز التليفون العمومي. تلفنت
لمادلين
في معهد اللغات. انتظرت حتى تم استدعاؤها ثم دعوتها للمجيء في الغد. سألت: و
ماريو ؟ لا أريد أن يراني. قلت: سيسافر الليلة.
2
حلقت ذقني بالموس السوفييتي الحديدي وأنا أتعجب من أمر السوفييت؛ يصنعون الصواريخ وعاجزون أو غير مهتمين بصناعة موس آدمي. حملت ملابس نظيفة ونزلت إلى الحمام العام في الطابق الأرضي. استحممت بالمياه الساخنة. صعدت إلى حجرتي فألقيت بالمنشفة فوق الشوفاز الساخن لتجف. وفي الخامسة وفدت
مادلين
بعد أن تركت بطاقة هويتها لدى الحارسة. كانت برازيلية في منتصف العشرينيات، دقيقة الحجم، سوداء الشعر، أسنانها العلوية بارزة بعض الشيء. وكنت قد تعرفت بها هي و
ماريو
أثناء دراسة اللغة. احتضنتها وأحضرت إبريق الشاي من المطبخ. أرتني في انفعال أسطوانة
روبرتو كارلوس
البرازيلي الذي يغني بالبرتغالية وأهدتني عطرا رجاليا رشاشا. وضعنا الأسطوانة فوق البيك أب الصغير وأغلقت الباب بالمفتاح. خلعت بنطلوني وبقيت بالسروال الصوفي الداخلي وخلعت هي الكولون السميك الخمري اللون. تحسست فخذيها المبلولين. كنت أسألها عادة عن الفترة الآمنة، ونحسب الأيام التي انصرمت منذ آخر دورة شهرية. لكني نسيت هذه المرة وتذكرت وأنا داخلها. سألتها فلم تنزعج. كانت تستسلم لي دائما قائلة إنها تثق في وإني أعرف كل شيء. حاولت أن تقبلني لكني أبعدت فمي عنها فلم أكن أحب شفتيها. تجنبت ثدييها لأنها لم تكن تشعر بشيء من مداعبتهما. قالت بعد لحظة: اضربني! لم أفعل لأني لم أكن أحب ذلك أيضا.
عاودتني الآلام في قضيبي عندما انتهينا، أما هي فقد تنهدت في ارتياح قائلة: لم أعد أتألم كما كان يحدث مع صديقي
هرمان
بسبب قضيبه الثخين، يبدو أني اتسعت من المران.
3
طرق الباب. سألت :
كتو تام ؟ (من هناك؟) فتحت
لهانز
الألماني الوسيم. في الثلاثين من عمره وأطول مني، يتدلى شعره الأشقر الناعم فوق جبهته مفروقا من الوسط، وله شفتان غليظتان. كان يأتي من
ألمانيا
الشرقية عدة مرات في السنة ليلقى الأستاذ المشرف على رسالته. حياني:
بريفيت . قال إن معه طالبتين روسيتين من ساكنات الطابق الخامس. سألني أن أنضم إليهم لأن
فريد
و
حميد
السوريين اللذين يشاطرانه الغرفة غائبان.
رافقته إلى غرفته حاملا البيك أب وأسطوانة الموسيقى العربية. كانت الفتاتان في بداية العشرينيات:
زويا
نحيفة في طولي أو أطول قليلا ذات وجه طفولي وعينين زرقاوين وشعر أشقر قصير وصدر صغير، متزوجة بمجند في الجيش يعسكر في منطقة بعيدة. والأخرى شقراء أيضا تدعى
تاليا
ذات ملامح عادية.
كانت الغرفة تحوي فراشين متقابلين وثالثا خلف الخزانة الخشبية التي وضعت بعرض الغرفة عند المدخل. وضعت البيك أب فوق المكتب الذي توسط الفراشين أسفل النافذة وأدرت أسطوانة الموسيقى العربية. أنصتت الفتاتان في وجوم، ثم قالت
تاليا : أليس لديك موسيقى راقصة؟ أحضرت من غرفتي ثلاث أسطوانات غربية لموسيقى حديثة. وضعت واحدة فصفقت
زويا .
قدم لنا
هانز
فودكا وقطعة جبن وخبزا متجلدا. صب لنا وجرع كأسه قائلا:
نازدروفيا (نخب الصحة). رفعت كأسي إلى فمي وأخذت منه رشفة. قالت
زويا : ليس هكذا، يجب أن تشرب الكأس كله مرة واحدة. قلت: لا أريد أن أسكر. قالت: سأعلمك كيف تتجنب ذلك: في البداية تشم الفودكا ثم تأخذ رشفة وتبقيها لحظة في فمك، ثم تبتلعها وتجرع الكأس كله وعلى الفور تأكل شيئا. جرعت كأسي حسب تعليماتها ثم تناولت قطعة من الخبز. قالت إن أباها لم يكن يشرب إلا الكحول المركز، ويرفض خلطه بالماء أو أي شيء، وللتأكد من تركيزه يملأ كأسا ويشعل فيها النار، فإذا اشتعلت أطفأها وشرب. قالت
تاليا : الخبز الطازج المصنوع من الدقيق النقي يوجد فقط في أماكن محددة؛
كوتوزوفسكي بروسبكت
قرب منزل
بريجنيف
وحانوت في شارع
جوركي
وسينما الفنون في
الأرباط . اعتذرت عن كأس أخرى، فقال
هانز : يجب أن ننهي الزجاجة، فلا توجد وسيلة لإغلاقها بعد فتحها. أزاحت
زويا
خصلة من شعر رأسها تدلت فوق عينها وثبتتها خلف أذنها. سألتني عن مصير الأراضي التي احتلتها
إسرائيل
في البلاد العربية. قلت إنها لن تتحرر إلا إذا تغيرت الأنظمة الحاكمة. قالت: لكن بعضها يؤمن بالاشتراكية؟ قلت: هذا ما يزعمونه. حكيت لهم عن حرب الاستنزاف التي نخوضها منذ سنوات ضد الاحتلال.
كانت
زويا
تجلس بجوار
هانز
فوق فراشه واستلقت
تاليا
بعرض الفراش المقابل مسندة رأسها إلى الحائط. وجلست أنا على المقعد الوحيد بجوار المائدة. سألتني
تاليا
عما إذا كنت اشتركت في القتال. قلت إني كنت مجندا في أحد المكاتب العسكرية بعيدا عن الجبهة ثم عدت للتدريس في الجامعة، وحصلت على منحة من برنامج التبادل الثقافي مع الاتحاد السوفييتي. اقترحت
زويا
إطفاء النور وأشعلنا شمعة. جذبها
هانز
ليرقصا فاستسلمت لأحضانه. لم أتحرك من مكاني. كان بصري معلقا بوجهها وساقيها العاريتين. تأملتني
تاليا
واجمة. سألتني عن وضع المرأة في
مصر . قلت إنه تحسن كثيرا بعد الثورة؛ فخلعت البرقع والنقاب وأصبحت تمارس كثيرا من المهن، حتى إنها عملت أخيرا محصلة في سيارات الباص. بعد قليل وقفت قائلة: سأذهب لأن عندي دراسة. وخاطبت صديقتها: ألن تأتي معي؟ قال
هانز : دعيها تبقى قليلا. انصرفت
تاليا
وواصل الاثنان الرقص. ثم جلسا فوق الفراش. وساد الصمت بيننا. قمت واقفا مستأذنا في الانصراف وحملت البيك أب وأسطواناتي ومضيت إلى حجرتي.
4
لم أجد مياها ساخنة لحلاقة ذقني فتمتمت ساخطا: يا فتاح يا كريم! عثرت على بيضة وحيدة فأخذتها إلى المطبخ ووضعتها في قليل من المياه على نار البوتاجاز. عدت إلى الغرفة وأنا أغني: هذه بيضتي أنا. على نسق إحدى الأغاني الوطنية التي تقول: «هذه أرضي أنا، وأبي قال لنا مزقوا أعداءنا.»
ترجمت
لماريو
ما قلته بالإنجليزية التي يجيدها. فضحك. سألني ماذا ستفعل الليلة؟ قلت: لم أقرر بعد. وأنت؟ قال إنه سيقضي الليلة مع أبناء جلدته. سألته:
مادلين ؟ قال: هي وصديقتها
إيزادورا
وآخرين.
كانت
إيزادورا
سمراء متفجرة بالأنوثة ذات ملامح أفريقية وكبرياء. وكنت معجبا بها لكني تهيبتها فاهتممت بصديقتها
مادلين . أما هي فارتبطت بشاب من بلدها اسمه
هيكتور . كان وسيما ورياضيا، ويبدو من أبناء العائلات البورجوازية الذين تتاح لهم أوجه كثيرة من النشاط الاجتماعي والرياضي.
خرج
ماريو
إلى المعهد. تقدمت من النافذة. وقفت أتأمل الثلج المتساقط. جذبت المصراع الزجاجي. كان خلفه مصراع زجاجي آخر - به كوة صغيرة تفتح للتهوية - وبينهما مساحة تقوم بدور الثلاجة نودع بها ما لدينا من زبد وجبن و
كلباسا (اللحم البارد). أخرجت الزبد ووضعته على المائدة إلى جوار الخبز الأسود والجبن والمربى. وذهبت إلى المطبخ فغليت مياه الشاي وعدت بها إلى الغرفة. وكما توقعت قرع
فريد
بابي. كان قصير القامة بدينا ذا صوت جهوري وشارب كث. وتعود أن يبدأ يومه بزيارتي وتناول الإفطار معي. جلسنا نأكل وهو يثرثر. حدثني عن زميله
حميد
الذي سينهي دراسته هذا العام وعن
هانز
وعن غزوات الاثنين النسائية المتتابعة. وكالعادة شعرت بصوته يكاد يخرق أذني. وانتابني هبوط مألوف وتمنيت أن ينصرف.
5
انطلقت إلى معهد «التاريخ المعاصر» سيرا على الأقدام رغم الجليد. كانت الشوارع مليئة ببقايا أشجار عيد الميلاد الخضراء الصغيرة، وشرفات البلوكات السكنية مزدانة بالمصابيح الملونة والشعارات: الحزب والشعب متحدان، المجد للعمل، تعيش الشعوب السوفييتية بناة الشيوعية. استوقفني في المدخل حارس بلباس رسمي أسود مزين بأزرار نحاسية. أريته بطاقتي ودفعت الباب الزجاجي. طالعني وجه
لينين
محفورا في الخشب وفوقه لافتة تعلن: «إلى الأمام نحو انتصار الشيوعية». خلعت معطفي وسلمته في ركن المعاطف ومعه الكوفية و
الشابكا .
حضرت درس اللغة الروسية. كانت المعلمة في منتصف الثلاثينيات، وترتدي جوبة قصيرة فوق كولون أبيض. ثم تناولت الغداء في مطعم المعهد: حساء كرنب له رائحة مياه غسيل الملابس، مع خبز أسود و
جولاش
به نتف من اللحم، وشاي.
6
اقترح
هانز
أن نخرج للتنزه مع
زويا
و
تاليا
لأن اليوم سبت. وفي آخر لحظة اعتذرت
تاليا
فصرنا ثلاثة فقط. قال إننا في حاجة إلى فتاة إذ لا يعقل أن نكون اثنين مع واحدة. اتصلت
زويا
بصديقة لها لتأتي معنا فاعتذرت هي الأخرى. قالت:
نيتشيفو ، لا بأس، نذهب نحن.
مضينا سيرا على الأقدام إلى الغابة القريبة تحت الثلج المتطاير. عائلات بكاملها تمارس الانزلاق على الجليد. أطفال في ملابس ثقيلة أقاموا رجلا من الثلج. غطت
زويا
رأسها
بشابكا
صغيرة من الصوف المطرز، كشفت أطراف شعرها الذهبي. لم تكن لغتي الروسية قادرة على ملاحقة الحديث الذي تبادلاه بحماس. اكتفيت بالإنصات إلى صوتها الموسيقي. وأحيانا كان
هانز
يترجم ما قالته إلى الإنجليزية. كانت تتحدث بلهجة طفولية شاعرية عن مظاهر الطبيعة وعن طفولتها. وفجأة دمعت عيناها، واكتشفت أنها تتحدث عن موت
خروشوف
أو
خروشتشيف
كما ينطقونها.
قلت إني حضرت دفنه. كنت قد عرفت النبأ في الصباح من صحفي صديق وذهبت معه إلى مقبرة
نوفا ديفنشي . وعندما أردنا الدخول منعنا الحراس. تقدمتنا عجوز متواضعة الملابس بوجه مجعد وعينين دامعتين يغطي رأسها منديل أبيض، وقدماها في حذاء بال من الفلين. توسلت للحارس كي يسمح لها بالدخول وهي تردد:
تفاريش ،
تفاريش . وأخيرا سمحوا للواقفين جميعا بالدخول. مضينا بين مقابر زعماء وعلماء وفنانين بينهم
تشيخوف
و
جوجول
و
ماياكوفسكي
وزوجتا
ستالين
و
كاسيجين . وصلنا إلى الصف المخصص لموتى العام الحالي. أحاط بنا بضع عشرات، قال صديقي إن أغلبهم من رجال المخابرات والصحفيين الأجانب. تمكنت من رؤية الجثمان في حفرة المقبرة. جسم ضئيل ووجه شاحب مختلف تماما عن الوجه المألوف المتقد حيوية وسلطة. وعندما انتهت الكلمات طاف الجميع من حوله وألقى كل منا بحفنة تراب وأحجار في الحفرة.
مسحت
زويا
عينيها بظهر يدها المقفزة قائلة: نشر خبر وفاته بعد يومين في ذيل الصفحة الأولى
للبرافدا
بحروف صغيرة.
احتضنها
هانز
وتبادلا قبلة عميقة. قال إن الأمور متشابهة في كل مكان، فمن يهزم في الصراع على السلطة يختفي من التاريخ. لم أعلق.
قررنا النزول إلى وسط المدينة. ركبنا باصا صغير الحجم إلى محطة المترو. دفع كل منا 5
كبيكات
عند مدخلها الدوار. وقفنا ننتظر القطار حتى أقبل مندفعا ليتوقف فجأة. انزاح بابه مفتوحا مفرجا عن الرائحة الثقيلة للزحام الروسي؛ الملابس الرطبة، الثوم ، الكرنب، الجلد المبلل. اندفعنا وسط شبان مرحين في بزات التزلج الصوفية في طريقهم إلى محطة
بيلوروسكا
والغابات الثلجية. صاح قائد القطار:
ديفيريا زكريفايتسا (الأبواب تغلق). وصلنا المحطة المؤدية إلى الميدان الأحمر؛ الثريات الضخمة، السلم الكهربائي المتحرك، جماعة من الأرمن يبيعون اليوسفي، نساء ملفوفات بالأوشحة يبعن باقات زهور،
البابوشكات (العجائز) المنحنيات تحت وطأة ما يحملنه من سلال. وأخيرا الشارع تحت الثلج الذي أصبح أكثر ثقلا وبدأ يتراكم فوق الرصيف؛ الناس تمشي بحذر فوق الأرصفة التي تغطى بعضها بالرمل، المعاطف السميكة المبطنة بالفراء والقبعات المصنوعة من جلد الغزال أو من الاستراخان الحقيقي والكوفيات حول الأعناق، لا يظهر من الوجوه غير فتحتي الأنف والعينين. نازحات الجليد في كل مكان وإلى جوارها الناقلات التي تنثر الرمال. فرق من النساء بالجواريف والنازحات الخشبية والمكانس يقمن بتنظيف الشوارع الجانبية. أخريات يزحن الجليد عن السيارات المركونة تاركات قطعا من الكارتون بين ماسحات المطر تعني غرامة خمسة
روبلات
لأصحابها. بعضهن يحملن مشاعل لإذابة الجليد من بين قضبان الترام. طابور طويل من المنتظرين خارج ضريح
لينين
ليلقوا نظرة على جثمانه المحنط.
عبرنا الميدان إلى قبر الجندي المجهول. وقفنا عند الحاجز. قرأت اللوحة التي خاطبته: «اسمك مجهول وأعمالك خالدة». ذكرت اللوحة أن الجندي مات في طريق المطار عند النقطة التي أوقف فيها الجيش الأحمر تقدم الألمان نحو
موسكو . كان هناك جنديان يحرسان القبر في كشكين صغيرين من الزجاج. وحل موعد تغييرهما فظهر بديلاهما يخطوان في مشية الإوزة. تجمع زحام صغير. وبكت إحدى العجائز.
قالت
زويا
بلهجتها الشاعرية إن أبراج
الكرملين
وقباب الكاتدرائيات التي على شكل البصل تضاء بالليل فتبدو مثل الحكايات الخيالية.
تجولنا قليلا ومررنا بال
جوم ، الحانوت الضخم الذي يبيع كل شيء. وسط الجليد وقف بائع
الماروجنا (الآيس كريم) بردائه الأبيض والبوط. توقف سقوط الثلج وظلت السماء رمادية. تجمد المخاط في أنفي. مرت بنا سيارات
الفولجا
و
الموسكوفيتش
تتخللها في أحيان سيارة أو اثنتان من طرازي
زيل
و
تشايكا
اللذين يستخدمهما الحكام. تحولنا إلى اليمين عند حانوت ال
تسوم ، وتوقفنا نتأمل أعمدة مسرح
البلشوي
العالية بأربعة جياد من البرونز فوق قمتها. دقت ساعة
الكرملين
دقاتها الرصينة التي أعلنت انتصاف النهار. تركنا كنيسة
سانت بازيل
خلفنا وواصلنا طريقنا صعدا إلى ميدان
سفردلوف
خلف فندق
موسكفا . كان أمامه باص سياحي تجمع حوله قليل من الركاب. بالجوار كشك لبيع الملصقات والصحف والهدايا. أخذت أتقافز لمقاومة البرد وفقدت الشعور في يدي اليمنى.
اقترحت
زويا
أن نتناول طعام الغداء في
استالوفيا ، وهي نوع من المطاعم الشعبية معروفة برخص أسعارها. فأي من الوجبات الثلاث لا تتكلف أكثر من ثلاث
روبلات
أي حوالي 150 قرشا مصريا. تناولنا غداء من سلاطة وخبز وحساء سمك وأرز أو بطاطس محمرة مع لحم أو دجاج أو سمك مع العصائر والفاكهة. وكان
بريجنيف
يطل علينا طول الوقت من على الحائط.
أبدى هانز قلقه من مستوى الأكل ونظافته فقالت
زويا
إن الطباخات يرتدين ملابس نظيفة معقمة، ويضعن على رءوسهن بونيهات بيضاء ويتم الكشف الطبي على الجميع كل شهرين. وضحكت قائلة: صحة الإنسان السوفييتي مقدسة، أما عقله فشيء آخر.
7
عاد
جلال الدينوف
مع فتاته
ناتاشا ؛ شقراء روسية في الثامنة عشرة من عمرها، وديعة وخجولة، سألته كيف أدخلها؟ قال وهو يلامس إصبعه السبابة بالإبهام بالطريقة العالمية: تفاهمت مع
الديجورنايا . ثبت بطانية حول فراشه بحيث تحجبهما عنا. وقبل النوم طلب مني أن أدير أسطوانة ل
جلينكا
حاشدة بأصوات قرع الطبول. ثم توارى مع صديقته خلف الستارة. وفي الصباح الباكر تسللت الفتاة إلى الطابق الخامس المخصص للفتيات لتغتسل.
خرجت إلى الكوريدور وقمت بتمرينات الصباح الرياضية، ثم أعددت شايا وقدمت لها كوبا. جلست إلى المائدة أمام الآلة الكاتبة العربية.
بقيت الفتاة طوال اليوم في الحجرة لا تغادرها خوفا من أن تتعرض للاكتشاف. وفي الليل سألني
جلال الدينوف : ألن تعمل على الآلة الكاتبة؟ أجبت بالنفي. طلب مني أن أدير أسطوانة
جلينكا
ثم توارى مع صديقته خلف الستارة.
8
لم أذهب إلى المعهد في اليوم التالي، وانقطعت للعمل على الآلة الكاتبة. وتبادلت مع
ناتاشا
عبارات متقطعة فهمت منها أن
جلال
من عائلة ذات مكانة في بلده تملك كثيرا من الأبقار. قلت لها: إن وضعك صعب جدا في غرفة بها ثلاثة رجال. ضحكت في خجل وقالت: لكننا نتصرف. قلت: كيف؟ قالت: عندما نطلب منك إدارة البيك أب. سألتني إذا كنت متزوجا. أجبت بالنفي.
فتح الباب فجأة دون طرق واندفع
جلال الدينوف
داخلا ووجهه محتقن. تطلع حوله ثم جذبها خلف الستارة. ودار بينهما نقاش حاد. خيل إلي أنها قالت له إنها لم تفعل أكثر من تبادل حديث قصير معي. بعد ساعة حزما حقائبهما وغادرا الغرفة.
خرجت إلى الكوريدور ومررت بالغرفة التي يقيم بها
خليفة
السنغالي بمفرده بسبب نفوذ عائلته أو قبيلته. كان الباب مواربا، وثلاجة متوسطة الحجم قربه. ثم فتاة فنلندية مستلقية على الفراش وغير آبهة بانكشاف فخذيها حتى الكيلوت، تتطلع إلى الباب منتظرة. ولمحت
خليفة
في نهاية الكوريدور مع بعض الطلاب. طرقت باب غرفة السوريين. فتح لي
هانز
ورأيت زويا في الداخل. كانت جالسة في وجوم على فراشه. أدركت السبب في وجومها عندما أعلن عزمه السفر في عطلة الأسبوع إلى
ييريفان
عاصمة
أرمينيا
مع طالب أرمني. أراد أن يخفف الجو فروى نكتة روسية تسخر من الأرمن: تلقى راديو
ييريفان
سؤالا من أحد المواطنين عما إذا كان من الممكن أن يحمل الرجل؟ فأجاب المذيع: لم يثبت ذلك لكن التجارب تجري الآن في جميع أنحاء أرمينيا.
دخلت علينا
تاليا
واستسلمت
زويا
بلا نفور لقبلاتها في الفم. شعرت بالتقزز وهو نفس الشعور الذي يخالجني عندما أرى العرب يتبادلون قبلات الشفاه. روينا لها نكتة الأرمن. قالت: لدي نكتة جديدة: فوجئ ركاب المترو بأحدهم يضرب جبهته بيده في قوة ويصيح كيف حدث ذلك يا غبي يا حمار يا ابن العاهرة؟ أسرع إليه مفتش القطار: ماذا تقول؟ أنت تجرح مشاعر الناس والقانون يعاقبك. قال له: اسمع الحكاية. ثم فوجئ الناس بالمفتش يخبط جبهته ويصرخ: يا غبي يا حمار يا ابن العاهرة! ثار الركاب وأخذوهما إلى الشرطة، سأل الضابط عما حدث، فقال الراكب: سأحكي لك يا رفيق، أنا كما ترى أبيض الوجه والجسم وأصفر الشعر وامرأتي شقراء بيضاء وولد لنا ولد زنجي أسود. فضرب الضابط جبهته بقوة قائلا: كيف حدث ذلك يا غبي يا حمار يا ابن العاهرة؟
وفد
حميد
بعد قليل. كان ممتلئا في طولي بشعر ناعم وشارب خفيف. قال لي بالعربية إن المحاكم الأردنية حكمت بالإعدام على 36 فدائيا فلسطينيا وإن
جولدا مائير
رئيسة وزراء
إسرائيل
أشادت بما أسمته «شجاعة الملك
حسين
وفروسيته».
9
قال
هانز
إنه سيصعد إلى غرفة
زويا
ليشرب الشاي. ودعاني للحضور. فكرت، كنت أريد أن أغفو قليلا لأكون منتعشا في سهرة المساء الموعودة. كما أني شعرت أن وجودي معهما لا معنى له، سيكون الحديث مملا بالروسية؛ اعتذرت.
تمددت فوق الفراش بملابسي من جديد، شعرت برغبة في الاستمناء لكني عدلت، ربما بنوع من الكسل، أو تجنبا للألم الذي أشعر به عنذاك. رحت في النوم وشعرت بالبرد فتغطيت. استيقظت على قرع الباب، فتحته لأرى
زويا
أمامي، كانت تطلب سكينا. بحثت عن سكين وأنا مجرد من عويناتي، انحنيت أمام الخزانة لأبحث في درجها السفلي، وبركن عيني لاحظت أنها ترتدي ثوبا قصيرا وأن ساقيها عاريتان بلا جوارب. أعطيتها السكين، قالت إنها تعد حساء ودعتني للحضور. انصرفت وعدت إلى الفراش، شعرت بهبوط، تمنيت أن يأتي أحد ليقول لي إن سهرة المساء ألغيت، أو أن أستطيع النوم إلى الغد، أو تأتي
مادلين
بالصدفة. ثم تصورت أني سأضطر إلى اصطحابها عند الخروج وتوصيلها، وبعدئذ ستطلب أن نتقابل مرة أخرى فعدلت عن الفكرة كلها تماما.
حاولت أن أتذكر ملامح وجه زويا ونبرات صوتها عندما فتحت الباب لها، كانت باسمة. ماذا كانت ستفعل لو كنت مددت يدي وتحسست ساقها العارية عندما انحنيت أمام الخزانة؟
غادرت الفراش، عدلت عن مواصلة العمل على الآلة في تقرير للأستاذ المشرف على برنامجي، غسلت أسناني ووجهي وأعددت شايا. جاء
ماريو
وذهب، أما القرغيزي فلم يظهر. أمسكت بكتاب عن
الإسكندر الأكبر ، ثم خرجت إلى الحانوت. لم تكن هناك فودكا لأنها لا تباع بعد السابعة مساء؛ اشتريت زجاجة شمبانيا ثمنها 4,76
روبلات ، ورغيف خبز ، عدت إلى الحجرة، وجدت
فريد
و
حميد
في انتظاري.
مرت
هند
علي فحملت الزجاجة ونزلنا جميعا إلى الطابق الثالث. كانت عراقية بيضاء على غير المألوف من مواطنيها، انضم إلينا صديقها الروسي
كوليا ، مضينا إلى الخارج كموكب حزين. ركبنا الباص ووضعت ثمن البطاقة في الصندوق المخصص لذلك، سحبت شريط البطاقات وقطعت واحدة. تجاوز
كوليا
الصندوق دون أن يدفع وقال لي إنه عادة لا يدفع فلا بد من الحياة على مستوى التلمذة. وقفت عند مدخل الباص فطلب مني روسي ممتلئ أن أتنحى قليلا، فعلت مدركا خطئي سعيدا بالابتعاد عن
هند
وصديقها. وقفت أمام جالسة روسية في الخمسينيات، ذات أسنان ذهبية وشعر مصبوغ. كانت تقرأ كتابا من الشعر، وبجوارها طالب أفريقي يحمل أسطوانة لأغاني
جيمس براون . خاطبني الروسي مرة أخرى وطلب مني أن أبتعد إلى مؤخرة الباص ففعلت. تأملته يقرأ كتابا باهتمام وفي يده شنطة بها عدة علب من مسحوق الصابون.
انتقلنا إلى المترو وجلست بجوار
هند ، سألتها عن سنها، قالت: 23. دار الحديث عن
مصر ؛ سألتني وهي تقضم أظافرها في شيء من الخجل عن آخر مرة كنت فيها هناك. ذكرت لها كيف كان انطباعي سلبيا. قالت إنها مرت
بالإسكندرية
في باخرة ورفضوا إنزالها لأنهم شكوا في أنها فلسطينية، لكنها لاحظت قذارة المدينة. قلت إنها كانت نظيفة في الماضي عندما كان بها أجانب ثم وسخناها عندما خلصت لنا.
غادرنا القطار في محطة
كوتوزفسكايا ؛ الحي الذي يسكن به كثير من الأجانب والدبلوماسيين. سرنا وسط أسطوانات الزجاج والألومنيوم التي شكلت ديكور المحطة. عبرنا إلى الناحية الأخرى من الطريق وأخذنا الباص، نزلنا إلى جوار كنيسة تدق أجراسها. مضينا إلى جوار أبراج سكنية حديثة من عشرة طوابق أو 15. استوقفنا شرطي مستفسرا عن وجهتنا، ذكرت له
هند
اسمها. سألها عن موطنها، أشار إلى
كوليا
الذي لزم الصمت. قلت له إنه لا يملك الحق في أن يسألنا. قال: بالعكس. ثم تراجع وابتعد ... تقدمنا من إحدى البنايات. كان الباب الزجاجي مغلقا لا يفتح إلا لمن يحمل مفتاحا أو يعرف رقم تليفون الشخص الذي يقصده ويدير الأرقام الأربعة الأخيرة منه فوق لوحة خاصة. فعل
فريد
فانفتح الباب أوتوماتيكيا. ارتقينا المصعد إلى الطابق الرابع، استقبلتنا الأرضية الخشبية اللامعة وفوقها
وليد
مرحبا. كان في نحو الأربعين، ممتلئ الجسم خفيف شعر الرأس. خلعنا أحذيتنا ومعاطفنا، ولجنا صالة ضيقة تحوي باب شرفة ومكتبا ازدحم بالكتب والأوراق والتليفون يواجه مكتبة حاشدة. وفي الجانب الآخر مائدة حفلت بأطباق المزات السورية: المكدوس والحمص والطحينة والثوم والملفوف وغيرها.
كانت زوجته
لمياء
سمراء ممتلئة في الثلاثين ذات عينين ضيقتين في وجه شاحب حزين. قالت لي إن زوجها هو الذي أعد المزات بينما كانت مشغولة بطفلتهما البالغة من العمر سبعة شهور. سألتني لماذا لم أحضر
مادلين
معي، وأضافت أنها قابلتها في العيادة الطبية وأعجبت بها. جلسنا حول المائدة وفتح
كوليا
زجاجة الشمبانيا. شربنا نخب الطفلة ثم صب
وليد
فودكا لنا. علق على موقف الشرطي قائلا إنه يملك الحق في منع أي روسي من دخول العمارة لأنها مخصصة للدبلوماسيين والصحفيين الأجانب، ولا بد من الحيلولة دون الروس والاتصال بهم. ثم دار الحديث عن أنواع الجبن، وقال
كوليا
إنه يعبد
الروكفور
وأخذها معه مرة لأمه في قريته في
بيلاروسيا
وكادت تلقي بها في الزبالة من رائحتها. أشار
وليد
إلى الجبن الموجود على المائدة وقال إنه نوع جيد يدعى
سوفيتسكي
وثمنه 3,40 روبلات وإنه لم يعثر على نوع آخر أغلى منه. قال
فريد
إنه يفضل جبن
روسسكي . انفرجت ملامح
كوليا
الجامدة وقال ضاحكا إنه يفضل
روسيا
على
الاتحاد السوفييتي . أحضرت
لمياء
طبقا من اللحم البارد. وجهت الحديث إليها متسائلا عما تفعل. قالت إنها تعمل بالتدريس في مدرسة أبناء الدبلوماسيين العرب وتعود في الخامسة مساء منهكة لتقوم بشغل البيت. سألتها في خبث: ألا يساعدك
وليد ؟ قالت في استنكار إنه مشغول دائما بمقابلات لا تنتهي:
سهيل إدريس ،
مصطفي الحلاج ، وقبلهما
إميل توما
و
محمود درويش
و
لطفي الخولي ، وأمس سهر مع
إميل حبيبي
وكان هناك مؤتمر المسرح العالمي وهو يستعد الآن لمهرجان السينما في الشهر القادم . رد عليها في هدوء إنه يقوم بمقابلات مفيدة وإنه يعد عددا من الدراسات سيستفيد منها الجميع. أردت أن أغير مجرى الحديث فسألته عن فيلم المخرج الجورجي
يوسيليان «عاش طائرا مغردا» فقال إنه لطيف ولكن به عيوب فكرية. وقال إنه يعرف المخرج شخصيا. قال
حميد
إن فيلمه الثاني المعادي لستالين كان ممنوعا من العرض منذ إخراجه عام 63 والمفاجأة أنه يعرض الآن في الدور الصغيرة. قال
وليد
إنه كان مع المخرج منذ أيام وأبلغه بذلك فأخذ مجموعة من أصدقائه وذهبوا لمشاهدته، فوجد أن السلطات قطعت منه أجزاء. سأل إذا كان أحدنا قد رأى فيلم
بازوليني «
أوديب
ملكا». ومضى يقول دون أن ينتظر الإجابة: إنه لا شيء، فقد تراجع عن مرحلته الأولى، وبدأ يهتم بالطقوس الدينية. اعترض
فريد
فلم يعبأ به واستطرد قائلا إن مسرحية
فايدا
البولندي عن
فيتنام
تقدم الآن على مسرح
تاجانكا ، وإنه - أي
فايدا - أخرج هاملت بصورة جديدة؛ إذ جعل منظر الموت في ضوء ساطع على مسرح بغير ستارة بدلا من الظلام الذي كان يستخدمه المخرجون الآخرون عادة. غمس أصابع الملفوف في مزيج الخل والزيت والتهمها في شراهة.
دق جرس التليفون، تمنيت لو جاء أحد؛ واحد وزوجته أو فتاتان. انتهت المكالمة بموعد للقاء في الغد. تكرر التليفون وفي هذه المرة فهمت أن شخصا سيأتي مع زوجته وصندوق بيرة
ستلا
المصرية. سألت
وليد : كيف حصل عليها؟ قال: موجودة في كثير من الأمكنة،
الاتحاد السوفييتي
يقبل من
مصر
أي شيء مقابل ديونها.
جلست أنتظر وعيني على الباب وأذني على صوت المصعد. وأخيرا وصل الرجل وزوجته: خنزير أبيض وخنزيرة بيضاء في بنطلون. أخذ
وليد
على جانب وأعطاه حفنة
دولارات . وأعطاه
وليد
بالمقابل
روبلات . التفت إلينا وهو ممسك
بالدولارات : لو أحدكم يريد استبدال
دولارات
أنا في الخدمة. دار الحديث مرة أخرى عن موقف الشرطي. ودافع
وليد
عن حق السلطات في منع الاتصال بالأجانب. واستعرض عددا من طلبة المعهد السوريين ووصفهم بأنهم «طور الله في برسيمه». علق
حميد
على رداءة بعض المصنوعات السوفييتية وتخلفها في الشكل الخارجي بالمقارنة مع المنتجات الغربية. شعرت كما لو كان يوجه حديثه إلى
وليد . علقت قائلا السبب هو انتفاء المنافسة في السوق، لكنها تتميز بالجودة. قال: أي منتج يتعين على الناس أن تشتريه لأنه لا يوجد بديل له. قلت: ليس البديل أبدا هو المنافسة الرأسمالية، رحب
وليد
بكلامي. أحضرنا زجاجات
ستلا
وأخرج سمكة مجففة أعطاها
لكوليا
فقشرها وهو يتعبد فيها ويحكي لنا طرق استخراجها وكيف أن أباه أكل مرة واحدة على مدى شهر كامل؛ لأنها لا تباع في الأسواق ولا توجد إلا في حوانيت
اليريوسكا
التي تتعامل بالعملة الأجنبية. استمتعت بقطعة صغيرة منها مع البيرة. احتكر
وليد
الحديث مرة أخرى. واستأذنت زوجته لتنام. بعد قليل شرعنا في الانصراف. احتضن
وليد هند
وطلب منها أن تقبله في خده. ثم انفرد بصديقها في جانب وتبادلا حديثا خافتا. ثم أصر أن نشرب المزيد من البيرة. واستبقى الضيف الذي أحضرها لأنه يريد الحديث معه في أمر هام. غادرنا الشقة. ومررنا بالشرطي في الكشك المخصص له. تحدثنا بالعربية بصوت عال. شكا
كوليا
من حموضة في معدته. واحتضنته
هند
في دلع حتى ركبنا الباص. وقفت إلى جوار
حميد
فسألته هامسا: ألا يخشى
وليد
شيئا عندما يقوم علنا باستبدال
الدولارات ؟ ضحك قائلا: عمليات الاستبدال تتم تحت رعاية ال
ك. ج. ب (المخابرات) لأن الدولة تحتاج إلى
الدولارات .
10
عاد
جلال الدينوف
بمفرده. قال إنه استأجر غرفة في منزل قريب، وستقيم
ناتاشا
معه. وقال إنه سيحتفظ بفراشه في حجرتنا، وعلينا ألا نذكر شيئا عن مبيته في الخارج؛ فليس مسموحا الإقامة خارج بيت الطلبة واتخاذ مسكن مستقل.
11
لم أنم جيدا بسبب ضجة مهولة طوال الليل في غرفة البنات فوقي. وفي غرفة
خليفة
ظلت الموسيقى الراقصة دائرة حتى الرابعة صباحا. وكنت أتهيج عندما أفكر في
زويا
فيؤلمني قضيبي. تصورت أننا بمفردنا وخرجنا سويا، ثم صار جسمها النحيف بين ذراعي وأنا أنظر إلى عينيها.
حملت زجاجة لبن فارغة إلى المغسل لأملأها بالماء وأغتسل بها بدلا من ورق التواليت الخشن. كان
خليفة
السنغالي يقف أمام آخر حوض في الركن. وشرع يغتسل وإذا به يخلع سرواله ويبرز قضيبا كبير الحجم ثم يضعه تحت صنبور المياه ويغسله وهو ينظر إلي مزهوا.
قررت العمل على الآلة الكاتبة. حملتها لأضعها على المائدة فوقعت أرضا وتحطم سطحها البلاستيكي. وضعتها جانبا في غضب. وفد
حميد
وهون علي. خرجنا سويا وشربنا بيرة روسية بلا طعم في
البيفسايا (صالة البيرة) المجاورة. حكيت له عن معاركي مع زميلي
حلمي عبد الله
الانتهازي عضو الاتحاد الاشتراكي الذي نافسني في حب زميلتنا
جمالات
وفاز بها.
1
قابلنا
بشار
عند عودتنا فقال إنه اشترى لحما جيدا من
البريوسكا ، ودعانا للأكل. كان سوريا متوسط القامة ينسدل شعر رأسه الناعم حتى كتفيه على الطريقة الغربية.
أعددنا صينية في الفرن وضعناها في مطبخ الطابق الأول وجلسنا أمامها كي لا يسرقها أحد. أكلنا في غرفة السوريين مع بقايا زجاجة نبيذ. وانضم
فريد
إلينا، قال إن
إسرائيل
قامت بغارات جوية على
سوريا
استمرت ثماني ساعات، وإن زويا أحضرت كتابا لحميد منذ ساعة ثم اختفت. صعد
هانز
إليها ليدعوها فلم يجدها. أكلنا وشربنا فودكا بعد أن انضم إلينا
عباس
العراقي - العائد لتوه من بلده - و
جان
اللبناني و
هيلين
اليونانية صديقة
بشار . كانت ترتدي جوبة قصيرة للغاية كشفت عن ساقين بديعتين أشعرني جمالهما بالحزن. ظلت صامتة بينما دار الحديث بالعربية. استفسر
حميد
من
عباس
عن طالب عراقي أنهى دراسته بالمعهد وعاد إلى
العراق ، فقال: ماكو. عاد يسأله: و
عبد الجبار ؟ قال: ماكو. سألته عما يعني، فمر بإصبعه على رقبته دون أن ينبس. ذكر أن البعثيين قبضوا على أحد قادة العمال واغتصبوا زوجته وسرقوا أمواله ثم أجبروه على ممارسة الجنس مع غلام وصوروهما، ثم هددوه بفضحه بين العمال فخضع لطلباتهم. وقال إن
صدام حسين
بدأ حياته السياسية زعيما في الثانوي لإحدى فرق الإرهابيين المسلحة أثناء مطاردة الشيوعيين بعد سقوط
عبد الكريم قاسم . سألته عن المؤامرة التي وصفتها الصحف السوفييتية بأنها مخطط إمبريالي ضد حكم البعث الوطني، فقال إنها ملفقة ومحاولة لاصطياد الناصريين، وإن
الاتحاد السوفييتي
يؤيد البعث في الحق والباطل. سأله
فريد
عن كيفية اعتراف
عزيز الحاج
زعيم التنظيم الشيوعي المتطرف، قال إن السلطات البعثية أعدمت عددا من رفاقه أمامه واحدا بعد الآخر بعد تقطيع أجسادهم وخاصة أعضاءهم التناسلية. وتحدث عن تفاصيل محاولة اغتيال
البارزاني ؛ زعيم الأكراد.
12
دعوت
زويا
و
هانز
إلى كونسرت في
البلشوي
تعزف فيه رباعية
لموتسارت . فاعتذر
هانز
ليعمل في مشروعه. صعدت
زويا
لتغسل شعرها وغسلت أسناني. غادرنا
الأبشجيتي
سويا ووضعت يديها في جيبي معطفها. مضينا إلى الكونسرفتوار في صمت. رفضت العجوز القائمة على غرفة المعاطف البقشيش، قالت لي في لهجة عظة إنها ما تزال تحتفظ بلافتة من أيام الثورة تقول «هنا لا نقبل البقشيش»، وأضافت: إذا كان الإنسان مضطرا للخدمة لكسب خبزه فهذا ليس مبررا لإهانته بتقديم البقشيش له.
كان المسرح مزدحما ولم نجد مقاعد متجاورة. جاء مقعد
زويا
في الصف الثاني وأنا في الصف الأخير بجوار فتاة كازاخية. شردت ولم أستطع التركيز وشعرت بالملل. في الاستراحة أسرعت إلى البوفيه، طالعني وجه فتاة سمراء حلوة، تعرفت فيها على خادمة مصرية عند أحد موظفي السفارة المصرية، وكانت برفقة شاب روسي متأنق بشكل متعمد يشي بأصوله المتواضعة. عرفتني وبدا عليها الارتباك. التقيت
زويا
وتقدمنا من البوفيه، شربنا بيرة وعرضت عليها أن تأكل شيئا فرفضت. كان القسم الثاني من الكونسرت أكثر حيوية. وقالت عندما التقينا من جديد إنها الآن
سفابودنيا جينشنا (امرأة حرة) لأن فترة الإعارة من الساعة السابعة حتى العاشرة انتهت. تشاغلت باستكشاف مواعيد الحفلات القادمة في الملصقات، وقلت إن
هانز
يريد حضور حفلة
باخ ، قالت بمرارة إنه سيذهب إلى بلده.
مشينا إلى محطة المترو وأنا أجد صعوبة في إيجاد موضوعات للحديث. قالت شيئا لم أتبينه حول حركة القطار التي تدفعها في اتجاهي. وأضافت مرة أخرى أنها امرأة حرة. قلت: حذار. قالت إنها أدت امتحان الشهر بصورة جيدة لأن المدرس معجب بها. وقالت إنها كانت تعتقد في قبحها، وكانوا يسمونها في المدرسة بالهيكل العظمي. أوشكت أن أحتضنها.
في مدخل
الأبشجيتي
قالت إنها ستمر علي لنشرب الشاي. لقيت
هانز
في الكوريدور يتطوح سكرانا، وقال إنه جائع. سألني عما فعلنا فقلت كانت ليلة مملة. أجبرته على أن يصعد معي إلى الطابق الخامس بحثا عن
زويا . لم نجدها وعندما نزلنا فوجئنا بها في حجرته. لاحظت أنها أضافت طلاء أحمر إلى شفتيها. قال لها: أين كنت؟ بحثت عنك. فأشارت إلي قائلة: لا، هو الذي بحث عني. بعد قليل قبلها في شفتيها ثم نظر إليها في ازدراء وقال لها بالألمانية كلمة تعني أنها ساقطة. رددت الكلمة دون أن تفهم. فتحت زجاجة بيرة وأعربت عن احتجاجي لكلمته بأن رفضت إعطاءه منها. دار حولنا وقال إنه يتمنى ألا يحدث شيء بيننا، فأسرعت هي تقول: لن يحدث. قال إنه يريد أن يأخذها إلى حجرة
بشار ؛ فهي خالية. لكن ليس معه مفتاحها. قلت: اذهب إلى حجرتي فليس بها أحد.
13
ذهبت قبل غروب يوم السبت مع
فريد
و
بشار
السوري وصديقته
هيلين
إلى منزل صديقة
فريد
الروسية على مسافة ساعة ونصف بالقطار. مضينا في شارع قصير ضيق على جانبيه مبان سكنية من أربعة طوابق من الطوب الأحمر تصاعدت منها أصوات الموسيقى الصاخبة. وبدت أشجار البتولا عارية وباردة من غير أوراقها. ارتقينا سلما معبأ برائحة الكرنب، ولجنا شقة من غرفة وصالة لها أرضية من اللينوليوم الرمادي، وتتوسطها مائدة ومقعد وسرير مغطى ببطانية صوفية. فوق المائدة نظارة وعلب أدوية ونسخة من جريدة
برافدا . على الجدران صور
لينين ، وميداليات العمل الاشتراكي وشهادة بالعيد الأربعين لعضوية الحزب الشيوعي.
استقبلتنا
إيرما
صديقة
فريد
وأمها. الأولى أطول من
فريد
وفي بداية العشرينيات، ذات وجه طفولي. والثانية في الحجم الروسي المعهود ذات وجه ينم عن شخصية قوية. قال لي
فريد
بالعربية إنها شيوعية جيدة وفقدت زوجها من 15 سنة. وتعمل في التمريض وغيرت مرة عملها لأنها لم تستطع السكوت على سرقات الطبيبة.
كان المسكن فائق الحرارة فعلقت على ذلك. قالت الأم: في الماضي كان الناس يتجمدون من البرد حتى الموت، وهذا لا يحدث الآن. قالت
إيرما
في تحد: الآن يموتون بأسباب أخرى.
خلعت
هيلين
معطفها فكشفت عن ساقيها البديعتين. واختفت الأم في المطبخ. أدارت
إيرما
التليفزيون فشاهدنا فيلما دعائيا ضد الخمر. قالت ضاحكة إن عاملا عجوزا اقتيد إلى قسم الشرطة بسبب إفراطه في الشراب، وعندما سئل عن السبب في لجوئه إلى الزجاجة قال إنها تمنحه الوقت الوحيد الذي يشعر فيه بإنسانيته.
فتحنا زجاجات الشمبانيا والفودكا وتبادلنا الأنخاب. عرضت علينا
إيرما
ألبوم صورها وديوان شعر
إسحاق بابل
الذي تعرض للتعذيب في
لوبيانكا ؛ مبنى المخابرات السوفييتية، سنة 1939، حتى اعترف على أصدقائه ثم تراجع عن اعترافاته وأعدم في العام التالي بأمر من
ستالين
بتهمة التجسس ثم أعلنت براءته في عام 1954 بعد وفاة الدكتاتور السوفييتي. أبدت الأم تأففها من الحديث فهتفت
إيرما
في سخرية: يعيش
ستالين
العظيم إلى الأبد،
ستالين
أب ومعلم الشعوب السوفييتية، ملهم ومنظم انتصار الشيوعية، قائد كل البشرية التقدمية. قالت الأم: أيام
ستالين
كان المكان نظيفا، أما الآن أينما نظرت لا تجد غير الكحول والانحلال والمخدرات، رجال يضربون زوجاتهم حتى شفا الموت ويتشاجرون في المساكن المشتركة. بدا لي أنه صراع مستمر بين الاثنتين.
قال
فريد
مغيرا مجرى الحديث: إننا سنشهد قريبا هزيمة
أمريكا
في
فيتنام . قضينا الليلة نشرب فودكا ونلعب الورق ونرقص. قلدني
فريد
في لعب الرياضة بطريقة ساخرة وضحكنا. في الثالثة عندما سكرت رقصت مع
إيرما
وأنا منتصب، ورقص
بشار
مع صديقته، كان يتحرك بثقة وقد تهدل شعره الطويل حول رأسه.
نمنا كلنا على الأرض في غرفة المعيشة بينما احتلت النساء غرفة النوم. وفي الصباح شعرت بصداع عنيف. أعطتني الأم أسبرين وفيتامين «س» ثم نصحتني بشرب البيرة للتخلص من أثر الخمر. قمنا بجولة حول المكان. الجو رائع وقد توقف تساقط الثلج. البلكونات مزدحمة بشتى أنواع المهملات؛ هياكل أسرة ودراجات وإطارات سيارات قديمة ونباتات ميتة. وفوق بعضها لافتات «النقد الذاتي البناء أساس حزبنا»، و«من النار يولد الصلب». تحدثنا عن مشاكل المسلمين والمسيحيين في
مصر . ثم عدنا إلى المنزل واستأنفنا الشراب ولعب الورق، وكنت أكثرهم مرحا، بينما جلست الأم صامتة إلى جواري ثم نهضت وأعدت لنا طبقا من عيش الغراب بالثوم والزبادي.
انصرفنا قبل المغرب وبقي
فريد
في غير حماس. قرأت قليلا في القطار في رواية
آرثر كوستلر «ظلام الظهيرة» التي تنتقد السوفييت وحصلت عليها من
هانز . أغلب الركاب يبدو عليهم الإرهاق بعد سهرة السبت. وكان هناك زوج نائم بينما زوجته تقرأ، واستيقظ فجأة طالبا منها مقطبا أن تزيح ساقها التي استقرت فوق ساقه. انتقلنا إلى المترو وصعدت معنا عجوز تحمل قيثارة. لمحت رجلا نائما على مقعد وحيد واضعا يده وصورته على فمه. وكان هناك أيضا ضابط عرفنا من لهجته أنه سوري مع فتاة حلوة تحمل دبلة زواج، وقالت له عندما وجه إلينا التحية: بلديات لك مرة أخرى. وأخذت تتأملنا. كانت ترتدي غطاء للرأس على شكل باروكة ليمونية اللون، فكرت أنه أحضرها لها من
سوريا
أو
هلسنكي
أو
البريوسكا ، وأنه في بعثة تدريب أو وفد زائر. في إحدى المحطات أعلن قائد القطار في الميكروفون عن فتح الأبواب. فقال لها شيئا وضحك. وعندما غادرنا المترو خرجا أمامنا وانضم إليهما ضابط سوري آخر مع فتاة تبدو أقرب إلى العاهرات. وقفنا ننتظر الباص وانتحى الأربعة جانبا وأخذ الضابطان يقلدان للفتاتين الحركات العسكرية المختلفة وهما تضحكان.
14
فتح
هانز
باب حجرتي وقال: هذا هو. كانت زويا بجانبه في رداء أزرق بزخارف صينية يصل إلى ركبتيها، فوق بنطلون أخضر اللون. قالت لي:
زدراستفيتي (مرحبا). رددت عليها بصوت خرج غريبا. تطلع إلي
هانز
في بغتة. قالت إنها لم تنم هنا بالأمس. لم أهتم. سألتني: لماذا أنت كئيب؟ قلت: ضغط دم منخفض. قالت: يوجد دواء. ثم قالت
لهانز : لماذا لا تقول لي كلمات جميلة؟ وروت نكتة جديدة: بعد عدة عقود سأل صحفي أجنبي مواطنا سوفييتيا عن
بريجنيف
و
كاسيجين ، فقال إنهما اثنان من الساسة عاشا في عصر الكاتب الروسي المتمرد
زولجنتسين . ضحكت في تكلف. انصرفا.
في الساعة الرابعة والنصف أصبح الجو مظلما وكئيبا. ارتديت المعطف وخرجت حاملا الآلة الكاتبة من مقبض علبتها. مشيت حتى المترو وركبت إلى
بروسبيكت ماركس . دخلت حانوتا لإصلاح الآلات الكاتبة. سلمت الآلة لعامل متجهم قال لي أن أسأل عنها بعد شهر. اتجهت إلى مطعم خلف مسرح
البلشوي . وقفت أمام المطعم في البرد ساعة، كان حارس الباب يتحرك في عظمة ويدخل الناس على مراحل، الأولى بين البابين الزجاجيين حيث استمتعت بالدفء، وبعد ذلك فتح الباب الثاني وأصبحت داخل المطعم، فخلعت معطفي. طلبت نصف دجاجة
تاباك . ثم توجهت إلى دار للسينما، شاهدت فيلم «عاش طائرا مغردا». كان بطله عازف طبل في أوركسترا، ويصل دائما متأخرا ليقرع الطبل مرتين هما كل المطلوب منه. شعرت بالرغبة في البكاء عندما انتهى الفيلم بمصرعه في حادث طريق أثناء التفاته ليتأمل امرأة عابرة.
اشتريت
ماروجنا (آيس كريم). طرقت باب غرفة
هانز . فتح لي في جلباب النوم. كان الجلباب منتفخا وبارزا تحت وسطه. شككت أنه كان منتصبا. انحنى علي وقبلني في عنقي فابتعدت عنه. ارتدى ملابسه خلف الخزانة التي وضعت بعرض الغرفة. أعد قهوة. فكرت أني لو رأيت
زويا
سأتجاهلها. بعد دقائق سمعتها تقرع الباب. دخلت واضعة يدها على فمها قائلة في دلال: عندي برد. وجدتني أبتسم لها وأقول: اشتريت
ماروجنا . صفقت بيديها مهللة وجلست على مقعد. وضعت يدي على شعرها وضممت رأسها إلى صدري. أكلنا
ماروجنا
بالقهوة. غادرت مقعدها وجلست في حجر
هانز . أخذ يشرح لها معنى كلمة امرأة باردة. قلت: مثلها. قال: كيف عرفت؟ على العكس. قلت: كيف عرفت؟ سألته هي: كيف عرفت؟ قال: زوجها قال لي. ضحكنا. غادرت إلى غرفتي وتركتهما سويا.
15
في الصباح طرق
هانز
باب غرفتي وسألني إذا كنت رأيت البنت، فقلت لا. قال إنه رأى معها علبة سجائر مصرية وإنه طردها بالأمس وظن أنها ربما جاءت تشكو لي. قلت: أنا الصدر الرحب. ضحك.
ذهبت إلى المعهد لأستعيد جواز سفري وأعرف ماذا تم بالنسبة لرحلة
ليننجراد . قال
فريد
إن هناك اتفاقا على وقف الحرب في
فيتنام . تساءلت: كيف سيبدو العالم الآن وقد تعودنا على أنباء الحرب كل يوم؟ قال إن
إسرائيل
ضمت مرتفعات
الجولان السورية . حانت مني نظرة إلى الطابق الثاني فرأيت موائد وسندوتشات وبيرة وتفاحا وطماطم وأشخاصا أغرابا. قال
فريد
إنه مؤتمر لأعضاء الحزب الشيوعي في الحي. كانوا يرتدون ملابس يوم الأحد والأعياد، وعلى صدورهم شارات حمراء بصورة
لينين . مر بجواري أحد أساتذة المعهد. كان يحمل حقيبة يد مفتوحة ولمحت بداخلها قطعة كبيرة عارية من اللحم، ولم يكن هناك شيء غيرها.
مررت على غرفة السوريين عند عودتي إلى
الأبشجيتي . كانت
زويا
جالسة على فراش
هانز
في الجوب الأزرق القصير. سألتني: هل ستحضر مؤتمر الحزب الشيوعي؟ إنهم يبيعون لحما وتفاحا وطماطم. ضحكت فقالت: لماذا تضحك؟ قلت: أسئلتك كثيرة. غضبت ولزمت الصمت مستغرقة في قراءة صحيفة. اقترض مني
هانز
كوبين قائلا إن
فلاديمير
أحضر زجاجة فودكا. دعاني للانضمام إليهم فاعتذرت.
قررت أن أغسل ملابسي. ظهر
هانز
بعد ساعة وعلى وجهه علامات التعاسة. قال إنه يريد سكرا ليعمل قهوة. وقال إنه جلس صامتا بينما دار بين
فلاديمير
و
زويا
حديث برجوازي متكلف.
16
انطلقت مع
فريد
و
حميد
إلى المعهد. قال
حميد
إنه يتذكر عندما جاء
موسكو
لأول مر، كان يردد أنه سيكسر العالم بأسنانه. قال إنه يشعر كما لو كان لديه درج به كمية ضخمة من الطاقة ظل يسحب منها حتى فرغت. قابلت الأستاذ المشرف على برنامجي. كان في حوالي الخمسين، يرتدي سترة وبنطلونا غير متناسقي اللون. أنصت لي شاردا ثم أقر خطتي دون اهتمام. صرفت راتبي الشهري، ضعف ما يأخذه الطلبة العاديون.
ذهبت إلى العيادة الطبية رقم ستة التي نتبعها، في وسط المدينة. تمددت على سرير الطبيب بعد أن خلعت ملابسي، ووصفت له حالتي على ورقة رسمت عليها القضيب والخصية. طلب مني أن أمسك قضيبي بيدي وألبس يده قفازا أبيض ثم أدخلها في مؤخرتي وحرك إصبعه حتى شعرت بحرقان. قال إنني أشكو التهاب بروستاتا بسبب البرودة. كتب لي دهانا ودواء أحقن به نفسي في الشرج وتدليكا للغدة يقوم هو به. مشيت حتى مترو
أرباتسكيا
ثم غيرت القطار في
كييفسكايا .
17
عاد
ماريو
منفعلا من رحلة مع الطلبة البرازيليين لقرية على مبعدة ألف كيلومتر. قال إن أهلها يأكلون جيدا وإن الطماطم واللحم متوفران، ولا يملون الحديث عن ذكريات الحرب العالمية.
قررت أن أخرج وفكرت في الذهاب إلى السفارة. كانت السماء رمادية والمطر ينهمر فعدلت عن ذلك. بعد ساعة خرجت وركبت الباص ثم المترو حتى محطة
تاجانكا . اتجهت إلى مكتبة الأدب الأجنبي. استدعيت رواية «الكوميديون»
لجراهام جرين . بجواري عجوز جافة وشابة قبيحة، وضعا همهما في كتب الفن. في الساعة الخامسة شعرت بالنعاس وغفوت وأنا جالس عدة مرات لعدة دقائق. دخنت سيجارة في غرفة التدخين الباردة قليلا بسبب جهاز شفط الدخان. دخلت فتاة لتدخن وتمنيت وأنا أرقب جانبا من ساقيها بطرف عيني أن نتبادل الحديث. غادرت المكتبة إلى السينما المقابلة التي تعرض فيلما أمريكيا قديما من إخراج
فورد . لم أجد مكانا في الحفلة التالية. مشيت في حذر فوق الجليد حتى ميدان
تاجانكا . كان الهواء محملا برائحة المازوت المستخدم وقودا للسيارات. دخلت مقهى ووقفت عدة دقائق. ارتفع الدم إلى وجهي وأذني وغطى البخار نظارتي، مسحته بمنديلي. قلت للكاسيرة إني أريد مكرونة وحساء و
كتليت (كفتة) وقهوة. دفعت 50 كبيكا. وقفت في الصف. أخذت ملعقتين من حساء
الشي (الكرنب). ثم أكلت المكرونة والكفتة دون شهية وشربت القهوة. كانت هناك عجوز مزوقة بماكياج كامل، تأكل وهي تقرأ واقفة إلى مائدة. لبست قبعتي وقفازي واتجهت إلى سينما أخرى. وجدت عرضا يبدأ بعد ساعة لفيلم جاسوسية بلغاري. اشتريت بطاقة وأشعلت سيجارة. جاءت العجوز المزوقة وقطعت بطاقة. نزلت إلى التواليت في الطابق الأرضي وعدت فجلست في الصالة التي صفت بها مقاعد أمام منصة صغيرة. لمحت الناس تتجه إلى الداخل فتبعتهم إلى بوفيه وأخذت زجاجة بيرة وكونفيت (حلوى). ثم عدت إلى الصالة. ظهرت فرقة عازفين بينهم امرأتان. عزفوا بغير حماس بعض مقطوعات بينها أغنية «قولي لي» وسيرينادا
لشوبرت ، غنتها امرأة في ثوب سهرة عاري الذراعين، تلتها موسيقى جميلة لرقصة أوزبكية. كانت إحدى العازفتين تجلس بحيث لم يبد منها غير جانب وجهها، ولم أتمكن من رؤيته كاملا لكني اشتقت إلى ذلك . فقد ذكرتني
بجمالات . تذكرت خيبة أملي الدائمة عندما أرى بروفيلا لوجه ثم ألمحه كاملا. دق الجرس ودخلت القاعة. جلست بجوار رجل مرهق مكتئب. بدأ العرض بفيلم ملون عن روعة الحياة في الشرق الأقصى وكيف يستخرجون المعادن، وآخر بلغاري عن مدينة حديثة أعيد بناؤها بعد الحرب، وظهر
جيفكوف ، زعيم الحزب الشيوعي وهو يفتتح مصانع ومدارس، وأخيرا فيلم الجاسوسية. كان فيلما ساذجا عن جاسوس يحاول جمع معلومات عن جهاز الدفاع المدني. وبدأ الفيلم بحديث لجنرال كبير عن دور الدفاع المدني في الحرب الذرية. كان بطله ممثلا رديئا وسيما في دور فنان أيقونات مرممة يحتال على أجانب ثم يقع في أحابيل مراسل أجنبي يتولى تهريب المعلومات. وانتهى الفيلم فجأة دون أن أفهم السبب. وقالت امرأة خلفي إنها لم تفهم شيئا، فقال لها رفيقها وهو يتطلع حوله خجلا: كيف؟ كل شيء واضح. وقال شاب بجوارهما: البقية في الحلقة القادمة. وقال آخر: 60
كبيكا ، كنا اشترينا ثلاث زجاجات بيرة.
أسرعت إلى محطة المترو وركبت إلى محطة الباص. وقفت أنتظر الباص مدة طويلة في الثلج. سمعت في الباص أحاديث حول الجليد الذي لم يسبق من قبل. وقرأ أحد الركاب بصوت عال من صحيفته: خلال الأيام الخمسة الماضية سقط فوق
موسكو
أكثر من ثلاثين مليون مترا مكعبا من الجليد وبلغ ارتفاعه في الشوارع 36 سنتيمترا. وجدت عند
الديجورنايا
رسالة من صديقي
كمال . حذرني من التفكير في العودة إلى
مصر ، وذكر أن هناك اعتقالات. مررت على
هانز
ودعوته إلى غرفتي، أشعلت المدفأة الكهربائية المتنقلة، صنعنا الشاي. حكيت له ما قاله
ماريو
عن القرية. ضحك وقال: إنها تمثيلية معدة لكي تترك انطباعا إيجابيا برفاهية الحياة في القرى. انصرف عندما رآني أعد الحقنة. رقدت فوق الفراش رافعا ساقي إلى أعلى حتى التقت ركبتاي بأنفي واستمتعت بالماء الساخن وهو يتسرب إلى أحشائي. ثم أمسكت بالساعة المنبهة وشحنت جرسها ثم ضبطت مؤشرها على الثامنة. رششت صدري وتحت إبطي بالعطر الذي أهدته لي
مادلين . التففت جيدا بالأغطية مستمتعا برائحة العطر حولي، ونمت.
18
عملت على الآلة الكاتبة، بعد إصلاحها، في صحبة السيمفونية الخامسة
لتشايكوفسكي . ذكرتني موسيقاها الحزينة بما قاله
هانز
عن تمثال مؤلفها في وسط المدينة وكيف أن حركة يده اليسرى الأنثوية تشي بمثليته الجنسية. مضيت إلى المطبخ لأعد كوبا من الشاي. طرقت باب غرفة السوريين وأدرت مقبضه. فوجئت
بهانز
واقفا يحتضن شخصا ما. كان ضوء النافذة في وجهي. ظننت الشخص
فلاديمير
وإذا به زويا، كانت مستسلمة إلى كتفه. تحولت نحوي فاحتضنتها. قلت لها إنه كان يبحث عنها. قالت: أعرف أن هذا غير صحيح. أهدتني قلما وقالت إنها ذاهبة لتستحم وبعدها ستذهب إلى حجرة
فلاديمير
الذي يرسم لها بورتريه. مضيت إلى غرفتي. بدأت أقرأ رواية
زولجينتسين «عنبر السرطان». طرق
فريد
بابي. قال إنه سمع في الراديو أن
إسرائيل
أسقطت طائرة مدنية ليبية. خرجت لأبتاع لبنا وكونياك وصحيفة
ليتراتورنايا جازيتا (الجريدة الأدبية). اشتريت شايا هنديا وخبزا وسردينا مغربيا. قابلت
هانز
في الكوريدور عند عودتي. كان في طريقه صاعدا إلى الطابق الخامس. بعد ساعتين جاء
هانز
وفلاديمير إلى غرفتي ومعهما زجاجة فودكا منزلية. كان الأخير أوكرانيا في العشرين، ممتلئا، مهملا في ملابسه. قال
هانز
إنه سيسافر إلى
ألمانيا
في الغد. وقال
فلاديمير
إنه لن يتزوج إلا عذراء. جاءت زويا في بلوزة ذات خطوط طولية حمراء اللون. احمر وجه
فلاديمير
ولم يرفع عينيه عنها. حكيت لهم ما رواه
زولجينتسين
عن الاستنكار للأهل الذي كان يكتبه أبناء المبعدين من
ليننجراد
أيام
ستالين ، وما أعلنه
لينين
سنة 1917 من ضرورة إعطاء العمال المهرة أعلى المرتبات. قالت
زويا
إنها تعلمت بضع عبارات بالألمانية منها:
إيش ليب ديش (أنا أحبك). مرت بنا لحظات صمت طويلة. لم ترفع
زويا
عينيها عن وجه
هانز . كان أنيقا وسيما وشعره يتدلى على جبهته. سألتني
زويا
عما بي. قلت لا شيء. الماكرة تدرك على ما أعتقد كل شيء. يا لها من روعة أن تجلس وسط ثلاثة رجال وهي تعرف أنهم يحبونها بأشكال مختلفة. صب لها فلاديمير الكأس تلو الآخر. هل يسعى إلى إسكارها؟ نهض وأدار أسطوانة «الفالس الأخير» التي تحبها هي لأنه يمكن الرقص معها. انضم إلينا
حميد
ثم
تاليا
ورقصا معا. أطفأت نور الحجرة وأشعلت مصباح المكتب. جلست
زويا
فوق الشوفنيرة الخشبية تتمايل منتظرة أن يدعوها أحدنا للرقص. بدا السكر على
هانز . أضفت إلى المائدة زجاجة فودكا
بيريتسوفايا . أتطلع إليها ثم بسرعة إلى
هانز
لأرى هل ينظر إلي وبسرعة
لفلاديمير
لأرى هل يتطلع إليها. انحنت
زويا
على
هانز
وقبلته في فمه. قام وجذبها من ذراعها وهي تتمنع في دلال. صحبته حتى باب الغرفة، تهامسا. ثم عادت تجلس تكمل السيجارة. راقبتها بركن عيني تسحب صدريتها وترتديها في هدوء. ثم وقفت وقالت:
سباكويني نوتش (ليلة هادئة). رمقتني لحظة ثم غادرت الغرفة وفي أعقابها
هانز . ظللنا جالسين بعض الوقت وأنا أتطلع إلى النافذة. ثم انصرفوا جميعا وبدأت أعد الحقنة.
19
نظفت الحجرة وجاء
هانز . قال إن
فريد
و
حامد
قضيا الليلة في الخارج وإن زويا باتت معه وما زالت في حجرته وإنها تلقت أمس خطابا من زوجها يفيد أنه مريض بالتهاب رئوي وستسافر إليه. دار في الحجرة دون هدف ثم قال: لقد تركتها أمس مع
فلاديمير
ثلاث ساعات ثم أخذتها إلى الفراش. صمت لحظة ثم قال: كان يجب أن تراهما وهي تودعه وقد التصق خداهما بقوة. ذهب إلى المرحاض بينما سبقته إلى غرفته. وجدتها مكومة أسفل المكتب. كانت ترتدي البلوزة الزرقاء الأنيقة التي تبدو كقميص عسكري. قالت: كيف رأيتني؟ قلت: بقلبي. قالت: سأرى إذا كان
هانز
سيشعر بمكاني. قلت إن لديه مشاغل كثيرة. جاء هو وسأل: أين هي؟ ثم رآها. أشارت إلى صورة رسمتها لنفسها وعلقتها على الجدار فوق فراشه. كتبت في أعلاها:
دوبري أوترا (صباح طيب) وأسفلها:
سباكويني نوتش . قالت إنها سترسم لي واحدة أيضا. قلت: لو تطلعت إلى الصورة قبل النوم لن يكون نوما هادئا. شعرت بنفور من طريقتها الطفولية والشاعرية في الكلام. كانت قد أحضرت علبة مربى وذهبت تبحث عن خبز وزبد. كانت العلبة جديدة وأنيقة من إنتاج
رومانيا . فكرت أنها قد تكون هدية لها من
فلاديمير . سألني: هل تظن أنها أعطته شيئا؟ قلت: لا أعتقد. أشار إلى حركات
فلاديمير
الأنثوية. عادت بالخبز والزبد وأفطرنا. سألتها عن مصدر علبة المربى ففكرت طويلا ثم ذكرت اسم حانوت. اعتقدت أنها تكذب. قرأت لنا قصة قصيرة كتبتها بالأمس. أسطورة عن شمسين وزهور وإحدى الشمسين دبت فيها البرودة. سألت
هانز
إذا كان سيرافقها حتى القطار. قال إنه متعب وهي تستطيع أن تجد طريقها بنفسها. استعدت للانصراف وقبلتني في خدي قائلة إنها ستمر علي عند عودتها. ثم قالت:
ني سكوتشايني بيز منيا (لا تستوحشوا من غيري).
أخذت الحقنة وشعرت برغبة حسية. أغلقت باب الحجرة بالمفتاح ونمت على وجهي فوق وسادة، تصورت فخذي
فيرا
اليهودية في جوبتها القصيرة، حككت جسدي حتى سرت فيه رعشة اللذة. قرأت قليلا وإذا بي أغفو. استيقظت بعد مدة. فكرت أن أتصل
بلاريسا
وأدعوها للعشاء. كنت قد تعرفت بها وبصديقتين لها في حانوت لبيع الكتب بالقاهرة. وكن يعملن بالسفارة السوفييتية. طويلة رشيقة مليحة الوجه. لم أتحمس للفكرة. ربما بسبب المرة التي شعرت فيها برائحة فمها، أو لرغبتها الملحة في الزواج. تخيلت مجرى الحديث معها وعندما سيصيبني الملل وأفكر في التخلص منها.
20
أدخل الطبيب يده في مؤخرتي وبدأ في تدليكي. كان أسمر البشرة ويبدو من إحدى الأقليات غير الروسية. قال بلهجة عدوانية تعجبت لها إنه يحتاج إلى إطار لسيارته
الفولكس فاجن
وسألني إذا كان في إمكاني توفير واحد له. قلت: كيف؟ قال: من سفارة بلدك. قلت إني لا أعرف أحدا بها. انتهى من تدليكي فقال بلهجة غاضبة: ها أنا أضع يدي في مؤخرتك دون أن تحضر لي ولو زجاجة ويسكي. تجاهلت الأمر.
21
اجتمعنا مع زويا في غرفة السوريين بعد عودتها من زيارة زوجها؛ أنا و
حميد
و
فريد
و
فلاديمير . وصفت لنا كيف وجدت فتاة المطبخ الساذجة مدلهة في حبه ولا تكف عن ملاحقته. وكيف سكر المجندون ذات ليلة وفتحوا خزانة الضابط وأخذوا ثلاث زجاجات فودكا وأبدلوا جزءا منها بالماء. وقالت إنها تعرفت على زوجها عندما كانت في تنظيم الطلائع وتضع حول رقبتها شالا أحمر. وإنها في البداية لم تحبه لكن تزوجته لتتحرر من سيطرة أمها. وإن الليلة الأولى معه كانت محبطة. سألت: أهناك أخبار من
هانز ؟ متى سيعود؟ قالت وهي تنظر إلي: أعرف أن علاقتي به ستنتهي بشكل ما. وقالت إنها لا تحب الأشخاص المتواضعين الخجولين.
قال
فلاديمير
إن مجلة
سوفتسكايا كولتورا (الثقافة السوفييتية) المجلة الجديدة للجنة المركزية للحزب، انتقدت
فلاديمير فيسوتسكي ، وهو نجم سينما شاب وممثل مسرحي حقق شعبية واسعة بين الشباب بصوته الأجش وأغانيه المعارضة التي تسخر من النظام السوفييتي. تلا إحدى أغانيه:
بينما كنت أريق دمي من أجل البلد والوطن،
كان يشتعل شيء بداخلي،
كنت أنزف من أجل
سيروشكا فومين ،
الذي ظل جالسا في الخلف ولم يخاطر من مخبئه.
أخيرا انتهت الحرب،
وانتهى العبء الثقيل الذي حملناه على أكتافنا،
وقابلت
سيروشكا فومين ،
وفوق صدره شارة بطل الاتحاد السوفييتي.
قالت
زويا
إن بعض أغانيه تتناول موضوع معسكرات العمل في
سيبريا . ومنها أغنية تقول:
قضي علينا نحن الاثنين؛
هو بتهمة الاحتيال،
أنا بحب
كسنيا .
فقد أمسكت بنا
التشايكا (البوليس السري).
وأنا الآن مع
بتروف
سجينان
محاطان بلصوص الخطوط الحديدية والمنازل.
22
أعطاني صحفي مصري كل ما لديه من صحف مصرية بسبب انتهاء عمله في
موسكو . حملتها في سيارتي تاكسي إلى المعهد. صعدت بها إلى غرفتي عدة مرات. رأتني القومندانة ففغرت فمها دهشة لكنها لم تعقب بشيء. وضعت الصحف على جانب فكونت كوما عاليا. فكرت في هول ما أنا مقدم عليه. استخرجت صحف الأيام الستة من يونيو 1967 وعكفت على قراءتها. أمسكت بالمقص وقصصت بعض محتوياتها. أسقطت بضع نقاط من زجاجة الصمغ فوق ورقة بيضاء. ألصقت القصاصات وكتبت التاريخ في أعلى الورقة. ثم تناولت صحيفة أخرى.
23
وضعت جانبا رواية الأمريكي
ثورنتون وايلدر
عن
يوليوس قيصر . تناولتها من جديد وأعدت قراءة الفقرة التي لفتت نظري: «الشعراء هم الذين قالوا للناس إننا نتقدم إلى الأمام إلى عصر ذهبي بينما يتحملون معاناتهم على أمل أن يأتي عالم أسعد يبتهج له نسلهم. أصبح من المؤكد تماما أنه لن يكون هناك عصر ذهبي ولن يمكن أبدا خلق حكومة تعطي لكل إنسان ما يسعده؛ لأن النزاع يكمن في قلب العالم وحاضر في كل أجزائه. من المؤكد أن كل إنسان يكره من وضعوا فوقه، وأن الناس سيتنازلون عن أملاكهم بنفس السهولة التي تسمح بها الأسود بانتزاع الطعام من بين أسنانها.» قرأت فقرة أخرى: «يجب علينا نحن الحكام أن نكون في آن واحد الأب الذي حماهم من الأشرار في طفولتهم والقس الذي حماهم من الأرواح الشريرة.»
24
قال
ماريو
إنه سمع في راديو صوت
أمريكا
أن ثمانية من الفدائيين الفلسطينيين اقتحموا مقر السفارة السعودية في
الخرطوم
وأعدموا ثلاثة من الدبلوماسيين الأجانب. وقال إنه سيبيت في الخارج فتلفنت
لمادلين . جاءت بعد الظهر، أرادت أن تتبول فعرضت عليها الصعود إلى طابق البنات. رفضت. التجأت إلى ركن الغرفة واستخدمت زجاجة الحليب. تمددت على الفراش أقرأ مستريحا، فكرت أن الزواج من هذه النقطة مريح، جاءت ونامت إلى جواري؛ عانقتها، لكنها تأخرت في الاستجابة ففقدت الرغبة من التعب، نمنا حتى الصباح.
لم تغادر
مادلين
الحجرة إلا بعد أن ضغطت عليها لتصعد إلى حمام الطابق الخامس. خرجت لشراء حاجيات وزجاجة نبيذ. وأنا أعد الغداء جاء
عدنان ؛ في منتصف العشرينيات بوجه وسيم وشعر ناعم. دعوته لأن يأكل معنا فلم يعترض. جلس يتحدث عن نفسه ورسوماته، سخر من أن زجاجة النبيذ من نوع خفيف، واقترح أن يذهب لشراء واحدة أقوى. فعل وجلب معه مجموعة من الأسطوانات الموسيقية. كانت بينها أغان مصرية حديثة. وضع واحدة تدعى «الطشت قال لي قومي استحمي». زعم أنها من الفلكلور المصري، فقلت إنها لا فلكلور ولا حاجة وإنما إسفاف. استبدلها بأغنية
عبد الوهاب «آه منك يا جارحني». أتبعها بأغنية
لفريد الأطرش
ثم
شارل أزنافور . هل هو البرنامج الموسيقي الذي يتبعه عندما يدعو فتاة إلى غرفته؟ أراد أن يضع واحدة أخرى فقلت يكفي لأن الفتاة ستمضي بعد قليل وأنا أريد الانفراد بها. لم يعبأ بي وأدار أغاني
سانجام . استلقيت فوق الفراش. جمع أسطواناته وعزم على الانصراف. قالت له في خجل أن يبقى بعض الوقت. انصرف بعد قليل، فانفجرت فيها غاضبا. ثم نمنا وجئنا سوية دون أن نعبأ بالحذر من قضية الحمل. قالت بعدها: أحب أنك كلما عنفتني قبلتني. حاولت أن أعرف جذر ما لديها من مازوكية. قالت إنها وهي مراهقة كانت تستمني بعد سماع قصص تعذيب القديسات. وكانت تحصل على درجات ممتازة في مدرسة الراهبات، لكنها دائما ترتكب من المخالفات ما يستدعي عقابها بالركوع ساعة. سألتها عن المرة الأولى التي استمنت فيها، فقالت: كنت جالسة على مقعد الفصل شاردة وفكرت أن المدرسة ستعنفني بسبب ذلك وعند فكرة العقاب تهيجت وأخذت أحك نفسي بالمقعد. رفضت الصعود لحمام البنات وتبولت في زجاجة الحليب ووضعت ورقة من أوراق الصحف التي كنت أقصها تحت الزجاجة. صرخت وانفجرت فيها. شعرت بعدها بدوار وألم فوق عيني ثم في ساقي. نمنا مرة أخرى. في المرتين لم أحاول السيطرة على نفسي وانتظارها. ولم تكن في حاجة إلى ذلك.
25
جاءتني منها في اليوم التالي بطاقة بريدية قالت فيها بالإنجليزية: «عند خروجي من
الأبشجيتي
أمس التقيت
بعدنان
وسألني لماذا لم ترافقني حتى الباص؟ أردت أن أقول له وما شأنك أنت؟ لكني لم أفعل لأني مؤدبة. صح! الآن فهمت لماذا أثار غضبك.»
راقبني
ماريو
وأنا أعمل في الصحف. سألني عما أفعل. قلت له إني أتتبع الأحداث المهمة في السنوات الأخيرة. وإن لدي فكرة ضبابية عن مشروع ضخم ينتج عن ذلك. أبدى تعجبه. أدرت أسطوانة «النيل نجاشي»
لمحمد عبد الوهاب
وجلست أمام الطاولة أفكر. أنا أقرأ كل يوم صحف شهر كامل ثم أرتاح في اليوم التالي. معنى هذا أني في حاجة إلى عدة شهور.
في آخر الليل جمعت بقايا الصحف المقصوصة التي رميتها جانبا. حملتها وخرجت إلى الكوريدور. وضعتها في سلة المهملات بالمطبخ. عدت إلى الحجرة وأشعلت سيجارة. فتحت الكوة العلوية الصغيرة لأتخلص من دخانها.
26
نهضت مبكرا. كانت أشعة الشمس تتسلل إلى الحجرة. تناولت سكينا وخطوت فوق الأرضية الخشبية حتى النافذة. مزقت الورق الملصق بين مصراعيها والذي يوضع في الشتاء للحماية من الهواء القارس. جذبت المزلاج وفتحت النافذة فدخل الهواء النقي المنعش. تأملت الرافعة المعمارية وهي تحمل قطع الطوب الأحمر ليرصها العمال جنبا إلى جنب في مشروع المبنى المجاور. تناولت قطعة من القماش وبللتها بالماء ومسحت آثار التصاق الورق على النافذة. فاليوم هو عطلة عاملة التنظيف. في الماضي كان الطلبة هم الذين يتولون التنظيف، لكن المصريين احتجوا ورفضوا ذلك. جلست إلى الطاولة وتناولت صحيفة. بعد قليل جمعت بقايا الصحف المقصوصة وحملتها إلى خارج الحجرة.
ذهبت مع
حميد
إلى المعهد، هناك لسعة برد خفيفة رائعة تحت شمس دافئة، استنشقت الهواء النقي في لهفة. حدثني عن رواية ضد الصهيونية بعنوان «أرض الميعاد» لمؤلف سوفييتي شاب؛ البطل شاب روماني من أصل يهودي يهاجر إلى
فلسطين
عند صعود النازية وسيطرة
هتلر ، لم تكن دوافعه دينية أو أيديولوجية؛ ليس غير النجاة بحياته. يقول له أحد الصهاينة: قال
هرتزل
مرة لو لم يكن
هتلر
موجودا لاخترعناه نحن، لولا النازية ونظريتها العنصرية ما استطاعت الأغلبية الساحقة من إخواننا وأخواتنا معرفة الطريق إلى أرض الميعاد. وفي هذه الأرض يكتشف المهاجر حقائق مرعبة ويتركها إلى غير عودة.
كان الجليد قد بدأ في الذوبان وألقت سلطات المدينة بكيماويات مذيبة فوقه. قال
حميد
إن درجة الحرارة ارتفعت إلى 7 أو 8 درجات فوق الصفر. وليس معنى ذلك أن الربيع وصل؛ فقد يكون إنذارا كاذبا. لاحظت أن ملابس المارة قد لوثها الطين والماء. وتساقطت قطراته من حواف الأسقف وأنابيب الصرف. ورأيت عمالا في سترات سوداء يكومون تلالا من الجليد بالمجاريف الحديدية. وامتلأت الطريق بالأوحال والقاذورات التي كانت مدفونة تحت الجليد. وتغطت الأرائك بألواح خشبية تمنع جلوس أحد فوقها. وقال
حميد
إن ذلك يعني أنه يتم الآن كسح الجليد من فوق الأسطح، ويموت كثيرون عندما تسقط عليهم قطعه. التقينا
فريد ، قال إن اليوم هو السابع عشر للغارات الإسرائيلية المتواصلة على بلدة
الحارة
السورية، وإن
السادات
يبني معتقلات ل 13000 شخص في
الواحات . وقال إن الشيوعيين في
سوريا
و
العراق
يجمعون تبرعات لمن فصلوا من الاتحاد الاشتراكي في
مصر .
27
تجمع الرجال حول باعة الورد. وفي المترو حمل كل رجل باقة منه. والتفت مجموعة من الشباب حول عازف قيثارة. وكانت الفتيات والنساء متأنقات وأخريات متجهمات. إنه يوم المرأة العالمي.
ذهبت إلى كافيه
إيليت
للقاء
عبد الحكيم ؛ مصري في الأربعين من عمره، ممتلئ وأصلع الرأس، ودود وخجول، كان من أوائل الطلاب الذين أرسلهم عبد الناصر للدراسة في الاتحاد السوفييتي، فاستقر به وتزوج أوكرانية ثم عمل في القسم العربي بالإذاعة الروسية.
كان المقهى مزدحما ووجدنا مائدة بصعوبة. لمحت فتاتين تبحثان عن مكان، سألتا إذا كان من الممكن الانضمام إلينا. وافقنا بالطبع، تعارفنا. كانتا في أوائل العشرينيات؛ إحداهما شقراء بوجه طفولي وتدعى
ناتاشا ، طالبة بالصف الرابع في معهد التغذية، ترتدي بلوزة حمراء وبنطلونا أسود. الثانية تدعى
لامارا ، نحيلة ذات شعر مجعد مرسل على الطريقة الغجرية، ترتدي صدرية وجوبة. كان وجهها حسيا للغاية ولم تفصح عن مهنتها. قالت إن يوم المرأة العالمي هو اليوم الوحيد في السنة الذي يقوم فيه الرجال بكل مهام المرأة. قال عبد الحكيم إن زوجته مسافرة وعرض أن ننتقل إلى شقته. كانت قريبة من المقهى في مبنى حديث، جيدة التدفئة ومكونة من غرفة نوم وصالة بها أريكتان متقابلتان. جلست
لامارا
بجواري فوق واحدة، وجلست
ناتاشا
إلى جوار
عبد الحكيم
فوق الأريكة الأخرى. أحضر زجاجة ويسكي وبعض المقبلات. اعتذرت
ناتاشا
عن الشراب لأنها مريضة بالقلب، ومع ذلك دخنت بشراهة. قالت إنها تزوجت في الصف الأول من المعهد، وبعد سنة طلقت، وهي تعمل في حانوت للعب الأطفال حتى تحصل على تصريح بالإقامة في
موسكو . ازرق وجهها بعد قليل فاستلقت فوق الأريكة ووضعت رأسها فوق فخذ
عبد الحكيم
قائلة إنها تتعب بسرعة وتحتاج إلى الراحة كل فترة. أمسك
عبد الحكيم
بيدها في راحته. احتست
لامارا
الويسكي. قالت إن لديها طفلة وإنها تركتها مع أمها في
تفليس ، عاصمة
جورجيا . قالت
ناتاشا
إنها لا تجد حافزا للوجود. أرتني كفها وأشارت إلى قصر خط الحياة. روت لامارا نكتة عن
بريجنيف
قلدت طريقته في الخطاب: بعد سنتين سيكون لكل فرد شقة وبعد خمسة سيارة وبعد سبعة هليكوبتر. شردت في تأمل وجهها وشفتيها الحسيتين. قلت إن
السادات
وعد بأن يضع في يد كل مصري إلكترونة. ضحكت
لامارا
ووضعت يدها على ساقي. شعرت أن خيطا ما امتد بيني وبينها. تبادلنا القبلات وطلبت منها أن تستحم ففعلت دون غضاضة. بسطت بطانية فوق الأرض. أطفأت النور واستلقينا. وظل
عبد الحكيم
ممسكا بيد
ناتاشا
فوق الأريكة. أزعجتني عظام حوضها البارزة. ووجدتها واسعة. قلبتها على وجهها. انتهيت وحدي. أثناء الليل شعرت بها تبسط الغطاء فوقي. في الصباح بدت حزينة ورأيت
عبد الحكيم
و
ناتاشا
مستغرقين في النوم فوق الأريكة بملابسهما وهو ما زال ممسكا بيدها.
28
التقيت و
لامارا
بعد يومين ولم تكن
ناتاشا
معها. ذهبنا إلى منزل
عبد الحكيم . أعطانا غرفة نومه. ثم التقينا مرة أخرى بعد أيام، فكرت في التنزه قليلا لإرضائها وربما دخول سينما ثم نأخذ بعض الطعام ونذهب إلى شقة
عبد الحكيم . تأخرت قليلا فبدت كالنمرة، وأسقطت كل قناع من اللطف. مشينا بضع دقائق في صمت. وشعرت فجأة بالرغبة في العودة إلى حجرتي لأعمل وبأني لا أريد منها شيئا. قالت إنها تريد الذهاب إلى مكان في وسط المدينة به موسيقى ورقص. عرضت عليها الذهاب إلى شقة
عبد الحكيم
رأسا فرفضت وطلبت مني
كبيكين . ذهبت إلى كشك تليفون وأخرجت مفكرة صغيرة من جيبها. تلفنت ثم عادت وطلبت مني
كبيكين
آخرين. تلفنت مرة أخرى. هل تريني أن لديها خيارات أخرى؟ قالت إنها ستذهب وحدها إلى وسط المدينة. ودعتها شاعرا بالارتياح.
29
استدعتني القومندانة وأبلغتني بأنها أضافت إلينا طالبا روسيا. قالت إننا اثنان فقط. قلت لها: غير صحيح. هناك
ماريو
و
جلال الدينوف . نظرت إلي بطريقة من يعلم الحقيقة ولم تعبأ باعتراضي. تحدثت مع
الديجورنايا
فهمست وهي تتلفت حولها أن بعض العواجيز يؤجرون غرفا في مساكنهم للطلاب برغم أن هذا غير قانوني. أعطتني عنوانا قريبا وذهبت إليه. مبنى حديث مزود بمصعد وتدفئة مركزية. فوق الباب أيقونة مسيحية علق بها مصباح صغير . كان المسكن لعجوز خلا فمها من الأسنان. غرفة واحدة ومطبخ وحمام. لم أذكر لها جنسيتي ولم تطلب معرفتها. سألتها: أين سأنام؟ قالت: هنا. وأشارت إلى أريكة متهالكة. وقالت إنها ستنام في المطبخ حيث يوجد فوتيه قديم تعلوه كومة من الأغطية. دفعت لها عشرة روبلات إيجارا لشهر. أحضرت من بيت الطلاب بعض الملابس والأغطية بالإضافة إلى الآلة الكاتبة وبعض الصحف.
30
شعرت بآلام في صدري ونبضات متسارعة لقلبي؛ ذهبت إلى العيادة الطبية، لم يكن الطبيب يعرف الإنجليزية ولم أتمكن من شرح ما أشعر به؛ احمر وجهي وخرجت ساخطا على نفسي. أثناء العودة فوجئت بشرطيين في معاطف عسكرية طويلة يحيطان بي في محطة المترو. أمسكا بذراعي فحاولت الاحتجاج. لم يردا علي واقتاداني بعنف إلى غرفة جانبية بها ضابط خلف مكتب وبجواره رجل أربعيني على وجهه علامات الانزعاج والخوف. طلب مني الضابط بطاقة هويتي فأعطيتها له. سجل محتوياتها على ورقة وطلب مني التوقيع عليها. فهمت أنها شهادة بما وجدوه في ملابس الرجل عند تفتيشه: سلسلة مفاتيح ومفكرة وميدالية ومنديل وعلبة سجائر روسية وثقاب. وكانت هذه الأشياء مكومة فوق المكتب. وقعت على الورقة فتركوني أذهب.
31
طرقت باب السوريين ففتح لي
حميد . سألته عن
زويا . قال: ألم تعرف؟ تعرضت هي و
تاليا
التي تسكن معها في الغرفة إلى اعتداء بالضرب من طالب أذربيجاني حاول اغتصابهما، اتهمهما بأنهما شرموطتان ترافقان الأجانب. تصرف غريب لأنه شخص رقيق مهذب. نقلت الفتاتان إلى مستشفى الأمراض العصبية للعلاج من صدمة شديدة. فقدت
زويا
صوتها وتم طرد الطالب من المعهد.
32
قالت
البابوشكا
العجوز إن معها ستة
كبيكات
وستذهب بهم إلى صاحبتهم. ذكرت ذلك لي بالأمس. راقبتني وأنا أغلي اللبن في المطبخ. انقطع فقالت: كان يجب أن تغليه وهو طازج. قلت: تقصدين أمس عندما اشتريته؟ قالت: أجل فنحن لسنا في بلدك حيث البقر. لم أفهم بالضبط ما تعنيه. ولعلها تظنني من إحدى الجمهوريات السوفييتية الآسيوية. أفطرت على موسيقى
باخ ؛ تنويعات على الأرغن لتيمة ذات نغمة شرقية. تلفنت
لمادلين
من كشك التليفون في الشارع وحاولت أن أتفق معها على موعد في الغد. وقلت إنها يمكن أن تبيت معي. قالت إنها مرتبطة بأصدقاء من الجامعة وستبيت عندهم.
33
عادت
تاليا
من المستشفى أولا. زرتها في غرفتها مع
حميد . الكتب واللوحات والملابس الداخلية ملقاة في كل مكان. تربي عصفورين صغيرين منذ عودتها. تحدثنا عن معلمة شديدة التبرج بسبب الوحدة التي تعيش فيها. ثم تحدثت عن الطالب الأوزبكي الذي ستتزوجه في اليوم التالي. أشارت إلى العصفورين وقالت إنهما جهاز العرس. سألناها عن زويا، قالت إنها بقيت في المستشفى ولا يسمح لها باستقبال الزوار.
تناولت صحيفة
البرافدا . تصدرتها صورة
بريجنيف
بمناسبة حصوله على جائزة
لينين
للسلام. روت
تاليا
نكتة عنه: جاء إلى مكتبه فقال له السكرتير: يا رفيق، إحدى فردتي حذائك بنية اللون والأخرى سوداء. فقال: أعرف فعندي زوج مماثل في المنزل.
قالت إنه يهوى اقتناء السيارات الجديدة السريعة وخاصة الأمريكية ويمتلك عددا منها. وابنه يملك يختا ويذهب للصيد في أفريقيا، وابنته
جالينا
تهوى اقتناء العشاق والماس وتشترك في تهريبه إلى الخارج، وزوجها
يوري تشيربانوف
نائب أول وزير الداخلية، يأخذ رشاوى بالملايين.
34
انتهيت من قراءة كتاب «المفكرة الفلسطينية». الفلسطيني كشخصية تراجيدية ضحية مؤامرات الآخرين. يروي الكتاب على لسان
تشرشل
في مجلس الوزراء البريطاني قبل أيام من إعلان وعد
بلفور
سنة 1917: «قيام وطن قومي لليهود في
فلسطين
يخدم أهداف
بريطانيا
من حيث إنه يساعدها على مواجهة تناقض المصالح الحاد بينها وبين العرب.» قال أيضا: «هذا الوطن القومي لليهود في
فلسطين
سوف يكون عازلا يفصل العرب شرق سيناء والعرب غربها، ثم إنه سيكون بحاجة إلى الدفاع عن نفسه ضد الامتداد العربي الواسع، سوف يبقى دائما في أحضان الغرب الذي يستطيع في أي وقت استخدامه قاعدة للعمل ضد أي تهديد لمصالح الإمبراطورية البريطانية في
مصر
من ناحية أو في
العراق
من ناحية أخرى، كذلك فإن هذا الوطن القومي لليهود سوف يشغل العرب ويمتص طاقاتهم أولا بأول.»
35
اشتغلت جيدا في الصحف ثم نمت ساعة. قلت للعجوز إني أريد أن أغلي بعض الملابس. قالت مستنكرة: وتعلقها بعد ذلك في البلكونة؟ قلت: لماذا لا؟ قالت: غدا عيد أول مايو، وأنت مواطن سوفييتي، تريد أن يأتي أول مايو وملابسك الداخلية معلقة في الهواء؟ رأتني أستعد للخروج فسألتني: إلى أين أنت ذاهب؟ قلت: سأقابل صديقتي. قالت: أعرف أني وحيدة وسأبقى وحيدة. ظلت واقفة عند مدخل الحجرة حتى فتحت الباب الخارجي، فقالت: احضر لي معك
ماروجنا . ذهبت إلى موعدي مع
مادلين
أمام أبشجيتي معهدها. خرجت إلي زميلة روسية لها تدعى
ليديا . قالت إن
مادلين
سافرت مع البرازيليين وبقية طلبة أمريكا اللاتينية في زيارة ميدانية للجنوب؛ تذكرت أن
ماريو
تحدث عن ذلك. قالت إن
مادلين
اشترت لي تذكرة لمسرح البلشوي من السوق السوداء بعشرة روبلات، قالت إنها ذاهبة أيضا ويمكن أن نذهب معا. كانت نحيفة في طولي لها صدر بارز وشعر بني اللون مكوم فوق رأسها وشفتان رفيعتان وبشرة وردية. ذهبنا إلى المسرح، وأنا جالس إلى جوارها جاءتني منها رائحة دهنية. كان العرض من قسمين: الأول باليه رومانتيكي ورقص تقليدي وموسيقى مملة إلا في الجزء الذي يقدم رقصة شعبية دانماركية. لكن القسم الثاني كان رائعا؛ باليه «اليوسفي العجيب»؛ موسيقى
بيلا بارتوك
المتوترة التي تعتمد الإيقاع السريع الرصين، ورقص حديث يعتمد على الحركات المتوترة واستخدام الأيدي والأوضاع الرياضية للجسم.
ونحن في طريقنا إلى خارج المسرح وضعت يدها على رأسها. قالت إنها تشكو من الصداع الدائم منذ انفصلت عن زوجها وتركت طفلتها مع أمها. بدأ مطر خفيف؛ أخرجت مظلة صغيرة من كيسها ورفعتها فوق رأسينا. قالت إنها تريد العودة إلى
الأبشجيتي ، قلت ضاحكا: كنت أظن أننا سنذهب عندي. قالت ضاحكة: لا يمكن. مشينا في أنحاء
بروسبكت ماركس
ثم انحنينا يسارا وتوقفت أمام مقهى
سادكو . قالت: نشرب قهوة هنا. ثم قالت: لا، نعود. أمام باب
أبشجيتي
معهدها سألتها: متي أراك مرة أخرى، غدا؟ قالت: هذا الأسبوع لن نستطيع الالتقاء لأني متعبة، وأمامي مذاكرة ثقيلة لأني أستعد للامتحان. فكرت: معنى هذا أني سأقضي يومي العطلة بمفردي. قلت: إذن نلتقي يوم الثلاثاء. قالت: هنا ؟ قلت: نلتقي في أي مكان آخر، أريد أن أدعوك إلى عرين الأسد لنحتفل بنتيجة الامتحان. قالت: أنا واثقة أني لن أنجح. قلت: إذن لنخفف الصدمة، نأكل ونشرب ونسمع موسيقى. عبست قليلا ثم قالت: اسمع، لا أدري متى سأنتهي، ربما في السابعة أو الثامنة. قلت: إذن بعد أن تنتهي. قالت: لنلتق يوم الأربعاء. قلت: خراشو (حسنا) الساعة 7 عند محطة المترو، ربما ذهبنا إلى السفارة الفرنسية لنرى فيلما. قالت: سنرى. افترقنا أمام باب
الأبشجيتي .
وضعت يدي في جيبي معطفي ومضيت إلى نهاية الشارع. شعرت أن الجو رائع ودافئ، ورائحة الهواء منعشة بعد أن توقف المطر. عبرت بحديقة انتشر بضعة أزواج على مقاعدها يتبادلون القبلات. ومرت بي امرأة تسند رفيقها الذي كان يتحدث بلا انقطاع ويبدو ثملا. مضيت من أمام ال
جوم
الذي علقت فوقه راية حمراء عريضة تحمل عبارة: «نطبق قرارات المؤتمر الرابع والعشرين». محطة المترو. كان هناك شاب روسي يبدو سعيدا ببنطلون أحمر ذي أطراف واسعة حسب الموضة. في الغالب حصل عليه من السوق السوداء. بحثت عن عملة في جيبي، هبطت السلم ومضيت في الممر المؤدي إلى العدادات، مررت من أسفل اليافطة التي تدعو الجمهور إلى إعداد خمسة
كبيكات
قبل الركوب، وضعت العملة في العداد وانتظرت حتى أضيء نوره فعبرت. وقفت على السلم المتحرك حتى أصبحت في الممر السفلي، اتجهت إلى المحطة وجاء القطار. ركبت ووقفت إلى جوار الباب بجانب فتاة صغيرة شقراء في الخامسة عشرة، يدها في يد فتى من سنها، وأمامي مباشرة امرأة في الثلاثين يبدو عليها الإنهاك، ثم نزلت بعد محطتين في
كيروفسكايا
وهبطت السلم المتحرك إلى الممر العابر، مضيت في الممر ثم درت معه إلى اليسار حتى محطة
تورجنسكايا ، أخذت المترو. أمامي كانت امرأة متبرجة وشعرها مرفوع إلى أعلى في دوائر، بدا الشعر جيد التصفيف كما لو كانت قادمة من عند الكوافير، وكانت نائمة، وحولنا انتشرت عشرات من وجوه النسوة العادية المجردة من الجمال. أعلن السائق: محطة المعرض، نهاية الخط. خرجت من المترو. وقفت على السلم الكهربائي الصاعد، كانت هناك مجموعات ضاحكة من الشباب على السلم الهابط. خرجت إلى الساحة، مضيت حتى محطة الباص. كانت الأنوار ساطعة على مبعدة عند مدخل مبنى المعرض الذي علقت فوقه راية حمراء هائلة تحمل صورة
لينين . وقفت أنتظر الباص. ركبت، وضعت خمسة
كبيكات
في العداد وقطعت بطاقة. وقفت إلى جانب امرأة استندت إلى ظهر المقعد بجانب جسدها، التصقت بها فانحنت ولم تبتعد؛ انتصبت قليلا ثم فقدت الرغبة. بعد ست محطات أعلن السائق: النهاية. ودار في الساحة المجاورة للمنزل. نزلت وولجته، استدعيت المصعد وركبت إلى الطابق الخامس. الشقة مظلمة فيما عدا مصباح الأيقونة، فتحت ودخلت. باب المطبخ مفتوح. فكرت أن العجوز ربما تتفرج على التليفزيون عند جارتها. خلعت المعطف وعلقته وخلعت سترتي. ثم دخلت الحمام أغسل وجهي وأسناني. عثرت قدمي في إناء مياه من الصاج فأعدته إلى مكانه. جففت الآثار. دخلت المطبخ في هدوء بحثا عن قطعة بطاطس مسلوقة. لمحتها فوق فراشها. عدت إلى غرفتي وأغلقت الباب. صببت قدحا من النبيذ. استخرجت كيس السلوفان الذي أحتفظ داخله بأدوات المائدة، أعددت قطعة خبز مع جبن وزيتون. أشعلت سيجارة. فتحت النافذة وجلست أمامها أستنشق الهواء الدافئ. أسفل كان ثلاثة شبان يعزفون على قيثارة. شربت، ثم أخذت أضحك. وبعد ذلك شربت قدحا آخر، ثم غسلت الطبق وأعدته مكانه وغسلت السكين ووضعتها في كيس السلوفان. أشعلت سيجارة أخرى ثم أطفأت النور، خلعت ملابسي وتمددت على الأريكة، التففت جيدا بالغطاء وانقلبت على وجهي.
36
في الصباح سألتني العجوز: لماذا دخلت علي بالليل؟ قلت إني كنت أبحث عن بطاطس. قالت: أنت قابلت صديقتك وأنا بقيت وحيدة أبكي، ولم تحضر لي
ماروجنا . قلت: صديقتي لم تأت؛ ابتسمت مبتهجة.
شغلت كونشرتو البيانو الأول
لبارتوك ، جاءت ووقفت في مدخل الحجرة وهي تغمغم ساخطة ثم انسحبت وأدارت الراديو؛ أناشيد وموسيقى عسكرية. قمت وأغلقت الباب ففتحته قائلة في انفعال: اليوم عيد، لماذا تغلق علي؟ قلت: أريد أن أسمع الموسيقى. قالت: أنا أيضا أريد. قلت: أنت شغلت الراديو ولم يعد في إمكاني الاستماع. قالت: سأغلقه حالا ومضت فأغلقته. ثم وفدت جارتها فأغلقت الباب علي.
عملت قليلا في الصحف ثم ظهرت الشمس. وقفت في النافذة؛ الناس في ملابس الأعياد والأطفال يحملون البالونات، والرجال يحملون مشترياتهم من الموز الذي يظهر في المناسبات. رأيت
زويا
متأبطة ذراع شاب حليق الرأس، قدرت أنه زوجها؛ ممتلئ الجسد وأطول منها قليلا وذو عوينات، يسير بجوارها منتصب القامة في صورة مضحكة. مرا من أمام المنزل تجاه محطة الباص، كانت تسير غارقة في أفكارها، وكانت أول مرة أراها منذ دخولها المستشفى. لمحت الشقراء التي قابلتها مرة في المصعد وبدت خجولة جدا. وكانت تجلس على أريكة حجرية بجوار المنزل في ملابس أنيقة وإلى جوارها طفلتها. بعد قليل ذهبت إلى المطبخ لأعد قهوة، ووجدت العجوز ممددة في فرشتها، وكانت تبكي. قالت: أنت عندك كل شيء، لا أحد يساعدني، لست ضرورية لأحد، سأنهي كل شيء بالسكين الطويل. جلست إلى جوارها، قلت: اذهبي إلى الشارع وتمشي حتى السينما. قالت: لا أريد؛ ليس لي أحد، كنت أفضل في يوم عيد كهذا أن أذهب إلى الريف أو أي مكان آخر لكني لن أذهب وحيدة كالعبيطة، لن أفعل! قلت: عندك صديقتك. قالت: جارة وليست صديقة، صديقتي ماتت! قلت: لا يهم. قالت: عندها بنتها وحفيدتها وكنت عندهم ثم جاء زوار، وهم جميعا الآن حول المائدة، وليس لي أحد على الإطلاق، لا زوج ولا عائلة ولا حفيد.
طلبت مني أن أشتري لها ولجارتها
ماروجنا
وأعطتني 40
كبيكا . لبست وخرجت إلى الشارع، ذهبت إلى الحانوت واشتريت نصف رغيف خبز وزجاجة
كفير ، بحثت عن بائع الماروجنا حتى وجدته. التقيت بحميد، قال إنه استيقظ لتوه، ولم يجد فريد أو
شريف ، ذهبا إلى مظاهرة الصباح التي تستمر حتى الثانية بعد الظهر. قال: لقد باعاني! وماذا أفعل الآن؟ قلت: تعال معي نأكل ثم نرى. قال: ماذا ستأكل؟ قلت بطاطس مسلوقة؛ بسبب معدتي. قال: نقلي بيضا. قلت: عندي. دخلنا حانوت الخضراوات فلم نجد غير علبة خيار محفوظ في سائل سكري. قال إنه التقى بحسن السوداني أمس وكانت معه فتاة ، وذهبوا إلى مطعم
الأراجفي ، أفضل مطعم جورزيني (جيورجي) في
موسكو . شربوا براندي أرمني وأكلوا دجاجا مشويا في صلصة
ساتسيفي
مع طماطم طازجة وكرنب مخلل وفلفل أحمر. كان حسن هو الذي عرض عليهم الشراب، ثم رفض أن يدفع في النهاية، واضطر
حميد
أن يدفع 25
روبلا
بينما شعر أن السوداني معه نقود كثيرة. سألت عن
زويا
فقال إنها غادرت المستشفى وأقامت مع أمها، وبالأمس أحضرت زوجها إلى غرفته وجلسوا جميعا في سلام. قلت إن هذا سيئ، فلا يجب أن تضعه في موقف كهذا، الجميع يعلمون أنها تخونه. مضينا في الطريق إلى منزلي. قال: ألا تظن أنه من حقي أن أطالب السوداني بالنقود؟ قلت: طبعا. قال: مرة دخلت مطعما مع فتاة وكنت أظن أن معي ستة روبلات، ومعها هي على أقل تقدير خمسة، شربنا زجاجة فودكا ووضعت يدي في جيبي، فإذا عندي
روبل
واحد فقط، سألتها عما معها قالت بضعة
كبيكات ، احترت ماذا أفعل، خلعت سلسلة ذهبية كنت اشتريتها في
ألمانيا الغربية
بثلاثين
ماركا ؛ أي 40
روبلا ، وناديت على الساقي وقلت له: هل تلزمك؟ أومأ مجيبا وأخذها وتحرك بسرعة فقلت له إذن أحضر زجاجة فودكا ثانية، فأحضرها ثم اختفى وظهر بعد قليل وألقى السلسلة على المائدة قائلا إنها لا تلزمه، احترت ماذا أفعل وتطلعت حولي في أرجاء المطعم، فإذا بشخص ذي ملامح شرقية يقترب منا ويدفع الحساب عنا وقدم نفسه إلينا على أنه مهندس بترول من
باكو
عاصمة
أذربيجان ، أمسكت به ليجلس معنا. قلت: عجيبة، هؤلاء الأذربيجيين، من أين لهم بالنقود؟ ماذا يأخذ؟ قال: غالبا 200
روبل . قلت: لا يكفون لشيء فضلا عن كرمهم العبيط هذا. قال: لديهم مصادر دخل أخرى كالسوق السوداء، لا أحد يعيش على راتبه الرسمي فقط، هذا ينطبق على جميع الجمهوريات وخاصة الآسيوية، كان لي صديق من
أوزبكستان ، لا يمكن أن تصدق ما رواه لي عن الفساد فيها، البعض يعيشون كما في العصور الوسطى، يمتلكون جيوشا خاصة وميليشيات ويحولون العمال إلى عبيد في ممتلكاتهم.
صعدنا إلى غرفتي. كانت العجوز تلعب الورق مع الجارة وعجوز أخرى. أعطيتها
الماروجنا ، ثم أعطيتها رواية «آخر الفرسان» الروسية. قالت الجارة: أوه رائع، هذه رواية جميلة. قلت: يجب القراءة. قالت الأخرى: أفضل من البكاء. جلس
حميد
في حجرتي وأخرجت علبة لحم محفوظ وأربع بيضات وزجاجة نبيذ أحمر جزائري وعلبة قنبيط مسلوق. قلت إني متردد في أخذ علبة اللحم إلى المطبخ لفتحها، فثمنها
روبل ، وهاته العجائز يعشن على
كبيكات . دخلت المطبخ عدة مرات ثم عدت حائرا ماذا أفعل ثم دخلت المطبخ مرة أخرى وفتحت الدولاب وأخذت فتاحة الزجاجات والعلب. تطلعت إلي العجوز في فضول الطفل. عدت إلى الحجرة فأعطيت الفتاحة
لحميد ، ثبتها على حافة العلبة فوق المائدة وضربها بيده فصدر صوت ما عن المائدة؛ صحت به: هس. وخيل لي أني سمعت زمجرة من العجوز. أخذت منه العلبة ووضعتها فوق الأرض الخشبية. ضربت الفتاحة بيدي ثم أكمل هو العملية محاذرا أن يصدر عنا صوت حتى انفتحت. حملتها إلى المطبخ وبحثت عن الوعاء الكبير ذي المقبض والعجوز ترقبني بينما تلعب الورق. لم أجده. سألتها عنه فقالت إن به طعامها وبدت منفعلة. قالت: خذ الصغير. غمغمت أن الوعاء الصغير لا يكفي، أين هو؟ قالت: لا أعرف، ابحث. فتحت الدولاب فوجدته في الأسفل. وضعت العلبة على النار ثم غسلت الوعاء ورأيت اللحم يبرز من العلبة فأسرعت أنقله إلى الوعاء فملأه. قالت لها العجوز الأخرى: أعطه الوعاء الأكبر، هذا صغير. استجمعت شجاعتي وقلت لها في حزم: من فضلك أعطيني الوعاء الكبير لأن هذا صغير. تطلعت إلي في انفعال. قلت: سأنقل محتوياته في شيء ما ثم أعيدها. قالت أين؟ هذا وعائي وبطاطسي. ثم قامت منفعلة وأحضرت الوعاء وأفرغت محتوياته في وعاء آخر وهي تصرخ: اشتر لنفسك وعاء، هذه أوعيتي وهذه بطاطسي. وجمت العجوزتان الأخريان ثم غادرتا. غسلت هي الوعاء ثم جففته بالخرقة القذرة وأعطته لي فنقلت إليه محتويات الوعاء الصغير وهي تتحرك حولي في عصبية مزمجرة. ثم كسرت البيض وحملته إلى المائدة وكانت هي قد دخلت الحجرة وطافت بها ثم خرجت وعادت وقدمت إلينا شوكتيها القديمتين اللتين تشبهان مخالب ثعلب قذرة. نحيتهما جانبا وأخرجت شوكتين من كيس السلوفان.
فتحت زجاجة النبيذ فتفتتت السدادة. قلت: لا بد أنها سدادة سوفييتية. قال
حميد : طبعا لأن التعبئة تتم هنا، فهم يستوردون النبيذ من
الجزائر
في براميل أو صهاريج بواخر. شربنا وتقززنا قليلا من مرارته الزاعقة. قال: الجزائريون يبيعون النبيذ الفاخر
لفرنسا
ويرسلون البقية هنا. قلت: وهنا أظنهم يضيفون إليه ماء. قال: ووساخات، انظر ما تبقى في قاع الكوب، هل رأيت فيلم
ليسوباد
حيث يتم خلط النبيذ في مصنع من أجل استكمال الخطة؟ قلت: لا أذكر. قال: المخرج هو
يوسيليان
الذي أخرج فيلم «عاش طائرا مغردا»، الموضوع عن شاب مراهق وديع يلتحق بمصنع لإنتاج النبيذ، وهناك عاملة تجيد اللعب بالرجال، ثم يكتشف أن النبيذ يتم خلطه بالماء، ويقول له الجميع ألا فائدة من الوقوف في وجه المدير، ثم تغازله الفتاة وتدعوه إلى منزلها، أمام المنزل يضربه عاشق بلطجي وتستمتع الفتاة بذلك، ثم يذهب الفتى إلى المصنع بوجه متورم، يلتقي بالفتاة التي تحاول الاعتذار إليه فيربت على خدها في تعال قائلا: لا شيء يا فتاة. وينحيها جانبا فتتابعه مذهولة، ثم يأمر العمال بالكف عن ضخ النبيذ، ويأمرهم بصب مادة قطرانية في الصهريج المخصص لذلك ويعلن أنه بهذا لن يستطيع أحد خلط النبيذ.
أنهينا الزجاجة وأشعلنا سيجارتين. ظهرت العجوز قائلة: الدخان كثير ورأسي يوجعني. لماذا لا تدخنان في البلكونة؟ قلت في غضب: لا تدخلي الحجرة، سأدخن هنا. قالت: هنا مسكني، أدخل متى أشاء. قلت لها: سأغلق الباب. وأردت أن أغلقه فمنعتني في عصبية وقد تورد وجهها انفعالا. قلت: إذن سأترك المنزل، قالت: مع السلامة. جلست مع
حميد
وهو يغالب الضحك. قال: العجائز، العجائز، لنخرج. قلت: أين تريد أن نذهب؟ قال: إلى أي مكان به بيرة، اليوم عيد ولا معنى لأن نقضيه هنا. حكيت له كيف فتحت العجوز باب غرفتي ليلا في هدوء وأنا نائم فاستيقظت وسألتها عما تريد فلم تتكلم، ثم كررت السؤال فتأوهت قائلة: كنت أريد دواء، نم، نم . قال: سكنت مرة مع عجوز مرحة، كانت نظيفة وقوية، وكانت تضحك معي وتسألني عن البنات في الفراش وتسجل لي مكالماتي التليفونية، أما هذه فدنيئة.
أخذت العجوز تبحث عن مفتاحها قائلة إنها تريد الخروج ونسيت أين وضعته. قال
حميد : لم تضعه، هذا أسلوب العواجيز، ستقول الآن إن دخان السجائر هو المسئول. وجدت العجوز المفتاح وخرجت. عاد يقول: لا معنى لأن نقضي اليوم هنا، بنا نشرب بيرة. قلت: المفروض ألا أشرب كثيرا وكنت أريد أن أعمل بعد الظهر. قال: تعرف ماذا أريد الآن؟ امرأة. قلت: وأنا أيضا. قال: تعال نبحث. قلت: أين؟ قال: في وسط المدينة. سألته عن صديقته
تانيا . حكى لي عن مشكلته معها وكيف كان سكرانا وهما في سيارة، وأخذ يقبل صديقتها راقصة الباليه، فتركت السيارة غاضبة، ووقعت على الأرض، وقالت إنها لا تريد أن تعرفه بعد اليوم. سألت: هل الصديقة جميلة؟ قال: جسمها رائع. قلت: إذن ابق معها. قال: لكني أريد
تانيا . قلت في خبث: وزوجتك؟ قال: في
دمشق . ثم قال إنها من عائلة كبيرة وتعرف عليها في أحد النوادي وعندما جاءته البعثة قرر أن يتزوجها وتعمد أن تحمل قبل أن يسافر. سألته عن السبب. قال: كي تجد ما يشغلها وهو في
موسكو
وكي لا تفكر في تركه.
لبست بلوفرا أزرق برقبة وفوقه السترة الزرقاء. ركبنا الباص ثم المترو وجلسنا في آخر عربة وآخر مقعد. كانت أمامنا امرأة في الخامسة والأربعين ذات بشرة كابية. وهناك روج في شفتيها، وشعرها مصبوغ منسدل على جبهتها، ترتدي معطفا صيفيا جديدا، وحذاء جديدا، يدها بلا خاتم وقابضة على حقيبة يد فوقها مجلة مطوية ومظلة صغيرة. كانت عيناها إلى أسفل وتتجنب رفعهما في أي اتجاه. قلت
لحميد : ستقرأ مجلة الأدب الأجنبي وتذهب إلى الباليه أو المسرح، وكل ما تتمناه هو رجل لكن الرجال سكارى. قال: هل تعرف كم فردا يعيش في
موسكو ؟ بين 8 و10 ملايين إنسان، منهم مليون متزوجون ومليونان عجائز فوق سن الجنس ومليونان عجائز تحت سن الجنس وثلاثة ملايين من النساء بين سن 20 و45. قال بعد لحظة: كل هؤلاء يعيشون على الانتصارات الصغيرة؛ شراء زهور أثناء عاصفة ثلجية في فبراير، الحصول على بطاقتي مسرح، العثور على زوج من الأحذية في المقاس المناسب أو ملابس داخلية مستوردة من
ألمانيا
في حانوت
لايبزيج .
نزلنا في محطة مكتبة
لينين . ومضينا في الممر السفلي إلى محطة أخرى ومنها إلى بار البيرة فوجدناه مغلقا. استندنا إلى سياج خارجي يطل على الشارع والآلاف يروحون ويجيئون أمامنا. قال أين نذهب؟ قلت لا أعرف، أنت القائد. مضينا إلى كافيه
إيليت . كان هناك زحام شديد. وقفنا إلى جوار فتاتين. حانت منهما نظرة إلي فابتسمت. إحداهما جميلة جدا والأخرى قبيحة جدا. جذبني
حميد
من ذراعي قائلا: هذا
نابور ! قلت: ماذا تقصد؟ قال: قاعدة الحياة السوفييتية، عندما تريد شراء شيء تجده يباع مع شيء آخر لا تريده وعليك أن تشتريهما معا. سأل: ندخل؟ قلت: لا أعرف. قال: لا يوجد مكان. قلت: ولا في الطابق الأسفل؟ قال: هيا نذهب. أكملنا الشارع حتى نهايته حيث مطعم
أرباط
الفخم الذي يتألف من صالة هائلة صفت فيها المقاعد والموائد. ظهرت من خلال الزجاج ثلاث مغنيات فوق منصة. هالني العدد الهائل من النساء الوحيدات. عندما اقتربنا من بابه رأينا الحارس يحول بين الناس والدخول. دفعني
حميد
أمامه قائلا إني أجنبي الشكل. اعترضني الحارس فقلت له إننا ذاهبان إلى البار؛ أفسح لنا فمضينا إلى البار الذي كان صالة طويلة مليئة بالموائد في نهايتها ألواح زجاجية تشرف على الطريق. كانت هناك بضعة مقاعد خالية قرب البار لكن حولها رجال. اخترنا مائدة تجلس إليها فتاة وشاب مائل عليها. سألناه إذا كان المقعدان
سفابودنا (خاليين). رد بالإيجاب. جلسنا وسألني
حميد : ماذا نشرب؟ قلت: أنت القائد. مضى إلى البار وأحسست بالفتاة تتأملني. تطلعت حولي إلى مائدة قريبة جلست إليها ثلاث فتيات؛ واحدة قبيحة، والثانية بظهرها لي، والثالثة متوسطة الجمال. اقترب شابان منهن، ووقفا يتحدثان إليهن فيما يشبه الدعوة والفتيات يضحكن ويرفضن. عاد
حميد
بكأسين طويلتين عبارة عن خليط من الجن والفودكا والكونياك وفي القاع حبات من الكرز وقطعة من الكمثرى. جلسنا نحتسي بالشفاطة السائل المثلج. كانت جارتنا صغيرة السن متوسطة الجمال أنيقة وملابسها قصيرة، والفتى يرتدي كرافتة ملونة فوق قميص جديد برزت أكمامه خارج السترة تحليها زراير زجاجية كبيرة في لون بيج. وكان يتحدث واضعا يده على خده والحديث بينهما متقطع. وسمعتها تقول له بدلال:
يا ني ماجو (لا أستطيع). انطلقت الألعاب النارية في السماء خلف الفتاة فاستدارت بكرسيها الدائري بحيث أصبح فخذاها أمامي وجعلت تتأمل السماء من خلال لوح الزجاج. ولحظت أنها تتأمل نفسها في الزجاج أكثر من السماء. جاءت عجوز بدينة في ملابس العاملات وجذبت الستائر فوق الزجاج قائلة بغضب: غير مسموح. قلت لها إننا نريد أن نتفرج. قالت: تفرج في منزلك أو في الشارع أما هنا فلا. انتهزت جارتنا الفرصة لتجاذبنا الحديث مبدية ضيقها بهذا التصرف الغبي. قلت: اليوم عيد، ولا بد أنها وحيدة. قالت: محتمل، نحن هنا لنبتهج لكنها غبية وفظيعة. احمر وجه الشاب وزجرها قائلا: اهتمي بكأسك. قمت وجذبت الستارة وضحكت الفتاة. جاءت العجوز وأغلقت الستارة وهي تصيح غاضبة وعنفت الفتاة. سمعتها تقول بعد قليل إنها ضجرة. فعرض عليها الشاب الانصراف. قامت وودعتنا وتحرك الشاب في صمت وعينه إلى الأرض والدم يندفع إلى وجهه. قلت له:
سبرازنيكم (كل سنة وأنت طيب). فأجاب:
سبرازنيكم . وجهت اهتمامي إلى المائدة المجاورة. رجل طويل عريض بعوينات، وقفاه ناحيتي، وإلى جانبه فتاة أنيقة صففت شعرها في حلقات متمردة مصبوغة قليلا بلون أصفر. كانت شفتاها ناعمتين موردتين وفي عينيها رموش صناعية. وكان رداؤها قصيرا يكشف عن فخدين في كولون أبيض. قلت
لحميد : بيروقراطي مع سكرتيرته. قال: أو عضو مهم في الحزب. كان الصمت بينهما طويلا، يقطعه هو أحيانا فتستمع إليه ثم تضربه على ساعده في ألفة. لحظت أني أتأملها فمسحت عينيها وتأملت فخذيها دون أن تبذل محاولة لتغطيتهما. قال
حميد : نخرج. قلت: نبقى. قال: نخرج. قلت إلى أين؟ قال بار
الأخضر
أو
الأقصر ، هناك فنلنديات ودنماركيات. خرجنا إلى الطريق وسرنا وسط المئات. تأملت بنايات شارع
كالينين
العالية التي انتشرت فوق واجهاتها الزهور والأعلام الحمراء ولافتات تعلن: «المجد لأول مايو» و«المجد للعمل». قال: أمس كنت مع
شريف
و
فريد
وكنا سكارى ودار حديث طويل عن الماركسية اللينينية وكل واحد يؤكد أنه ماركسي لينيني أكثر من الآخر. فوق محطة المترو شعار بالأنوار: «المجد للحزب الشيوعي». وأعلاه جريدة ضوئية: «مواطني
موسكو
المحترمين: شاهدوا فيلم خمسين سنة
للاتحاد السوفييتي .» الميدان الأحمر شعلة ضوء وأعلام حمراء. انحنينا في شارع
جوركي
الذي يرتفع تدريجيا، فهالنا حشد هائل من الجماهير مقبل من أعلى نحو الميدان وهم يرددون الأغاني والأناشيد. دخلنا فندقا ومضينا إلى الطابق الذي يوجد به بار يتعامل
بالدولار
ويشبه الكهف. طلب
حميد
بإنجليزية ركيكة من عامل البار كأسين من الويسكي. تطلعت إليه متسائلا فهمس لي: لو طلبت بالروسية سيغشنا. كان البار مزدحما بالأجانب والسوفييت الآسيويين. قال
حميد : هنا تعقد صفقات السوق السرية، أخشاب مهربة إلى وسط
آسيا ، كافيار أسود إلى الغرب في علب مكتوب عليها رنجة، ذهب وفراء وألماس وأيقونات، بل وحبوب منع الحمل المستوردة.
جلس أمامنا شاب أسمر وسيم. سألني: من أين؟ قلت: من
مصر . قال إنه من
المكسيك
وضحك متسائلا:
فتح
ما زالت قائمة أم انتهت؟ قلت: هذا هو السؤال. كانت برفقته فتاة روسية ذات حاجبين رفيعين للغاية تضع يدها على خدها. يدور بينهما حديث متقطع. انضم إليهما آخر بلحية ومجموعة ثالثة: شابان أحدهما فنلندي أو ألماني، والآخر شكله إنجليزي أو أمريكي بلحية، وفتاة روسية أنيقة ثرثارة ضاحكة لا تكف عن احتضان الألماني. وبجواري جلست عجوز ومعها شاب صومالي أو إثيوبي أحضر كأسين وأخذ يقبلها وسمعتها تقول له إنها تريد أن تصوره. بعدها فتاة طويلة شقراء وقرغيزي وسيم يمسك يدها ويمررها على خده وقد أغلق عينيه في تكلف وهي كالملكة تركت له يدها بينما اكتشفنا وجها عاطلا من الجمال. انضمت إلينا امرأة في العقد الرابع من عمرها وطلبت زجاجة نبيذ. قال لها
حميد
نشرب نخب عيد ميلادك. شربنا. حاولت أن تتحدث معنا فتجاهلناها. احتست زجاجة النبيذ وهي تهز رأسها لنفسها في استسلام حزين ثم انصرفت. توافد جمع من السياح تتقدمهم امرأة طويلة في رداء أحمر اللون تحتضن أخرى، ويصدر عنهم ضجيج مرتفع. أتى من خلفنا صوت موسيقى راقصة. اقتربت فتاة طويلة نحيفة في بنطلون كاوبوي وأنف بارز، وقالت للأمريكي ذي اللحية: أريد أن أشرب. يبدو أنه يعرفها لكنه غير مرحب بوجودها. جلست بجواره على نفس المقعد، وسمعتها تقول لآخر إنها يهودية.
قال
حميد : نخرج. كنا قد أصبحنا في منتصف الليل وما زال الشارع مزدحما. عند مدخل المترو وقف شاب متنكر في صورة امرأة وقد أضاف قطعا من الملابس إلى مؤخرته وصدره وأخذ يهزهما، تجمع الواقفون حوله يتفرجون.
37
عاتبتني العجوز لأني لم أوجه لها تحية الصباح. طلبت مني أن أشغل الموسيقى كما أشاء. اشتغلت جيدا. غادرت الغرفة فسألتني: ألا تريد أن تشرب شايا؟ قلت: أجل. تبعتها إلى المطبخ. وضعت ملعقة شاي في كوبي البلاستيكي، أشعلت النار، وكما توقعت قالت: ماء البراد ساخن. قلت: أريده أن يغلي. قالت في لطف: لكنه غلى. قلت: لا، يغلي عندما أضيفه إلى الشاي. قالت مستسلمة: كما تشاء. كانت رائحة فمها لا تطاق ورائحتها كلها خانقة ووجهها محمرا. قالت: رأسي يوجعني. قلت: الشمس اليوم قوية. قالت: كنت في المقبرة، وكان هناك زحام شديد، والشمس قوية، ونظفت المكان بالمكنسة، ثم وضعت الزهور. ابتسمت ومضت تقول: قبره حسن، لونه أخضر ورمادي، ليس لي أن أشكو. ظهرت الدموع في عينيها: المرة القادمة سأشتري ألوانا وأزوق له القبر، أعطيه شيئا من البهجة فهو الآن معتم.
التقيت
زويا
وزوجها في الشارع. قبلتني في خدي وعرفته بي قائلة: هذا هو الذي حدثتك عنه. سألتني عما إذا كان
هانز
قد عاد. فتجاهلت السؤال. مررنا ببيت صديقة لها. ناديناها فخرجت إلينا. وجهت الحديث إلى زوج
زويا : متى وصلت؟ ثم ضحكت وقالت: متى ستذهب؟
38
حملت الصحف أنباء تصفية الفدائيين الفلسطينيين في
لبنان
على يد الجيش. عاد
هانز
من
ألمانيا . ذهبنا سويا إلى «معرض الإنجازات الاقتصادية للاتحاد السوفييتي» القريب. مطر خفيف. مررنا في المدخل بتمثال من الصلب لعامل يمسك بمطرقة، وفتاة تمسك بمنجل وهما متماسكا الأيدي يسيران بجرأة نحو المستقبل المشرق. وفي الناحية الأخرى مسلة من الصلب لسفينة الفضاء
فوستوك الشرق
التي صعد بها
جاجارين
إلى الفضاء، نقش على أحد جانبيها عدد من العلماء والمهندسين يضعونه في صاروخ ومن الناحية الأخرى
لينين
يقود الجماهير إلى الفضاء. مررنا بأجنحة الطاقة الذرية وصناعة الفحم والبيولوجي والتعليم والفيزياء والنقابات وتكنولوجيا الكهرباء والزراعة. قال إن الأمور في
ألمانيا الشرقية
تماثل وضعها في روسيا، لكن الناس أكثر انضباطا. سألته عن عائلته فقال إن أمه تعاني مع الطبيب الذي تزوجته بعد اختفاء أبيه خلال الحرب، رجل سيئ عامله بقسوة فترك لهما المنزل. حدثته عن أمي المشلولة. سرنا في اتجاه الصناديق التي يغلق الواحد منها على شخصين ثم يدور بهما في الهواء وينقلب. اقترح
هانز
أن نصعد، رفضت. اشترى بطاقتين، لمحنا فتاة طويلة في معطف وبنطلون أسود جالسة على أريكة. كانت لها عينان زرقاوان واسعتان ووجه مستطيل انسدل شعرها الأسود الناعم حوله، وفم ممتلئ شهواني. قال لها وهو يلوح بالبطاقتين: تعالي معنا. احمر وجهها وقالت إنها سبقتنا إلى الصعود. تقدم منها وجلس إلى جوارها وأخذ منها سيجارة. تطلع إلينا المارة والجالسون. جلست على مقعد آخر إلى جوار فتاتين، عرضت عليهما الصعود بالبطاقتين فقالتا إنهما تخافان، وضحكتا في خجل. سألتني إحداهما عن بلدينا، كانتا تتطلعان طول الوقت إلى
هانز . صعد مع الفتاة، دارا في الجو وهما يصرخان ويضحكان. ثم نزلا، وتأبطت ذراعه، ثم أنزلت ذراعها وسارت إلى جواره. ذهبنا إلى لعبة الصناديق المستطيلة التي تدور بسرعة وهي ترتفع تدريجيا. أردنا أن نشتري بطاقات فألفينا الشباك مغلقا. قال لنا أحد العاملين إن اللعبة ما زال أمامها ساعة أخرى أما موعد موظف الشباك فقد انتهى. أخذونا من غير بطاقات، صعدنا في الصناديق ورقدنا على ظهورنا نتأمل السماء. عندما نزلنا وضعت يدها في ذراع
هانز . ركبنا الباص وجلست هي بجوار شخص. سألها عني. قالت له إني عربي. همس لي
هانز : عرفت من لهجتك أنك عربي دون أن أقول لها، لا بد أنها خبيرة، وهي تعمل في حانوت ومتزوجة. تركتهما إلى منزلي. هاجمني صداع رهيب طوال الليل. كنت أترقبه وهو يمسك بعيني ثم ينتقل إلى أعلى ثم يهبط أخيرا إلى مؤخرة عنقي. أيقظت العجوز فأعطتني ورقة بمسحوق مسكن.
39
قالت العجوز: اليوم أحد والشمس ساطعة، ألن تخرج؟ قلت: لا أريد. قالت: أنت مثلي تعبت من الحياة. شربت الشاي وأنا أفكر في وجه فتاة المعرض. العينان الواسعتان الزرقاوان، الوجه الذي يحيط به الشعر الناعم، الشفتان الشهوانيتان. قرأت قصة حياة
سرفانتس . هي نفسها تقريبا مغامرات دون
كيخوتة ؛ عانى في مطلع حياته حالة عصبية مرتبطة بالتدين الشديد.
خرجت إلى السينما المجاورة. فيلم الطيور الحرة. بلغاري عن المراهقة. تدافعت الدموع إلى عيني في مشهد المرأة والمراهق وهو يتطلع إلى ساقيها.
جاءت
مادلين
في تاكسي متأخرة. استقبلتها العجوز مرحبة. عندما انفردنا قلت: أنت تستحقين الضرب. خلعت ملابسها وقالت: ستضربني؟ كانت رقيقة نظيفة بلا رائحة. قالت: هل تحبني قليلا؟ أدخلته بعد مجهود. جئت بهزة شاملة في كل جسمي. رفعت يدها إلى أذنها. أطريت الحلق المثبت فيها. قالت إنه حلق
ماريو .
40
أعطاني
هانز
عددا قديما من
ليتراتورنايا جازيتا (الجريدة الأدبية) به مجموعة قصائد للشاعر المتمرد
يوفتوشنكو ، تحت عنوان «قصائد من قارة الأمل». قال إن السلطة رضيت عنه أخيرا أو هو رضي عنها، فقد عينته مراسلا أدبيا خاصا للصحيفة وصار يقضي في
أمريكا اللاتينية
عدة أشهر في السنة متنقلا بين بلادها.
41
كان المطر يهطل بصورة مستمرة والحجرة باردة لأن التدفئة مغلقة كالعهد بها في هذا الوقت من العام. رفعت المصباح المتحرك إلى أعلى ليضيء السقف حتى تعرف زويا بوجودي لو فكرت في زيارتي. بعد ساعتين أطفأت النور ورقدت. تغطيت جيدا وتقلبت عدة مرات للتكيف مع مرتفعات الأريكة ومنخفضاتها. حلمت أحلاما مضطربة بأبي. رأيته حيا لأول مرة، أنيقا، ذاهبا إلى امرأة في
أوروبا . تركت له ورقة أطلب منه فيها أن يحضر لي أكبر مجموعة ممكنة من الروايات البوليسية.
فتحت العجوز الباب علي في الصباح الباكر . نهرتها فقالت إنها خشيت أن أكون قد غادرت دون أن أدفع الإيجار والكهرباء، وإنها سبق أن وجدت أحد سكانها في الصباح نائما ورأسه فوق حقيبته وغادرها دون أن يدفع ما عليه. قلت بحدة: كان يمكن أن تنتظري حتى أستيقظ. صاحت أنها حرة وأنها تريد أن تتنفس. ثم دخلت الغرفة وفتحت خزانتها الحقيرة وأخذت تحصي ما بها من أطباق قديمة متآكلة.
42
تناولنا العشاء في مطعم: أنا و
هانز
و
مادلين
و
إيزادورا
التي ذكرت أنها افترقت عن صديقها البرازيلي. التقينا مرة أخرى بعد يومين في العاشرة مساء وذهبنا مباشرة إلى غرفتي. استقبلتنا العجوز باسمة. قلت لها إن أصدقائي سيبيتون معي، فأعطتني وسادة وبطانيتين إضافيتين. بسطت بطانية على الأرض في طرف الحجرة
لهانز
و
إيزادورا ، ونمت أنا و
مادلين
فوق الأريكة.
أنصت إلى الأصوات الصادرة من الأرض، ثم أعلنت مازحا أني سأنضم إليهما ونهضت جالسا. أمسكتني
مادلين
من ذراعي وأوشكت أن تبكي. حذرتني
إيزادورا
من الاقتراب. بدت واجمة في الصباح وظهر نوع من الخجل على وجه
هانز . لم تكن العجوز موجودة. وقفنا أنا وهو في المطبخ نعد الإفطار. قال لي هامسا: لقد هزتني وأنا نائم معها قائلة إن هذا ليس بجنس. أضاف: كانت تجربتي الجنسية ناقصة حتى التقيتها، الألمانية والروسية تستقبلان منح الرجال الجنسية بالشكر والرضاء، الأمريكية اللاتينية تكاد تمزقك إذا لم تلتذ، وتقول ببساطة: لم أشبع.
43
انتقلت
زويا
من منزل أمها إلى
الأبشجيتي
بعد سفر زوجها إلى معسكره. احتفلنا بعيد ميلادها. كانت بمفردها عندما ذهبت إليها لأهديها سوارا فرعونيا. روت لي كيف حاول الأذربيجاني اغتصابها وهو يصيح أنها تقدم نفسها بسهولة دائما
لهانز . وعندما أرادت أن تطرده ضربها فتصدت تاليا لحمايتها فضربها هي الأخرى. أعربت عن أسفي، فقالت إنها متأكدة أنني أحبها. كانت ثملة قليلا ووجهها أحمر وشعرت برغبة شديدة في احتضانها وتقبيلها. وضعت يدي على رأسها وتحسست شعرها من أعلى إلى أسفل. قالت إنها لم تعد تحب
هانز
لأنها أدركت أنه لا يحتاج إليها، وإنه غضب عندما تأخرت عن موعد معه واتهمها بأنها كانت مع الطالب السكير
فلاديمير .
44
بدت العجوز في حالة معنوية طيبة. قالت إن الدور جاءها للحصول على مسكن أفضل وعلي أن أستعد للمغادرة. كانت جالسة في مقعدها بجوار البوتاجاز. مازحتها فقطبت جبينها قائلة إن رأسها مشغول لأنها تخطط.
كانت
مادلين
قد وعدتني بالمجيء في الواحدة ظهرا. خرجت بدون
الشابكا ، واشتريت لحما وبيرة ورتبت الحجرة. ظللت أنتظرها حتى الرابعة. وكانت
زويا
قد وعدتني أول أمس أن تمر علي بالليل. جلست أعمل وأنا أتطلع من النافذة في انتظارها، لكنها لم تأت هي الأخرى. ما زالت البروستاتا تؤلمني كلما تهيجت.
45
ذهبت إلى
الأبشجيتي
لأحضر بعض الصحف. التقيت
هانز . سألني إذا كانت
زويا
قد زارتني في منزلي.
اتصلت
بمادلين
ودعوتها للحضور. أعددت السلاطة وفتحت زجاجة نبيذ أحمر بلغاري. أدرت أسطوانة «احتفال بهيج»
لرمسكي كورساكوف ؛ موسيقى منعشة ذات إيقاع متوتر لطبل يبدأ خافتا بطيئا ويتصاعد إلى قمة من الفرح بعد أن تتداخل معه الآلات والنغمات الشرقية. جاءت هذه المرة، لكنها لم تكن متحمسة للمضاجعة. قالت لي وهي تنظر إلي بخبث: لقد أجريت عملية إجهاض. تطلعت إليها مذهولا. سألتها: لماذا لم تخبريني؟ قالت: لأنك لم تكن السبب. قلت: من كان إذن؟ قالت:
ماريو . انتظرت رد فعل مني لكني لزمت الصمت. قالت إن إحدى زميلاتها الروسيات أخذتها سرا إلى مسكن غامض لإجراء عملية الإجهاض، وكان فراش العمليات في الصالة، وبعد أيام تعرضت لنزيف فذهبت وحدها إلى نفس المكان، وفوجئت باختفاء الفراش وبأن الصالة امتلأت بأثاث عادي. تعجبت. قالت: هناك عصابات تقوم بعمليات الإجهاض سرا، فهو مسموح به فقط في المستشفيات وكثيرات لا يستطعن الذهاب إلى هناك كي لا يتم إبلاغ الأهل أو مكان العمل. لو علمت مديرة معهدها بالأمر لأعادوها إلى بلدها. أحاطتني بذراعيها. قالت: ألن تضربني؟ حكت نفسها على ساقي ثم جاءت بقوة.
46
زارتني
زويا
في التاسعة مساء. بدت متعبة. شكرتني مرة أخرى على السوار وقبلتني في وجنتي. دعكت جبينها بإصبعها لتزيل ما عليه من غبار. عرضت عليها أن تشرب نبيذا أو فودكا . ظهر على وجهها تعبير ماكر وأزاحت خصلة شعرها إلى خلف أذنها. سألتني: لماذا؟ كنت أتحرك طوال الوقت واقفا أو جالسا، وهي منتبهة لكل حركة تبدر مني كأنها تتوقع شيئا. ساعدتها في مراجعة دروس اللغة الإنجليزية. في منتصف الليل أعلنت رغبتها في الانصراف. قلت: الوقت متأخر. سأوصلك. أين ستبيتين؟ قالت: في
الأبشجيتي . قلت: مفتوحة؟ قالت: سأتمكن من الدخول. قلت: إذا لم تتمكني فتعالي هنا. رافقتها حتى المصعد. كانت تراقبني بركن عينها ومنتبهة لكل حركة مني كأنها تتوقع أن أحتضنها في أي لحظة.
47
تلفنت
مادلين
في الساعة السادسة كما طلبت منها. قالت: أنا أعلم أنك لا تريد أن تراني لأني لست مفيدة الآن بعد الجراحة. اتفقنا على اللقاء أمام
البلشوى . ذهبت معها إلى منزل
عبد الحكيم . لم تكن زوجته قد عادت من
أوكرانيا . وشممت رائحة مشاكل بينهما. سهرنا معه هو وزميلة له في العمل ذات شفتين غليظتين وتدعى
إيما ، وفتاة طويلة تجيد الإنجليزية لا تكف عن الكلام السريع اللاهث تدعى
لاريسا ، سبق أن تعرفت عليها في إحدى مكتبات
القاهرة . أخذني
عبد الحكيم
إلى المطبخ وحذرني من أن
إيما
لها علاقة بال
ك. ج. ب (المخابرات). قال إن
القذافي
أعلن تأميم شركة أمريكية للبترول والاعتراف بجمهورية
ألمانيا الشرقية . تحدثنا بسخرية عن النظرية الثالثة التي يدعو إليها ضد الرأسمالية وضد من أسماهم بالشيوعيين الرجعيين الذين يتمسكون بقوالب جامدة من الماضي. عندما سكرنا اقترح لعبة تختار فيها كل فتاة رقما يرمز لأحدنا وتنتهي بأن تنفرد بالفائز. فزت مرتين. أخذت
إيما
إلى المطبخ وقبلتها، بادلتني قبلات الفم بحماس وضغطت عليها بساقي. ثم فعلت المثل مع
لاريسا
التي عاتبتني لأني لم أتصل بها منذ التقينا آخر مرة. عدنا إلى الصالة واقترحت ضاحكا أن نمارس الجنس الجماعي. ضحكنا جميعا لكن
مادلين
انزعجت واختفت في الحمام. ثم انصرفت الفتاتان.
قضيت الليلة مع
مادلين
فوق أريكة الصالة. شممت رائحة كريهة بمجرد أن رقدت إلى جوارها. اعترفت بأنها لم تغتسل بعد التواليت لأنها لم تعثر على ورق. قلت: ألم تكن هناك مياه؟ قالت: أجل. هناك زجاجة، ولكني لا أعرف كيف أستخدمها كما تفعلون. أعطيتها ظهري ونمت.
48
تلفنت
للاريسا
فردت علي أمها. قالت بصوت واهن إن ابنتها حدثتها عني. وطلبت مني أن أعتني بها. أعطت لها السماعة فتواعدنا على اللقاء في وسط المدينة. جاءت متأخرة ثلث ساعة بعد أن أوشكت على الانصراف. تذكرت أنها كانت تفعل ذلك دائما في
القاهرة
وتحتج بأنها مراقبة بواسطة السفارة. كانت في جوب كاروهات قصير أحمر اللون كشف عن ساقين جميلتين، وردفين ممتلئين وخصر ضيق. مشينا في
بروسبكت كالينين . قالت لاهثة: إلى أين؟ قلت: نشتري طعاما ونذهب إلى مسكني. قالت: حدثني عن العجوز، عندما قلت في التليفون إنك استأجرت غرفة مع عجوز أردت أن أعرف أي نوع هي من العواجيز. قالت بعد برهة: أليس من الأفضل أن نذهب إلى مكان ما؛ مقهى أو مطعم؟ ملت إلى الفكرة. طعام جيد وشراب لكنها ستصدع رأسي بحديثها وبعد ذلك يكون الوقت متأخرا للذهاب إلى غرفتي، وأكون خسرت بين 10 و12 روبلا. قلت: كما تحبين، سنرى. قالت: أتذكر آخر مرة التقينا وتعشينا ثم رفضت أن توصلني؟ قلت: السبب أنني كنت قد أنفقت الروبلات العشر التي في جيبي.
دخلنا في حديث طويل عن الصحة وأمراض النفس والجنس، السلوك البدائي والمرأة الباردة و
ليدي شاترلي
وقشرة الحضارة التي تجعل اللقاء الجنسي صعبا ومعقدا، والرجل الذي يتنقل كثيرا بين النساء. قلت إنه إما يبحث عن صورة مثالية في رأسه أو لديه ميول مثلية. قالت إن الحب عملية ارتقاء وتهذيب للقاء الجسدي، إنه الهدف الأسمى للشيوعية. سألتها عن صديقها الأرمني. قالت إنها قطعت علاقتها به لأنه مستبد ويريد من المرأة أن تكون تابعة له. قلت: ولم لا؟ إذا كانت العلاقة ناجحة جنسيا. قالت: بالضبط، ولكنها غير ناجحة بسبب أنانيته، فهو لا يهتم بغير متعته الشخصية. سألتها عن صديقتها
أولجا
التي تعرفت عليها أيضا في
القاهرة . وكانت ضئيلة الحجم شاحبة الوجه عاديته. ومع ذلك أحاط بها الشبان المصريون طوال الوقت. قالت
لاريسا
إن
أولجا
منهارة منذ عودتها من
مصر ، لا أحد يأخذها إلى أي مكان ولا أحد يهتم بها، وتقضي طول الوقت في غرفتها نائمة. تذكرنا
سفيتلانا
صديقتها الأخرى. كانت رشيقة الجسم ذات صدر ناهد. وكانت تسير دائما مرفوعة الرأس في خيلاء فقد كانت جميلة. قالت: لن تتعرف عليها الآن، لقد تزوجت بروسي وأنجبت طفلين. وازداد وزنها كثيرا، وتبدو دائما موشكة على البكاء لأن زوجها يضربها.
قالت: لنذهب إلى مطعم
موسكفا
لو كان معك نقود. سألتها: كم يكلف؟ قالت 10 أو 15
روبلا . قلت لا أستطيع. اشتريت زجاجة نبيذ أحمر بلغاري ثمنها 180
كبيكا
وقطعة
كلباسا
محشوة بالبيض وقطعة لحم بارد. ذهبنا إلى المنزل. قالت: ستوصلني عندما أغادرك. قلت: لماذا؟ قالت بالإنجليزية: هذا هو واجب الجنتلمان. قلت: هذا لا يعنيني. قالت لماذا؟ قلت: لا معنى لأن آخذك من أول المدينة إلى آخرها ثم أعود مرة أخرى، إننا جميعا نعمل في الصباح. فقالت إنها قضية أساسية. ثم قالت: إذن لن أبقى عندك طويلا. سأنصرف قبل العاشرة. قلت: كما تشائين.
مررت
بالأبشجيتي
فأخذت الأغطية الجديدة وذهبنا إلى المنزل. كانت العجوز في المطبخ مع أخرى ذات عوينات. أعددت المائدة وأنا أتحاشى الذهاب إلى المطبخ. ثم وضعت قطعتي لحم في طبق من أطباقها القديمة وأخذته لهما فسرت العجوز. وقالت صديقتها: هل لديك ما يشرب؟ ملأت لها كأسا. عدت إلى
لاريسا
وبدأنا نأكل ونشرب. جاءت العجوز وقالت إنها ستطرد صديقتها وتنام. وأغلقت الباب علينا. قالت
لاريسا
إنها تكره هاته العواجيز، وإن العجوز كالكلب الذي تطعمه فيسكت، وإن أباها هكذا دنيء، يغلق النوافذ ويسأل عن الأشياء الموضوعة: لماذا هنا ولماذا هناك، وحش. سألتها عن مهنته. قالت إنه من علماء البحار الكبار، دائما خارج البلاد ويأتي ليحبل أمها ويتركها تعنى بثمانية أطفال، دمر حياتها. قلت: كيف؟ قالت: لم تحصل على إشباع جنسي؛ ولأنها متدينة لم تتمكن من إقامة علاقة مع أحد غيره. قالت إنها مرتبطة بأمها جدا وتكره أباها وتتمنى موته.
انتهينا من الأكل فقالت إنها ستذهب. قلت لها: الأفضل أن تبقي وتقضي الليلة معي، وهناك احتمال كبير ألا يحدث بيننا شيء . لم تعارض وقالت إن أمها تنتظرها. نزلنا نتلفن لها من الكشك. دللت أمها:
ماموشكا ، سأقضى الليلة عند صديقتي، كيف حالك؟ أنصتت برهة ثم قالت: أهو بابا مرة أخرى؟
صعدنا من جديد. أغلقت باب الحجرة ودخلت الحمام وخلعت ملابسي. فتحت العجوز الباب وكانت في قميص داخلي بال. قالت بصوت مرتفع: هل ستبقيها هنا الليلة؟ قلت: لم أفهم. قالت بلهجة غاضبة: سأروي كل شيء لصديقتك.
استلقينا على الأريكة بعد انصرافها. خلعت ملابسها. وجدتها مبللة جدا فدخلتها بسهولة وانتهيت بسرعة. وما لبثت أن نمت وفي فمي طعم شفتيها المدهنتين. شعرت بأصابعها تتحسسني لتدب في الحياة دون نتيجة. وفي الصباح عاودت المحاولة بأصابعها دون جدوى. استحممت وارتديت ملابسي بينما كانت تتمعن في تفاصيل جسمها العاري في إعجاب غريب. اتخذت أوضاعا مختلفة وسألتني عن رأيي في جسمها، قلت إنه جميل.
أوصلتها بالباص إلى محطة المترو. وسألتني إذا كنت أستطيع أنا أو أصدقائي أن نشتري لها بطاقات للكونسرت الأمريكي. وعدت بالاتصال بها وأنا واثق أني لن أفعل.
49
حان موعد مغادرة منزل العجوز والعودة إلى
الأبشجيتي . توقعت معركة معها: أن تسرق مني شيئا أو تتهمني بسرقة شيء، أو تحاول ابتزاز نقود. على الأقل بحجة غطاء المائدة البلاستيكي الذي تمزق مني. لكنها لم تفعل أي شيء من هذا ولم تدقق حتى فيما حملته معي من أشياء. طلبت 50
كبيكا
ثمن النور، وكان يمكن أن تطلب روبلا كاملا. ودعتها فقالت إنها آسفة لذهابي وإني شخص جيد. انتقلت إلى حجرتي السابقة في
الأبشجيتي . رحب بي الطالب الروسي. كان متين البناء حليق شعر الرأس على النمط العسكري. ولم يكن
ماريو
موجودا.
50
عادت
زويا
إلى المستشفى وزرناها أنا و
هانز . وجهت كل اهتمامها إليه. قالت إنها تتمنى أن يزورها أحدنا مرة ويصحبها في جولة خارج المستشفى كما فعل زوجها.
بعد أن تركناها تمشينا في ظل أشعة الشمس الغاربة. كان الجو رائعا ذكرني بشتاء
القاهرة . قال إن
فريد
و
حامد
انتقلا من
الأبشجيتي
إلى مسكن خاص وأصبح بمفرده وعرض أن أسكن معه. قال: عندنا مكتبان، واحد لكل منا. وافقت.
نقلت حاجياتي إلى غرفته. اتخذت لنفسي الفراش على يسار النافذة. وأزلنا الفراش الثالث ووضعناه فوق الخزانة الخشبية. واتفقنا على توحيد نفقاتنا واقتسامها. التقيت
ماريو
في الكوريدور. هبطنا سويا إلى الكافيتريا. بدا محرجا وتكلمت معه بصورة عادية. وقفنا في الطابور. قال فجأة إن
مادلين
تحبنا نحن الاثنين، فكل منا يشبع شيئا فيها، هو يشبه أخاها وأنا أشبه أباها.
51
جاء
هانز
ساخطا في منتصف الليل. كانت المعلمة
تاتيانا ، وهي شقراء أربعينية وبدينة بعوينات، قد دعته إلى منزلها في الساعة الرابعة قائلة إنها أعدت بطتين بالطريقة الروسية. تأخر عليها لأنه كان على موعد مع
إيزادورا . وذهب إليها في الساعة العاشرة. وجدها جالسة أمام الطعام البارد تنتظر مع مدعوين آخرين. قال لي: كأنما أنا شخص مهم جدا، ويتوقف كل شيء على وجودي، والنتيجة أن العزومة باظت ولزمت المعلمة الصمت غاضبة فانصرفت بعد قليل. قلت: كان يجب زيارة
زويا . قال إنه لا يشعر برغبة في رؤيتها.
52
ذهبت إلى السفارة المصرية في شارع
خليبني
لأملأ بعض الأوراق الرسمية. استقبلني شخص طويل القامة وتجاهلني بعض الوقت. وجه اهتمامه إلى خارطة كبيرة على الحائط
للاتحاد السوفييتي
وأخذ يبحث عن نقطة بها. قال بعد لحظة: لقد تخلوا عنا. قلت: غير صحيح، ما هو المطلوب منهم أكثر من إعادة بناء الجيش المصري؟ قال: لا يريدوننا أن نحارب لنستعيد أرضنا. قلت إنهم لا يريدوننا أن نغامر بحرب لم نستعد لها جيدا، ثم إن سجلنا في الحرب غير مقنع. تطلع إلي طويلا دون أن يرد.
أثناء عودتي في المترو لحظت امرأة قوية الجسم ذات صدر رائع وبشرة لوحتها الشمس، وصلت رغبتي فيها إلى مشارف البكاء. رأيت امرأة أخرى ذات مؤخرة بارزة حشرت نفسها في الزحام ورفضت أن تجلس في مكان خال. في إصبعها خاتم زواج. تبعتها عندما غادرت المركبة، أدركت أنها تبحث عمن يحتك بها، أسرعت إلى زحام أسفل السلم الكهربائي وأنا خلفها، نزلت إلى المترو السفلي واستقلته وهي تتطلع حولها في ضيق، ثم اتجهت إلى باب الهبوط حيث احتشد عدد من الركاب. تركتها ومضيت في طريقي.
53
رتب
هانز
الحجرة وأعددنا عشاء. زارنا
شريف
و
حميد
السوريان حاملين زجاجة فودكا احتفالا بتخرج فريد. ذكر
شريف
أن
القذافي
أعلن عزمه على الاعتكاف في خلوة. وأن البكر ممثلا لحزب البعث العراقي وقع مع
عزيز محمد
سكرتير الحزب الشيوعي ميثاقا للعمل الوطني ولقواعد العمل في الجبهة الوطنية والتقدمية. قال
حميد
إنهم سيستغلون الاتفاق لجمع أكبر معلومات ممكنة عن الشيوعيين ثم يقضون عليهم. حكى
شريف
عن فتاته مارينا التي تجري عمليات الإجهاض لنفسها لأنها لا تحمل تصريح إقامة في
موسكو
فلا تستطيع الالتجاء إلى مستشفى، وليس أمامها غير الجراحة السرية التي تحتاج إلى نقود. قال إنها تستخدم أنبوبا ليمتص الدم، وإنه استيقظ مرة فرآها زرقاء الوجه. وقال
حميد
إنه مرة طلب من صديقته أن تغادر الغرفة ليستقبل فتاة أخرى فرفضت وهددت بالانتحار فقال لها: هيا انتحري، دخلت الحمام وجلس يشرب فودكا، مر ربع ساعة وبعد نصف ساعة خرجت شاحبة من الحمام وقالت إنها ستموت وارتمت فوق الفراش، طلب لها الإسعاف، جاءت طبيبة وممرضة وسائق، أسعفوها ثم جلسوا جميعا يشربون الفودكا ويثرثرون. وقال إنه سيسافر إلى
دمشق
لأنه لا يستطيع الحياة دون أن يرى زوجته وابنته. أرانا صورهما. انضمت إلينا إيرما صديقة
فريد
بعينين دامعتين. انصرفوا بعد أن أوشكت زجاجة الفودكا على الانتهاء. وبينما كنت أرتب المائدة جاءت
هند . قالت إنها التقت
شريف
و
حميد
على السلم، وإنها تعرف ما يقولانه عنها بسبب علاقتها بالطالب الروسي. سألتها إذا كانت تحبه. قالت: لا أعرف. قلت: يمكنك أن تعرفي من العلاقة الجسدية. قالت: ظروف المكان لا تسمح، أنا في غرفة وهو في أخرى، لا أتصور شكلا آخر للرقاد أثناء ممارسة الجنس غير أن أنام على ظهري وأرفع ركبتي، هناك طبعا أشكال أخرى كثيرة لا نستطيع استكشافها لأننا نادرا ما ننفرد بأنفسنا.
54
كنت بمفردي أعمل عندما طرقت فيرا باب الغرفة. فتحت لها وأنا أتأمل ساقيها العاريتين في الميني جوب القصير . وكنت أتابعها بنظري دائما وهي رائحة غادية في الميني جوب. اقترضت مني
روبلا . احتضنتها في تردد وهي خارجة، وعندما عادت
بالروبل
كان روج شفتيها ممسوحا، ربما من قبلة. صحبتها إلى الكوريدور. وعاودتني آلام البروستاتا. قضيت النهار في الحجرة. كتبت على الآلة قليلا كعادتي. ثم شعرت بالتعب. شربت زجاجة بيرة، ثم قمت وأعددت بيضا بالبصل. شاركني
هانز
الطعام. غذاء لي وإفطار له. حكى لي عن بعض تجاربه النسائية وكيف ركعت فتاتان تحت قدميه طالبتين منه أن ينام معهما ورجته إحداهما أن ينام مع الأخرى لأنها تتمزق من الرغبة. انصاع لها وتمدد على الفراش وقال لها اخلعي ملابسك وتمشي. أذعنت وتمشت ثم جاءت ورقدت فوقه. وقام شاعرا بالقرف وجعلها تغسله ثم انصرف. قال إنها حدثته عن استخدام المرأة الروسية محشي
بالكاشا
الساخنة لإجراء الإجهاض. قال إنه التقى الطالبة ابنة الوزير، جاءته في سيارة خاصة مزودة باللاسلكي، وقالت عن أبيها إنه جحش لا يفهم شيئا. وإن أبويها زوجاها بسرعة وأعطياها شقة في شارع
ديمتروف
حيث يسكن الحكام. روى لي كيف كان نائما وجاءت
زويا
توقظه. وكيف تطلع إليها لا مباليا وهي جالسة على حافة فراشه. ثم كيف شعر برغبة شديدة فيها. ومدت يدها تتحسسه وهو راقد يتأملها ويداه خلف رأسه. وطلب منها أن تبلله بلعابها. ثم مضت إلى سلة المهملات بجوار الباب فمسحتها في جانبه. وفتح الباب ليدخل
توماس
الأفريقي. مد يده ليصافحها قائلا: هالو
زويا ، فقدمت إليه يدها.
55
قال
إريك
الكازاخي إن المعلمة
تاتيانا
تدعو
هانز
للعشاء في الساعة الثامنة مساء. وطلب إليه أن يأخذ معه زجاجة خمر. تلفن
هانز
لها وسألها إن كان يستطيع إحضار صديق معه. جاء
عدنان
العراقي حاملا صندوق النرد. أصر أن نلعب معا قائلا إننا لن نراه بعد الآن لأنه سيعود إلى
العراق
نهائيا خلال أيام. خرج
هانز
يبحث عن خمر في
البريوسكا . ثم التقينا أمام منزل
تاتيانا ، وكان الكازاخي في انتظارنا. أتتنا رائحة البول والقيء ونحن نصعد الدرج. مررنا بأبواب الشقق المغلفة بالجلد السميك. استقبلتنا
تاتيانا
متأنقة وقد أحاطت عينيها بخط أزرق اللون، كانت أسنانها رمادية كأغلب الروس. قدمتنا إلى ضيوفها:
فلوديا
ذي القميص الحريري المشجر والبنطلون الشارلستون، وزميله
فالنتين
الضخم ذي الشوارب الذي كان يعبث بترانزستور روسي قديم كالدبابة الصغيرة،
لودا
ذات الشفايف الناعمة والجسم الممتلئ التي جلست إلى جوار
فلوديا
وسوت له شعر رأسه بأصابعها ثم قبلته في وجنته.
أحضرت
تاتيانا
الطعام وبدت سعيدة. شربنا نبيذا أبيض ولحظت أن تعبيرا من التعالي والعداء ظهر على وجه
هانز
عندما قال
فولوديا : أكد لي كثيرون أني أشبه الفرنسيين. أشاحت
لودا
بوجهها خجلا. قال إنها هي التي ذكرت له ذلك. قالت
تاتيانا
بفخر وهي تشير إلى زجاجة الروم إن
هانز
قضى اليوم كله بين محلات
البريوسكا
بحثا عن ويسكي، ولم يجد غير الأنبذة والمشروبات الروسية وهذا الروم الكوبي.
انضم إلينا
بوريس
سكرتير
الكومسومول (منظمة الشبيبة الشيوعية) في الأورال. تلفنت صديقة
إريك
معتذرة بسبب ذهابها إلى المسرح. وضع
بوريس
وسادة فوق التليفون. استفسرت من
هانز
همسا عن السبب. قال: للتشويش على أي عملية تسجيل، ففي مثل هذه السهرات تنطلق الألسنة. سمعته يقول
للودا : أنا هنا أتحكم في كل شيء. ردت عليه في تحد: ليس كل شيء. تحدثت
تاتيانا
عن أبيها وقالت إنه في كل مرة يشاهد فيلما حربيا يقول إنه فيلم جيد لكن الحرب لم تكن كذلك. تناولت ذراعي مقترحة أن نشرب معا نخب الأخوة. شبكت ذراعينا وتبادلنا القبلات. أزاحت المائدة لنرقص. رقص
فلوديا
مع
لودا
ثم اختفيا في الحجرة الداخلية. وظهرا بعد نصف ساعة. بدا عليها شيء من التعب أو الاكتئاب. ولمحتها تختلس النظرات
لهانز . قال لها: اذهبي معي إلى
الأبشجيتي
وباتي هناك. قالت إنها تود ذلك لكنها لن تفعل. رفض
فالنتين
الرقص وقال: إما
روك آند رول
وإلا فلا. بدأ
بوريس
يكشف عن شخصية مرحة. رقص مع
لودا
ورقصت مع
تاتيانا . شعرت بجسم مترهل في أجزاء كثيرة. قالت: يجب أن تأتي عندي في عيد ميلادي، لقد شعرت بالراحة لك من أول نظرة. فهمت أن هذا جسر
لهانز . قالت إنه لا يريد أن يحضر عيد ميلادها. تدخل
هانز
في الحديث قائلا إنه مرتبط بفترة تدريب عملي. قالت إنها تستطيع التدخل لإعفائه منها.
سأل
فالنتين لودا
عن لون الملابس الداخلية الذي تفضله. قالت: الفيوليت. فنهض وتلفن لشخص وسأله عما إذا كانت لديه ملابس داخلية بنفسجية. خرج
بوريس
إلى البلكونة فتبعته. قال إنه يشعر بالملل بعد ثلاثة أيام في
موسكو
ويريد العودة فورا إلى زوجته وطفله. بدأنا نشرب الروم الكوبي بعد أن أعد
إيريك
الثلج. وصنعت
لودا
قهوة احتسيناها بالماروجنا. همست لي
تاتيانا : إن
لودا
تبحث عن علاقة ثابتة. دفعت بعويناتها إلى الخلف وقالت: أنا أدرك أن
هانز
غير ثابت وفي أي لحظة يمكن أن يغير رأيه، ثم إن
الناستريينبا (المزاج) عندي مختلف. قلت
لبوريس
بعد تعليق ساخر من جانبه: لو كان كل الشيوعيين مثلك لكان الأمر رائعا. أيدني
هانز . أثرت نقاشا حول الفارق بين الواقع ومشاكله وما يكتب في الصحف والكتب. قال
بوريس : الأعداء يتربصون بنا ولا يجوز أن نكشف لهم عيوبنا. قلت إنهم يعلمون عنكم أكثر مما تعلمون عن أنفسكم. قال إنه لا يستطيع أن يتحدث هكذا في
الأورال
مع زملائه. سمعت
تاتيانا
تقول شيئا عن طفلها فاستوضحتها. قالت: أقصد زوجي السابق.
قال
فالنتين
وهو يمسح شاربه بأصابعه: أنا أدير مصنعا كبيرا للألبان تقدم له الدولة كل الإمكانيات. عندنا مصيف على البحر الأسود يذهب إليه كل عام آلاف العمال وعائلاتهم، المصنع هو حياتي، أعرف كل شبر منه، عندنا خمسة آلاف عامل أعرف أغلبهم بالاسم، وأعتني بهم جيدا، أوفر لهم كفايتهم من الطعام، فلدينا مزرعتان خارج
موسكو
ونبيع الفواكه والخضراوات بأسعار مدعمة، عندنا أيضا مساكن ومدرسة وملجأ للأيتام وناد رياضي وقصر ثقافة. قال إنه مضطر للانصراف لأنه سيستيقظ مبكرا. أضاف ضاحكا: المصنع الآن في مرحلة السخونة. استفسرت عما يقصد، فقال إن العمل يمر بثلاث فترات: الأولى عقب توزيع الأجور يكون فيها العمال منهكين من الفودكا، وفي الثانية يبدأ جو العمل في التسخين، وفي الثالثة قرب نهاية الشهر يلهث العمال لإنجاز الخطة ويكون الإنتاج مليئا بالعيوب.
انصرف
فلوديا
و
لودا
و
فالنتين . وكشفت
تاتيانا
عن ضيقها بهم، قالت إنها لا تعرف سوى لودا من شهر ونصف، وإنها مهندسة تعرفت على
فلوديا
منذ أسبوع ولا تعرف مهنته. إنها تعتقد أنه من أرباب السوابق؛ فهناك وشم كثير على ذراعيه. انسحبت في الساعة الثانية تاركا
هانز . طلبت مني
تاتيانا
أن أتلفن لها في الغد لنخرج مع صديقة لها. غادرت المنزل إلى محطة المترو، وقفت خارجها أنتظر تاكسي. الجو صيفي رائع، وأنا منتش ومنتبه تماما. انضم إلي شاب ثمل قليلا وامرأته. جاء التاكسي فأسرع إليه الشاب وفتح الباب الخلفي وأشار لي في احترام مبالغ فيه أن أدخل. جلست المرأة بجوار السائق. طلب مني الثمل بعد قليل سيجارة. أشعلتها له. تحولت إليه المرأة وقالت: لماذا لم تستأذن؟ ضحكنا. سألني: هل تعرف
ماياكوفسكي ؟ قلت: الشاعر الذي انتحر. قال: اليوم تمر 80 سنة على ميلاده. ردد بعض أبيات من قصائده عن اللغة الروسية و
لينين
وعن الوطن: «انظر إلي أيها العالم واحسدني، فلدي جواز سفر سوفييتي.» عقب: الآن كل واحد يريد جوازا ليبرح.
وجدت باب
الأبشجيتي
مغلقا فطرقته عدة مرات. فتحته
الديجورنايا
وعنفتني. صعدت في بطء إلى غرفتي. غسلت جوربي ونمت.
في الصباح كنت في حالة معنوية جيدة. أكلت ثلاث بيضات وقطعة طماطم واستحممت. ثم شربت الشاي والقهوة. دخنت وأنا أفكر في اليوم الذي سنقضيه مع
تاتيانا
وصديقتها. تلفنت لها في الساعة الواحدة فردت علي في ضيق وبلهجة باردة. ذكرت اسمي وقلت:
كاك ديلا (كيف الحال)؟ قالت: لا بأس. سألت عن
هانز
فقالت إنه خرج الآن فقط لأنه مصاب بالتهاب في الحلق. قلت سأنتظره لأعالجه. لم تذكر شيئا عن مشروع النزهة فأنهيت المكالمة. عدت إلى الحجرة وانهمكت في العمل.
قبل الظهر وصل
هانز
في حال من الإعياء. جلس وقال إنه لا يدري لماذا يفعل هذا. قلت: تفعل ماذا؟ قال إنه متقزز من نفسه وإنها أخذته إلى فراشها ورقد إلى جوارها ثم بدأ يرتجف وفقد رغبته فيها. قلت : لكنك في البداية كنت تريدها . قال: لا أعرف. أحاط رأسه بيديه وبكى. صنعت قهوة وتحدثت عن الأم التي نريدها، وفي نفس الوقت نشعر بالرعب لأنها محرمة علينا.
56
زارتنا
جاليا
صديقة
عدنان
تبحث عن مسافر إلى بغداد لتبعث إليه برسالة. كانت دقيقة الحجم ذات وجه دائم الابتسام، وغمازة في ركن فمها. وكانت برفقة صديقة لها. أعجب
هانز
بالصديقة
ناتاشا . رأيت في قدميها حذاء بكعب مرتفع وفقا للموضة. سألتها أين حصلت عليه؟ قالت إنه إيطالي من
الرينك . قلت: من أين؟ رددت مستاءة:
نا رينك . قال لي
هانز : تقصد السوق السرية، وليس له مكان محدد، لكن تجد فيه السلع التي يصعب العثور عليها مثل الطماطم أو لوفة إسفنجية أو شال من الموهير أو زوج من الإطارات اليابانية، والجوبات الميني من الجلد، والجوارب النسائية. أضافت
جاليا : يمكنك أيضا أن تشتري كرتونة سجائر أمريكية بعشرين روبلا، وشوكولاتة غربية وكتبا قديمة.
دب فينا الحماس وأعددنا طعاما وخرج
هانز
يشتري بطيخة. قطعناها فطالعنا جوفها الأبيض. وضعناها في مياه باردة. قالت
جاليا
إن
عدنان
وعدها بأن يطهو لها طعاما عربيا قبل سفره ولم يفعل. رفضتا احتساء الفودكا في البداية ثم شربتا. أدرت الجرامفون وأسطواناتي الغربية الثلاث اليتيمة. صفقت
ناتاشا
عندما تعرفت على أسطوانة «شيب». استمعت جاليا بحزن لأغنية ل
اف ستوري (قصة حب). قالت إنها تذكرها
بعدنان
وإنها ستذهب إلى
العراق . قالت لها
ناتاشا : يجب أن تنسي. هزت رأسها رافضة وقالت إنها تريد كأسا خامسة خالية لأنها وعدت
عدنان
بذلك. قالت إنها كانت أخيرا في
سوتشي
على البحر
الأسود . سألتها
ناتاشا : كيف ذهبت؟ قالت إنها في البداية لم ترغب لأنها وعدت
عدنان
ألا تذهب بمفردها إلى أي مكان، ثم غيرت رأيها في آخر لحظة وقضت هناك عشرة أيام.
رقصت مع
جاليا
عدة مرات. ودب بيننا مرح. تابعتنا
ناتاشا
باهتمام. كان
هانز
عازفا عن الرقص وفي حالة خمول. اقترحت
جاليا
الذهاب إلى السينما. همس لي
هانز
أن
ناتاشا
تثيره. قال إنه وعد
إيزادورا
أمس بالذهاب إليها لأنه سيسافر قريبا . طرق الباب فتجاهلنا الطارق. بعد قليل نظرت من النافذة فلمحت
إيزادورا
منصرفة. أشفقت عليها أن تقطع كل هذه المسافة ثم لا نفتح لها. قلت
لهانز ، فذكر أنه كان قد وعد بانتظارها. نزلنا إلى الغابة. سرنا أنا و
جاليا
في المقدمة. سألتها كيف عرفت
عدنان . قالت: في الباص. جذبها من يدها طالبا التعرف بها فظنت أنه جروزيني، من مواطني
جورجيا . سألتها: متي كان ذلك؟ قالت: من أربعة شهور، لا، خمسة. قالت إنها في الواحدة والعشرين وسبق لها الزواج، ليس لها أم، تعيش بمفردها منذ سنتين، وترى أباها بين الحين والآخر، تريد أن تدرس اللغة الإنجليزية لمدة سنة لتلتحق بعد ذلك بمعهد المضيفات. سألتني عن الحياة في
العراق ، وهل هي جميلة حقا كما قال
عدنان . قالت إن العمل في الحانوت ممل، وإنهم يحتفظون بنوعين من الدفاتر، الأول يعرضونه على الدولة والثاني به البيانات الحقيقية. وقالت: نحن نتظاهر بأننا نعمل وهم يتظاهرون بأنهم يدفعون لنا أجورا. سألتها عن سعر
الدولار
في السوق كما طلبت مني
مادلين . قالت: ثلاث
روبلات
للدولار الواحد.
وضعناهما في تاكسي. قالت
جاليا : ألن توصلانا؟ تجاهلنا الأمر. قال
هانز
بعد انصرافهما إن
ناتاشا
رفضت أن يقبلها. ثم تحدثت مع
جاليا
بصوت خافت وعندئذ خفت مقاومتها. وقال إنه يشعر بالضيق وغير مستعد لأن يضيع الوقت معها، لكن جسمها مثير.
57
سافر
هانز
إلى
ألمانيا
وصرت بمفردي، كما سافر
حميد
و
فريد
وأغلب السوريين. وبدأت
الأبشجيتي
تخلو من الطلاب بسبب العطلة الصيفية. البعض ذهب إلى أهله والآخرون إلى المراكز المخصصة للعطلات. تلفنت
لجاليا
من التليفون العمومي في مدخل
الأبشجيتي . ردت بصوت حاد بارد. قلت بلغة متعثرة: صديقتك
ناتاشا
نسيت بطاقتها هنا وهي معي الآن، ماذا سنفعل؟ قالت: سنمر عليك غدا لنأخذها، كيف حال
هانز ؟ قلت لها إنه سافر. قالت: كلمني من فضلك صباحا هنا أو بعد ذلك في العمل، والآن إلى اللقاء لأني يجب أن أجري. أعطتني الحارسة بطاقة بريدية من
مادلين . كانت تحمل صورة قديمة للعذراء الباكية. وبها كلمة واحدة: أرجوك. صعدت السلم متثاقلا. التقيت
دوبروفسكي
برفقة زوجته؛ طويل القامة وبوسامة الأرستقراطيين، وهي قصيرة بملامح أقرب إلى العاملات أو القرويات. كان يحمل زجاجة فودكا تحت إبطه. عرض علي أن نشرب سويا فاعتذرت. فتحت النافذة على مصراعيها لأخفف من درجة الحرارة. أعددت سلاطة وملأت كوبا من النبيذ. قرأت قليلا في كتاب «لعبة الأمم»
لكوبلاند . ثم غسلت الأطباق، وأدرت أسطوانة «النزوة الإيطالية» واستلقيت على الفراش.
58
أوصلنا
مادلين
إلى المطار لتسافر إلى بلدها. كنا أنا و
إيزادورا
وإحدى زميلاتها. ودعتنا باكية، لم يكن
ماريو
معنا لأنه ذهب إلى معسكر العطلات في الجنوب. ستلحق بها
إيزادورا
بعد أسبوع. ركبنا سويا إلى وسط المدينة. قالت لي إنها كانت تبكي طول الأسبوع في التواليت بعد سفر
هانز ، وكذلك
مادلين . ذهبنا إلى سينما تعرض فيلم
دميانو دمياني
تمثيل
آلان ديلون . جلسنا متجاورين، ووضعت ذراعي خلف ظهر مقعدها، بعد لحظات داعبت أذنها فلم تعترض، واصلت تحسس أذنها دون أن تتحرك. وشعرت بها ترتعش. مالت علي وهمست: أتذكر ليلة نمنا في غرفتك؟ انصرفنا إلى متابعة الفيلم ثم أوصلتها إلى
أبشجيتي
معهدها.
استيقظت عدة مرات بالليل على صوت امرأة في غرفة
خليفة ؛ صوت حاد مبتذل، تبينت أنه لزوجة
دوبرفسكي
الأرستقراطي السكير.
سرت بخطى ثقيلة إلى الحانوت لشراء
سليفكا (قشدة) وخبز. لفتت نظري فتاة رشيقة في بلوفر أصفر ذي فتحات طولية فوق الساعد تبدأ من الكتف، وجوب أسود قصير، كشفا عن جسد لفحته الشمس. وأنا عائد التقيت
خليفة
ماضيا في نشاط ليتبضع وقد حمل
سيتكا (شبكة) من زجاجات البيرة الفارغة.
تلفنت
لجاليا
كما اتفقنا فلم أجدها.
59
بدأت عمليات طلاء الجدران السنوية استعدادا للفصل الدراسي القادم واستغلالا لخلو
الأبشجيتي
من الطلاب. سألتني القومندانة إذا كنت سأسافر مثل الآخرين. أجبت بالنفي. طلبت مني إخلاء الحجرة لدهانها وعرضت علي غرفة أخرى في مواجهتها تستخدم مخزنا. كانت صغيرة بلا نوافذ وبفراش واحد. تعثرت في درجة سلم بمدخلها. وقفت في منتصفها شاعرا بالاختناق.
غادرت الغرفة وسرت في الكوريدور. كان عمال الدهان يفترشون الأرض ويحتسون الفودكا، وقفت أتأملهم فقال لي أحدهم: لا تسئ الفهم ، نحن الطبقة العاملة. ركبت إلى وسط المدينة، ذهبت إلى مكتبة
لينين
التي تضم ملايين الكتب، دلفت من الأبواب الثلاثية وأعطيت حقيبتي ومعطفي
للبابوشكا
خلف كاونتر المعاطف، ثم عرضت بطاقتي القديمة على حارس مسلح في كشك زجاجي. وقعت باسمي في دفتر وأضفت الوقت. على رأس سلم حجري وتحت السقف المقبب بحر من الكبائن الخشبية. سجلت الكتب التي أريدها في رق من الكرتون أعطيته للموظف المختص فوضعه في علبة معدنية أطلقها داخل أنبوب إلى أعماق المكتبة. مضيت إلى إحدى قاعات المطالعة فوق بساط أخضر بال. انتقلت إلى الغرفة المخصصة للتدخين. بعد ساعة من الانتظار تسلمت الكتب التي طلبتها. غادرت المكتبة ومشيت على غير هدى. وقفت أمام مطعم
صوفيا
في طابور طويل. وكان النوادل يخرجون ليتصيدوا الأجانب ويصحبوهم إلى الداخل. أشار لي أحدهم بالدخول فاحتج روسيان أمامي. ثم دعاني واحد آخر فتبعته. لحق بنا النادل الأول وأراد أن يتولاني وأوشك الاثنان أن يتشاجرا. أكلت
سوليانكا
باللحم وسلاطة خضار بالمايونيز. تسللت الفودكا إلى معدتي فدبت الحرارة في جسدي كله. ركبت الترام. وقفت إلى جانب امرأة عند عداد النقود. كانت أربعينية ذات وجه لطيف رغم امتلائه بالأصباغ. كانت تمسك بمظلة صغيرة مطوية. فكرت أنها عائدة من نزهة يوم أحد محبطة. تحركنا إلى الداخل. شعرت بمؤخرتها خلفي فداعبتها بمؤخرتي؛ بادلتني الضغط. نزلت عند سينما
ألماز . فيلم مصري: «الحب المحرم».
مديحة يسري
و
شكري سرحان . زحام هائل. تابع المتفرجون في اهتمام مشكلة امرأة في الأربعين تستيقظ مشاعرها بعد طول إهمال. لكن الضحك لم ينقطع في المواقف الميلودرامية الساذجة. وكانوا لا يزالون يضحكون عندما انتهى العرض.
انطلقت في شارع هادئ تظلله الأشجار ويجري فيه الترام. أخذت المترو وغيرته في محطة
اكتابريسكايا . زحام العائدين من الأمسيات الصيفية بالضواحي. صعدت درجات
الأبشجيتي
التي ران عليها صمت غريب. فتحت باب غرفتي وأنا أتلفت حولي. تمددت على الفراش وتناولت رواية «الصيف الأكثر حزنا للسيد ص» لكاتب أمريكي.
حلمت أن كل أسناني وقعت وحملتها في فمي. كانت كثيرة ودقيقة وخشيت أن أبتلع بعضا منها قبل أن ألحق بالطبيب. أعاد تركيبها وأصبحت ثابتة؛ شعرت بالارتياح وإذا بها تتخلخل وتقع من جديد.
60
قالت جريدة
أزفستيا
في معرض الحديث عن محاكمة المنشقين إن هناك علاقة بين
ألكسندر زولجينتسين
وجريدة سرية تنشر أنباء المعارضة.
وقالت إن أسماء أربعة صحفيين أجانب وردت في المحاكمة المغلقة، التي اعترف فيها اثنان من المتهمين، أحدهما مؤرخ والثاني باحث اقتصادي، بأنهما عميلان بأجر لجماعات معادية للسوفييت بالخارج، وأنهما نشرا «حوليات الأحداث الجارية»؛ النشرة الإخبارية السرية المكتوبة على الآلة الكاتبة، وأن الصحفيين الأجانب مراسلون
لنيوزويك
و
الأسوشييتد بريس ، وكانوا حلقة اتصال بين المتهمين و«مراكز أجنبية معادية للسوفييت». قالت أيضا إن عالم الفيزياء
زاخاروف
التقى المتهمين في حفلات أقامها صحفيون أجانب.
ونشرت
الأزفستيا
خطابا مفتوحا من 31 كاتبا بارزا يهاجمون
زولجينستين
و
زاخاروف . وبين الموقعين على عريضة الكتاب
شولوخوف
مؤلف «الدون الهادئ» و
سيمونوف
و
أيتماتوف .
وفي اليوم التالي قالت الصحيفة إن المدعي طلب أحكاما مخففة على المتهمين على أساس أنهما تحولا إلى شهود للدولة. وقال إنه نظرا لتوبتهما الصادقة يطلب لكل منهما ثلاث سنوات سجن وبعدها ثلاث أخرى من النفي. ويعني النفي إقامة جبرية في جزء ناء من البلاد.
61
انتهى أخيرا دهان الجدران والغرف في الطابق، وعدت إلى غرفتي؛ نظيفة ومبهجة رغم رائحة الدهان. وقفت أتأمل مشارف الغابة أمام النافذة المفتوحة. عملت في الصحف وغسلت بعض الملابس. خرجت إلى مكتب البريد؛ الجو جميل بسبب الدفء. رائحة الجو مثيرة. جسمي كله في حالة إثارة. تلفنت
لجاليا . كان التليفون مشغولا. تلفنت مرة أخرى فردت علي. ذكرت اسمي. قالت: لا أسمع جيدا. قلت: أريد
ناتاشا . قالت: ليست هنا. هل يمكن أن أبلغها شيئا؟ قلت: فقط بطاقتها أريد أن أعيدها إليها، لقد وعدت بالمجيء لتأخذها لكنها لم تفعل. قالت: ربما ليست في حاجة إليها، هل عاد
هانز ؟ قلت: ربما يعود في نهاية الشهر. قالت: إذن سنزوركم عند ذلك،
دازفدانيا (إلى اللقاء).
62
لم أجد رغبة في ممارسة تمارين الصباح؛ استحممت وغادرت المبنى، أقلني الترولي باص إلى ميدان
بوشكين . نزلت ومشيت من أمام المباني القديمة الرحبة، وبنايات عهد
ستالين
المتجهمة ثم المباني الحكومية الضخمة بلونيها الوردي والأخضر أو الأصفر واللبني، والأخرى السكنية من أيام
خروشوف . مررت من أمام تمثال
بوشكين
البرونزي الذي كان محني الرأس في أسى. بدا مسرح راسيا الضخم، وعبر الشارع مبنى جريدة
الأزفستيا . الميدان مزدحم بالمارة والناقلات والحافلات. مررت من أمام واجهة محل الحلوى التي ضمت نموذجا بلاستيكيا متوهجا لكعكة. حانوت أحذية لا يهتم به أحد لأن محتوياته ليست وفقا للموضة. في واجهة حانوت الأسماك كانت المياه تتساقط فوق نموذج كبير لسمكة. وبداخله بسكويت وأسماك معلبة فقط، فلم تكن هناك طوابير. لكن النساء كن ينتقلن من حانوت لآخر حاملات شبكاتهن وكلهن آذان وعيون منتبهة وعند أي بادرة من بائعة أو ناقلة سلع يدركن أن شيئا قد وصل؛ سمك طازج أو سوسيس أو دجاج.
دخلت حانوتا لأسطوانات الموسيقى. اشتريت سيرينادا
تشايكوفسكي
ومعها «النزوة الإيطالية». سمعت في الحانوت صوت موسيقى رائعة على الأرغن واشتريت الأسطوانة: آريا
هندل
بتوزيع حديث وأغنية «البجعة»
لسان هانس
ورومانس
شوستاكوفتش
ثم
كريسلر ، وعلى الوجه الآخر
توكاتا
وفوجة
باخ . اشتريت أيضا أغنية «لم يعد من المعركة». شعرت بامرأة تلتصق بي من الخلف، حركت فخذيها بحيث تحتوي إحدى فلقتي مؤخرتي. رمقتها بركن عيني فرأيت وجها لطيفا لامرأة خمسينية. انتهيت من عملية الشراء والتفت بحثا عنها فلم أجدها.
63
عاد
هانز
مع بدء الدراسة. أحضر معه زجاجة ويسكي وشوكولاتة غربية وعددا من مجلة
بلاي بوي
الأمريكية بها صور لملوك المصريين الفراعنة. ذهبت معه إلى المعهد. وصف لي رد فعل الألمان لوفاة
أولبريشت ، الزعيم الشيوعي الذي كان رئيسا للحزب و
لألمانيا الشرقية ؛ بأنه كان باردا. لمحت فتاة رقيقة ذات شفتين ناعمتين ووجه مليء بالبثور مما أعطاها حسية واضحة. ابتسمت
لهانز
فخاطبها وتعرفنا بها؛ مجرية تدعى
يوديت . علقت على لغتي الروسية المتعثرة قائلة إنها ستتحسن سريعا. أعطتنا عنوان المنزل الذي تقيم فيه مع زميلاتها بحي
تاجانكا .
لمحنا زويا مع زميلة لها فابتعد
هانز . رأيت
فلاديمير
يقترب منها. مدت يدها إليه في برود. وبدأ هو يتكلم. في اللحظة التالية لمحتني. بسطت ذراعي نحوها، احتضنتها قائلا إنها أوحشتني جدا. قالت سأمر عليك، ومشت. كان وجهها ممتلئا بالصورة الروسية التقليدية، فقد سحره القديم، تبعها
فلاديمير
وغادرا المعهد سويا.
64
استوقفتني كلمات الكاتب الأمريكي
ثورنتون وايلدر : «الحب الذي يتغنى به الشعراء ليس إلا الرغبة في أن يكون المرء محبوبا وأن يكون - في خضم نفايات الحياة - المركز الثابت لاهتمام أحد آخر.»
65
اشتريت كيلوين من الفلفل الأخضر ووضعتهما في برطمان زجاجي بعد أن أضفت المياه والملح. اتفقنا أنا و
هانز
على أن أذهب
ليوديت
وأدعوها عندنا. كان الجو دافئا قليلا بعد الغروب. عثرت على منزلها، عندما اقتربت منه لحظت ثلاثة أشخاص؛ شابا طويلا وفتاتين، إحداهما
يوديت . تعرفت علي في الظلام. توقفت وصافحتها. قلت: أنا قادم إليك. قدمتني لزميلتها وصافحتها. سألتني
يوديت : كيف حال اللغة الروسية؟ لم أجب. مددت يدي مصافحا قائلا إني سأمر عليها. قالت: نحن دائما في البيت مساء. لم تمد يدها أولا ثم مدتها. انصرفت وواصلت طريقي. ثم تبينت أني لا أعرف وجهتي. فعدت إلى الناحية الأخرى. وقفت أنتظر الباص طويلا مع فتاة خارجة من محل كوافير وقد صففت شعرها وغطته. ركبت الترولي الذي أخذني بعيدا. صعد شاب ثمل ووقف يترنح عند المدخل. نزلت في آخر الخط، أخذت تاكسي إلى
الأبشجيتي ، وجدت
هانز
في المطبخ. سألني عما فعلت، قلت إني لا أنفع في شيء.
66
في المترو وقفت إلى جوار امرأة ذات مؤخرة بارزة وجسم طويل، احتككت بها طويلا، بشعور بائس صعدت السلم المتحرك. انتشرت بائعات الفواكه خارج المحطة، اشتريت نصف كيلو برقوق ونصف كيلو كمثرى وكيلو عنب. بحثت عن طماطم بلا جدوى. الباص شبه فارغ. أربعينية ذات عينين سوداوين واسعتين وشفتين ممتلئتين شبعتا تقبيلا بحكم سنها. ملامحها إسبانية لكنها روسية وجسمها غير متناسق. ترتدي حذاء على الموضة بقاع خشبي مرتفع، تتأمله كثيرا في إعجاب. مررت بالحانوت لأبحث عن طماطم وزبد وخبز، لم أجد. كانت هناك فلاحة روسية على الرصيف تبيع حزمات الفجل الأحمر المبهج . اشتريت منها. وجدت
هانز
مستلقيا فوق فراشه بملابس الخروج. أفطر توا. جلست على فراشي متصنعا المرح. ملأت كأس نبيذ. قال إنه سيذهب إلى المعلمة
تاتيانا . طرق الباب وسمعت صوت
زويا : هل أستطيع الدخول عندكم؟ حيتني وخلعت معطفها الخفيف. جلست وهي تقول في مرح: أنا سكرانة اليوم. سألها
هانز : كيف؟ قالت: فوق، كنت عند واحدة وأحضروا عدة زجاجات من النبيذ. سألتها عن
فلاديمير . قالت: مللته. أبدى
هانز
ملاحظة ساخرة. قلت له: هل تنتظر من هذه الفتاة التي تحبك أن تتغاضى عن تجاهلك لها وتظل تتعبد لك حتى تتنازل بالالتفات إليها؟ قالت: فعلا. وقفت ووضعت يدي على رأسها قائلا: أنا الوحيد الذي يحبك. قالت: أعرف. أريد أن أشرب. صببت لها نصف كأس. قامت وجلست بجواري. ألصقت خدي بخدها. كان
هانز
يجلس أمامنا. انتظرت أن يخرج كما أعلن ويتركنا سويا. سألتها إذا كانت أكلت. قالت: أجل. فجذبتها إلي وقبلتها في خدها فأعطتني شفتيها وفي عينيها نظرة غائبة، وعلى وجهها ابتسامة ملائكية. كانت ثملة. أخرجت عدة أسطوانات منها أسطوانة «الفالس الأخير» التي رقصنا عليها مرات قبل ذلك. تنقلت في أرجاء الغرفة منتظرا أن ينصرف. أدرت الأسطوانة فبدأت النغمة الأولى. انصرف
هانز
أخيرا عندما بدأت النغمة السريعة الحركة. وقفنا نرقص متباعدين وهي تتحرك بصعوبة. جذبتها إلى صدري واحتضنتها خدا إلى خد. بدأت النغمة الثالثة الحالمة، فقبلتها في فمها. شفتاها رقيقتان. رائحة فمها حلوة. أمطرتها بقبلات صغيرة حتى توهجت شفتاها تحت فمي. كانت عيناها مغمضتين تماما. حركت لساني داخل فمها. التصقت بها ونحن نتحرك حركة بسيطة على إيقاع الموسيقى وهي تبادلني الحك. جذبتها في رفق إلى الفراش. غمغمت:
نيت (لا). لكنها لم تقاوم. قالت: أدخن. أشعلت لها سيجارة وجلسنا متجاورين. قلت: أنت تحبين
هانز . قالت: لا أعرف، لكني أحمل له مشاعر طيبة. أخذت منها السيجارة وبدأت أقبلها قالت: أشرب. قلت: لا أريدك سكرانة. وضعت لها قليلا من النبيذ. قلت لها إني أحبها ودائما كنت أريدها. قالت إنها تحمل لي مشاعر طيبة . قبلت أذنها. ضحكت في رقة وتقلص وجهها في ابتسامة طفولية. قالت: أنت تزغزغني. تمددنا على الفراش والتحم لسانانا. شعرت بمتعة رائعة من تقبيلها، من ملمس خدها وشعرها. أغمضت عينيها تماما. جعلت أتحسس ملابسها وأردت أن أخلع الجوبة فرفضت. مددت يدي بين ساقيها. كان جوربها ينتهي عند نهاية فخذيها. دعكت شعر عانتها برفق ففرجت ساقيها. أردت أن أخلع لها سترتها فرفضت ففككت زرارا وأخرجت ثديا صغيرا بحلمة طويلة، مصصتها فبدأت ترتعش تحتي وتتنهد. لم تكن مبللة. حاولت مرة أخرى أن أخلع ملابسها التحتية. رفضت وقامت واقفة قائلة شيئا ما لم أتبينه. عدت أستمتع بدعك خدي لصق خدها. ثم بقبلات خفيفة على شفتيها حتى تدب فيهما الحرارة والبلل وتنفرجا لتحتويا شفتي. جذبتها ووقفنا نرقص وأنا أحك جسمي في جسمها وهي تنحني قليلا لتصبح في مستواي وتحك بنشاط مغمضة العينين. سألتها إن كانت جائعة فقالت إنها لم تأكل من يومين. انهمكت في إعداد طعام. وصعدت هي إلى أعلى لتغتسل. عادت وجلست على حافة النافذة. أزاحت خصلة من شعرها خلف أذنها وقالت: هل تذكر عندما ذهبنا نسمع
موتسارت
سويا وشربنا بيرة وكيف أني لم أعجب بالقسم الأول من الكونشرتو. قلت: الصيف كان رديئا بالنسبة لي، وكنت بمفردي طوال الوقت. قالت إني الوحيد الذي ابتهج برؤيتها عند عودتها من المستشفى. بكت فجأة قائلة إن الجميع يسخرون منها. تركتها مسرعا في هذه اللحظة إلى المطبخ لأضع الطماطم على اللحم. توليت إطعامها ولم تلبث أن استعادت مرحها. أكملنا زجاجة النبيذ. طرق الباب وظهر
هانز . قال إنه غير رأيه ولم يذهب إلى موعده. أخفت وجهها وقالت مازحة: انتظر حتى أرتدي ملابسي. دار حديث حول اثنين في الخمسين من عمرهما تزوجا وكيف تبرجت المرأة وأحاط بها الناس مهللين. أرادت أن تقول إن الناس سيئون. قال
هانز
في استهانة: طبعا امرأة مضحكة. هاجمت الناس الذين يضحكون من الآخرين والكذابين والمنافقين. والناس الذين يجرون وراء المال ويتمسحون بالاشتراكية. اشتبك معها
هانز
وأنا أحاول تهدئة الموقف. غادر الغرفة فسكتت ثم قامت فأدارت أسطوانة الموسيقى ومضت إلى الباب فوقفت خلف الدولاب وأسندت رأسها إليه وبكت. مضيت إليها واحتضنتها مهدئا. قالت: أريد الانصراف، أعطني معطفي. قلت لا. بكت وهي تردد أن الكل ضدها، الجميع خدعوها، ويسخرون منها، كلهم يقولون لأنفسهم إنها مجنونة لأنها كانت في المستشفى، وعدتها إدارة المعهد بالعودة إلى الدراسة عندما تغادر المستشفى وإذا بزميلاتها يعترضن. قالت: لا أحد يريدني إلا عندما أكون مرحة، وعندما دخلت المستشفى لم تسأل عني واحدة من صديقاتي. انهمرت دموعها وهي تحكي عن أبيها المريض وكيف كانت تذهب إلى المستشفى وهي في التاسعة تحمل للمرضى الزهور والصحف وتقرأ لهم. وكيف خسرت بموت أبيها الصديق الوحيد. وكيف كانت عندها إوزة تنفعل عندما تراها قادمة وتطلق أصواتا مرحبة. وفي يوم عادت من المدرسة لتجد أن أمها قد طهتها. وقالت إن أحدا لا يريدها إلا لممارسة الجنس. أقنعتها بأن تعود إلى الفراش وتستلقي فوقه. أصرت أن تشرب سيجارة أولا. ثم طلبت نبيذا بمكر المدمن. كان وجهها قد أصبح متوردا وعيناها متقرحتين من البكاء. شكل مختلف تماما لوجهها أعطاها سنا أكبر وحسية. استلقت فوق الفراش وغطيتها بالبطانية. فوضعت رأسها على فخذي واستكانت إلى جواري كطفل وهي باسمة. ملست على شعرها ودلكت لها فروة الرأس. سألتها إن كانت تريدني أن أفعل ذلك فهزت رأسها وهي مغمضة العينين وقالت بابتسامة طفولية:
دا (أجل).
أغمضت عينيها ونامت. كان وجهها على خدها الأيسر مائلا إلى أسفل وقد صنع شعرها حوله هالة متموجة ناعمة. وفجأة فتحت عينيها وقالت: نبيذ. قلت: بعد نصف ساعة. قالت: إذن سيجارة. دخنا ثم نامت مرة أخرى. وهي نائمة ضحكت فجأة. أغلقت النافذة عندما شعرت ببرودة الخريف. استيقظت بعد قليل وقالت: مرت نصف ساعة. قلت: لا. خمس دقائق، نامي. قالت: رأيت حلما ملونا. قلت: شاشة عريضة؟ قالت: لا. كانت هناك بركة ورجل غريب. نامت مرة أخرى بعد أن طلبت مني أن أستلقي بجوارها وأضع ذراعي حولها ودفنت رأسها في صدري. غفوت قليلا مثلها ثم نهضت وخرجت إلى الكوريدور. رأيت
هانز
قادما. قال : ليلة كئيبة. قلت: أنت كنت مرهقا وهي سكرانة وتحبك وتشعر أنك ألقيت بها جانبا. قال إن ما استفزه أنها تتكلم بطريقة
فلاديمير ، نفس حركات يديه وتعبيراته التي تصل إلى معاداة النظام والشيوعية والحزب. أعددنا شايا واستيقظت على الصوت. جلسنا معا نشرب. كانت هادئة باسمة قد أفاقت. بدأ
هانز
يناقشها في امتحانها المقبل وكيف يمكن مساعدتها. اقترح أن أتكفل أنا باللغة الإنجليزية وهو بالشيوعية العلمية والاقتصاد السياسي. قالت إن هناك أشياء لا تفهمها وغير مقتنعة بها ولا تستطيع أن تحفظها. قلنا لها إن هذا ليس مجاله المعهد. اتفقنا على أن تأتي لنساعدها وصعدت إلى غرفتها.
67
في 11 سبتمبر وقع انقلاب عسكري في
شيلي
وقتل الرئيس
اللندي
بعد حصار الانقلابيين لقصر الرئاسة. قال
هانز
إن الانقلاب سيشعل الثورة في
أمريكا اللاتينية
ويقوي من شوكة أتباع
جيفارا . قلت إنهم ينتمون إلى اليسار الطفولي، فما فعله كان مغامرة حمقاء. تلا
هانز
أبياتا من قصيدة جديدة
ليوفتوشنكو
يخاطب فيها الثائر الأرجنتيتي:
أيها القومندان،
إنهم يتاجرون بك، ويرفعون الأسعار،
لكن اسمك العزيز
يباع بثمن بخس جدا.
فبعيني هاتين ... لا بغيرهما،
أيها القومندان،
رأيت في
باريس
صورتك، والبيريه تعلوها نجمة،
على «السراويل الساخنة» لآخر موضة، ولحيتك أيها القومندان،
على الأقراط والمشابك والصحون.
كنت شعلة صافية من الحياة،
فإذا بهم يحولونك إلى دخان فقط.
لكنك سقطت، يا قومندان،
باسم العدالة والثورة،
لا لكي تصبح إعلانا
لتجارة دعاة اليسار.
68
ظهرت
زويا
في سترة شتوية وبنطلون رياضي اختفى داخل حذاء مطر برقبة عالية ملوثة بالطين. وعلى ذراعها كمية كبيرة من الزهور. دخلت منفعلة ووجهت حديثها إلى
هانز
طالبة زجاجة. ناولتها زجاجة لبن وأخرى مربعة لعود الزنبق الأبيض ولزهور المرجريت البيضاء. عاملها
هانز
برقة. وضعت باقي الزهور جانبا وأخرجت من شنطتها عدة تفاحات قالت إنها طازجة وقد جمعتها بنفسها. ثم أخرجت ورقة صغيرة بها قطعة تفاح حفظت في السكر. قسمت القطعة قسمين وقالت: كلوا. لم يبد
هانز
حماسا فأصرت. أكلت قطعة بصعوبة. أخذت منها القطعة الأخرى ودفعتها إلى فمي بشجاعة قائلا: انظري . أدرت أسطوانة الرابسودي المجرية ل
ليست . تناولت من حقيبتها كتاب
ترومان كابوت
وأوراق اللغة الإنجليزية بحماس. صنعت قهوة في المطبخ. وذهب
هانز
لإحضارها. احتضنتها قائلا: كنت أتمنى أمس أن تكوني معي. قالت ضاحكة: أما اليوم فلا. خلعت غطاء رأسها وأطلقت شعرها وجلست إلى جواري وأخذنا نعمل. عاد
هانز
وجلس إلى مكتبه معطيا ظهره لنا. قبلت يدها مرة. وخدها مرة أخرى وهي صامتة تبتسم أحيانا ابتسامة طفولية.
نزل
هانز
ليتلفن. تناولت
زويا
سكينا وقطعت تفاحة إلى نصفين متساويين وصنعت حفرة في وسطهما وضعت فيها حبة كريز بري حمراء ثم أطبقت النصفين. سألتها لمن؟ قالت: لأي أحد. قلت لها:
زويا ؟ نظرت إلي وضحكت في خجل. احتضنتها فأسرعت تأخذ تفاحة أخرى وثبتت فيها أربعة عيدان كبريت ثم حبتي كرز مكان العينين. وصنعت حفرة في قمتها وضعت فيها زهرة حمراء مثل القبعة وثبتت بندقة صغيرة بصورة عمودية مكان الأنف. عاد
هانز
فقلت لها: المكان الملائم لها على
التومبوشكة (الكوميدينو) المجاورة لفراشه. حرك رأسه معترضا. أضافت إليها عشبا أخضر فوق العينين كحاجبين ووضعتها على حافة النافذة. غادر
هانز
الغرفة فأضافت رأسي عودي ثقاب وسط العينين، وأمالت رأسيهما في اتجاه فراش
هانز . قلت لها: هناك تعبير من التوسل. ضحكت في خجل وأسرعت تدير أحد العودين في اتجاه فراشي. احتضنتها واقفين وهي تدخن ووضعت خدي لصق خدها. أغمضت عينيها ولم تتحرك. عندما بدأت أقبلها لم تقاوم. لكنها لم تتحمس. سمعت صوت أقدام في الكوريدور وشعرت أنها تفكر مثلي في أن
هانز
قادم. دخل
هانز
فجأة فانفصلنا وانهمكت في إعداد الشاي. سألته إذا كان قد لاحظ أي تغيير على التفاحة. قالت إنه
دوراك (عبيط) ولن يلحظ. أخذ وأصر أنه لاحظ. قلت له: العيون موجهة إليك. جلس ودار بينهما حديث طويل. مدت يدها إلى ورقة من صحيفة
برافدا . قصت عنوانا رئيسيا عن شيء ما «يساعد الموهبة». وطلبت من
هانز
أن يدير رأسه ثم ألصقت القصاصة على الجدار إلى جوار سريره. أعلنت: أنا ذاهبة. سآتي بعد ثلاثة أيام للدرس. قبلتني في خدي ثم انحنت عليه فقبلها في خدها. قالت: يا للعظمة يقبلني وهو جالس. سألتها إن كانت تحتاج إلى مرافقة. قالت وهي تتناول بقية الزهور: لا. سأصعد إلى البنات أولا ثم أذهب إلى منزل أمي.
69
قال
ميخا : عندي ثلاث فتيات، وعليكما المكان والأكل والشراب. كان قصيرا ممتلئا بشكل أنثوي، ذا فم رقيق وعينين ضيقتين مسحوبتين. ذهبنا إلى شقة
عبد الحكيم
الذي سافر إلى زوجته في
أوكرانيا . مضى
ميخا
ليقابل الفتيات عند محطة المترو المجاورة. عاد بعد نصف ساعة وحيدا. قال: لم تأت الفتيات. تطلع إليه
هانز
في استعلاء وقال: إذن تصرف. قال
ميخا : كيف؟ قال
هانز : هذا شأنك. تبادلا نظرات عميقة. شعرت بأن هناك حوارا ما يجري بينهما. كان هناك ما يشبه التحدي في نظرات
هانز . نهض
ميخا
وغادر المسكن. عاد بعد ربع ساعة في رفقة فتاتين. همس لي
هانز : من بنات الشوارع. إحداهما كالمومس بصوت أجش وأصباغ كثيرة ورداء من الجلد الصناعي الأسود اللامع، ببقع حمراء فوق يدها. تسحب أنفاسها بعمق كأنها مصابة بالزكام. الأخرى صغيرة وعادية تدعى
لانا . شربنا وألقى
ميخا
عدة نكات جنسية وهو يمثلها بحركات بذيئة. قالت الأولى إنها تريد أن نشتري لها مظلة يابانية من النوع الصغير الحجم. لاحظت أنها مهتمة
بهانز . قالت
لانا
إنها تريد أن تغسل رأسها. تساءلت عما إذا كانت هناك كريات للف الشعر. بحثنا عنها في أنحاء السكن. وجدنا بعضها فوق خزانة معدنية. تلفن
هانز لناتاشا
ثم خرج ليحضرها. تحممت
لانا
طويلا. جلست في الصالة أدخن وشعرت بالرغبة في الاستسلام للنعاس. قمت إلى المطبخ ومررت من أمام غرفة النوم فلمحت
ميخا
يرقص ببطء مع الفتاة الأخرى. وسمعتها تقول بصوتها الأجش: لا أريد، لا أريد. وعندما رأياني افتعلا الانسجام وتمايلا طربا مع الموسيقى في صمت حتى ابتعدت فعاودا النقار، ثم خرجا إلى الصالة.
جاء
هانز بناتاشا
ودخل بها غرفة النوم فأغلقت الشمطاء الباب عليهما في سخط. ثم غادرت المسكن مع
ميخا . خرجت
لانا
من الحمام لافة شعرها وخلعت ملابسها. قالت: أريد أن أنام. استلقيت بجوارها على الأريكة وقبلتها ثم رقدت فوقها. تحسست ساقيها ووجدت جلدها سميكا وخشنا ويغطيه الشعر، طلبت منها أن تخلع الكيلوت، قالت إن عندها الدورة. لم أصدقها. قلت: لا يهم. مددت يدي فلمست قطنا. خلعت الكيلوت ووضعته تحت رأسها وتسللت إلى أنفي رائحة الدماء. فقدت الرغبة واستسلمت للنوم.
في الصباح وجدت آثار دماء على الأريكة. طلبت مني قطنة وصابونا قائلة: لا تخف، فالدماء طازجة. أعطتني رقم تليفونها. لاحظت أنها تكلمني ببطء متعمد كي أفهم. كما لو كانت لها خبرة بالحديث إلى الأجانب. تناولنا الإفطار ورفضت أن تشرب القهوة لأن الطبيب حظر عليها الأشياء الساخنة. استعدت للخروج وقالت: ألن توصلني؟ قلت: المسافة بسيطة حتى محطة المترو. قالت بضجر:
لادنا . خرجت.
ولج
هانز
الصالة بعد قليل. قال إن
ناتاشا
انصرفت مبكرة. وقال إنها قاومته حتى السابعة صباحا ثم استسلمت، لكنه لم يستمتع معها. أضاف أنه في أغلب الأحوال يكون سكرانا عندما ينام مع فتاة ولا يعي ما يحدث بينهما ولا حتى إذا كان قد حدث شيء. ذهبنا إلى
الأبشجيتي
ونمنا بضع ساعات. بعد الغروب جاء
ميخا
سكرانا. قال وهو يدقق في ملامح وجهينا: غاضبان مني؟ لم نجب. قال إنه يخشى أن يكون قد انتقلت إليه عدوى ما من البنت، فقد كانت تهرش طوال الوقت في فخذها وظهرها، عندي واحدة أخرى أجمل. قال إنه فقد والديه في الثانية من عمره ونشأ في ملجأ للأيتام، وكانت الحياة قاسية، وإنه ملحد، لأنه لو كان هناك رب ما سمح بذلك. استفسر عن أصحاب الشقة وهل يحتاجون إلى شراء شيء أجنبي. طلب أن نبحث له عن بنطلون من الجينز.
70
كنت أغسل ملابسي في المغسل، وعندما عدت إلى الغرفة وجدت
زويا
جالسة على فراش
هانز
في ملابس خروج شتوية ممسكة بكراسة. سألتها بلا تمهيد: لماذا لم تأت كما وعدت؟ قالت: أختي عادت، ويومها ألقيت تقريرا في المعهد استمر 4 ساعات عن رحلة
البراكتكا (التدريب العملي) وأثنوا علي جدا، وكنت قد كتبت جزءا منه ثم أكملته شفاهة. توقفت لحظة ثم قالت: أنا سكرانة قليلا . أضافت: اليوم صباحا جاء الطبيب إلى منزل أمي في زيارة دورية لي، حدق في عيني وأمرني بالسير بضع خطوات أمامه، ثم قال إنني يجب أن أدخل المستشفى مرة أخرى. قلت له إن لدي امتحانات خلال شهر، وعند خروجه عرضت علي الجارة أن نشرب فودكا سويا. وقالت إنها لم تأت للدراسة وإنما لتتلفن وستأتي في يوم آخر.
ألصقت خدي بخدها، فأغمضت عينيها. لمست فمها بفمي وكان جافا. حكت طويلا عن ابنة أختها وتفاحاتها. قالت: اليوم تمر ثلاث سنوات على زواجي، ألا تكفي؟ قلت: أظن أنك ستتركينه. قالت: وأنا أيضا. قالت سأذهب. وقفت. قلت لها:
دازفيدانيا . ظلت واقفة فاحتضنتها. انفصلت عني وخرجت.
71
وصل
لطفي
من
مصر ؛ طالب دكتوراه، ممتلئ الجسم على وجهه علامات استياء دائمة. أعطوه حجرة بمفرده في الطابق الأول. قال لي عندما عرف أني أسكن مع طالب آخر، وقبل ذلك مع ثلاثة: لا بد أن تدخل على السوفييت بمطالب كثيرة وعندئذ يعطونك ما تريده بالضبط. سألته عن الأوضاع في
مصر . قال: زي الزفت؛ الشباب مهتم بشيء واحد هو الكاراتيه، والجميع يعانون الغلاء والفوضى والتكالب على المال، هناك اقتراح أمام مجلس الشعب بتحويل شركات القطاع العام إلى شركات مساهمة، ومعنى ذلك انتهاء كل شيء، عندما أعود في النهاية إلى
مصر
سأشكل شركة؛ فالقطاع الخاص يعمل الآن. قال إن المستشار الثقافي الجديد للسفارة المصرية اشترى سيارة
فولفو
من
فنلندا ، وكان عضوا في التنظيم السري الطليعي للاتحاد الاشتراكي الذي شكله
عبد الناصر
في السنوات الأخيرة من حياته ثم صار من أنصار
السادات
وجاءوا به إلى
موسكو
ليقوم بالسيطرة على الطلاب المبعوثين.
أقرضني كتاب «عودة الوعي»
لتوفيق الحكيم . وضعت خطوطا تحت بعض العبارات: «لكنه (عبد الناصر) غمرنا في سحر أو حلم. ربما كان سحره الخاص كما يقولون وربما كان الحلم الذي جعلنا نعيش فيه بتلك الأماني والوعود. بل تلك الصور الرائعة لإنجازات الثورة التي حققها لنا وجعلتنا أجهزة الدعاية الواسعة بطبلها وزمرها وأناشيدها وأغانيها وأفلامها نرى أنفسنا دولة صناعية كبرى ورائدة العالم في الإصلاح الزراعي وأقوى قوة ضاربة في الشرق الأوسط.»
72
أعددت بطاطس مسلوقة ولحما باردا وسلاطة من غير طماطم. وأشعلت المدفأة الكهربائية ومصباح المكتب. أطفأت نور الحجرة. وعندما وضعت زجاجة فودكا على المائدة ومعها ماء الفلفل المخلل دبت الحياة في
زويا . أشارت إلى حديثنا السابق وقالت إنها ستبقى دائما مع زوجها لأنها مدينة له، وإن الجنس معه عادي، أحيانا تستمتع جدا، وإذا لم تصل إلى الذروة فهذا شيء غير مهم. نظرت إلى
هانز
وقالت: لو كنت طلبت مني الزواج، كنت سأرفض بالتأكيد، وجود زوجي يجعل هناك خطا للحياة لأني ضعيفة جدا. قالت إنها لا تعارض في أن تنام مع من يعجبها، وإنها قدمت
هانز
إلى زوجها كي تستطيع التحدث عنه بحرية. قلت: الخيانة الزوجية قد تكون أرقى أشكال الحب وأكثرها براءة، فهي جنس بحت بدافع المتعة دون أن تكون هناك - في أغلب الأحيان - أهداف اقتصادية.
انضمت إلينا
تاليا . قالت
زويا : نحن في جلسة مصارحة. قالت
تاليا
بعد أن شربت كأسين إنها باردة جنسيا بشكل عام، لم تعرف النشوة إلا منذ 4 سنوات، تقوم من حب لتقع في حب آخر، تحلم دائما أنها نائمة مع فتيات أخريات، علاقتها متحفظة بأمها، جدتها هي التي ربتها.
أشار
هانز
إلى الفودكا والمدفأة الكهربائية وزويا والحجرة المرتبة ومصباح المكتب، وقال: لن نحصل أبدا بعد الآن على مثل هذه اللحظة وسنتذكرها دائما.
صعدت
تاليا
إلى غرفتها. وعرض
هانز
على
زويا
أن تبقى حتى الصباح قائلا: لدينا حجرة أخرى خالية في نفس الطابق. قالت إن أمها تنتظرها ولا بد أن تعود لتعطي انطباعا بأنها لم تقض الليلة في الخارج. لكنها لم تغادر الغرفة. استعددت للنوم والتففت جيدا بالغطاء. كنت ضيقا برائحة دخان السجائر وأصوات الحديث. بين النوم واليقظة شعرت به يأخذها خلف الخزانة الخشبية وساد السكون. سمعت صوت فتح مصراع الخزانة. هل يأخذ مفتاح الحجرة الأخرى التي سافر أصحابها وتركوه لدينا؟ نمت. استيقظت على صوت غلق الباب. المدفأة مشتعلة. استيقظت مرة أخرى. ضوء الفجر. دار مقبض الباب ودخل
هانز . سمعته كما لو كان يعيد المفتاح إلى الخزانة.
73
تلفن
هانز لجاليا . قالت إنها لا تستطيع المجيء وإن
ناتاشا
عندها. دعتنا للذهاب إليها. أخذنا تاكسي. كان الثلج قد تساقط لأول مرة. جلسنا في صالة صغيرة حول مائدة عامرة بزجاجات الشمبانيا وبطيخ وعنب وكمثرى. شاب في ربطة عنق عريضة وسترة ضيقة الأكتاف وقميص أحمر. فتاة ذات ملامح آسيوية تدعى
ماشا
وشاب يوغوسلافي في جينز. شاب آخر قدم نفسه على أنه يهودي أجنبي. سمعت اليوغوسلافي يقول إنه لا يحب موسيقى
البيتلز
ويفضل عليها
جيمس براون . قلت إني لا أعرفه. قالت
ناتاشا : أنا أعرفه. كانت قد تجاهلت
هانز . تتابع رنين التليفون وسمعناها تسرد أسعار بعض الملابس الأجنبية. بدا كما لو أنها تتوسط في بيعها أو شرائها. قالت عندما رأتني أحدق فيها: لماذا لا يوجد بيننا من يرتدي بزة سوفييتية أو قميصا سوفييتيا؟ لأن كل موضة جديدة لا بد أن تمر على عشرة مستويات مختلفة؛ الأمر الذي يستغرق خمس سنوات حتى يتم اعتمادها، أيام
خروشوف
كانت الشرطة تقبض على من يرتدي الجينز. استفسرت
جاليا
عن أخبار
عدنان
وعما إذا كان قد أرسل لها شيئا. وضعت
ماشا
رأسها على بطن اليوغوسلافي الواقف إلى جوارها ولفت ساعدها حول خصره وأغمضت عينيها. جلس قائلا: لنمارس
الأونانيزم (الاستمناء). التفت إلى
هانز
وتحسس وجهه معلنا: لسنا في حاجة إلى نساء. دخل شاب يترنح من السكر. قالوا إنه
بوريس
الرسام. قال وهو يتناول كأسا من الشمبانيا: ليس عندي أمل في أن أكون فنانا جيدا، ليس أمامي سوى أن أرسم ما ترضى عنه الأجهزة الرسمية، في فيلم جورزيني (جيورجي) يسأل واحد زميلا له: كيف تعيش إذن؟ ليس هناك ما يمكن سرقته في مصنعك سوى الهواء المضغوط.
انفرج باب حجرة مغلقة في عنف عن شاب عاري الصدر. قال إن الضجة التي نحدثها تحرمه من النوم. وإنه سيذهب للشرطة إن لم نكف أو ننصرف. قالت
جاليا
إنه أحد جيرانها في الشقة، وإننا يحسن أن ننصرف. احتضن اليوغوسلافي
هانز
وقبله قائلا: اذهب معي، نم معي الليلة. تخلص منه
هانز . رفضت
ناتاشا
أن تأتي معنا. أخذنا تاكسي إلى
الأبشجيتي . سألني
هانز
في الطريق: ما الذي يجعل الرجل هكذا؟ قلت: ماذا تقصد؟ قال: أن يكون مثليا جنسيا. قلت: عوامل كثيرة، تجارب الطفولة، التكوين الهرموني للجسم، وأشياء أخرى. بمجرد صعودنا أفرغ معدته في المغسل وهو يغمغم ساخطا: ليست حتى جميلة، لا تساوي شيئا ولن أعبأ بها. أدركت أنه يقصد
ناتاشا .
74
فتحت باب الغرفة لأتبين سبب الضجة في الكوريدور. اتضح أن
بلماجد
الجزائري أقام حفلة دعا إليها الطالبات الجديدات. كان دقيق الحجم مليئا بالحيوية. لمحته ذاهبا غاديا جالبا معه كل مرة بنتين أو ثلاثا. انضم إلي
هانز
ووقفنا نتأمل الكوريدور الذي يخلو فجأة ثم يمتلئ بمن يستريحون من ضجة الرقص أو يتنسمون الهواء. خرجت فتاة ثملة وسارت حتى نهاية الكوريدور. ناداها أحد الطلبة فتوقفت. سألها: إلى أين؟ فمدت ساعديها يمينا ويسارا في حركة تمثيلية قائلة: إلى التواليت! ظهرت صديقة البلغاري بوجهها الصغير الذي يشبه وجوه الدمى وردائها القصير الذي يكشف عن ساقين ممتلئتين وصدر صغير للغاية. تبعتها فتاة رائعة في بلوزة زرقاء ضيقة وبنطلون رمادي بوجه مستدير جميل وعينين عسليتين لامعتين وبشرة يجري فيها الدم بقوة وشعر أسود قصير ومشية متمهلة فيها خيلاء من تشعر بسحرها. وكنت أراها دائما محاطة بالشبان. قلت
لهانز : أتحداك أن تحصل عليها. اقتربت منا أنار الكازاخية بصدرها الرائع وشفتيها الحمراوين المبتلتين دائما. سمعتها تقول لزميلة لها وهي تشير إلى
هانز : هذا أجمل شاب هنا. طلبت منه أن يترجم لها نصا باللغة الألمانية. دعاها للدخول فرفضت. ووعدت بالعودة بعد عشر دقائق لكنها لم تأت. أحضر لنا
بلماجد
عددا من صحيفة
الهيرالد تريبيون
الأمريكية مشيرا إلى تعليق في صدر الصفحة الأولى لمراسل الصحيفة في الشرق الأوسط. قال إن
السادات
يفكر في القيام بمغامرة انتحارية لإنقاذ نفسه ونظامه، وإن هناك مفاوضات للصلح بين العرب وإسرائيل لكن العرب يشترطون أن تتم عملية انتصار شكلية لإقناع شعوبهم بقبول الصلح.
75
ظهرت شمس قوية في النافذة. أقنعت
هانز
بالخروج. لم تكن هناك ضرورة للمعطف. الجو دافئ بلسعة برد خفيفة والهواء نقي. مضينا في الشمس، شمس، شمس، هدوء وروعة. خرجت
موسكو
كلها تستمتع بالشمس. سرنا بين الحدائق في الطريق إلى المعرض.
أمام كشك تابع لحانوت كبير ابتسمت فتاة
لهانز . عرض عليها أن ترافقنا هي وزميلتها. طويلة ذات سيقان جميلة. قصيرة النظر قليلا. في إصبعها خاتم زواج. قالت بعد أن تكلمت مع صديقتها أن ليس لها اعتراض من ناحية المبدأ لكنها اليوم متواعدة مع زوجها. عرضت أن نلتقي بعد ظهر الغد. جاء الزوج بعد قليل؛ شاب وسيم. ودعناهم وواصلنا السير.
أشرفنا على غابة صفراء في الساعة الثانية. أوراق الأشجار صفراء أو في طريقها إلى الصفرة، لكنها ليست ذابلة، تتخللها الشمس فتضيئها وتلتمع. حولها حقول تجريبية احتفظت بخطوطها الداكنة. جلسنا على أريكة حديدية. بالقرب منا جلست امرأة تتأمل ساقيها وركبتيها بإعجاب وقد عرضتها للشمس. تحدث هانز بصوت هادئ عن أفلام فلليني. قمنا وواصلنا السير. أشرفنا على بحيرة صغيرة بها عدة قوارب وحولها زخارف أنيقة. قال إن لكل جمهورية ركنا خاصا بها في المعرض، وهذا الركن لا بد خاص بإحدى جمهوريات البلطيق فهذه الأناقة لا تأتي إلا منهم.
واصلنا السير وسط الهدوء الشامل وقد اختفت الموسيقى العسكرية. أحاطت بنا الأشجار بألوان تبدأ من الأحمر القاني إلى الوردي والأصفر والأخضر. وفوق سطح البحيرة انتشرت عدة قوارب بطيئة الحركة في اتجاهات مختلفة. كان للمنظر كله سحر اللوحات القديمة التي استقرت في ذاكرتي من الطفولة والمراهقة عن أوروبا أو عن السعادة، السعادة القصيرة لدقائق. كل شيء هادئ وديع ساكن جميل نظيف دافئ بلا زحام أو دخان ولا ضجة أو تراب ولا فودكا أو سجاير، ولا ثرثرة ولا برد أو حر ولا وساخة.
انضممت إلى طابور طويل أمام أسياخ كفتة مشوية فوق الفحم. وقف
هانز
في طابور طويل آخر أمام كشك للبيرة. سمعت امرأة تستنكر بدائية العملية فقال لها رجل: هذا حال كل شيء في بلدنا. وقفت خلفي امرأة جميلة الوجه وشت أناملها بعمل يدوي أو بالطهو. قال رفيقها إنه كان في أول مايو ... قاطعته: مع من؟ قال: مع زملاء في العمل. سخرت منه ثم خبطته على صدره في رفق. وأفلتت منه عندما أراد أن يحتضنها. ظل في الطابور بينما ابتعدت على مهل ثم جلست بعيدا على صندوق خشبي، واشترى هو أسياخ الكفتة. ووقف يبحث عنها حتى رآها فمضى إليها ضاحكا. تابعت أسياخ الكفتة النيئة وهي تتناقص حتى انتهى آخر صندوق منها. عددت أصابع الكفتة التي فوق النار وأنا أخشى أن تنتهي قبل وصولي أمامها. عشرون سيخا وأمامي ستة أشخاص. لو كل واحد أخذ ثلاثة أسياخ أو أربعة ما تبقى لي شيء. أصبح أمامي أربعة أشخاص ثم واحد فقط. قال البائع في حسم ستة أسياخ. أعطاه أربعة ولم يتبق إلا اثنان وقعا من نصيبي. وتصاعدت من خلفي تعليقات الاستياء.
اشترى
هانز
كوبين من البيرة. شربنا وأكلنا ونحن نتأمل فتاتين جورزينيتين؛ واحدة طويلة نحيفة جدا سمراء قبيحة، والثانية قصيرة قمحية بالأنف الجورزيني المعقوف. تلفتتا كثيرا نحونا. قال
هانز : تعال نكلمهما. قلت: نادور سوفييتي، في الأغلب ستقع السمراء من نصيبي ولا أريدها، والأخرى تريدك، الجميل يبحث عن الجميل. عدنا إلى الكشك فابتعنا ست ملاعق خشبية ملونة. ثم اتجهنا إلى
الأبشجيتي .
76
وقفت في طابور الفودكا والنبيذ، واشترى
هانز كالباسا (لحم بارد) وجبنا. وبالصدفة عثرت على طماطم وعنب وتفاح. اقتربت فتاة شقراء من
هانز
وتحسست جسمه من أعلى إلى أسفل وهي تقول له إنه يعجبها. تابع الواقفون المشهد. قالت الشقراء: تعال معنا، نحن نقيم قريبا. وأشارت إلى فتاة بجوارها. قال: لا، تعاليا أنتما معي، معي صديق. وأشار نحوي.
اتجهنا جميعا إلى شقة
عبد الحكيم . كانت الشقراء سكرانة جدا. ومعطفها غربي الصناعة من جلد الشمواه الأخضر، تحته ملابس متواضعة وقديمة. يداها غير معتنى بهما. الأخرى جسمها عريض والقميص ضيق عليها وصدرها صغير. ليست سكرانة مثل الشقراء. قالت إنها تعرف أن
هانز
معجب بالشقراء. نادته هذه باسم
ماكس
واحتضنته وقبلته. أخرجت الأخرى نظارة طبية ومفكرة وكتبت بضعة أسطر. سألتها إذا كانت تكتب شعرا. قالت: تحب أن تسمع قصيدة قصيرة؟ قلت: هاتي. قالت: نمت مع بروفسور، ثم نمت مع مخرج سينمائي، ثم نمت مع سائق، ولم يكن هناك فارق لأن هذا وطن السوفييت. حكت الشقراء عن صديق لها اسمه صعب وكيف كان يغني. سألتها عما تفعل في الحياة. قالت إنها في معهد المسرح. قالت صاحبة العوينات إنها تدرس الطب. غمز لي
هانز
أننا نسمع أكاذيب. دق التليفون. رد
هانز
وسمعته يقول: دا، دا، تلفني عندما تخرجين. رددت السكرانة أنها معجبة جدا
بماكس
وقبلته. قالت لها صديقتها في حدة: أوقفي هذا، سألها
هانز : لماذا؟ أي حق لك؟ قالت: لي حق، اسألها. قالت الأخرى: أجل، لكني أحبك. وقبلته. قالت صديقتها: سأذهب من هنا. قال
هانز
للسكرانة: ابقي. قالت: إنها تريدني أن أذهب معها. أمسكتها من ذراعها وقادتها نحو الباب قائلة كأنما تلاطف طفلا: سنأتي إلى هنا غدا، وسنجده، تعالي. غادرتا الشقة. تركت الشقراء خلفها زجاجة ليمونادة كانت في حقيبة يدها.
تلفنت
لجاليا . نفذت نصيحة
هانز . قلت لها إن اليوم عيد ميلادي. وأريدها أن تأتي لنحتفل سويا. قالت إنها منهمكة في تنظيف الغرفة. قلت: تلفنت لك يوم السبت ولم أجدك. قالت: كنت عند أختي. ثم سألت: متى تلفنت؟ قلت: الساعة الثالثة. قالت: كنت موجودة. قلت: تلفنت بعد ذلك. قالت: كنت موجودة وربما كنت خرجت لحظة، كلمني بعد نصف ساعة. الساعة 8,30 كلمتها. أعطيت
هانز
سماعة التليفون. يبدو أنها سألته عما إذا كان
عدنان
قد أرسل لها شيئا. ثم قالت إنها سمعت أنه تزوج. أنكر
هانز
أنه يعرف شيئا عن ذلك. أعاد السماعة مكانها وقال إنها ستتلفن بعد نصف ساعة. وإن لم تفعل نكلمها في التاسعة والنصف. كلمناها فقالت إن
ناتاشا
لم تأت حتى الآن، لكن إذا لم تظهر حتى العاشرة فستأتي بمفردها.
اتصلت بها الساعة 11. قالت إن
ناتاشا
جاءت. تلفنت بعد عشرين دقيقة فقالت إنهما ستأخذان تاكسي وتأتيان على الفور. بعد عشر دقائق دق الباب وأسرعنا نفتح وإذا بها الفتاة ذات العوينات تسأل عن صديقتها فقد اختفت . انصرفت فجلسنا في صمت و
هانز
يقرأ. قمت أعد قهوة. جاءت
جاليا
الساعة 12. كانت في ماكياج ثقيل، وقميص مشجر يخفي صدرها تماما، وفوقه بلوفر كحلي خفيف. بنطلون أزرق بثنية عريضة. أناقة وبساطة. هنأتني بعيد ميلادي. قلت إني ولدت في هذه الدقيقة تماما. قالت لماذا لم تقل ذلك من قبل؟ أحضرت زجاجة الشمبانيا من الثلاجة. تأملت يدي
جاليا
وأصابعها الممتلئة الطرية التي تنتهي بتقوس ممتلئ أسفل ظفر طويل. تمنيت لو ألمس الجزء الأملس السفلي لإصبعها حتى ظفرها. شربنا نخبي. قلت إني نزلت من بطن أمي ماشيا ومضيت إلى آخر الحجرة ثم وقعت. اتسعت عيناهما في دهشة طفولية. حكت
ناتاشا
عن زميلة لها كانت على علاقة بطالب يمني ثم سافر بلا عودة. قالت إنها أخذت منها بلوفرا ثم أنكرت وأحضرته في حقيبة وأصرت
ناتاشا
على فتح الحقيبة فوجدته. وقالت إنها تشخر عندما تنام ثم تقوم لتأكل قطعة تفاحة وتواصل النوم. وصفتها بأنها كسولة لا تغسل الأواني وتذهب بصعوبة إلى المعهد، وتأتي لها فتاة تقرأ لها الحظ، وتتردد على أطباء نفسيين وعصبيين.
الساعة الواحدة صباحا. قالت
جاليا : يجب أن ننصرف. أوصلناهما بتاكسي إلى منزلهما.
77
تطلعت من النافذة إلى الألوان الطبيعية المتدرجة: أصفر ثم أصفر داكن ثم أخضر فاتح ثم أخضر داكن فأحمر ورمادي في الخلفية. تحولت أتأمل أكوام الصحف. ما زلت أقرأ كل يوم صحف شهر كامل ثم أرتاح في اليوم التالي.
ارتديت ملابسي وخرجت. ركبت المترو إلى وسط المدينة. مشيت في
بروسبكت ماركس
العريض المتصل بشارع
ديرجينسكي
من ناحية وبميدان
سفردلوف
من الناحية الأخرى. مررت من أمام مبنى ال
ك. ج. ب . لاحظت أن المارة يتهيبون المرور أمامه فينتقلون إلى الرصيف الآخر. مضيت إلى ناصية شارع
جوركي
وميدان الثورة. فندق
أنتوريست
ذو الواجهة الزجاجية الحديثة والقبيحة. استقبلني
وجدي
بحرارة. صحفي مصري يكبرني بعشر سنوات. متين البنية أصلع الرأس. مليء بالحيوية. كان يمت بصلة قرابة إلى أحد الوزراء، وربما كان هذا هو السبب في تعيينه مراسلا صحفيا في شرق
أوروبا . وربما كان السبب علاقته بأجهزة المخابرات المصرية. قدمني إلى المترجمة المكلفة بمرافقته. سمراء قصيرة ظننتها عربية ثم تبين أنها أرمينية تجيد لغتنا. تدعى
لينا . خفيفة الظل وذكية. تفهم النكتة. أنصتت الفتاة بانتباه وهو يقول إن
السادات
ينظم كتائب مسلحة للقضاء على الشيوعيين واليساريين في الجامعات وترفع شعار «العقيدة ولا
سيناء » وتقصد به أن الدفاع عن العقيدة الإسلامية أهم من تحرير
سيناء . كما شاع تغطية النساء لرءوسهن وسيقانهن. تحدث عن الإعدامات التي قام بها
النميري
للشيوعيين في السودان وكيف عين أحد المشاركين في انقلابه وهو شيوعي منشق على الحزب، سفيرا في
الصومال
وهناك قاطعه بقية السفراء.
قالت بالعربية: امش معنا إلى المتحف. اعتذرت بسبب موعد اللغة الإنجليزية مع
زويا .
78
حضرت احتفال المبعوثين المصريين بذكرى وفاة
عبد الناصر
الثالثة. كانت هناك لوحة قديمة لورقة من صحيفة
البرافدا
تنعاه كبطل من أبطال
الاتحاد السوفييتي
وزعيم التحرر الوطني في العالم. ألقى أحد الطلاب قصيدة عن
عبد الناصر
استقبلها البعض بفتور. قال المستشار الثقافي إن الاتفاقية الثقافية بين البلدين أعفت الطلبة المصريين من دراسة تاريخ
الاتحاد السوفييتي
والفلسفة المادية والاقتصاد السياسي والشيوعية العلمية. صفق المبعوثون. اعترف بأن نظام التعليم السوفييتي من أحسن نظم التعليم في العالم. فبعد عشر سنوات من دخول التلميذ المدرسة يحصل على الثانوية العامة فليست هناك مرحلة ابتدائية وأخرى إعدادية، ولا يوجد تخصص علمي وأدبي أو رياضة أو ثانوي زراعي أو صناعي وتجاري، لكن الجميع يحصلون على شهادة واحدة، كما أنه لا توجد دروس خصوصية. حذر الطلاب من أن زملاءهم الروس يكتبون تقارير عن سلوكيات وأخلاقيات وانتماءات كل أجنبي ترفع إلى أجهزة المخابرات.
دار الحديث عن السلع الرخيصة التي يجب العودة بها إلى مصر: المعدات الكهربائية من مكانس وماكينات خياطة وخلاطات. قال المستشار إن أرخص شيء هو الطعام وأسطوانات الموسيقى والسكن.
79 «عزيزي
هانز
أنا موجود عند
لطفي . قامت الحرب مع
إسرائيل
اليوم 6 أكتوبر ظهرا.» علقت هذه الورقة على باب الغرفة ونزلت إلى
لطفي . وجدت
نعيمة
زوجته منحنية على جهاز راديو روسي الصنع في حجم حقيبة السفر. قالت إن هناك أنباء غير واضحة وإن جميع الطلبة العرب الذين قابلتهم يعتقدون أن
إسرائيل
ضربتنا.
صعدت إلى الغرفة فوجدت ورقة من
زويا
عليها رسم فتاة وتحتها كلمة: تحياتي. نزلت مرة ثانية إلى غرفة
لطفي . إذاعة القاهرة تذيع مارشات عسكرية. محطة عربية لم نتبين مصدرها تقول إن
مصر
هي التي بدأت القتال. أحسسنا بالذهول والخوف من تكرار مأساة 67. تذكرت أغاني ذلك الوقت: «يابو
خالد
يا حبيب، بكرة ندخل
تل أبيب »، و
أم كلثوم
و
عبد الحليم حافظ . كيف يمكن أن نكون نحن البادئين بالهجوم؟ بحثنا عن راديو «الحرية» الأمريكي بين 14 و16 على الموجة المتوسطة. لم نتمكن من سماع شيء بسبب التشويش المستمر عليه. ثم التقطنا البيان العسكري الذي أعلن نجاح عبور القناة في الساعة الثانية ظهرا. سقط خط
بارليف
الذي تكلف 228 مليون دولار. كان صوت المذيع رصينا هادئا على عكس بيانات 67 الهستيرية. قال
لطفي : شهر
رمضان
كريم. قالت زوجته: إحنا جدعان. قال
حسونة
النوبي: الرجل عملها، مصر تحارب دون معونة سوفييتية، وبقيادة الرئيس المؤمن المعادي للإلحاد. انضم إلينا
حميد . كان قلقا على
دمشق
التي تعرضت للقصف. لكن القوات السورية صدت الهجوم الإسرائيلي ونجحت في تحرير بعض المواقع ومنها
جبل الشيخ .
80
جاءت
زويا
إلى الحجرة بعد الغروب. تجاهلها
هانز
واستغرق في أوراقه. عاتبتني: أنت تتكلم كثيرا. قبلتها فاحتضنتني في تردد. قالت إنها تشعر نحوي بكثير من الود. قبلتها ومصصت لسانها. شربنا نخب نجاح عملية التحرير وقالت: سلاحنا في أيديكم القوية ينجح. لم تمكث طويلا.
عرضت على
هانز
أن ينزل معي إلى غرفة
لطفي . امتنع قائلا إن علاقته بالطلبة العرب أثارت تقولات ضده. حكى أنه في عامه الدراسي الأول كان يتناول الإفطار مع طالب عراقي وزوجته كل يوم، وكان هناك طالب سوري مغرم بالعراقي ويجلس دائما عند قدميه، فتشاجرا معا وانضم السوريون إلى مواطنهم. أبديت أسفي. قال: الروس أيضا لا يحبونني فأنا أذكرهم بالجرائم التي ارتكبها النازي في بلادهم.
81
اليوم الثالث للقتال: تقدمت القوات المصرية داخل
سيناء . أعلن المتحدث العسكري المصري أن خسائر
إسرائيل
في 3 أيام بلغت 80 طائرة و128 دبابة.
اليوم السادس: مراسل
اليونايتدبرس : معارك برية وجوية عنيفة،
إسرائيل
أخطأت في تقدير خطر الصواريخ السوفييتية،
أمريكا
تبدأ في شحن طائراتها بالصواريخ لإرسالها إلى
إسرائيل
التي حصلت بالفعل على 48 طائرة
فانتوم
جديدة، مر 150 طيارا أمريكيا بمطار مدريد في طريقهم
لإسرائيل .
اليوم الحادي عشر: أعلن الاتحاد السوفييتي لأول مرة أنه يمد
مصر
و
سوريا
بالأسلحة والمعدات لمساعدتهما على تحرير أراضيهما. أصبح الطلاب العرب خبراء في التحليل العسكري. إذا تقدم الإسرائيليون فهو تراجع تكتيكي من السوريين ليقوموا بحركة التفاف من الناحية الأخرى. قلت
لحميد : الأمر ليس أكثر من مغامرة، فالأنظمة العربية لا يمكن أن تحقق شيئا غير الهزيمة.
82
أخذت
زويا
في الخامسة إلى فندق
إنتوريست . كان
وجدي
قد أعطاني مفتاح حجرته ووافق أن يتغيب ساعة. ليس هناك روح في جلستنا. قالت إن
هانز
ملها. سألت إذا كان هناك نبيذ. قلت: لا أريدك سكرانة. قالت: أنت تريد الرأس وهذا صعب. محاولات باردة للتقبيل. قلت لها إني أردت أن أذهب بها إلى شقة، وأمامنا الآن ساعة. قمت إلى الحمام وعند عودتي لمحتها تبتلع شيئا بسرعة. دواء لمنع الحمل؟ أو لرفع الروح المعنوية؟ تمددنا على الفراش. دق التليفون. لم أرفع السماعة. حاولت إقناعها بخلع ملابسها دون جدوى. دق
وجدي
الباب. طلبت منه أن يعطيني بعض الوقت فانصرف. دق التليفون من جديد. قررنا الانصراف. أوصلتها إلى منزل أمها على أن نذهب في الغد إلى شقة
عبد الحكيم
لدرس اللغة الإنجليزية.
83
التقينا صباحا بالمعهد. غادرناه سويا ومشينا في صمت. أعطيتها رقم تليفون
عبد الحكيم
واتفقنا أن تتلفن في الساعة الرابعة. اشترت معجون أسنان.
جاءت في الخامسة. تبذل محاولة لاصطناع المرح. قالت: نشرب قهوة ونعمل. وبسطت أوراق اللغة الإنجليزية. فجأة جاء
عبد الحكيم
وقال إنه يريد الشقة. شعرت بالارتياح. غادرنا المسكن إلى
الأبشجيتي . في الباص جلسنا متجاورين في صمت. كانت حزينة. هل تقارن شعورها نحوي بشعورها نحو
هانز ؟ كان باب غرفة
لطفي
مفتوحا وقد تجمع عنده عدد من الطلبة العرب يسمعون الأخبار. انضممت إليهم وصعدت هي إلى طابق البنات.
84
ذهبت مع
وجدي
و
لينا
إلى باليه
بجانيني . لم أجد بطاقة لي. أقنعتهما بالدخول ووقفت في الخارج أنتظر فرصة لشراء بطاقة. قال البواب العجوز في اعتزاز وهو يغلق باب المسرح: ليست هناك سوق سوداء لبطاقات
البلشوي . انصرفت.
جلست في الباص أمام امرأة تضم كلبا إلى صدرها. وجهها متورد مستدير بارز عظام الوجنتين بشكل واضح. فم كبير وعينان زرقاوان. الشعر في حلقات مهوشة تحيط بوجهها. تأخذ ملامح وجهها صورة الطفل المدلل فتمد بوزها إلى الأمام. الكلب صغير الرأس جدا. يتطلع في كل اتجاه في ذكاء. معها شخص خجول بعض الشيء. وضعت رأسها على كتفه وقالت إنها متعبة.
85
في الصباح كانت طبقة بيضاء تغطي أطراف النوافذ. وشذرات الثلج تتطاير بكثافة. اختفى الوحل أسفلها وتلاشى اللون الرمادي. أصبحت المدينة العابسة القاتمة فاتنة البياض. واستولى الفرح على أهلها. الجميع يبتسمون، يركضون في الشوارع، يمدون أيديهم ليتلقفوا السبائخ المخملية ضاحكين. وجرى تشغيل غلايات الماء الساخن في
الأبشجيتي
وبالتالي التدفئة. سافر
وجدي
بعد منتصف الليل. أوصلناه أنا و
لينا
إلى المطار في سيارة رسمية. مر طاقم الطائرة المصري بحقائب ممتلئة. توقف أحد أفراده أمام كشك الأدوية واشترى 30 علبة فيتامين
فيبراتوكس . أبدت البائعة دهشتها من العدد فقال إنه سيعطيها إلى أصدقائه ومعارفه. اشتريت علبة. عند العودة في الطرقات الخالية مررنا بمتحف الثورة. ظهر فجأة موكب غريب صامت من نساء غطين رءوسهن بالشيلان وسرن في صفوف من أربع أو خمس تحت الثلج المتساقط في اتجاه
الميدان الأحمر . قال السائق إنهن ذاهبات إلى ال
جوم
ليقفن في طوابير الشراء حين يفتح في الثامنة. عقب بعد فترة أن هناك قسما خاصا في حانوت البقالة في ميدان
سمولينسك
يخدم الناس المهمين والنجوم، فيبيع لهم اللحوم والكافيار والكونياك والسوسيس بالتليفون، بينما يقف العاديون في الطوابير ساعات. تجنبت
لينا
التعليق. قالت بعد لحظة إن الأحذية الشتوية تباع ب 180
روبلا . أضافت أن عيد ميلادها يحل في الشهر القادم. قلت: هل أنا مدعو لأكل الضلمة؟ قالت : فقط؟ ظننت لتراني. قالت إنها كانت تريد أن تصبح مروضة أسود. داعبتها: واستبدلت الأسود بالرجال؟ قالت إنها رفضت الزواج عدة مرات. فكرت أن الحياة مع واحدة كهذه تكون مشوقة. تعجبني عيناها عندما تتبسم وتظهر فيهما شقاوة وعبث وذكاء ومرح. أخذت رقم تليفونها. غادرتني بالقرب من الحي الدبلوماسي. داهمني إحساس بأنها تعيش مع رجل عربي.
التقيت في مدخل
الأبشجيتي بلطفي
يدخن. قال إن هناك أنباء غامضة عن تسلل إسرائيليين عبر القناة.
86
نظمت تاليا سهرة راقصة في غرفتها.
بلماجد
نجم السهرة. رقص مع طاجيكية وسط الحلقة باذلا مجهودا خارقا وهو مستمتع بتصفيق الجميع لهما. ثم رقص مع صديقته، سمراء خمرية ذات عينين عسليتين جميلتين وشفتين ممتلئتين. دخل طالب روسي برفقة فتاة طويلة في ميني جوب وساقين متناسقتين وصدر متوسط الحجم في بلوزة سوداء بنصف كم. اشتركت معه في رقصة بطيئة. أسندت رأسها إلى كتفه وهي تتأمل حولها في فتور. جلست بجواره حتى حانت الرقصة التالية. ظهر فجأة
بلماجد
أمامها طالبا إياها للرقص في اللحظة التي مد الروسي يده ليرقص معها. امتعض الروسي وتهلل وجه الفتاة. رقصت مع
بلماجد
وبادلته الحديث في مرح، والروسي يرقبهما في وجوم.
انضمت إلينا
أنستاسيا . طويلة ضخمة ذات وجه أسمر عريض جذاب، وابتسامة خجولة. كانت متأنقة وقد صففت شعرها الغزير. سألتني عن
هانز . جاء مجلسي بجوار أنار الكازاخية. سألتني هي الأخرى عن
هانز
وإذا كان سيأتي. سألتها بدوري: هل ستنتظرينه؟ قالت سأفعل. تأملت فتحة صدرها ووجهها الذهبي وشفتيها القرمزيتين وعينيها الضيقتين. أداروا موسيقى كازاخية مليئة بالحيوية. قالت: لا أريد الرقص لأنها موسيقاي ومللتها، أشعر بنفسي عجوزا، لم يعد هناك ما أريد فعله. سألتها عن عمرها. قالت: 21 سنة. انفجرت ضاحكا. رقصت معها مرة. تحاول أن تمدني بالثقة في أني راقص جيد واستسلمت بدوري للإيقاع في حماس. تركتني ودعت شابا أشعث الشعر يجيد الرقص.
كل ربع ساعة تظهر شقراء الكوريدور المترنحة التي سبق أن أعلنت ذهابها إلى التواليت. تدخل مندفعة وتتطلع حولها بعينين زائغتين من السكر ثم ترتمي في أحضان واحد وترقص معه. ثم يختفيان بعض الوقت ويعودان وهو يتطلع حوله بابتسامة المنتصر.
87
جاء
ميخا
إلى حجرتنا وشعر أننا نستقبله ببرود فمضى وأحضر طالبة تشيكية تدعى
سفيتلانا
زاعما لها أنها حجرته وأننا نريد التعرف عليها. كانت طويلة للغاية نحيفة ذات وجه ملائكي وشعر أشقر. قدرت عمرها بالعشرين. دبت فينا الحيوية. احتكر هو الحديث طويلا، محدثا ضجة، مستخدما كل ما في جعبته من معلومات شخصية مبالغ فيها عن الطلاب والأساتذة. قال لها إني من بلد
عمر الشريف ، قالت: كنت أظنه لبنانيا كما ذكر لي أحد اللبنانيين. خرج
ميخا
عندما طلبنا منه الصمت، صنعنا قهوة ثم فتحنا زجاجة فيرموت احتسيناها في استمتاع ونحن نتكلم في هدوء. قالت إنه منذ التدخل السوفييتي لم يعد هناك أدب أو فن في
تشيكوسلوفاكيا . حكيت لها عن المرة التي زرت فيها براغ وكيف خرجت بانطباع مقبض. سألت عن وضع المرأة عندنا. شكت من أنها لم تتعود على
الاتحاد السوفييتي
بسرعة. الطعام وطريقة التعامل وغياب الأناقة في الخدمة. أعددنا طعاما وفتحنا زجاجة فودكا شربناها مع مياه الفلفل الأخضر المخلل. دخلت
تاليا
ترقص قائلة إن حبيبها الجديد سيأتي إليها الآن. طلبت مني أن أدعوه فخرجت ونزلت إلى الطابق الأرضي. لم أعثر على الحبيب المزعوم. تلفنت
لعبد الحكيم
متسائلا عن الأخبار. قال إنه الآن في حالة عصبية خوفا من أن توافق
مصر
على وقف القتال. لم أجد
سفيتلانا
عند عودتي.
88
قرر وزراء البترول العرب خفض الإنتاج فورا بحد أدنى 5 بالمائة تزداد بنسبة مماثلة كل شهر إلى أن تجلو
إسرائيل
عن الأراضي التي احتلتها سنة 67. ارتفعت أسعار البترول العالمية.
ساد الوجوم مع إعلان
السادات
وقف إطلاق النار بين
مصر
و
إسرائيل
بعد 17 يوما من القتال الشرس. ضاع وهج الانتصار. دارت مناقشات حامية في غرفة
لطفي
عن معنى الأمر. البعض اعتبر ذلك نصرا
لإسرائيل
ومظهرا للتواطؤ بين
السادات
والغرب.
عاد
هانز
في العاشرة والنصف. قال إنه كان عند
أنستاسيا . قالت له إنها تنتظره منذ عامين.
89
وأنا خارج من درس اللغة الروسية لقيت
سفيتلانا
في ميني جوب كشف عن ساقين رائعتين. ثرثرت معها قليلا مطريا ساقيها. ابتسمت في خجل. رافقتها إلى صالة الطعام. عدت إلى
الأبشجيتي
في طريق غطاه الثلج. بعد الظهر استقبل
هانز
فتاة أذربيجانية سمينة. متوسطة الجمال. أبوها كاتب معروف. خجولة بارتباك العذارى. لا تدخن ولا تشرب الكحول. حين قدمنا لها سيجارة أخذتها مترددة وهي تقول: أخشى أن يراني أحد الأذربيجانيين. سألها
هانز
عن الحياة الجنسية لأبيها فأصيبت بالذعر. استنكرت أن يكون لأبيها حياة عاطفية بعيدا عن أمها. ثم قالت إنه ليس لديه الوقت لذلك. دار الحديث حول
أذربيجان
والتقاليد الرجعية التي يتمسك بها أهلها. قالت بدون مناسبة إنها تنتظر الحب الكبير العظيم الذي يهزها هزا. وإن أمها تبكي وتقول لا بد لها من الزواج هذا العام. بدأت ترسمنا. رسمت لي بورتريه بوجه حزين. رسمت
هانز
باسما منتعشا. وكتبت له على الصورة إنها تتمنى أن يبقى كما هو. ثم قالت: كنت أتمنى أن أرسمك منذ أربع سنوات عندما كنت بغير شارب، لكنك كنت أكبر مني بأربعة صفوف، وعلى أية حال الأفضل أن يتم الأمر متأخرا على ألا يتم على الإطلاق.
90
عاد
شريف
من
سوريا . قال إن الجماهير تابعت في الشوارع إسقاط الطائرات الإسرائيلية بالصواريخ السوفييتية. وإن العمال والموظفين يعانون الآن موجة من الغلاء الشديد بينما يعيش التجار أروع أيامهم ويكسبون ذهبا. ترك لنا مفتاح غرفته لأنه سيقيم عند صديقته الروسية. حكى بطريقته المرحة كيف أراد أن ينام مع فتاة آسيوية. قال: أزاحتني عنها وسألتني إذا كنت سأتزوجها. كنت هائجا فكررت وأنا أخلع ملابسي: سأتزوج. سأتزوج.
91
أقام المعهد حفلا موسيقيا بمناسبة عيد ثورة أكتوبر الذي يحتفلون به في 7 نوفمبر. كونشرتو ممل على البيان والكمان وعدد قليل من الطلبة. عازفة على الهارب في رداء أبيض كلاسيكي. بدت كمومياء بعثت من القبر بجسمها النحيف ووجهها الشاحب. عزفت ثلاث قطع استجابة للتصفيق. واختارت قطعة أخيرة اسمها «وداعا للحياة»! شعرت كما لو كانت ستذهب وتنتحر على الفور. قرأت بهذه المناسبة كتاب الأمريكي
جون ريد «الأيام العشرة التي هزت العالم» وهي أيام الثورة البلشفية . الفوضى الشاملة التي سادت روسيا بعد سقوط القيصرية: انتشار الأحزاب والمنظمات اليمينية، إيمان البعض بعدم إمكانية الثورة الاشتراكية في روسيا، نظرية استحالة انتصار الاشتراكية في بلد واحد قبل أن تكون بروليتاريا البلدان الرئيسية في أوروبا قد استولت على السلطة، وكيف حسم
لينين
الأمر بشعار «السلام والأرض».
92
توقعت أن تكون الغرفة خالية. استعددت لإخراج المفتاح من جيبي وأنا أتساءل عن مكان هانز. ومن باب التحوط دفعت الباب بكتفي فانفتح. كان جالسا على حافة السرير ووجهه ناحية الباب وأمامه على مقعد لمحت ساقين عاريتين لفتاة:
سفيتلانا .
كانت الغرفة مضاءة بمصباح المكتب، والموسيقى تنبعث من أسطوانة راقصة. وعلى المائدة زجاجة نبيذ. وكانت
سفيتلانا
تمسك سيجارة مشتعلة بيد فوق ركبتيها العاريتين. سألتني: ألم تذهب إلى أي مكان في العيد؟ أجبت وأنا أضع شبكة الطعام على الأرض وأخلع معطفي: أبدا. وضعت المعطف في الخزانة وقبعتي على سطحها. ثم خلعت البلوفر الصوفي ومضيت إلى الحمام، فغسلت وجهي ومشطت شعري. وعدت فشربت كأس نبيذ وجلست على فراشي وبيني وبينها مائدة خشبية صغيرة. كان الضوء بيننا ضعيفا والمائدة تخفي ساقيها. لم يكن أمامي غير وجهها وشعرها الأشقر الناعم الذي جمعته خلف رأسها.
غادر
هانز
الغرفة فقلت: إنها مفاجأة جميلة اليوم أن أراك بغير بنطلون. قالت في حياء إنها تذكرت حديثي عن ساقيها وهي ترتدي ملابسها. هبطت بعينيها إلى ساقيها، وقالت إنها تشعر بعدم الارتياح لأن الجميع ينظرون إليها، بينما الأمر طبيعي في بلدها. قلت: المشكلة ببساطة أن ساقيك متناسقتان مستقيمتان بينما سيقان الروسيات معوجة وقصيرة. قمت وتناولت إحدى الأسطوانات الألمانية الغربية الراقصة ووضعتها على الجهاز. كان غلافها يتألف من صورة فوتوغرافية لفتاة في رداء قصير. أخرجت ثديها وأمسكت بحلمته بين أصابعها وهي تتطلع إلى الكاميرا. قلت لها إن ساقيها توحيان لي بفكرة واحدة هي تقبيلهما. قالت: ماذا؟! قلت: تقبيلهما. ضحكت في خجل. أريتها غلاف الأسطوانة قائلا: هنا ساقان لكنهما ليستا في جمال ساقيك. رفعت يدها عن ركبتيها ومدتها إلى الغلاف فتجلت ساقاها في كل روعتهما. وانعكس الضوء على الشعر الذهبي الخفيف المنتشر فوقهما. طلبت منها أن نرقص. رقصنا على مبعدة من بعضنا. أزاحت المصباح جانبا في خجل كي لا يقع الضوء على ساقيها فضحكت وقلت إن شفتيها أيضا تجذبانني. قالت: إذن اكتف بالنظر إليهما. خفضت نفسها لتصبح في طولي. قالت إن الموضة الآن أن يمشي الرجل مع امرأة أطول منه.
دخل
هانز
ونحن نرقص قال: آه، آه. قلت ضاحكا: إذن أخرج. قالت: لا، يكفي هذا. وجلست ضاحكة. أنهينا الزجاجة. قال لي بالإنجليزية إنه يخشى أن تأتي
أنستاسيا . قلت: لا يهم.
أحضرت زجاجة فودكا وكوبا من مياه الفلفل المخلل. جلست إلى يسارها على الفراش و
هانز
على يمينها. قالت: نعمل اختبارا ليخلي كل منكما رأسه من أي فكرة مسبقة، ويتخيل طريقا ما يسير فيه، فيصادف وعاء، بماذا يشعر؟ وماذا يفعل بالوعاء؟ قال
هانز : وعاء أرفعه وأشرب منه وأواصل السير، ينزل مطر ولكني لا أعبأ به، أشعر بالجمال. قالت: إنه طريق حياتك، وتقابل امرأة جميلة تعجبك وتأخذها معك، تشرب ثم تمضي، فهمت؟ وأنت؟ قلت: ساقان رائعتان أصعد فوقهما بشفتي، ثم أقترب من القمة، كالقط عند طبق من اللبن، الرائحة جميلة، والمذاق أجمل وأشعر بالروعة.
انحنينا وركعنا على الأرض أمام ساقيها نطري على جمالهما وهي هادئة لا تنبس. همس لي
هانز
بالإنجليزية أن آخذ مفتاح الغرفة الخالية وأبيت بها.
انسحبت إلى الغرفة الأخرى. جلست على حافة الفراش لا أدري ماذا أفعل. لست هائجا ولكني ممرور. وجدت كتابا بالعربية عن مغامرات
كازانوفا . قرأت قليلا ثم رميته جانبا. مرت ساعة. تمددت ونمت. استيقظت في الليل عدة مرات.
في الصباح قال: رقصت معها وألصقت بطنها بي. لكنها كانت تقاوم دائما. جلست على الأرض عند قدميها وقبلت ساقيها وجذبت شعرهما، كانت توشك على الاستسلام وفجأة تقول إنها لا تريد وستكرهني لو واصلت، ومع ذلك لم تفكر في الانصراف.
93
صعد
هانز
بزجاجة فودكا عند
أنستاسيا
وزميلتها الإيطالية
إميليا . لحقت به فالتقيت
زويا
على السلم. سألتني باضطراب الموشك على البكاء : هل هو الآن مع
أنستاسيا ؟ تركتني وواصلت الصعود. ثم نزلنا إلى حجرتنا وأكملنا الزجاجة. أحضرت
أنستاسيا
زجاجتين أخريين. رقصت مع
إميليا
وقالت إنها تصورت عارية في حجرتها. كانت نحيفة تحيط دوائر داكنة بعينيها. قالت إن هناك سيارات أكثر في الغرب، لكن جرائم أكثر وبطالة وتضخم وأمية وكراهية، ولا أحد آمن في الشارع.
لم تمكث معنا طويلا. نامت
أنستاسيا
على الأرض مع
هانز
وأنا فوق فراشي.
94
استوقفتني عبارة في رواية «البراكين فوقنا» للكاتب الإنجليزي
نورمان لويس : «كانت تعاني توقا غير صحي لأن تكون محبوبة دائما. لم يكن ما تريده هو مجرد اللقاء الجنسي. ولم تكن لتحتمل التدهور الذي تنحدر إليه حتما كل حكايات العشق.»
ذهبت إلى المعهد قبل الظهر. لمحت في المدخل امرأة سمراء خمرية اللون. دق قلبي عندما أدركت أنها مصرية. فوق الثلاثين، ممتلئة، ترتدي سترة وبنطلونا سوداوين، وحول وسطها حزام تتدلى منه ميداليات معدنية. فوق عينيها وتحت الحاجبين مساحة من الكحل الأخضر اللون. اقتربت منها على مهل. سمعتها تقول لأحد الطلاب: في
مصر
لا أتحرك كثيرا فالسيارة أمام البيت. بدا عليها الارتياح؛ لأنها نجحت في الإعلان عن امتلاكها لسيارة. ابتعدت على الفور.
95
أقامت
دينكا
الأوزبيكية حفلا بعيد ميلادها ودعتنا. ونحن نستعد للصعود إليها جاءت زويا. مضى
هانز
حاملا زجاجة شمبانيا. فقالت إنها تريد أن تشرب فودكا. شغلنا الموسيقى. لحظت وجومها فقلت: ما بينه وبين
أنستاسيا
لا يرقى أبدا إلى ما كان بينكما. وقفنا نرقص. قبلتها وامتصصت شفتيها. طلبت منها أن تخلع جوبتها فقالت: لا أستطيع، سأكون لك، لكن يجب أن تنتظر، أحب أن ينتظرني الآخرون، لا أريد أن أخدعك إذا نمت معك. كان خدها ساخنا كأن درجة حرارتها مرتفعة. أرادت أن تلصق بطنها بي وتحركها إلا أني رفضت. ارتديت حذائي فقالت: الآن ستذهب لترقص. عرضت عليها أن تأتي معي فرفضت.
صعدت حاملا زجاجة شمبانيا. كانت غرفة
دينكا
مزوقة بطابع شرقي. لعبة على شكل جمل ووسائد مزركشة ودفتر مذكرات به صور مآذن ومعابد، صورتا
لينين
و
شارل أزنافور ، وتمثال
الماتريوشكا
الذي يحتوي على تماثيل أخرى لها متتالية الصغر. كانت
دينكا
محاطة بصديقاتها:
أنستاسيا ،
فاليا ،
لاريسا ، و
إميليا
الإيطالية، وأخرى قبيحة طويلة للغاية، ثم واحدة هائلة.
تامارا . ملامح شرقية وشفاه ممتلئة وجسد خرافي في قميص ذهبي اللون التصق بصدرها. رقصت مع
دينكا
ثم مع
تامارا . كانت تحرك جسدها وبالذات بطنها وردفيها وهي تطلق أصواتا خافتة أجشة من فمها. كأنها تمارس الجنس. رقصت معها مرة أخرى وفي وسط الرقصة قالت ارقص مع هذه الفتاة، مشيرة إلى الطويلة. اتجهت إليها فقالت إنها لا تريد أن ترقص. جلست صامتا أتأمل
تامارا
تبادل
فاليا
الحديث وهي مستلقية على فراش. كان وجه
فاليا
يتخذ تعبيرا غريبا. مزيج من الألم والاشمئزاز. أحيانا تتكلم برقة وقد نثرت شعرها فوق رأسها. وكان
هانز
في حضن
أنستاسيا
على الفراش المجاور. قامت
تامارا
إليه ودعته إلى الرقص. الأغاني إنجليزية وأمريكية وهي تترنم طوال الوقت بكلماتها. قالت وهي تتطلع إلى هانز: الآن أغنية «أنا منتظرة رجلي». طلبت من
فاليا
الرقص فرفضت في استعلاء. انضم إلينا شاب روسي وجلس على الفراش الآخر يتأمل مؤخرة
إميليا
في البنطلون الضيق. انصرفت
فاليا
ثم الفتاة الطويلة. قال هانز إن لديه قطعة من حشيش
كازاخستان ، واقترح أن ندخنها. اعتذرت دينكا ونزلنا مع
أنستاسيا
وتامارا. أعددنا عدة سجاير دخناها. قالت
أنستاسيا
إنها متعبة وستصعد لتنام. قالت
تامارا
إنها ستبقى قليلا ثم تلحق بها. جلسنا على الأرض. قالت
تامارا : أريد أن أطير بسرعة. أعطوني نبيذا. أغمي عليها وتقيأت ثم تمددت على الفراش. عادت
أنستاسيا
بعد قليل وأخذتها.
96
أردت أن أعمل وهيأت الصحف التي تتحدث عن مذبحة أيلول الأسود التي دبرها ملك الأردن للفلسطينيين. طرق الباب ودخلت
أنستاسيا . قالت إنها في حالة سيئة من اللحظة التي رأت فيها
هانز
مع التشيكية في المعهد. قلت لها مهونا: إنه هكذا. قالت إنها تعرف لكنها لا تستطيع قبول نظرة عاقلة للموضوع لأنها تعشقه، لا أفهم ما تفعله بهذه الصحف. قلت: ولا أنا.
97
دعاني
هانز
للصعود معه إلى غرفة
أنستاسيا
و
إميليا
لندخن بقية قطعة الحشيش. شعرت أنه يرغب في الانفراد بهما معا. لكني رافقته. جلسنا على الأرض نسمع موسيقى وندخن. قال: البعض يقول إن هناك تسعين وضعا للجنس، وآخرون يقولون إنها ستة فقط. سألته
أنستاسيا : وما رأيك أنت؟ تدخلت
إميليا
قائلة: أما أنا فلا أتذكر. أحاط
هانز أنستاسيا
بذراعه وضمها إليه. نظرت إلى
إميليا
وفكرت أنه من اللائق أن أفعل المثل. لكن البرودة التي شعرت بها في منطقة البروستاتا أفقدتني كل رغبة. تحججت بالتعب وتركتهم. قابلت
بلماجد
في الكوريدور. رافقني إلى غرفتي. أعددت شايا لنا. سألته عما سيفعل بعد أن يتخرج من المعهد. قال إنه لا يريد العودة إلى
الجزائر
ليخدم في الجيش. سألته إذا كانت علاقته جادة بفتاته. قال: كنت مع إنجليزية وفرنسيتين ودنماركية وفنلندية وألمانية ولم أكن سعيدا مع أي واحدة منهن، ربما أبحث عن تكرار لأمي، أريد الحياة من غير نساء فعندئذ فقط أشعر بالنقاء. قلت: أما أنا فلا أستطيع أن أتصور الحياة من غيرهن، ولا أشعر بنقائي إلا مع إحداهن.
98
التقيت
أنستاسيا
الضخمة في مدخل
الأبشجيتي . ناولتني ورقة كانت في يدها. وجدتها إشارة تليفونية من معلمتي السابقة
ناديجدا
تخبرني بوجودها في
موسكو . كانت تقيم في مدينة بعيدة مع زوجها. وكنا قد قضينا بعض الوقت معا عندما كانت تدرس لي اللغة. تركت رقم تليفون الفندق الذي تقيم به. تلفنت لها وادعيت أني أريد رؤيتها على الفور. قالت: الوقت متأخر وأنا أستعد للنوم فلدي عمل شاق في الصباح، جئت مع مجموعة من زملائي لمؤتمر. سألتها عن الوقت الذي ستقضيه في
موسكو . قالت: ثلاثة أيام. اتفقنا على اللقاء في الغد. نسيت أن أطلب منها ارتداء الميني جوب والجورب الأحمر اللذين رأيتها فيهما آخر مرة.
استحممت جيدا في الصباح واستمتعت بقيلولة قصيرة بعد الأكل. اشتريت زجاجة كونياك أرمني بتسعة روبلات. اطمأننت على وجود دولارات في جيبي على سبيل الاحتياط لو اضطررت إلى أخذها إلى مطعم
ناسيونال . أخذت تاكسي حتى الفندق. سألني السائق: من أين أنت؟ قلت له. قال: لماذا لا تستطيعون ضرب الإسرائيليين ؟ أخذوا منكم الآن قطعة أرض جديدة. لم أعلق. قال مشيرا بيده: ساعدناكم ثم أعطيتمونا خازوقا كبيرا عندما طرد
السادات
الخبراء الروس، من ست سنوات جمعنا كراسات لأطفال
فيتنام
فجاءنا منهم خطاب شكر. دفعت له
روبلين .
أنزلني أمام الفندق. طرقت باب غرفة
ناديجدا . فتحت لي فاحتضنتها بقوة وقبلتها. كان لفمها نكهة الشخص الذي لم يأكل شيئا من ساعات. أبعدتها عني وتأملتها. كانت ترتدي فستانا مشجرا قصيرا بزراير من أمام فوق بنطلون، وما تزال نحيفة وشعر رأسها الأسود مقصوص عند الكتفين. ساعدتني على خلع المعطف والكوفية والسترة والشابكا. جلسنا متواجهين. فتحت زجاجة الكونياك فاعتذرت عن الشرب. قامت وأخرجت من الثلاجة الصغيرة زجاجتي ليمونادة وشريحتين من اللحم البارد والخبز والزبدة. قمت فقبلتها قائلا بافتعال إني لا أصدق نفسي أنها هنا. استجابت لقبلاتي واصطدمت عويناتنا فخلعت نظارتها وتشبثت بي وهي تتنفس في عمق مغلقة عينيها. حركت لسانها في فمي بمهارة، وعندما تجمع الريق على شفتينا انفصلت عني وطلبت أن أعود إلى مقعدي.
سألتني بخبث عن صديقتي البرازيلية. قلت إنها سافرت إلى بلدها. سألتها عن زوجها فقالت على الفور: أنا أحبه وسعيدة معه لأنه يحبني ولا يتصور الحياة من غيري ويثق في جدا ولا يتصور أن أخونه. سألتها في سخرية: وكيف أنت؟ هل أنت راضية عن حياتك؟ قالت: طبعا، العمل معقول وقد زادوا راتبي وأعطونا مسكنا جديدا، والأولاد عال، كل شيء على ما يرام، وأنت؟ لم أجب، ونهضت مرة أخرى وقبلتها. حال شعرها الذي أسدلته حول وجهها دون نجاح القبلة لأنه دخل في فمي. طلبت مني العودة إلى مقعدي. قلت لماذا؟ أنا أريد أن أكون بجوارك، نحن لم نر بعضنا بعضا منذ مدة طويلة. قالت: رأيتني العام الماضي. قلت: كان زوجك معك طوال الوقت. قالت: وأنت كانت معك صديقتك.
جلست بجوارها، وفي هذه المرة وضعت يدي على ساقها، وطلبت منها أن تخلع البنطلون، لكنها رفضت وقالت لا بد أن تعود إلى مقعدك. وقفت لتدير الراديو فوقفت معها واحتضنتها. وضعت يدي على ثدييها، وبعد لحظة أبعدتني عنها في رفق.
قالت: لماذا أنت غير سعيد؟ قلت: لأنك لست معي. سألتني: كم عمرك؟ قلت لها. قالت: ما زلت أنا صغيرة. قلت: أنت الآن في الثلاثين؟ قالت: لا. قلت: 28؟ قالت: لا. هناك الباسبور. عمري 24. تذكرت أنها قالت نفس الشيء عندما كنا مع بعض قبل عام. سألتها: هل لك صديق؟ نظرت في عيني وابتسمت. قالت: لي واحد فقط لم يتغير حتى الآن. وأنت؟ قلت: لا أجد واحدة تعجبني، فأنا لا أحب الشقراوات والمدهنات. قالت: زوجي أيضا لا يتصور رائحة امرأة أخرى ولا يحب الشقراوات. اسمع، أمامي حتى بعد غد فقط. قلت أقضيه كله معك. قالت: أوكي.
دق التليفون. سمعتها تستعرض عروض الباليه الموجودة:
كسارة البندق
و
دون كيخوتة
و
جيزيل
و
سبارتاكوس ، ثم تتفق على الذهاب إلى المسرح في الغد. تصنعت الغضب. قالت: لم أكن أعرف أنك تقصد المساء. بعد لحظة قامت فاحتضنتها. قالت: لا أستطيع، لا أريد، ثم إن الوقت متأخر، العاشرة والنصف ولا بد من ذهابك. قلت لها: أنا أحبك. بدأت تتصنع الحزن. فكرت أنها تلعب دور التي وقعت في مشكلة خطيرة. سألتها: هل عندك مانع جسدي؟ قالت لا. قلت: لكننا نمنا مع بعض من قبل.
تذكرت تلك المرة التعسة عندما خلعت ثيابها من تلقاء نفسها. كنت خجولا ومددت يدي لأحتضنها فظنت أني أريد أن أخلع لها ثيابها، فبادرت بخلع البلوفر البرتقالي. وقالت إنها ذكرت لزوجها أن عندها اجتماعا نسائيا وهي أول مرة تفعل ذلك، وعندما وقفت عارية قبلت فخذيها وكانت رائحتها نظيفة، ومستسلمة لكن بغير استجابة، كأنها تتفرج على ما يحدث، وفوجئت بأنها واسعة للغاية، ربما بسبب الولادة. انفصلت عنها ونمت على ظهري وهي فوقي، وكانت تتصرف بارتباك وعدم خبرة، وسمعتها تقول: الواحدة في حاجة إلى شيء من التدريب، وبعدها قالت إنها يجب أن تنصرف حتى لا تتأخر، وكنت قد مللت من انتصابي الطويل، فارتدينا ملابسنا.
دفنت وجهها في صدري. وقالت: أجل، لكن حياتي بعد ذلك مع زوجي أصبحت صعبة لفترة طويلة. قلت: حسنا، سأذهب. دخنت سيجارة ثم وقفت واتجهت إلى حيث علقت معطفي . خطوت ببطء وأنا أتابعها بركن عيني متوقعا أن تستوقفني فقد شعرت أنها تمثل. رأيتها منهارة. ثم قامت وأطفأت النور المجاور لفراشها، وتناولت بطاقتي بريد فوضعتهما في جيب معطفها وقالت: سآتي معك. قلت لماذا؟ قالت أوصلك وأتمشى وأضع البطاقتين في صندوق البريد. احتضنتها بقوة فاستجابت ولهثت. فتحت أزرار الرداء العليا دون أن تقاوم. وعريت كتفيها وقبلتهما، ثم قبلت صدرها وفكرت فجأة في أني حقيقة أرغب في الانصراف. واصلت نزع الرداء فقاومتني قائلة إنها لا تريد. تركتها وأكملت ارتداء معطفي. ارتدت معطفها بدورها. غادرنا الفندق ومشينا فوق الجليد في صمت. أشارت إلى محطة المترو. توقفت أمام صندوق بريد ورمت البطاقتين. عند المحطة قلت لها: عودي الآن. سألت: ستتلفن غدا؟ قلت: لا أعرف، ربما. نزلت إلى رصيف القطارات وأنا أضحك ساخرا من نفسي.
في الصباح لم تكن عندي رغبة في مكالمتها، لكني تلفنت لها في التاسعة. قالت إنها تلفنت لي من نصف ساعة، وإنها خشيت أن أنتحر. وقالت إنها حزنت جدا بعد خروجي بالأمس ولا تستطيع العمل الآن. ثم قالت ألن أراك الليلة؟ قلت: صعب لأني سأرافق صديقا إلى مكان ما، وبالمناسبة يوم السبت لن أستطيع المجيء في الصباح. فكرت أننا سنخرج معا في جولة تبضع، وسيكون الأمر مملا للغاية. قلت: سآتيك بعد الظهر، باي باي. ظلت صامتة فوضعت السماعة.
صعدت إلى الغرفة فوجدت
فاليا
المتكبرة مع
هانز . جلست أقرأ في عدد قديم من مجلة أمريكية. قالت إنها تريد أن تتعشى. أعد
هانز
العشاء وفتحنا زجاجة فودكا. قالت إنها كانت تحب واحدا متزوجا ثم استدركت: ما زلت، وهو يحبني. احتضنتها قائلا:
يا لوبلو تبيا (أنا أحبك). مسحت بيدي على خدها الناعم للغاية. ولمس صدري صدرها البارز. حاولت تقبيلها فأبعدت وجهها ورفعت يدها إلى شفتي. كانت لينة رخصة، ووجدت متعة في تقبيلها وامتصاص أطراف أصابعها. انصرف
هانز
فجأة. سألتني: أين ذهب؟ قلت إنه صعد إلى صديقته. امتعضت. حاولت تقبيلها من جديد، فقالت إنها يجب أن تصعد الآن . طرقت
زويا
الباب بعد انصرافها. كانت تبدو ثملة. قالت إنها تشاجرت مع زوجها وانتقلت إلى
الأبشجيتي . رفضت الجلوس وقالت: هل تذكر صديقتي
ناتاشا ؟ أومأت بالإيجاب. قالت: إنها تعتبر علاقتي
بهانز
سلوكا غير أخلاقي لأني متزوجة، هل تعرف أن أباها سائق تاكسي يهودي؟ انصرفت.
99
تلفن لي
وجدي . قال إن مقره الآن في
هلسنكي
وإنه يريد أن يراني. وإنه يريد أن يشتري سكينا وملعقة كبيرة. قلت: ألا توجد هذه الأشياء في
هلسنكي ؟ قال: لكنها بالعملة الغربية، وهنا أرخص. أكلت على مهل ولم أتعفف عن البصل. ذهبت إلى
وجدي
في الفندق. قدم لي ثلاثة كيلوتات نسائية من الورق تستخدم مرة واحدة ثم ترمى. قال: لعلها تفيد مع البنات. أضاف: ألن تعرفني بإحدى الطالبات؟ أخذت الكيلوتات ووعدته بأن أفعل. تركته وركبت المترو إلى فندق
ناديجدا . وصلتها في السابعة إلا ربعا. كانت تنتظر. جلسنا إلى جوار بعض. وضعت أمامي بقية الكونياك وخلعت نظارتها. قلت: آسف أني تأخرت، متى ترحلين؟ قالت: في الثامنة. ملست على شعرها. قالت: كنت وحدي طوال اليوم، أمس كنت أريد أن أراك. قلت: إنها غلطتك. قالت: أعرف. كان على شفتها بثرة. قبلت عنقها وبدأت أنزع بنطلونها. قالت: ليس هناك وقت. واصلت نزع البنطلون. قبلت فخذيها ثم تحسستهما ودعكت إصبعي وأنا أقبل صدرها. قالت: أنت تؤلمني. لم تكن عندي رغبة جارفة، ولكني وضعت نفسي بين ساقيها فأعاقني وضعنا. قالت: لا بد من الذهاب. ارتدت البنطلون. حملت لها حقيبتيها ووقفت معها حتى ركبت مع زملائها. قالت:
داسفيدانيا . وأرسلت لي قبلة على أصابعها. عدت إلى
الأبشجيتي
وقابلت
فاليا
في المدخل. كانت ترتدي بلوزة تبرز ثدييها وجوبة طويلة (ماكسي) مشقوقة من الوسط. أمسكت يدها فرفعتها إلى فمي في عظمة. دخلنا المقصف سويا. قلت ماذا ستشترين؟ قالت برتقالة. قلت عندنا، تعالي. صعدنا إلى الغرفة. لم يكن
هانز
موجودا. حاولت تقبيلها فأبعدت وجهها. قالت: لا تتعجل لا بد أن أتأكد أولا، لم أشعر أمس أنك سررت لرؤيتي. قلت: لأني اعتقدت أنك جئت
لهانز . قالت إنها تريد أن تنصرف . قلت: ما رأيك في أن نخرج سويا غدا؟ قالت: لا مانع، تعال عندي. قلت: لا، تعالي أنت في الساعة الرابعة.
100
خرجنا معا في الساعة الرابعة ومشينا فوق الجليد المتراكم. أشارت إلى تاكسي مار ثم قالت الأفضل أن نذهب إلى الموقف. وقفنا ننتظر. ربطت رأسها بإيشارب على الطريقة الروسية. تزاحم الناس على التاكسي وأراد سكير أن يأخذ دورنا فدفعته مخاطبة الواقفين: أليس بينكم رجل يمنعه؟ ركبنا واشتبك السكير مع أحد الواقفين وتبادلا اللكمات. سألتها: مطعم أو سينما؟ سأضطر بعد ذلك إلى المرور على أحد أصدقائي لعمل. قالت سينما ثم مطعم. ركبنا واتجهنا إلى وسط المدينة. عند دار للسينما أوقفنا التاكسي. قالت: اخرج وانظر إذا كان هناك مكان لنا لنواصل البحث بالتاكسي. رفضت وأصررت أن نغادر التاكسي سويا فمدت يدها لي لأساعدها. لم نجد أماكن فذهبنا إلى مطعم السمك. وجدنا طابورا طويلا في الانتظار. قالت نذهب إلى فندق
ناسيونال . قلت: لن نجد مكانا؛ لأن اليوم هو الأحد ثم إني لا أحمل
دولارات
معي. ما رأيك في أن نشتري طعاما ونذهب إلى شقة صديقي؟ وافقت فولجنا حانوتا. قالت إنها تريد شمبانيا، وإنها شربتها عندنا لأول مرة وأعجبت بها. اشتريت دجاجة مطهوة وزجاجة شمبانيا. وقفت في طابور فاكهة. سألتها: تفاح أو كمثرى؟ قالت: الاثنين. اشتريت نصف كيلو من كل منهما. لمحت خيارا فصفقت بيدها. اشتريت نصف كيلو. كنا قريبين من منزل
عبد الحكيم
فاتجهنا إليه سيرا على الأقدام. تركتني أحمل الحقيبة والخبز والتفاح والكمثرى والخيار وزجاجة الشمبانيا والدجاجة وهي تسير إلى جواري واضعة يديها في جيبيها مستغرقة في عالمها الخاص. أمام منزل
عبد الحكيم
سقط مني رغيف الخبز. وقفت تتأمله حتى التقطته. وجدت جمعا من الرجال في مدخل المنزل يحتسون الفودكا. صعدنا إلى شقة
عبد الحكيم . دققت الباب فلم يرد أحد. انتظرت قليلا ثم دققت الباب مرة أخرى بلا جدوى. أخيرا انصرفنا عائدين إلى
الأبشجيتي .
101
طلب مني وجدي أن أطمئن على ابنة صديق لنا تدعى
فايزة
وتدرس في معهد
البوليتيكنيك . ذهبت إلى
الأبشجيتي
الذي تقيم به. وجدتها في حجرة مع فتاة عراقية. كانت
فايزة
نحيفة خجولة ذات وجه أبيض مستدير وفي نحو العشرين من عمرها. أما زميلتها العراقية فكانت سمراء عريضة الكتفين ذات مظهر ذكوري واضح. ووجهت إلي نظرة عدائية.
سألت
فايزة
عن رئيس اتحاد الطلاب، وهو مصري، فقالت إنها تشاجرت معه؛ لأنه يدعو إلى تحريم السينما والمسرح وإنه في حفل لذكرى
طه حسين
اتهمه بالإلحاد، كما هاجم السوفييت وزعم أنهم لا يساعدوننا.
تأملت الحجرة ولاحظت أن فراشين قد تم ضمهما إلى بعض. استفسرت منها عن كيفية قضائها وقت الفراغ. تبرعت العراقية بالرد: ليس عندنا وقت، فالدراسة صعبة. قلت لفايزة: أليس لك صديق؟ احمر وجهها وقالت في صوت خافت: لا. قلت: ألا تذهبين للرقص؟ ربما أدعوك مرة. أحاطت العراقية كتفيها بساعدها وكررت في تحد: لا وقت عندنا.
102
ونحن نغادر المعهد التقينا ناديا، سكرتيرة للعميد المسئول عن الأجانب. متوسطة القامة، رشيقة، ذات جسم رخص. مليئة بالحيوية. أراها دائما مندفعة في طرقات المعهد. وقفت تتكلم مع
هانز
في دلع. وجهت إليها بضع كلمات الإطراء فلم تعبأ بي. قالت له إنها مضطرة إلى البقاء لساعة متأخرة. سألها: هل آتي لأسليك؟ قالت له في صوت مبحوح: تعال.
كان الجليد يغطي الأرض والهواء لاذعا. أنزلت الشابكا فوق أذني وعقدتها تحت ذقني. خطوت في حذر خوفا من الانزلاق. اشترينا زجاجة فودكا
ستاركا ، وزجاجة عصير خضراوات، و
زاكوسكا (مخلل)، وبضع حبات من الفجل الأحمر، وكيسا من البطاطس المحمرة. قال: نأخذ تاكسي. قلت: سيكلف كثيرا، المسافة بعيدة. لمح سيارة جيب شبه عسكرية وبجوارها شاب روسي دمث وخجول. خاطبه:
ساشا ، إلى أين؟ قال الشاب: إلى أين تريدان الذهاب؟ قلنا له: محطة
الكتروزافودسكايا . قال اصعدا. انطلقت السيارة. همس لي
هانز : إنه يعمل سائقا في المعهد وهو صديق
ناديا
وسيتزوجان في نهاية العام. قلت للشاب: لعلني رأيتك فمرة فتحت حجرة
ناديا
ورأيتها تميل فوق شاب جالس وتقبله. لم يعلق بشيء. قال لي
هانز
عندما نزلنا أمام محطة المترو: ما كان يجب أن تقول له ذلك ؛ فربما كانت
ناديا
تقبل شابا آخر.
بحثنا عن بيت الطلبة الذي يقيم به
تادرس
ونحن نسير خافضي الرءوس منكمشين من البرد والثلج. كدت أنزلق مرتين. وجدنا البيت أخيرا. رحب بنا بحرارة. كان ممتلئا متوسط القامة ذا وجه عريض، أسمر البشرة في الأربعين من عمره. يدرس للدكتوراه في العلوم الزراعية. دخلنا حجرة نظيفة مرتبة ينفرد بها. دعكت أصابعي المتجمدة من البرد وقلت: نشرب فودكا. استخرج من الشباك جبنة بيضاء وسمكة وجبنا روميا مصريا. على الحائط صور جماهير روسية تحمل الراية الحمراء. وبجوارها ورقة عليها أبيات زجل مصري يتغنى بحب الوطن. تدلى من الحائط فوق سريره تمثال صغير للعذراء وعلقت عدة صور للمسيح والقديسين. ورأيت بجوار الفراش آلة عود. قال عندما رآنا نتطلع إلى الآلة في استغراب: أنا أحب الموسيقى من صغري، لكني من أسرة محافظة بالصعيد، وأراد لي أبي مستقبلا محترما، فصرت مهندسا ثم معيدا في الجامعة، والآن أعد للدكتوراه، لكن الهواية استمرت. شربنا أول كأس فتناول الآلة. قلت: نسمع الأول أوبريت «شهرزاد»
لسيد درويش
التي دعانا لسماعها. بدا عليه الاستياء، وقام وأدار شريط الترانزستور. دق الباب ودخلت فتاة روسية ممتلئة عادية الملامح. اضطربت عندما رأتنا. خلعت معطفها واحتفظت بغطاء الرأس وجلست. قالت إنها ستسافر غدا. رحب بها في أدب واحترام. قال لي إنها زوجة زميل له وإنها تعد رسالة دكتوراه. بادلت
هانز
الحديث. كانت تتكلم بسرعة ثم تشرد. رفضت أن تشرب. قال لي
تادرس
إنها التقت به في جمع ورأته حزينا في ركن، فجاءت وجلست إلى جواره تخفف عنه، ثم رقصت معه، وطلبت منه أن ينزلا إلى حجرته، وهناك تبادلا حديثا طويلا. وقفت الفتاة وأهدته ملعقتين خشبيتين ملونتين. وكتبت على ورقة اسم القرية التي صنعتا فيها. اهتم بأن يريها أن لديه ملعقتين مثلهما. قالت: ستبقون طويلا ولا بد من ذهابي. لن تراني مرة أخرى إلا بعد شهرين. ربما عدت إليك الليلة في وقت متأخر. انصرفت. أمسك العود وعزف لحن «الحشاشين»
لسيد درويش . طلبت منه «ساعة ما بشوفك جنبي». قال:
عبد الوهاب
سرق
سيد درويش
وأماته، لكنه غنى «كليوبترا» و«الجندول». جاءت فتاة أخرى عادية الملامح شاحبة الوجه. جلست محتفظة بغطاء الرأس الذي يغطي أذنيها إلى كتفيها. قالت إنها جاءت اليوم من الهيئة الرئيسية للغاز حيث كانت تجمع مادة لرسالة الدكتوراه، وإنها ستعود إلى ابنها في مدينة
خاباروفسك . قال لها: أنت لست سعيدة، وأنت تعرفين لماذا. قالت إنها اشترت شقة، دفعت 1500
روبل ، وستدفع الباقي على أقساط. قال لها: يجب أن تجدي رجلا. نظرت إليه في مرارة. فكرت أنها حاولت معه لكنه إما لم يفهم أو لا يريدها، وقد يئست من تكرار المحاولات. طلبت منه أن يغني أغنية إنجليزية، وصححت له أخطاءه. ثم عزف «يا زهرة في خيالي»
لفريد الأطرش . قالت إنها تحب هذه النغمة من صغرها. قال لها إنها التانجو العربي. انصرفت. أنهينا الزجاجة وتهيأنا للانصراف. قال: الآن سأعزف لكم أحب قطعة عندي. عزف «الموجة وراء الموجة»
أم كلثوم . قال: لا نستطيع أن نهرب من هذه الموسيقى، إنها في دمنا لا لجمالها وروعتها فقط، وإنما لارتباطها بدقائق كثيرة في طفولتنا ومراهقتنا. كان يتطلع إلى
هانز
وهو يعزف. ورأيت الأخير يضع أصابعه على شفتيه كأنما ليخفيهما. وكلما شعر
تادرس
أننا نهم بالقيام استمهلنا لنسمع قطعة جديدة. اتفقنا معه أن يأتي عندنا الأسبوع القادم. قال ككبار المطربين: تعالوا خذوني. صافحته بينما قبل
هانز
في فمه.
103
أراني
شريف
خطابا من
عدنان . كتب فيه إنه عين في وظيفة حكومية وإنه يتعرض لحرب عصابات يوميا في العمل. وقال: سأتزوج قريبا، قولوا
لجاليا
إني لم أتلق منها سوى رسالة واحدة وأعطوها عنواني.
سجلت مشترياتي على ورقة لاقتسام ثمنها مع هانز: 130
كبيكا
بيض، 30 حليب، 364 فودكا 80 خبز وحلاوة طحينية، 80 خضراوات.
دار نقاش بيني وبين
حيدر
اللبناني حول كتاب «تحت المظلة»
لنجيب محفوظ . كان شعره طويلا ينزل إلى كتفيه، ويمضغ علكة، ويرتدي بنطلونا ذا ثنية عريضة حسب الموضة، وسترة من الجلد أزرق اللون، وحذاء يجمع بين اللونين الأحمر والأزرق بكعب سميك. قال إن
محفوظ
أراد أن يتهم الاتحاد السوفييتي بالرغبة في احتلال مصر. ذكر لي المقطع المعني ، فوجدت أنه ينطبق أكثر على
أمريكا . قلت: إنها أفكارك أنت. لم ينكر. قال إن مشروعه عند عودته إلى
لبنان
يعتمد على الاستعانة بأعضاء الحزب الشيوعي الذين سيعملون بلا مقابل! أعرب عن رغبته في تحويل
دولارات
إلى
روبلات . قال إن السعر في السوق السوداء هو 3,40
روبلات
للدولار ولو انتظرنا أسبوعا ربما يرتفع إلى 3,60.
صادفت
ناديا
في أحد ممرات المعهد. كانت تقف أمام نافذة وتتأمل نفسها في الزجاج. لاحظت أنها تبكي. وضعت يدي على كتفها متسائلا: ماذا حدث؟ مسحت دموعها وقالت: اكتشفت أني أحببت أحد مجرمي العصابات.
104
في هذه المرة استقبلتنا
جاليا
في غرفتها الصغيرة. وكان صوت التليفزيون يأتي من حجرة جارها في الشقة. مدت إلينا صديقتها أطراف أصابعها. ولاحظت أن بطن
جاليا
منتفخة وتحرص على تغطيتها بشال ملون. هل هي حامل؟ وهل
عدنان
هو الأب؟ تجنبنا ذكر اسمه. ولم تضع له كوبا إضافيا على المائدة. شعرت بعداء من الصديقة. رفضت أن تدخن سيجارتي الهندية مفضلة الروسية ذات الفلتر قائلة: سجائرنا. رائحتها قوية كأنها لم تستحم منذ أيام. تهرش رأسها وتدعك خلف أذنيها وتحت قفاها.
جاليا
أيضا تهرش رأسها. قدمت إلينا طبقا من عيش الغراب بالسميتانا (الكريمة) والثوم مع نبيذ مصنوع في المنزل. سألها
هانز
عن أحوالها فقالت: أنا سعيدة، يجب أن نعيش، كل شيء يسير وفقا للخطة. أدارت التليفزيون وتفرجنا على زيارة
بريجنيف لكوبا . عند عودته كان جميع رجال الدولة والحزب في استقباله بالمطار. وتقدم منه
بودجورني ، الرئيس. صافحه والتفت إلى
كاسيجين ، رئيس الوزراء، فاحتضنه وإذا بهذا يرفع قبعته معريا رأسه للثلج المتساقط فأشار له
بريجنيف
أن يغطي رأسه.
عندما انصرفنا تركني
هانز
ليذهب إلى
تامارا .
في الصباح رفعت رأسي من تحت الأغطية فرأيت أن فراش
هانز
لم يمس. تصورت
تامارا
ذات الشفتين الممتلئتين والجسد الملبني والأنوثة الصارخة ثم الأصوات المبحوحة التي تطلقها من فمها بين الحين والآخر. دق الباب فلم أستجب. فتح شخص الباب ونظر ثم انسحب في هدوء.
أنستاسيا ؟ التقيت
هانز
في المعهد. كان متعبا وهناك التهاب شديد في شفته السفلى من أثر عضة ولا شك. قال إنه قضى الليلة في حانوت
بريوسكا . سألته: كيف؟ قال إن
تامارا
تسكن في شقة كبيرة ممتلئة بكافة أنواع السلع الأجنبية وتعمل موديلا، ولا شك أنها على علاقة بالسوق السرية.
105
ذهبت إلى العيادة لعمل رسم قلب. رقدت فوق الفراش عاري الصدر ضئيل الجسد. ثبتت الطبيبة أربطة الجهاز. بعد الرسم قالت: ابتعد عن شرب الخمر. غادرت العيادة محني الرأس منكمشا تحت الثلج المتساقط. تجمدت يداي داخل القفاز الجلدي. كنت قد سمعتهم في العيادة يقولون إن درجة الحرارة 30 تحت الصفر. فكرت أن مطعم السمك القريب لا يقدم غير النبيذ، وأنا أريد فودكا أو بيرة. اخترقت أحد الشوارع الجانبية القديمة إلى
بروسبكت كالينين . عبرت تحت الأرض إلى الناحية الأخرى من الطريق. اتجهت إلى مطعم براغ الضخم. تجاوزته إلى
ستالوفيا
تعتمد الخدمة الذاتية. توقعت أن يكون هناك طابور فوق سلمها الخارجي. لم أجد أحدا. صعدت السلم. وجدت يافطة تعلن أنها مغلقة اليوم. هبطت. فكرت في المضي إلى نهاية الشارع حيث يوجد مطعم تحت الأرض يتقاضى
روبلا
عند الدخول. تراجعت عن الفكرة لأني أهاب الأماكن الفاخرة. درت حول المبنى. البار الأرضي مغلق أيضا وفي مدخله عدة أشخاص ويافطة بعدم وجود أماكن خالية. واصلت السير. تجمعات أمام المحلات المغلقة لفترة الغداء في انتظار فتحها لشراء هدايا رأس السنة. إلى مطعم
براغ . دفعت الباب الخارجي وأنا أتوقع أن يستوقفني البواب ذو الرداء الرسمي. انتهزت فرصة أنه مشغول بالحديث مع شخص، فدفعت الباب الثاني. اطمأننت عندما وجدت روسا عاديين ينزعون معاطفهم عند
الجاردروب (غرفة المعاطف). خلعت معطفي وتأملت نفسي في المرآة الضخمة ذات الإطار الذهبي التي تصل إلى السقف: البلوفر الصوفي الأخضر الذي غسلته فاستطال، البنطلون الذي انتثلت أطرافه، شعر رأسي المحلوق، ياقة القميص التي اهترأت منذ أيام. البهو واسع. صعدت سلما دائريا عريضا تغطيه أبسطة حمراء وتطل عليه مرايا ضخمة. في الطابق الثاني قاعات واسعة. تقدمت إلى إحداها فاعترضني نادل متقدم في السن : إلى أين أيها الشاب؟ قلت: أريد أن آكل. قال: ليس هنا. هنا يتجمع الناس لأسباب، لأعمال. اصعد إلى الطابق الرابع. واصلت الصعود. قاعة مستديرة مغطاة بسطح من الزجاج. أغلب الأماكن مشغولة. وقفت في المدخل. عديد من النوادل يجيئون ويروحون ويختفون دون أن يعبئوا بي. واحد يحمل مجموعة زجاجات من مياه نارزان المعدنية. إلى جواري مائدة يحيط بها أجانب من
أوروبا الشرقية
في الغالب. يشربون في وقار وهم يتابعون مؤخرة فتاة روسية. جاء رئيس النوادل الذي يبدو كالمصارع. سألني عما أريد. قلت أريد أن آكل. قال بهدوء شديد: لا يوجد مكان، انتظر بعيدا عند المدخل. جلست على مقعد، بالقرب مني مائدة مستديرة جلست إليها عجوز. دعوت الله ألا يطلب مني الجلوس معها. أحضر لها نادل أنيق زجاجة نبيذ وضعها على المائدة. قامت وجلست في مواجهة المرآة. ثم عادت فغيرت جلستها. شعرها مصبوغ. أحضر لها النادل ثلاث زجاجات ليمونادة ورتبها فوق المائدة. نادته:
فاليا ، أحضر لي أكوابا. أحضر لها كوبين. ملأتهما بالنبيذ وأعادت ترتيب الزجاجات. طلبت منه إناء فواكه زجاجيا مزخرفا فأحضره. وضعته على حافة المائدة فارغا. قالت: الآن ستبدو المائدة ممتلئة. أحضر لها
زاكوسكا . انضم لي أحد الروس. انصرف بعض الآكلين. جاءنا نادل وقال: يمكن أن تجلسوا بعد ساعة وربع. قال الروسي بخضوع: لكننا انتظرنا طويلا هنا. قال النادل: لا شأن لي بمدة انتظاركم. بعد نصف ساعة سمح لنا بالدخول. جلسنا إلى جوار مائدة حولها ثلاثة رجال متأنقين بصورة غريبة، لكنهم روس، وأمامهم فودكا وكافيار وطماطم. بعد مدة جاء رئيس النوادل. كلما طلبت شيئا هز رأسه قائلا: لا يوجد. أشرت إلى المائدة المجاورة وقلت: الطماطم موجودة. قال: طلبوها في الصباح. أحضر لي شوربة
سوليانكا
وسلطة براغ ودجاجة مشوية بصوص من الثوم و150 جرام فودكا. راقبت جنرالا جورجيا وامرأة جورجية سمينة عاطلة الجمال. عندما انتهيت من السلاطة ملأ جاري كأسه طالبا أن نشرب سويا:
زازدروفبا (الصحة). عزمت عليه بسيجارة فسألني: من أين أنت؟ قلت: من
مصر ، وأنت؟ قال: أنا يهودي من
أوكرانيا . قلت بعد لحظة: هل تعانون أي مشاكل؟ أشعر هنا بروح معادية لليهود. ظهر تعبير غريب على وجهه أقرب إلى الخوف. قال: لا. أنا عضو في
الكومسمول
ومهندس ومسافر الليلة. قلت: لماذا لا تقول
أوكراني
إذا كنت ولدت هناك؟ قال: الباسبور يقول إني يهودي. قلت: سيأتي يوم لا تكون فيه أهمية لدين الشخص أو قوميته. لم يعلق. عندما انتهينا أسرع بدفع حسابه، ومضى دون حتى أن يقول لي
دازفدانيا .
106
قضت
أنستاسيا
الليلة في غرفتنا نائمة في حضن
هانز
في الفراش المقابل. تعجبت كيف يسعهما الفراش الضيق. غادرت في السادسة صباحا. واصل هو النوم. قمت في العاشرة بعد أن استمتعت بساعة من النوم المتقطع الظريف. أعددنا طعام الإفطار من خبز محمر في الزبد ومربى. احتسينا الشاي مع سيمفونية
لهايدن . خرجنا إلى الطريق المغطى بالجليد. هناك شمس مترددة خجولة. ليست هناك رياح باردة. لم أربط
الشابكا
تحت ذقني. تذكرت برودة شتاء
القاهرة . استنشقت الهواء في متعة. قلت إني أريد أن أسرع لأرى فيلم
تريفو .
بدأ الفيلم في قاعة السينما بالطابق الثالث من المعهد. المدرسة الغبية والمدرس المتعفن القاسي والطفل يتلمس طريقه في مواجهة هذا كله، ويضطر إلى الكذب. في البيت ليس لدى أمه وقت له. تعود متأخرة مرهقة بعد أن يضع الأطباق على المائدة. يأتي الأب الفاشل ويدور الشجار بالليل والطفل يسمع. وكان قد رآها تقبل رجلا في الشارع. يغادر المنزل هاربا. استعادته وقررت أن تكون لطيفة معه فأعطته حماما، ثم عندما أراد أن ينام في فراشه في الصالة بجوار الباب قالت: لا، في فراشنا. مضى إلى فراشها وخلع ملابسه واندس فيه عاريا.
دمعت عيناي أكثر من مرة ورأيت
أنستاسيا
تبكي هي الأخرى. غادرنا القاعة سوية. أرتني صورة
لكاسيجين
في صدر الصفحة الأولى من صحيفة بمناسبة منحه وساما رفيعا. همست لي: إنهم ينعمون على بعضهم البعض.
107
سافر
عبد الحكيم
مع زوجته إلى موطنها لقضاء عطلة رأس السنة وترك مفتاح شقته معي. عرضت على
زويا
أن نذهب إلى الشقة. اعتذرت بانشغالها. ذهبت إلى هناك بمفردي. اشتريت زجاجة نبيذ جزائري رخيص، ونصف كيلو تفاح وأربع بيضات للصباح وزجاجة لبن وقطعة سمك وقطعتي لحم. أعددت عشائي وأنا أتفادى الصراصير وأغسل كل أداة أستخدمها. جلست في الصالة. أكلت وشربت نصف زجاجة النبيذ، ونمت في الحادية عشرة بعد أن أطفأت الأنوار وأغلقت الأبواب الداخلية، ووضعت السلسلة الحديدية في الباب الخارجي. استيقظت في الليل عطشانا. مضيت إلى الحمام والمطبخ في تردد. تركت النور مضاء وعدت أفكر في أن الشقة معرضة للسرقة بسهولة. نمت. حلمت أن لصا في المسكن وأني أفشل في القبض عليه. استيقظت ظهر اليوم التالي. استحممت وأفطرت وقرأت مقالا عن تضخم البروستاتا. لاحظت أن دقات قلبي مضطربة وتنفسي قصير. خرجت. اشتريت ليمونة ودقيقا وحلاوة طحينية أرمينية و
ماروجنا ، وعدت إلى
الأبشجيتي . بعد ساعة ظهرت
فيرا
اليهودية على باب الغرفة. كانت ساقاها عاريتين وجوبتها قصيرة، وشعرها مبعثرا في فوضى. أعادت أسطوانة كانت قد اقترضتها. سألت عن
هانز . سألتها بدوري وعيني على فخذيها العاريتين: ألا تشعرين بالبرد؟ قالت: بالعكس، أشعر بحرارة.
108
تلقيت بطاقة بريدية من
ناديجدا
وزوجها. وضعتها على المكتب بجوار الصحف التي كنت أعمل بها. طرق الباب وفتحت
لأنستاسيا . لمحت البطاقة البريدية فسألتني: أهي من صاحبتك التي كانت هنا منذ أيام؟ قلت: أجل، كيف عرفت؟ تجاهلت السؤال. سألت: أين
هانز ؟ أجبت: لا أعرف. قالت: غير معقول، كيف وأنتما شديدا القرب هكذا؟ وضمت إصبعين إلى بعضهما.
جاء
هانز
بعد انصرافها. ذكرت له ما قالته
أنستاسيا . قال: أخبرتها أني أريد إنهاء العلاقة فترجتني أن أبقى معها حتى نهاية العام، فقلت لها نهاية العام فقط، ومن أول يوم في السنة الجديدة سأكون حرا. قلت: إنها إنسانة رقيقة. قال: لم تعد تثيرني.
109
فكرت أن أقدم هدية إلى
ناديا
بمناسبة أعياد الميلاد. هل يليق أن أهديها الكيلوتات الورقية أم أعطيها صابونة أجنبية وزجاجة عطر؟ قدمت لها الكيلوتات. قالت: أنا لا آخذ هدايا كي لا أشعر أني مدينة. قلت: لا يجب أن تشعري بهذا معي. أخذت الكيلوتات وصافحتني. كانت تبحث عن مفتاح الغرفة الذي نسيته بداخلها. ذهب شاب بشوارب يبحث لها عن مفتاح. ظهر زائر مصري، يبدو من كبار موظفي الدولة في
مصر ، يقوده
لطفي . تعارفنا. اقترب منا طالبان: أحدهما مصري والآخر سوري. عرض الأخير أن يرافق الزائر، ومشى إلى جواره. سمعت المصري يقول
للطفي
بصوت خافت: لا تدعه يأخذه منك، اشرح له أنت.
عدت إلى
ناديا . أفسحت الطريق لشقراء خارجة من عندها. تابعتها
ناديا
بعينيها، وقالت لي: تعرف، هذه زميلة لنا يهودية تريد الهجرة إلى
إسرائيل ، قلنا لها كيف تتخلين عن البلد التي أطعمتك وعلمتك؟ رأيت الكيلوتات ملقاة على المكتب دون غلافها. سألتني: كيف
الناستراينيا ؟ قلت: سيئ. قالت: اذهب إلى الجنوب. قلت: بمفردي؟ قالت: خذ بلدياتك معك. سألتها: أين ستقضين ليلة الكريسماس؟ قالت: لا أعرف. قلت: تعالي عندنا. دخل أحد الطلاب فلم ترد. كانت لا تكف عن الحركة. تقفز. تجلس. تجذب البلوفر إلى أسفل. وقفت في النافذة فتجعد البنطلون بين ساقيها. مدت يدها وغطت منفرجها. أرتني حذاء أسود لامعا برقبة طويلة وكعب طوله 7 قراريط. سألتها: أين حصلت عليه؟ قالت:
نا رينك . سألتني: ما رأيك فيه؟ قلت: لا بأس به. لم يعجبها ردي، وقالت: هل تعرف كم ثمنه؟ 220
روبلا
وبالأمس كان 200.
دخلت زميلتها. دار الحديث حول الحذاء. لمحت الكيلوتات فأشارت إليها قائلة: ارفعي هذا الشيء من هنا. لم تعبأ
ناديا
بها. دخل أكثر من واحد وواحدة وأنا أتوقع في أي لحظة أن يرى أحدهم الكيلوتات ويعلق عليها. لم تهتم هي ولم يعلق أحد. كنت أجلس قريبا منها فملت عليها وقلت: لماذا لا تخفين هذه الفضيحة بعيدا؟ قالت: بالنسبة لنا هذا شيء طبيعي. لم أفهم ماذا تعني.
دق جرس التليفون، فرفعت
ناديا
السماعة. بكت فجأة. قالت: أمي مريضة بالقلب ويقولون بسببي. بعد قليل قالت إنها كانت قد وعدت أمها بالزيارة، لكنها تأخرت عند إحدى صديقاتها ونامت عندها. قالت بعد قليل إن أمها انهارت عندما أبلغتها أنها ستطلق الشاب الذي تزوجته منذ أيام ولا تعرف لماذا فعلت هذا لأنها لا تحبه، وأنها كانت تعرف واحدا من أربعة أعوام وفي لحظة غضبت من شيء تافه فقررت الزواج بالآخر. قلت: كيف يمكنك النوم معه إذا كنت لا تحبينه؟ قالت أنا لا أنام معه، أنام في حجرة أخرى. أخذت ترتب محتويات درج المكتب. حكت حكاية طويلة حول ضجة المنازل الحديثة وكيف يسمع الصوت من أعلى ومن أسفل. قلت لها: الآن عرفت لماذا لا تنامين مع زوجك. قالت: كيف؟ قلت: كي لا يسمع أحد صوتكما. قالت: إذا أعجبني شخص ما أنام معه ببساطة.
دخل نفس الشاب الذي أحضر لها المفتاح من بواب المعهد. خاطبته: ماما مريضة، ونقلوها إلى المستشفى، لا بد من شراء ورد والذهاب إليها. غادرت الغرفة وسمعته يقول: اللعنة. عادت وخاطبته: لماذا أنت صامت؟ ثم قامت وقالت لي: أعطني سيجارة من فضلك. أعطيتها وأردت أن أشعلها فقالت: لا، معي كبريتي. وقفت مستعدا للانصراف، فأشارت لي بعينها أن أبقى. غادرت الغرفة وعادت بعد لحظة. قالت لزميلتها: سيتكلم أحد بعد قليل، قولي له إني ذهبت إلى أمي. التقطت حقيبة يدها وكيسا ممتلئا من البلاستيك واستعدت للانصراف. استوقفتها: لم تقولي، هل ستقضين الكريسماس معنا؟ قالت: لا أعرف، غدا نتفق. سألت: ستأتين في الصباح؟ قالت: أجل.
110
في الصباح مضيت إلى المعهد. كان الجو دافئا. والثلج توقف عن السقوط. مشيت بنشاط. وشعرت أن خفقان قلبي قد زال. وجدتها في غرفتها مع زميلتها وقالت لي إن أمها عادت إلى المنزل وكل شيء على ما يرام. جلست أنتظر أن نتحدث بمفردنا. لم تتحرك زميلتها. غادرت
ناديا
الغرفة وعادت تصفق في سعادة: سنذهب الآن. تكلمت في التليفون. سألتها: هل ستأتين عندنا؟ قالت: ستكون جلستكم أنتم. قلت: سأنتظرك. قالت: سأكون في
الأبشجيتي
عند طلبة في الطابق الثاني وأستطيع أن أمر عليكم بعد منتصف الليل. قلت: ماذا بشأن الغد؟ لقد تعودت على رؤيتك كل يوم. قالت مفكرة: متى؟ أنت تعرف أن لدي زوجا وأما. قلت: بالنهار، وسأتركك لزوجك بالليل. قالت:
لادنا ، سأكون عند أمي بين الساعة 11 و5، كلمني هناك. أعطتني الرقم وقالت: لكن لا تقل لأحد من زملائك . قلت: بالطبع.
غادرت المعهد مع
هانز . رويت له حديثي مع
ناديا . قلت إني أفكر في حجز مكان في مطعم للغد. قال: لن تجد مكانا وليس هناك مطعم يقبل حجزا الآن. قلت: سآخذها إذن إلى شقة
عبد الحكيم . قال: إنها من النوع الذي يستسلم من أول مرة وإنه شخصيا يفقد الاهتمام إذا لم يتم هذا. سألته: كيف عرفت؟ قال: كنت أذهب إلى منزلها كل صباح بعد أن تخرج أمها. اشترينا زجاجتي فودكا ووقفنا في طابور طويل من أجل البرتقال. تصورت
ناديا
أمامي في بكيني بساقيها البيضاوين وشعرها منسدل على وجهها. قال: الرجال نوعان:
تادرس
ذو الذكورة الصارخة، وأنا وأنت حيث نسبة الأنوثة أعلى، المرأة العادية سلبية، تستمتع بمطاردتها ويدب الخدل والنشوة إلى جسمها عندما توشك على الاستسلام. قلت: أنا أحتاج إلى بعض الوقت مع المرأة حتى آلفها قبل أن أستطيع النوم معها.
111
لم أنم جيدا. مضطرب اضطراب المراهق الذاهب إلى أول موعد مع فتاته. حلقت ذقني وأفطرت وارتديت أحسن ملابسي وحذاء جديدا. وصف لي هانز مكان
البريوسكا ، لأشتري كبدة ومخ وبعض الأشياء. أخذت معي عدة
سرتيفيكات ،
الروبلات
الورقية التي تحل محل الدولار. خرجت متثاقلا. أخذت الباص إلى محطة المترو. غادرته في محطة
كييفسكايا . ركبت الترولي المزدحم إلى
بروسبكت ماركس
وأخذت ترولي آخر. مشيت طويلا أبحث عن
البريوسكا . الساعة الواحدة كلمت أمها في التليفون فقالت إنها لم تأت ولم تذكر أنها ستأتي. عبرت الشارع عدة مرات بحثا عن الحانوت بلا فائدة. الساعة 3 تلفنت مرة أخرى. ردت أختها. قالت إنها تلفنت وستأتي بعد قليل. قررت أن أتحرك بسرعة. وقفت نصف ساعة في محل لحوم جاهزة لشراء روزبيف، وعندما وصلت إلى البائع أعلن أن ما لديه قد نفد. عدلت عن شراء بطة محمرة. واصلت البحث عن
البريوسكا . وقفت أمام كشك تليفون أنتظر عجوزا بدينة تتحدث في بطء. عندما انتهت وقفت تتطلع إلي صامتة. أدركت أنها تنتظر مساعدتي لإخراجها من الكشك. فعلت بصعوبة وأوصلتها حتى الرصيف الآخر وعدت. تلفنت. قالت أمها إنها جاءت ثم خرجت مرة أخرى وستعود في الليل قرب التاسعة. عثرت على الحانوت. السلع كثيرة ومتوفرة ومصفوفة جيدا ومغرية: الفراء الثمين والسمك الفنلندي والجبن الهولندي والفواكه العربية، حلويات اللوز، الطماطم والسمك المعلب من
بلغاريا
ودجاج هولندي ملفوف في سوليفان لامع وسجاير
مارلبورو ، فضلا عن المنتجات الروسية التي لا توجد في الحوانيت العادية. اشتريت كبد غنم، ليمونتين، خيارة مغلفة، سمكا أحمر، جبنة دنماركية، فودكا فنلندية. عدت إلى
الأبشجيتي . كان هانز في انتظاري. حمرنا الكبدة وشربنا الفودكا. انضمت إلينا
أنستاسيا
محتجة: لماذا لم تدعواني؟ كنت جالسة أنتظر. قال لها: غدا آخر يوم في علاقتنا. قالت: لا يهم. قالت: في مدينتي لا يوجد لحم ونضطر لشرائه من السوق السوداء. قلت: لماذا تقبلون هذا؟ قالت: علمونا ألا نحتج، لو تكلمت سأدخل السجن. ذكرت أن زميلتها الإيطالية استأجرت مع الطالب اليوغوسلافي غرفة في فندق وأنها - أي
أنستاسيا - تقيم الآن وحدها. ودعت
هانز
للصعود معها إلى غرفتها. قررت ألا أتصل
بناديا .
112
في التاسعة صباحا شعرت
بهانز
يدخل الغرفة مع
أنستاسيا
ويرتدي معطفه ثم انصرفا. قمت وأفطرت. أدرت موسيقى
روسيني
ثم
كارمن
و
البوليرو . تناولت العدد العتيد من مجلة
بلاي بوي . قصصت صور الفراعنة وألصقتها في تكوينات جنسية فاضحة فوق زجاج الخزانة. قرأت مقالا عن أحجام العضو الذكري. وتحدثت قارئة عن رأيها فقالت إن الحجم لا يهم طالما يعرف الرجل ماذا يفعل بما عنده. عادت
أنستاسيا
مع
هانز
بعد أن تمشيا في الثلج. حكيت لهما رأي القارئة. قالت إن هناك قولا روسيا بهذا المعنى. لاحظت صور الفراعنة الملصقة فضحكت. أشرت إلى إحداها قائلا: رمسيس الثاني، تزوج 44 امرأة، وله أكثر من مائة ولد وبنت. اقترحت علينا الذهاب إلى صديقة لها عانس تقرأ البخت للتنبؤ بأحداث العام القادم، وكلها أشياء تدور حول الرجال. قالت: كلمتها في الصباح وذكرت أنهم ثلاث بنات مع رجل نائم. شعرت أنها لا تود الذهاب، وبالفعل قررنا البقاء. سمعت
هانز
يقول لها: لا أريدك. قالت: لماذا؟ لم يبق لي إلا أن أكون
ليسبيانكا (عاشقة للنساء). توافد الزائرون.
هند
و
أنار
مع الشاب اللاتفي. ثم ظهرت تامارا بساقيها الرائعتين وشفتيها الممتلئتين. تبادلت القبلات مع هانز ورقصت معه. تجمعوا حول صور الفراعنة. فرغت زجاجات الشراب، فبدأ البحث عن خمر في الغرف. قالت
هند
إن الحوانيت مغلقة، والحل الوحيد عند سائقي التاكسي؛ فهم يحتفظون دائما بزجاجات فودكا يبيعونها في أمثال هذه المناسبات. ارتديت معطفي ونزلت إلى الشارع بحثا عن سيارة تاكسي. وصلت إلى سينما الحي فرأيت أن هناك فيلما بعد نصف ساعة من
ألمانيا الغربية . اشتريت بطاقة ودخلت. جلست بجوار امرأة وحيدة. قربت ساقي من ساقها بالتدريج متلمسا رد فعلها ثم جعلت أدعك ساقها برجلي وتركتني هي في البداية. ربما لم تنتبه أو أرادت أن تعرف ماذا أريد. فعلا ماذا أريد؟ أبعدت ساقي.
113
ذهبت إلى المعهد بعد الظهر. تجنبت غرفة
ناديا
ثم صادفتها في غرفة أخرى تنسق شعرها. كانت في رداء أزرق قصير كشف عن ساقيها الرائعتين. بدت متوهجة ومتوثبة بالحيوية. قالت وهي تشير إلى مقعد بجانبها: تريدني؟ قلت: أنا أريدك دائما، ولكن ليس الآن. ثم أضفت: أنت أنيقة جدا وجميلة، هل لديك حفلة اليوم؟ لم ترد. وسألتني بدورها: كيف كان احتفالكم؟ أظن كانت لديكم ضجة هائلة في
الأبشجيتي . قلت:
نورمالنا (عادي). هل الغرفة مفتوحة؟ سألت: تريد أن تتلفن؟ تعال. رافقتني إليها. كانت زميلتها تتحدث في التليفون. جلست
ناديا
ثم وقفت واقتربت مني قائلة:
سكوشنا (ملول)؟ ثم طلبت من زميلتها أن تنهي حديثها. تلفنت. دارت حول نفسها ثم قالت: نخرج من هنا. قلت: بنا. غادرنا الغرفة إلى الممر. في الردهة قال لها أحد الشبان الروس الخجولين: ناديا، أنت اليوم حقا جميلة. فابتسمت وقالت له وهي تبتعد بسرعة:
سباسيبا (شكرا). قالت لي: تعال أريك المعهد. هبطنا إلى الطابق الأرضي. التقينا عامل المخزن العجوز يترنح من السكر. خاطبها قائلا: هل أنا ضروري؟ أجابته ضاحكة: ليس اليوم يا
ديما . قالت لي إنه دائما ثمل، تقاعد منذ سنتين لكنه واصل العمل، لم نكن نحتاج إليه معظم الوقت، وبالصدفة احتجناه مرة ولم نجده، كان قد مل الانتظار وانصرف يسكر، عوقب بخصم من راتبه، بعد ذلك كان يأتي كل يوم ويسأل في مسكنة: هل أنا ضروري؟ بلغنا نهاية كوريدور، فتوقفت قائلة: هنا حجرة مظلمة اكتشفتها. قلت: بمفردك؟ انطلقت ضحكاتها. عدنا إلى غرفتها. ماذا كانت تريد من اصطحابي إلى الغرفة المظلمة؟ تناولت كتابا لبلزاك وقالت: الجزء الثاني، قرأت الثالث من قبل، مرعب أن تقرأ من النهاية، كأن تقرأ قصة واحدة في شبابها، وقبل ذلك كنت تقرأ موتها في شيخوختها. دق التليفون. تناولت السماعة ورحبت بأمها. بدا عليها الضيق. أبعدت السماعة عن أذنها ثم أعادتها بعد لحظات قائلة:
خراشو ،
خراشو . دق التليفون مرة أخرى. ردت عليه بسرعة قائلة نعم (
خراشو )، هل أنت في المنزل؟ سأكلمك. كنت أتأمل ساقيها طول الوقت ولاحظت أنها لا ترفع عينيها عنهما.
تركتها ووقفت مع العامل السكران. شكى لي من أن ولديه المراهقين
خوليجانى (متشردان) لا يهتمان بالمدرسة وإنما بموسيقى
الروك
الأمريكية. غادرت المعهد. مشيت منكمشا حتى
الأبشجيتي . وجدت غرفة
لطفي
مفتوحة. كان
فؤاد
الشركسي جالسا بجواره والدموع تسيل من عينيه. طلب مني أن أجلس بجواره. قلت له بقسوة: أنت سكران؟ جاء
حميد
و
بشار . انفجر
فؤاد
في الأول: تقول لي إني غليظ؟ من هو أبوك؟ أنتم جميعا تحت قدمي و
موشيه دايان
أيضا، جاءني جواب أن أخي مات في الحرب. تقيأ. تناولت خرقة بجوار الباب وأزلت آثار القيء. أراد أن يضربني عندما مزحت معه. خرجت مع
لطفي
إلى الكوريدور لندخن. مرت بنا فتاة ممتلئة الجسم ذات بياض شاحب. ابتسمت لنا. غمز لي
لطفي
بعينه، وقال هامسا في زهو: هل تعرف مارشا؟ نمت معها وهي ممتعة.
114
لم أكد أنتهي من تنظيف الغرفة وترتيبها حتى طرق الباب. فتحت لأجد القومندانة أمامي برفقة عدد من الرجال والسيدات المتقدمين في السن. تعرفت بينهم على رئيسة اللجنة الصحية. قالت القومندانة إنهم يمرون على الغرف للتأكد من نظافتها واستأذنت في الدخول. أفسحت لهم الطريق. وقفوا في منتصف الغرفة يديرون البصر في أرجائها. اقتربت القومندانة من الخزانة الخشبية وانحنت تتأمل في ذهول الصور الفرعونية الملصقة. فتحت فمها لتقول شيئا، فانحبس صوتها. قالت لي: انزع هذه الصور حالا.
115
ارتدى
هانز
ملابسه واستعد للخروج. دق باب الغرفة ففتحته لأجد
زويا
أمامي. كانت واجمة وبطنها منتفخا خلف جوبة ملونة وبلوزة. حياها
هانز
في برود واستأذن خارجا. خلعت معطفها ولفاحة رقبتها، فكشفت عن صدرية صوفية يبدو منها أعلى ثدييها. جلست واجمة على حافة الفراش بجواري. سألتني: هل عندك ما يشرب؟ فتحت لها زجاجة نبيذ. نظرت إلى بطنها وقلت: ماذا فعلت؟ قالت: كما يفعل كل النساء. أحطتها بساعدي فدفنت رأسها في صدري. وفي هذا الوضع كنت أرى ثديين ممتلئين بسبب الحمل فيما يبدو. مددت يدي داخل صدريتها وقبضت على ثديها. دق الباب في هذه اللحظة، وعاد
هانز
باحثا عن شيء. هبت واقفة وتناولت لفاحتها ومعطفها، وقالت: يجب أن أذهب الآن فأمي تنتظرني.
116
استدعاني العميد المسئول عن الأجانب. كان طويلا متين البنية يتخلل البياض شعر رأسه ويشاع أنه من رجال المخابرات. رحب بي وأخذني إلى ركن غرفته فجلسنا حول مائدة صغيرة. قال وهو يبتسم: ما هي قصة الصور؟ مما أسمعه أعتقد أنكم لا تحتاجون إليها. قلت: كانت محاولة لكسر جمود التماثيل ورؤيتها من منظور معاصر. قال: والصحف التي تقصها؟ قلت إنها جزء من بحثي عن التاريخ. تفرس في بعينين زرقاوين: أنتما الآن اثنان في الغرفة. اندفع الدم إلى وجهي وقلت: لا. نحن أربعة. قال:
حميد
و
فريد
يقيمان في الخارج. قلت: أحيانا. سألني عن الأوضاع في
مصر . وانتهت المقابلة. خرجت أفكر في مغزاها. هل هي رسالة لي بأنه يعرف كل شيء عني؟ وما هي مصادره؟ استعرضت كل من يترددون على الغرفة. يمكن أن يكون أي واحد أو واحدة. رويت تفاصيل المقابلة
لهانز
مستفسرا عن رأيه. لم يعلق.
117
سألتني
ناديا : إلى أين نحن ذاهبان؟ أتمنى ألا يكون
الأبشجيتي
فأنا معروفة للطلاب. أجبت: اطمئني، شقة صديق. لم تختلج في وجهها عضلة واحدة. فكرت أنها لا تعلم عني الكثير. حتى اسمي لا تعرف كيف تنطقه. كانت ترتدي قبعة صوفية وتلف عنقها بلفاحة من نفس النسيج واللون. تبعتني داخل الشقة وجلسنا فوق أريكة في الصالة. كنت أعددت مائدة حافلة. لكنها لم تأكل شيئا واكتفت بقليل من الفودكا. ولم تهتم بعدم وجود موسيقى. لم تكف عن الثرثرة. سألتني عن
هانز
وإذا كان يأتي إلى هذه الشقة. قلت: أحيانا. قالت: وحده؟ لم تنتظر الإجابة، إنما حدثتني عن شخص أفغاني جميل أحبها ويبعث لها برسائل. سألتها: هل نمت معه؟ قالت: لم يكن هناك وقت. عدت أسأل: هل أحببته؟ قالت: كيف؟ إنه متزوج. ثم سألتني في تردد أو في لهجة من يفكر في شيء معين ويريد أن تأتي لهجة سؤاله أبعد ما تكون عن هذا الشيء: كم تبقى لك من وقت في المعهد؟ وهل ستعود بعد ذلك مباشرة إلى وطنك؟ قلت: لا أعرف بعد. قالت: و
هانز ؟ قلت: نفس الشيء.
لعلها غرقت في حلم يقظة. قالت إنها تزوجت لتتخلص من سيطرة أمها التي تريدها دائما في المنزل في منتصف الليل، وإن زوجها من
البلطيق . كررت أنها لا تحبه. قلت: ربما أراد الحصول على تصريح بالإقامة. قالت بلهجة من فكر في ذلك من قبل: لا أظن، إنه حقيقة لا يريد الإقامة في
موسكو . قلت: إذن ربما كان يحبك. قالت: أعتقد ذلك. اتخذ جسدها وضع المتلقي دون أي حركة إيجابية من جانبي. رفعت كأسها وفعلت المثل. شبكت ذراعها في ذراعي وقبلتني قائلة: الآن كل شيء أصبح وفقا للقواعد. أدركت أني سأنالها الليلة. ومع ذلك احتفظت بحذري فربما تمنعت في آخر لحظة لأي سبب. ثم قلت لها إني أحب أن يكون شعرها منسابا حول رأسها. وأردت أن أفك مشابك الشعر فساعدتني. وبعد ذلك احتضنتها بقوة. ألصقت بي فخذها تتلمس رد فعلي. لكن لم يكن هناك. قلت بلغة متعثرة كأنما أحاول إقناع نفسي: أنا أريدك جدا. أجابت على الفور:
خراشو . أردت أن أخلع لها حذاءها. لكنها رفضت وقالت: يا
سامايا (أنا أفعل)، أين التواليت؟ أطفأت الأنوار. عادت بعد فترة وخلعت ملابسها في خجل. لم ترد أن أنظر إليها، ولم تسمح لي بالاقتراب منها إلا عندما رقدت وتغطت بملاءة . كانت رائحة عرقها غريبة، وكانت هناك أيضا رائحة تأتي من قدميها. جورب لم يغسل منذ عدة أيام؟ كنت ثملا فتمكنت من تجاهل قضية الروائح. كان جسدها ناعما. الثديان على غير ما توقعت؛ ممتلئان في شكل الكمثرى. شفتاها جافتان وعندما أقبلها تبللهما بلسانها. أي لمسة لأذنها تثير ضحكها. رأسها يتحرك دائما ولا يهدأ. انحنيت فوقها وفتحت ساقيها. ثنت ركبتيها قليلا، لكني فشلت في دخولها. أصابني الرعب. أين المكان؟ هل نسيت؟ أو لعلني لم أعرف أبدا. وهذا الامتلاء في منفرجها محير. دخلت لكن بشكل غير كامل. تطلعت إلى وجهها. رغم الظلام تبينت في عينيها شيئا من الذهول والخوف. فقدت انتصابي. واستلقيت إلى جوارها. وضعت يدي تحت ثديها ورفعته في كفي مستمتعا بنعومة المنحنى الذي يربطه بالصدر. أردت أن أقبل بطنها فرفضت. تظاهرت بأني سأقبلها بين ساقيها فابتعدت في حدة. وتركت لي ساقيها بعد أن ضمتهما في توتر وفي نفس الوقت جعلتهما في زاوية تبرز جمالهما وانسيابهما ورفعت رأسها تتأملهما.
وضعت فخذي بين ساقيها وشعرت بسخونتها وبللها فوق ركبتي. حركت ركبتي لكنها لم تستجب. هذه امرأة لا تضيع وقتها في ألاعيب المراهقين. اعتدلت فوقها من جديد، وتمنيت أن تحتضني وتقبلني وتدللني، وتقول إن كل شيء سيكون على ما يرام، وإني أعظم رجل في العالم. وفي ثانية عدت ذلك الطفل الصغير فوق صدر الأم العريض، رغم أني أكبرها بعشر سنوات على الأقل. لكن اللحظة ضاعت. وعدت أعاني من عجزي. قالت في محاولة لتحويل انتباهي إن زميلتها معجبة بي، وإن عمرها 46 سنة وتعيش منذ عشرين سنة في مسكن يوجد به زوجها السابق في حجرة وعشيقته في حجرة أخرى، ولا أولاد لديها بسبب عملية إجهاض وتحن دائما لأن يحبها شاب في السابعة والعشرين ويرغب في الزواج بها. سألتها عن زميلتها الأخرى. قالت:
سفيتا ؟ إنها لا تكتم شيئا، حتى إنها اعترفت لي بأنها نامت مع أخيها الأصغر منذ مدة. وقالت إنها تعرفت
بجاليا
صديقة
عدنان
التي قالت لها أن تتصل بها لو احتاجت إلى ملابس. وذات مرة طلب منها مساعد المدير أن تبحث له عن حذاء لعروسه، فأحضرت جاليا واحدا بمائتي روبل. جذبتها إلي فقاومتني. فكرت أن ما تبديه من مقاومة هدفه استثارتي. لكن هذا لم يتحقق. قلت: إني أخافك وهذا هو السبب. بدأ احتكاك ركبتي بقماش الأريكة يؤلمني. أما هي فلم تبد مللا أو ضيقا. وعندما أدركت أن الموقف لن يتغير قالت في هدوء: كم الساعة الآن؟ لا بد من ذهابي، أنت متعب اليوم. لم أعارضها. شربت كوبا من الماء وارتدينا ملابسنا. في التاكسي سألتني: لماذا أنت مبتئس؟ قلت: آسف لما حدث. التصقت بي وأسندت رأسها إلى كتفي. ونامت.
118
ذهبت إلى غرفتها في المعهد. كانت ترتدي رداء أحمر اللون مشقوقا من أمام فوق ركبتيها. شعرت بعيني تتجهان إلى الشق، فوضعت يدها خجلا فوق فتحة الرداء. سألتها: ماذا ستفعلين غدا؟ قالت لا أعرف. قلت: نتقابل. قالت: في مرة أخرى؛ فسأمر على أمي في الصباح ثم في الساعة الثانية أذهب لإحضار كلب وآخذه إلى المنزل. قلت: إذن في الخامسة قالت: أين؟ قلت: عند نفس المحطة. قالت بضيق: مرة أخرى سأركب الخط الدائري. دخلت زميلتها وهي تهتف: إوزة! يا للعجب! وجدت إوزة، وقفت في الطابور ساعة ونصفا من أجلها. سألته
ناديا
بلهفة: أين؟ أجابت: من حانوت في الجوار، تأتين معي؟ سأمر عليه فربما أصادف شيئا آخر، فاكهة مثلا، نشتري كمية ونضعها في النافذة كي لا تتلف. قالت
ناديا
في استنكار: إذا كان الموز أو اليوسفي أو البيض الفنلندي أو الدجاج الهولندي متاحا اليوم فلماذا لا يكون ذلك كل يوم؟ لماذا يلقون إلينا بالطعام قبل العيد فقط؟ وفي كميات ضئيلة بحيث يضطر الناس إلى الوقوف في طوابير بالساعات؟ ظهر
هانز
عند باب الغرفة. نظر إلي ببرود. قالت
ناديا
إن زوجها الآن في المنزل مع عدد من زملائه وإنها اتفقت مع
هانز
أن يرافقها حتى محطة الباص. غادرت المعهد وحدي ورأيت العامل العجوز ديما داخل حانوت الخمور يتلفت حوله. كان يضع إصبعين على حافة ياقة سترته إشارة إلى أنه يبحث عن شريكين في زجاجة فودكا.
119
انطلقت في الظهر إلى شقة
عبد الحكيم
فرتبتها وحلقت ذقني بعناية. وجدت رسالة مفتوحة فوق مائدة الصالة. تناولتها. كانت موجهة إلى
عبد الحكيم
من صديق له. ألقيت عليها نظرة. قرأت: «(1) رجاء الاهتمام بإرسال خطاب علاج أختي، وأفضل لو تتكرم بترجمته، وسأرسل لكم تقريرا طبيا بالحالة كلها ولعلمك فقد ظهرت بوادر ورم بالثدي الأيسر وبعد اكتشافه بنحو أسبوع أجريت عملية استئصال الورم وتحليله وتبين أنه سرطان، فأجريت عملية استئصال للثدي الأيسر بأكمله والغدد الليمفاوية تحت الإبط ولم تكن ملتهبة. المطلوب دعوتها لاستكمال العلاج بمعهد السرطان
بموسكو
مع أخيها وطبيب مرافق. (2) شراء إكسسوار راديو ترانزستور
ريجا
مع محول كهربائي 21 فولت خاص به. (3) شراء جهازي تدليك للوجه (الواحد ب 11 روبلا) من حانوت ال
جوم . (4) إرسال دواء لمريض بالقرحة يهمني أمره (أربع زجاجات).»
أعدت الخطاب إلى مكانه. خرجت إلى محطة مترو
كييفسكايا
في الخامسة. وقفت أنتظرها في الباحة الخارجية. كنت بردانا وجوعانا ومتعبا وليست لدي أي رغبة. فكرت أن التعب ربما يصرف نظري عن التفكير في عجزي. تأخرت فتمنيت ألا تأتي. سأعود لآكل جيدا وأنام. صعدت الدرج إلى أرصفة القطارات المتجهة إلى الشرق. بحر من البشر يتحدثون لغات مختلفة في ملابس متنوعة الألوان والأزياء، تنبعث منهم عشرات الروائح. وقفت بجوار أربعة من البحارة اقتعدوا الأرض قرب منصة لبيع الشاي والبيرة. اثنان منهم يلعبان الشطرنج. والآخران يتبادلان الشراب من زجاجة فودكا. قال أحدهما للثاني: لا تقلق، القطارات تأتي دائما في موعدها، ربما هي الشيء الوحيد المنضبط في البلاد. مرت فتاة ترتدي معطفا خفيفا فوق سروال متعدد الألوان وتغطي شعرها المضفر بشال أصفر اللون. قدرت من ملامحها وطريقة تصفيفها لشعرها أنها طاجيكية. وكانت هناك عائلات أوزبيكية فوق جوالات تضم ممتلكاتها، وغجريات يبعن أدوات تجميل. كن بجوبات منتفخة في ألوان زاهية وحلي ذهبية تتعارض مع وجوههن المتسخة. سألني أحد الشاربين: من أين؟ قلت: عربي من
مصر . سمعني أحد الأوزبيكيين، فاتجه نحوي وتبعه زملاؤه. كانوا يرتدون الطواقي المزركشة والجلاليب فوق سراويل ملونة وتبدو عليهم الحيرة والارتباك ويحمل أحدهم مصحفا عربيا في يده. خطوت في اتجاه النزول فتبعوني. توقفت فتوقفوا. استأنفت السير فاستأنفوه. هل اختاروني إماما لهم؟
هبطت إلى محطة المترو. في الخامسة والنصف قررت أن أنصرف. شحنت نفسي ضدها: فتاة مستهترة حمقاء بلهاء. أخرجوا سكيرا من مبنى المحطة ووضعوه في عربة إسعاف. جاءت في السادسة إلا ربعا. قالت: متأسفة، لن أتأخر بعد ذلك.
كان شعرها مفكوكا حول رأسها. وكانت ترتدي معطفا جلديا فوق بلوزة سماوية وجونلة قصيرة بين الأخضر والأزرق، وحذاء لامعا برقبة عالية حتى الركبتين. بدت طازجة كما لو كانت خارجة من الحمام. ذهبنا إلى الشقة. رفضت أن تأكل وشربت قليلا جدا. قالت حدثني. ملت عليها لأقبلها. أبعدت وجهها. حاولت مرة أخرى. أعطتني شفتيها. انتصبت. التصقت بها كي تشعر بذلك وتطمئن. بعد لحظة صمت طلبت منها في حرج أن ترقد. غادرت الغرفة وأحضرت مرتبة ووسادة بسطتهما فوق الأرض. عند عودتي وجدتها قد أطفأت النور ووقفت أمام النافذة وقد خلعت رداءها، وبقيت في قميص داخلي. بسطت المرتبة فوق الأرض. خلعت ملابسي ووقفت إلى جوارها. وضعت يدي على ظهرها وقدتها إلى المرتبة. استلقت عليها وفوجئت بالحيوية تدب في جسدي. اعتدلت فوقها. حاولت لكني لم أتمكن من تحديد المكان. فقدت حيويتي. قلت لها بنبرة اتهام: لماذا طردتني؟ أنت ماكرة. قالت: لست ماكرة، أنت ساذج. قالت بعد لحظة: أنت تعتقد أني سيئة. قبلتها في حرارة مفاجئة وتحركت تحتي. عضضت شفتيها. قلت إني أريد أن أضربها بسبب تأخرها. كنت أبحث عن ذلك الشيء الذي يمكن أن يشعلها ويشعلني بالتبعية. لكن استجابتها كانت طبيعية دون توتر أو رفض ودون حماس. عضضت شفتها عدة مرات. استعدت حيويتي. أردت أن أهتف بالروسية:
هورا . رفعت المخدة من تحت رأسها لأن فتحتها كانت إلى الخلف قليلا على غير العادة. زحفت داخلها وهي تتأوه تأوهات صغيرة غير حارة. أو ربما متكلفة. كانت عيناها مفتوحتين على سعتهما، وربما تتألم قليلا لأني لم أكن أتحرك حركة المدرب وبشيء من فجاجة الغشيم. وعندما شعرت بي أتطلع إلى وجهها أغمضت عينيها متظاهرة بالنشوة. كلما ازددت ثقة تضاعفت حيويتي. بدأت أتحرك في بطء وهي تستجيب دون أن تبدر منها أي حركة أو فعل. كانت ضيقة للغاية. خبرة محدودة؟ أم لم تجرب الحمل؟ شعرت بالنتوءات الدائرية التي أحاطت بي وأوشكت أن أنتهي فتوقفت عن الحركة. حاولت عدة مرات. وأردت أن أعرف مدى استجابتها: هل تتأخر أم تنتشي بسرعة. قلت لها: أريد أن نأتي سويا. لكني لم أتمالك نفسي فدفنت رأسي في عنقها وتحركت وهي تستجيب دون ارتعاشة ما. قبلت ساعدي. دفعتني بعد قليل خارجها. وقامت إلى التواليت. عادت لترقد من جديد. سألتني في حذر عن نفسي. سألتها عن مدى استجابتها. قالت: بسيطة وسريعة. قالت: أشعر بالراحة. قلت: لا أعتقد. قالت: لماذا؟ قلت: لأنك لم تأت. قالت: هكذا تظن؟ بعد نصف ساعة فوجئت بنفسي أستعيد حيويتي. طلبت منها أن تحرك عضلتها لكنها لم تفهم. انتهيت فجأة. لم يكن أدائي جيدا. ربما لأني لا أعرف بعد ماذا يثيرها. وربما كان تعثر اللغة هو السبب. أو كنت أبحث عن شيء لا وجود له.
120
تطلعت من خلف زجاج النافذة إلى الجليد المتراكم. قلت
لهانز : أتذكر فيلم
فيلليني
عندما صعد الرجل المجنون إلى أعلى شجرة وصاح: أريد امرأة؟ أهو أنا هذا المجنون. اتجهت إلى فراشي وأنا أردد: تعالي لي يا أمي. رقدت وجذبت الأغطية فوقي قائلا: تعبت، لا يمكنك أن تتصور أني تعبت إلى هذا الحد.
121
رأيت باب غرفة
لطفي
مفتوحا وهو جالس في ملابس أنيقة يقرأ كتابا عن فلسفة الجمال. وجهت إليه التحية فدعاني للدخول. جلسنا نثرثر. سمعت وقع أقدام سريعة في الكوريدور فنهض واقفا وهو يقول:
مارشا . لكن الأقدام تجاوزت باب الغرفة وتبينا أنها لفتاة أخرى. عاد إلى مكانه فوق الفراش، وقال إنه أنهى الموضوع معها تماما، وإن زوجته ستأتي من مصر بعد ستة أيام. جاء
حميد
و
شريف . استمعنا إلى راديو
صوت أمريكا
بعد أن أغلقنا الباب جيدا. استطعنا أن نتبين بعض ما قاله رغم التشويش. قال إن حكام
بكين
يرون أن
بيتهوفن
مع
شوبرت
و
موتسارت
يعزفون نغمة على «صندوق النقود الرأسمالي القديم». وعلق الراديو بأنهم انزعجوا من الاستقبال الحماسي الذي لاقته ثلاث أوركسترات غربية في العام الماضي فشنوا هجوما على الموسيقيين المنحرفين. وقالت إحدى صحفهم إن
بيتهوفن
كان رأسماليا ألمانيا بينما ترجع كآبة
شوبرت
إلى اضطهاده من قبل حكام النمسا الإقطاعيين، وإنه لو كان ماركسيا جيدا لأكمل السيمفونية الناقصة. أما
موتسارت
فلا يستحق أي اعتبار لأنه لم يكتب شيئا يمكن مقارنته ب «الفتاة ذات الشعر الأبيض» وهو باليه ثوري صيني. ضحكت عندما تذكرت أني قرأت في صحيفة مصرية كيف يحرم داعية إسلامي مشهور الاستماع إلى
بيتهوفن .
122
ذهبت مع
لطفي
إلى
عبد الحكيم . وكان لديه بعض الطلبة المصريين. ذكر أن
هيكل
ألمح في مقال له إلى أن الإسرائيليين لن ينسحبوا خطوة واحدة بعد الآن. قال
لطفي
إن
السادات
يبيع البلد للأمريكان، وإن الطلبة المصريين في جامعة
موسكو
علقوا جريدة حائط رسموا فيها
السادات
محتضنا
ميمي شكيب
المتهمة الرئيسية في قضية شبكة الدعارة، وكتبوا تحتها: «الانفتاح على أمريكا». وذكر آخر لا أعرفه أن الصحف المصرية تنشر تسجيلات تليفونية للفنانات المتهمات في القضية. وإن واحدة شهيرة قالت للمتهمة الأولى: «عجوز عجوز، ابعتيه وأنا أوقفه بسهولة.» وفي التحقيق قالت لوكيل النيابة: جاي تشطر علي، متروح تشوف أمك وأختك. انتقل الحديث إلى أوضاع الصحافة في
مصر ، فقال
عبد الحكيم
إن
علي أمين ، بعد تعيينه مكان
هيكل
في جريدة الأهرام، كتب يطالب بتعويض الفنانات اللاتي اعتقلن في شبكة الدعارة عما لحق بهن من إساءة. وصرح في التليفزيون أنه سيلبس جريدة الأهرام أولا ملابس داخلية ثم الخارجية بعد ذلك. وقال
شحاتة
إن المصريين في كلية الفلسفة اجتمعوا في ندوة لمناقشة مقال
توفيق الحكيم
عن عودة الوعي، لكنهم فضلوا أن يلعبوا لعبة الأطفال المعروفة باسم «عروستي». وعلق بقوله إن جميعهم تجاوزوا السن التي يسيطر عليها الفضول والتوهج، وكل ما يطمحون إليه الآن هو ضمان مستقبلهم أي الاستقرار وشراء سيارة وثلاجة ومعرفة من أين تؤكل الكتف. وضرب
زكي
مثلا بما يشغل كبار الموظفين المصريين بحكاية مبعوثي هيئة التصنيع المصرية الذين جاءوا
موسكو
للتدريب. ففي مطار
القاهرة
وزعت عليهم أكياس من صابون الغسيل والطحينة ليسلموها إلى مندوبي الهيئة في
موسكو
الذين سيتاجرون فيها.
123
جلست أعمل في المساء. وجاء
بلماجد
فأعددت له شايا ثم
أنستاسيا
و
حيدر . وبعد انصرافهم جاءت
مارشا
تسأل عن
هانز . دعوتها للدخول وقدمت لها الشاي. كانت متأنقة قليلا في سترة وردية فوق بنطلون أحمر اللون يذكر بملابس المحكوم عليهم بالإعدام. جلست إلى طاولتي واستأنفت العمل. تأملتني برهة ثم قالت إنها كانت من قبل مغرمة بقص الموضوعات المختلفة من الصحف. وإنها تقص من الصحف الفرنسية التعليقات على الأفلام الجديدة. وعندها الآن مكتبة ثمينة من الكروت، فهي تعرف مثلا متى كان أول فيلم
لمارلون براندو . قالت إنها تريد أن تسمع
باخ . وضعت الأسطوانة. طلبت مني أن أواصل العمل. حانت مني نظرة إليها فوجدتها تضع ساقا فوق الأخرى كاشفة عن ركبتها الممتلئة. سألتها لماذا تتجنب النظر مباشرة إلى عيني الشخص الذي تتحدث معه وتنظر بدلا من ذلك إلى كتفه. قالت: هذا يسهل علي مهمة الكلام. وجاءت
هند
تسأل عن
هانز
فقدمت لها الشاي. قالت إنها تريد حكمة تعلقها في مدرسة للبنات، فقلت: «السكوت من ذهب». انصرفتا سويا. جاء
لطفي
متأنقا قائلا إنه يريد أن يشرب الشاي وأدركت أنه يبحث عن
مارشا . فقلت له إنها كانت هنا منذ قليل. قال إن الأمر انتهى بالنسبة إليه.
124
بسطت الصحيفة المصرية أمامي، ولمحت في ركن منها فقرة دينية تروي جانبا من سيرة
الرسول . كان التعب والإعياء قد نالا منه، فدخل غارا برفقة
أبي بكر الصديق
ونام مسندا رأسه إلى فخذ الصديق. لدغت أفعى الأخير لكن مكان رسول الله منه منعه من أن يتململ. فلما اشتد به الألم تحدرت دموعه فسقط منها شيء على وجه الرسول فاستيقظ. قال له ما لك يا
أبا بكر ؟ فأطلعه على ما حدث. فتناول
رسول الله
قدمه وتفل عليها من ريقه المبارك الذي هو بلسم شاف فبرأت بإذن الله تعالى .
وجدت في هذه القصة موضوعا للتفكير. فهي أولا قد تكون إما حقيقية أو مختلقة لمواجهة الإيمان الشائع بالمعجزات المسيحية. وإذا كانت الأولى فربما كان شفاء أبي بكر يستند إلى ما يتمتع به الرسول من قدرات خارقة، وربما كان السبب هو إيمان أبي بكر بهذه القدرات. فقوة الإيمان تصنع المعجزات. تذكرت
ويليام
الإنجليزي الذي أصيبت أمه بالسرطان وشفتها تدريبات
اليوجا .
125
كنت أعرف
سامي ناشد
من الجامعة. وجرى اعتقاله أيام
عبد الناصر
بتهمة الشيوعية. وبعد حرب 67 استقر في بيروت. والآن جاءني منه تليفون أنه في
موسكو
بدعوة من لجنة التضامن الآسيوي الأفريقي. وأين؟ في الحجر الصحي. غادرت
الأبشجيتي
بعد أن أخذت العنوان من الحارسة. بدا اليوم صافيا. والتمعت الثلاثون سنتيمترا من الجليد الجديد تحت أشعة الشمس. وازدحمت قطارات المترو بهواة الانزلاق على الجليد المغادرين للمدينة. وامتلأت الشوارع بعاملات كنس الجليد، وشبكات النساء بالبرتقال، وجيوب الرجال بزجاجات الفودكا، وأذرعهم بأشجار عيد الميلاد. ركبت المترو إلى خارج
موسكو . بعد استفسارات عدة وصلت إلى أرض فسيحة تغطيها الأشجار. وجدته في قفص واسع محاط بالسلك كأقفاص حدائق الحيوان. كان يرتدي بزة أنيقة تحت معطف من الشامواه. استغرقت في الضحك وشاركني هو بعد لحظات. وضح لي أنه استعد للزيارة بملابس جديدة فاخرة تحدوه الآمال في غزوات نسائية. قال لي إنه بمجرد وصوله أبلغ السلطات السوفييتية عن إصابته بإسهال شديد فاحتجزوه في الحجر الصحي، وإنه سيبقى به حتى موعد عودته بعد عشرة أيام. تحدثنا عن الحياة في كل من
بيروت
و
موسكو . قلت لو أجريت انتخابات حقيقية هنا لخسر الحزب الشيوعي. صدمه كلامي. قال إن صحيفة لبنانية يسارية زعمت أن
كيسنجر
نصح
السادات
بعد تعثر المحادثات مع
إسرائيل
بتحريك الموقف على الحدود، ومعنى هذا أن عبور
القناة
نال الضوء الأخضر من
الولايات المتحدة . وأكدت الصحيفة أن تخفيض إنتاج البترول أخرج أمريكا من متاعبها الاقتصادية لأنه رفع الأسعار وزود البنوك الأمريكية بمليارات
الدولارات
التي قامت بتدويرها. وعدته بتكرار الزيارة وتركته متعلقا بسلك القفص. ركبت المترو ووقفت أمام عجوز ضاحك الوجه يحمل في يده زجاجة فودكا مفتوحة. ابتسم لشابين ورفع الزجاجة إلى شفتيه وهو يردد ما بدا بيتا من الشعر: أشعر بالضجر وأريد أن أسكر. عنفه شاب متحذلق أحمر الوجه قائلا: ممنوع الزجاجة في المترو. خلا مقعد أمامي فجلست شاردا. خاطبتني سيدة خمسينية واقفة: أيها الشاب، ألم يعلموك في المدرسة أن تحترم السيدات وتترك لهن أمكنة الجلوس؟ نهضت معتذرا بأني لم أنتبه. جلست السيدة وهي تتطلع حولها لترى أثر المشهد في الجالسين. وتشاغلت بتأمل محطة بنيت جدرانها من الجرانيت الأحمر وزينت بالزجاج الملون وثريات الكريستال.
126
آخر يوم في السنة.
الأبشجيتي
هادئة تماما طوال اليوم. جلست في حجرتي أستمع إلى «النيل نجاشي» لمحمد
عبد الوهاب . ثم بدأنا نستعد للسهرة. وضعنا 3 زجاجات شمبانيا في النافذة مع زجاجة فيرموت بولندي و3 زجاجات فودكا. وأعددنا أطباق الخيار واللحم البارد وسمك الرنجة المقدد. قبل منتصف الليل بساعة تصاعدت الضجة من غرفة
خليفة . جاءت
أنستاسيا
في بنطلون من المخمل الأسود وبلوزة من المخمل الأخضر. وضح أنها ترتدي مشدا على بطنها لتخفي سمنتها. وكانت قد صففت شعرها خصوصا ووضعت مكياجا ثقيلا. وانبعث منها عطر فرنسي. أحضرت لكل منا زجاجة كونياك صغيرة ملفوفة بشريط أحمر تتدلى منه عروسة خشبية صغيرة. قدمنا لها 4 علب
مارلبورو
وسوارا معدنيا وشوكولاتة غربية. تبادلنا القبلات. قالت إن الطالبات غارقات الآن في خلط الدقيق بالملح انتظارا لمنتصف الليل عندما يلقين بأحذيتهن من النوافذ، وفي الصباح يهرعن في لهفة إلى الخارج وتقبل كل منهن أول رجل تصادفه إلى جوار الحذاء ويصبح حبيبها. نظرت إلى
هانز
وأضافت: لم أفعل مثلهن لأن رجلي هنا. أحاطته بذراعيها فقبلها. خرجت وعادت بجهاز راديو وشجرة صغيرة رائعة وضعناها على المائدة فوق قطعة من القطن. أطفأنا النور فيما عدا مصباح المكتب.
صعدت لغرفة
سفيتلانا
لأدعوها فعرفت أنها سافرت إلى
براغ . عدت إلى غرفتي. تركنا بابها مفتوحا، ووقفنا نحن الثلاثة، وفتحنا زجاجة شمبانيا وانتظرنا انتهاء كلمة بريجنيف من الراديو. كان يتكلم ببطء ويتعثر كأنما يجد صعوبة في النطق. ثم شربنا نخب العام الجديد . وبدأت الضجة. ظهر شاب كازاخي يحمل زجاجة شمبانيا وكوبا وأصر أن نشرب معه ثم انطلق يدق أبواب الغرف ليسقي أصحابها. وبدورنا أخذنا نجذب كل من يمر ليشرب معنا. مرت
لينا
ومدت يدها لأقبلها فتجاهلتها وجذبتها إلي محاولا تقبيل فمها. أشاحت بوجهها وسألتني: افتقدتني؟ قلت: طبعا. دخلت فأشعلت الضوء وتطلعت إلى المائدة. مدت يدها والتقطت في لهفة شريحة خيار وقطعة سمك وسيجارة مارلبورو وانصرفت. بدأ السكارى في تحطيم الزجاجات في نهاية الكوريدور. ورقصوا على طريقة القوزاق صارخين
كالينكا كالينكا مايا . جاءت
هند
و
كوليا
ووقفا لحظة حائرين ثم انصرفا. جاء
حميد
و
شريف
وصديقتاهما ثم
بشار
و
هيلين . قدمت لهم الشمبانيا ورقصت
هند
في حضن
حميد . جاء
حيدر
ثم فتاته المنغولية تبحث عنه. تبعهما
ميخا
سكرانا. احتضن
هانز
وقبله في فمه. جذبنا أحد الجزائريين الذي كان وحيدا حزينا. ظهرت أنار الآسيوية في جوبة قصيرة ومعها شاب تشيكي فجذبتهما إلى الداخل. رقصت معها، ودار حديث حول
هانز
الذي كان في حضن
أنستاسيا . قالت إنه أجمل شاب في المعهد. صمتت لحظة ثم قالت: أنا ما زلت عذراء. تصور! لأني أنتظر الحب، هناك ألف رجل لو أردت، أنت تعرف مأساة بنت مثلي شرقية. قالت إنها قضت ليلة مع
هانز
وخرجت من عنده محتفظة بعذريتها. قلت لها: إذا كنت تريدينه فاحصلي عليه لأنه سيترك
أنستاسيا
غدا. قالت إنها تؤمن بأن الرجل هو الذي يجب أن يأخذ الفتاة. قلت إنه ليس كذلك ويمكن لأي فتاة أن تسحبه. قالت أعرف أنه
دوراك (أبله). غادرت
أنستاسيا
الغرفة فرقصت
أنار
مع
هانز
ثم وقفا خلف الخزانة. أعطيتهما ظهري ووقفت عند الباب. رأيت
أنستاسيا
قادمة. حلت بينها وبين الدخول وسألتها إذا كانت رأت ناديا. قبلتني في خدي وقالت بالإنجليزية التي تتحدثها عندما تسكر إنها تعرف أني وحيد وتود لو ساعدتني ولكن ليس بيدها حيلة. دخلنا الغرفة فرأت
هانز
و
أنار
خلف الخزانة. جلست ثم طلبت مني بعد قليل أن أساعدها في التخلص من
أنار . طلبت
أنار
للرقص. فأخذت
أنستاسيا هانز
وخرجا. قلت لأنار: ما هي الأخبار؟ قالت: حدثني عن شفتي وصدري، وطلب مني أن أستلقي على الفراش، ليس هذا ما أريده. قلت: أنت مخطئة. قالت: أعرف. ثم ذهبت قائلة إنها ستعود. وقفنا ننتظرها أنا والتشيكي السكران، ثم انصرف وبقيت بمفردي. جاءت
مارشا
وتطلعت بحثا عن
لطفي
فيما يبدو ثم انصرفت. جلست وحيدا في الغرفة أمام المائدة والشجرة في مواجهة الباب. عاودتني آلام البروستاتا ثم قررت أن أشرب قهوة
بالماروجنا . أخذت الإبريق إلى المطبخ ووجدت
أنار
برفقة ولد جميل من
لاتفيا . كان يتحدث عن فترة تجنيده وذهابه إلى حملة
تشيكوسلوفاكيا
والأوامر بمنع إطلاق النار، بينما الألمان والبولنديون كانوا يطلقون بمنتهى السهولة. وكيف مات روس كثيرون. وكيف جلست النسوة في الشارع في مواجهة دبابة روسية كانت تقترب في سرعة، وعندما فوجئ قائدها بالنسوة انحرف يمينا فسقط في النهر برجاله وأسرعت النسوة إلى حافة النهر وجلسن يبكين حزنا على ما أصاب الروس. تركتهما وعدت إلى الغرفة. استلقت أنار على الفراش فتعرى فخذاها. جاءت
زويا
يتقدمها بطنها وبرفقتها زوجها. امتنعت عن الشراب ثم انصرفا بعد قليل. وبدأ الجميع في الانصراف. خرجنا إلى الشارع البارد. كونت نساء الحي حلقات رقص جماعية بصحبة الأكورديون. وكان بعضهن في ملابس كرنفالية ورددن بصحبة الأكورديون أغاني شعبية تشبه العديد وتدور حول أحجام العضو الذكري وعجز الرجل أو غيابه. وصاحت إحداهن وهي تترنح من السكر: أريد رجلا حارا. عدنا إلى الدار، وكانت أصوات الصخب تتصاعد من كل طابق. جلسنا أنا وحميد وشريف نثرثر. سألاني عن كيفية الاحتفال برأس السنة في مصر. دخل هانز مخمورا فواصلنا الحديث. ثار وقال إنه سيخرج لأنه يشعر أنه غريب ولا أحد يريد الحديث معه، الجميع يتحدثون بالعربية. وأضاف باكيا: أنا وحيد، وحيد. جمع بعض أغراضه وحملها ثم رمى مفتاح الغرفة على الأرض وخرج وصفق الباب وراءه. استولى علينا الوجوم. انصرف
شريف
وبقي
حميد . عرضت عليه أن يبيت عندنا. بعد حوالي الساعة دقت ضربات قوية الباب فنهضت وفتحته. فوجئت
بهانز
يتهاوى ويرتمي على العتبة وهو يغمغم شيئا بالألمانية. كان حافي القدمين بقميص ممزق والدماء تلوث وجهه. سحبناه إلى الداخل ومددناه على السرير وأخذنا نمسح الدم عنه. اكتشفت أنه عار من سرواله الداخلي. وجسده كله مغطى بكدمات زرقاء. بسط
حميد
الغطاء فوقه فقبض
هانز
على ساعده. قبله
حميد
في جبهته فجذبه
هانز
إلى أسفل. ابتعد
حميد
بسرعة. استغرق
هانز
في النوم. خرجت إلى الكوريدور وأشعلت سيجارة. انضم إلي
حميد . قال بلهجته الشامية: هل تعرف ماذا فعل العرص عندما قربت وجهي منه؟ مد لسانه وحاول أن يدخله في فمي. هز رأسه متقززا. مشينا إلى نهاية الكوريدور. تناهت إلى مسامعنا ضجة خلفنا. عدنا إلى الغرفة بسرعة. كان بابها مفتوحا وبضعة أشياء ملقاة إلى جانبه. ووقف ثلاثة من الطلبة السوفييت أقوياء البنية يصرخون بغضب شديد. أحدهم رئيس لجنة الطلبة. وكان الثاني ذا ملامح آسيوية. بينما كان الثالث قوزاقي الملامح. ورأيت
هانز
مقرفصا عاريا في الركن. صاح الطالب الآسيوي: عرب منحلين مثله، وإلا فلماذا يصاحبونه ويؤونه عندهم. تدخل رئيس مجلس الطلبة على الفور وقال بلهجة رادعة: اخرس، لا تقل ذلك. التفت إلينا وأضاف: ضبطوا
ميخا
راكبا فوقه. تعاونوا في سحبه إلى الكوريدور ثم رفسوه بأقدامهم نحو السلم ودفعوه فتدحرج إلى أسفل. هبطوا خلفه. وقبل الفجر أعادوه ملفوفا في بطانية رمادية. وكان عاريا تماما. ألقوه فوق فراشه وخرجوا. التفت إلينا أحدهم وقال: إذا كان هذا الأمر مألوفا في بلادكم فإن الدستور السوفييتي يعاقب عليه بالسجن خمس سنوات. وضعت بطانية أخرى فوق
هانز . كانت عيناه مفتوحتين وحولهما كدمات زرقاء داكنة. قلت
لحميد : ألا يجب أن نستدعي الإسعاف أو ننقله إلى مستشفى؟ جاءنا صوت واهن من هانز: لا أريد، لا أريد. غادر حميد الغرفة لينام في أخرى. خلعت ملابسي واستلقيت على فراشي. لم أتمكن من النوم. تسلل ضوء الفجر من النافذة. قمت وارتديت ملابسي والمعطف والشابكا والكوفية والقفاز. غادرت
الأبشجيتي . كان الثلج يتساقط بسرعة وكثافة. وغطى كل شيء - حتى الأشجار - باللون الأبيض. وتراكم فوق معطفي وقبعتي وحاجبي. بدأت أطرافي تتجمد، فاستدرت عائدا إلى
الأبشجيتي .
مصر الجديدة ديسمبر 2010
Page inconnue