الفصل الأول
لم يكن توفيق في أول أمره واسع الثراء وإنما كان واسع الذمة، وقد استطاع بضميره المنعدم أن يجمع ثروة ما كان ليصل إليها بغير الذمة الخربة. ولو كان ضميره واعيا بعض الوعي لما بلغ الثراء الواسع الذي وصل إليه.
أبو توفيق يملك عشرين فدانا، وكان الشيخ صبحي الحسيني قنوعا ذا دين وورع وتقوى، فكان مكتفيا بما تغله أفدنته القليلة. ولم يكن له ورثة إلا ابنه توفيق، وقد نال توفيق من التعليم أيسره. فقد أمضى سنة في المرحلة الثانوية ثم خذله الجهد وكبت به الجياد، وذهب ليستقر مع أبيه في قرية الولجة، وإن كان قليلا ما يمكث بها؛ فقد كان دائم التنقل. وهو كان بلا ورع، وكان يتقاعس عن القيام بفروض الله. وكان أبوه يحاول أن يعظه فيذهب وعظه أدراج الرياح، ولا يستقبله من ولده إلا آذان صماء ونفس رافضة، فقد كان كل همه منصرفا إلى جمع المال.
وفي يوم طالع الوالد ولده قائلا: قد عزمت على الحج في عامنا هذا إن شاء الله. - الحج! ومن أين لك المال؟ - دبرته والحمد لله. - متى؟ - من قبل وفاة أمك رحمها الله، فقد كنا في عام وفاتها ننوي الحج وكنت عازما أن أبيع فدانا أحج به. - تبيع فدانا، أهذا معقول؟! - طبعا الفدان عندك أهم. على كل حال لقد اختار الله أمك إلى جواره، وأنا رأيت أن أقتطع جزءا من إيراد الأرض في كل عام، وأصبح عندي اليوم ما أظن أنه يكفيني بإذن الله. ولا تخف فإن هذا الحج لن يؤثر على ما أحفظه للزمن. - والله حرام عليك. - اخرس يا فاجر ... أحرام أن أحج؟ وتحلف أيضا. - تضيق علينا العيش وتحرمنا من الضرورات لكي تحج أنت؟ - أي ضرورات حرمتك منها؟ ها أنت ذا مثل الثور لا ينقصك طعام، وملبسك لائق. ولكن ليس عجيبا عليك أن تكفر بالنعمة ما دمت كفرت بالله سبحانه ... قبحك الله! - الحج فريضة على من استطاع إليها سبيلا. - وأنا أستطيع إليها سبيلا. - بضيق الإنفاق الذي نعيش فيه. - المال ما زال مالي وأنا حر فيه. وأنا سأحج هذا العام غصبا عنك، وسواء عندي رضيت أم لم ترض. - طيب فكر في صحتك. - ما لها صحتي، هل شكوت إليك مرضا؟ - وبغير أن تشكو. لقد كبرت في السن وأصبحت غير قادر على أداء مناسك الحج. - أرجو الله أن أموت هناك فأدفن بجوار النبي، عليه الصلاة والسلام، وأرتاح منك ومن زندقتك. - لا قدر الله ... ولكني أخاف عليك. - أنت لا تخاف علي، بل أغلب الأمر أنك تتمنى موتي لتنفرد بالأرض. - هل معقول ألا يخاف الابن على أبيه؟ - نعم إذا كان الابن جاحدا زنديقا. - أنا جاحد؟ - ها أنت ذا تجحد النعمة التي تعيشها عيشة لا ينقصك فيها شيء. - أنا فقط أرجو منك أن تجعلنا نعيش في سعة، ما دام عندك من المال ما تستطيع أن تحج به. - لقد كنت أجمع ما أحج به من حر مالي، وأنت لا تشعر بشيء ينقصك ففيم اعتراضك؟ - أنا خائف على صحتك. - كذاب. وعلى كل حال سأحج بإذن الله. - أمرك. •••
وسافر الشيخ صبحي الحسيني إلى الحج وانفرد توفيق بالأرض، ولكنه لم يستطع أن يصنع شيئا بانفراده بها فهي ما زالت ملك أبيه.
ويشاء العلي القدير أن يموت الحاج صبحي بالحجاز بعد أن أدى المناسك. وكأنما استجاب له المولى جل جلاله، وكأنما أراد له سبحانه أن يريحه من ابنه هذا الجاحد الزنديق، وله الأمر من قبل ومن بعد.
الفصل الثاني
وجد توفيق في خزانة أبيه ألفين وستمائة وخمسين جنيها كانت كافية ليبدأ حياته الجديدة، ويحقق جشعه البشع للحصول على المال.
فبعد وفاة أبيه بأيام قلائل قصد إليه عبد الموجود مصيلح: أهلا وسهلا بالشيخ عبد الموجود. - أهلا بك. كيف الحال؟ - معدن والحمد لله، لولا حزني على أبي رحمه الله. - ربنا أكرمه ودفن في أطهر مكان على البسيطة. - والله لقد طلب هو ذلك. - كلنا سنموت. ومن نعم ربنا عليه أن استجاب لدعائه. - النهاية ... شرفت يا شيخ عبد الموجود. - أنا أعلم أن الوقت غير مناسب، ولكنني معذور في قرشين. - تحت أمرك. - مائتا جنيه أردها إليك بعد شهر. - وكم تردها؟ - كم أردها؟! - طبعا، لا يمكن أن تردها كما أخذتها. - سبحان الله. - سبحانه. - أتريد أن ترابي يا ابن الحاج صبحي؟ - هذه فوائد وليست ربا. لقد كنت خليقا في هذا الشهر أن أستثمر المبلغ ويعود علي بربح. - ولو أن الحرمة تقع على المستلف بالربا وعلى من يسلفه، ولكني في حاجة شديدة لهذا المبلغ. كم تريد ربا له؟ - ليس ربا. - هو الربا بعينه، ولكني مضطر أن أعتبره كما تسميه أنت. ليكن فوائد. - كم تريد؟ - آخذ المائتين ثلاثمائة. - يا نهار أسود من الحبر! تأخذ ربا خمسين في المائة. - وأكثر ... - لا حول ولا قوة إلا بالله. - إذن تكتب وصل أمانة بثلاثمائة جنيه. - وصل أمانة؟ - لأضمن حقي. - والكمبيالة لا تضمن حقك؟ - لا أحب المحاكم. - افعل بي ما تشاء. اكتب وصل الأمانة. - ما دمت تعرف القراءة والكتابة فلتكتب أنت، وأنا أملي عليك. - أمرك. - هذه ورقة وهذا قلم ... اكتب يا سيدي. - بل أنت سيدي وسيد ظالم ... أمري إلى الله. - سبحانه جل شأنه. - أتعرفه؟ - هل ستكتب أم ستطيل لسانك؟ - أكتب. - اكتب في أول السطر: تسلمت أنا ... - ألا نقول بسم الله الرحمن الرحيم؟ - كما تشاء. - الواقع لا لزوم لذلك، فإن ما نفعله لا يصلح معه اسم الله. كره الله هذا والمؤمنون. - هل ستكتب أم نلغي الصفقة؟ - أكتب. - اكتب. •••
وهكذا لم تمض ثلاث سنوات حتى أصبحت العشرون فدانا أربعين. وكان توفيق كلما زادت ثروته ازداد بخله، فهو كز مقتر لا يخرج قرشا إلا بعد مفاوضات عريضة مع نفسه.
Page inconnue