ويمكن أن نوضح ما يعنيه «روس» بقولنا: إن الجيش القوي يظل قويا، صادفته مقاومة أم لم تصادفه؛ فالمقاومة - إن وجدت - لا تخدم إلا في إظهار مدى قوته، لكنا إذا تساءلنا هل يستحق الجيش الثناء سواء برهن على قوته في لهيب المعركة أم لا؟ فأنا أميل إلى رأي مخالف، إذ يصعب علي جدا أن أفهم كيف يمكن أن تظل القيمة الأخلاقية باقية كما هي سواء كانت المقاومة ضعيفة أم قوية. وإذا سلمنا بأن السلوك الخير يظل خيرا، فهل تظل القيمة الأخلاقية التي تعزى إلى هذا السلوك في الظروف المختلفة هي هي؟ هل نبدي نفس الإعجاب للرجل الفاضل الذي يعيش وسط إغراءات الغواية، ولكنه مع ذلك يسلك سلوكا فاضلا، والرجل الذي يسلك سلوكا فاضلا دون أن تكون حوله غواية ولا إغراء يشدانه إلى الاتجاه الخاطئ؟
في اعتقادي أنه كلما أصبح الفعل الأخلاقي سهلا عن طريق العادة، ظلت سلامته الأخلاقية تامة غير منقوصة، لكن قيمته الأخلاقية تتناقص بالتدريج مع تناقص الجهد المطلوب، أعني في الحالات التي نحكم فيها على هذا الفعل بأنه أصبح سلوكا معتادا. لكن لماذا ينبغي علينا أن نفعل ذلك؟ لأننا نعتبر سلوكا خيرا بناء على الجهد الأخلاقي الذي يبذل في هذا السلوك قبل أن يتحول إلى عادة سهلة ميسورة، فإذا ما تكرر نفس هذا السلوك الخير في نفس الظروف، فليس ثمة ما يدعونا إلى أن نعكس حكمنا الأخلاقي.
ومن هنا كان الفعل الأخلاقي - فيما أعتقد - أشبه ما يكون بالإنتاج الفني، أعني أنه لون من الخلق الحقيقي الأصيل، يعزى في هذه الحالة إلى الأفعال الأولى في السلسلة، بينما لا تكون الأفعال التالية سوى «تقليد» أو محاكاة. وإنه لمن الخطأ أن نعزو خصائص واحدة لجميع أفعال الفرد المتشابهة، على اعتبار أنها جميعا لها بالضرورة هوية واحدة، في حين أنها في الواقع لا تتشابه إلا من حيث نتائجها فحسب، أما النشاط الذي يبذل فيها فهو مختلف أتم الاختلاف، صحيح أن الأفعال التالية لها نفس شكل الفعل الأول، لكنها تنقصها الماهية التي تجعلها فعلا أخلاقيا حقيقيا، أعني ينقصها؛ ذلك الجهد الذي يبقي المثل الأعلى في الانتباه ويطرد الرغبة. ومقارنة الرجل الفاضل الذي تقل خيرية سلوكه شيئا فشيئا كلما أصبح هذا السلوك سلوكا معتادا - لا تصبح بعد ذلك مفارقة. ولقد ظهرت هذه المفارقة أمام «روس»؛ لأنه عالج جميع الأفعال في سلسلة الفعل الذي يتكرر معالجة واحدة، في حين أننا ينبغي أن ننظر إلى كل فعل كشيء عيني يدرس ويحكم عليه بذاته. وخيرية الرجل الفاضل لا تقل ولا تنقص إذا حكمنا عليه بأنه خير وفاضل بناء على أفعاله الأولى، أعني تلك الأفعال التي كان فيها جهد وصراع. (18) إذا نظرنا إلى الإرادة على أنها تحقق لفكرة الوجود المتغير - داخليا أو خارجيا - وهي الفكرة التي يحقق الفاعل من خلالها ذاته المثالية، يعبر بالتالي عن هذه الذات - أقول إننا إذا نظرنا إلى الإرادة على هذا النحو لاتضح لنا - في الحال - الفرق بين الإرادة والفكر. ففي الإرادة لا بد أن تخرج الفكرة من حدودها العقلية، بحيث تتحقق في الوجود، بينما نجد أن الفكرة من حدودها العقلية بحيث تتحقق في الوجود، بينما نجد أن الفكر، على الرغم من أنه يطور نفسه في سلسلة، فإنه مع ذلك قد لا يتحقق. ومن ناحية أخرى نجد أن الفكرة في حالة الإرادة لا بد أن تحتوي على توقع للنتيجة، بينما نجد في حالة الفكر أن النتيجة ليست متوقعة، وإذا أردنا أن نضرب مثلا على ذلك، فلنأخذ «جمهورية أفلاطون»، لنجد أنها فكرة وليست إرادة. صحيح أن الفكرة فيها تتطور، لكنها لا تتحقق، وحتى لو أنها تحققت عن طريق شخص ما، أو عن طريق «أفلاطون» نفسه، لما كانت إرادة أيضا؛ لأنها لا تكون إرادة إلا إذا تحققت الفكرة وجاء تحققها هذا من داخل مضمونها نفسه، بحيث تحقق وجودها الخاص.
وفضلا عن ذلك فإن الفكرة المنتبه إليها في حالة الإرادة، لا بد أن تكون فكرة تغير ينصب على الوجود، بينما الفكرة في حالة التفكير قد تكون انعكاسا للوجود، كما هو بالفعل، أو كما ينبغي أن يكون. و«الحقيقة» هي الفهم العقلي لنظام الكون، بينما الفضيلة هي وضع الكون في نظام عقلي، والإرادة - بهذا المعنى - تعتمد على الفكر، فالفكر يكون المثل الأعلى، والإرادة تحققه ... فلا يمكن أن يكون ثمة فعل من أفعال الإرادة بغير فكرة تسبقه؛ والأفكار بالطبع لها طبيعة الفكر. والنظرية التي تقول إن المعرفة والإرادة شيء واحد، لا يمكن أن تفهم إلا مع بعض التحفظات؛ فأولا: الإرادة تتضمن المعرفة، لكن المعرفة لا تتضمن الإرادة، بالمعنى الذي شرحنا فيه كلمة الإرادة في هذا الفصل. صحيح أن المعرفة تتضمن إثباتات، وكل إثبات فعل، لكن ليس كل فعل مثلا للإرادة. لقد قلنا إن الفعل هو الأساس في كل واقعة سيكولوجية، لأن الانتباه صورة من صور الفعل، لكن الفعل لا يصبح فعلا إراديا إلا إذا اتسم الموقف بالخصائص التي سبق أن ذكرناها. وأي موقف يمكن معرفته معرفة جيدة إذا ما وجد الفكر لا الإرادة. والعبقرية العقلية لا تتناقض مع انحطاط الحياة الأخلاقية، لكن العكس غير صحيح، أعني أن الامتياز الأخلاقي العظيم يتضمن بالضرورة بصيرة عقلية عليا. وكثيرا ما يقال - في معرض الاعتراض على ذلك - إن القديس قد لا يكون ممتازا من الناحية العقلية، فهو لا يحتاج إلى عبقرية عالم الرياضة أو الفيلسوف، لكن ذلك لا يبرهن إلا على أن الامتياز العملي في مجال معين، لا يتضمن بالضرورة القدرة العقلية اللازمة لمجال آخر. ولسنا نزعم أن الخير العملي، أو السمو الخلقي، يتضمن القدرة الرياضية، وإنما نقول فحسب إن الفضيلة تتضمن، في كل حالة من الحالات، درجة معينة من البصيرة لها طابع المعرفة، على الرغم من أنها؛ لا هي نظرية، ولا هي علمية، وما لم تكن الفضيلة محصلة هذه البصيرة، فسوف تكون أمرا من أمور المصادفة والاتفاق، وسوف يكون من الممكن أن يرتكب الفاعل الشر بدلا من أن يفعل الخير، دون أدنى فارق في موقفه الأخلاقي.
وهناك ثانيا: قصور آخر في النظرية العقلية للإرادة؛ هو أنه حتى إذا كان الارتباط ضروريا بين المعرفة والإرادة، فإن ذلك لا يعني أنهما متحدان في هوية واحدة: فالنزوع ليس هو المعرفة، على الرغم من أنهما قد يرتبطان برباط لا يتغير، والعلاقة بين المعرفة والإرادة هي علاقة التواجد معا، لكنها ليست علاقة الهوية.
وهناك ثالثا: فارق آخر بين المعرفة والإرادة؛ فالفاعل - في حالة الإرادة - يوجد نفسه مع البديل الذي يختاره، بينما نجده لا يفعل ذلك في حالة المعرفة؛ ذلك لأن هناك في حالة الإرادة والمعرفة معا قرارا للاختيار بين بدائل. وأنا أختار في حالة الإرادة خطا معينا للفعل وأستبعد الآخر، وأنا في حالة المعرفة. ذلك لأن هناك في حالة الإرادة والمعرفة معا قرارا للاختيار بين بدائل. أنا أختار في حالة الإرادة خطا معينا للفعل وأستبعد الآخر، وأنا في حالة المعرفة إما أن أثبت أو أنفي اتصافا موضوعيا ما بصفات معينة، لكني في حالة الإرادة أختار «أ» وأستبعد «ب» لأني أوجد نفسي مع أحدهما وأستبعد الآخر؛ ذلك لأنني أجد أن «أ» تعبر عن شخصيتي في لحظة السلوك أفضل من «ب». يقول ريبو
Ribot : «إننا إذن نتفق تماما مع أولئك الذين ينكرون تفسير الإرادة بسيطرة دافع من الدوافع فحسب ... فهذا الدافع لا تكون له فاعلية إلا حين نختاره، أعني حين يصبح جزءا متكاملا مع المجموع الكلي للحالات التي تتألف منها الذات في لحظة في اللحظات ... بحيث يكون معها شيئا واحدا.»
24
ومن ناحية أخرى، فإنني حين أصدر حكما على قضية من القضايا، أظل محايدا لكل من البديلين، ولأن أحدهما لا يعبر عن شخصيتي الفردية أكثر من الآخر، فالحقيقة هي وحدها التي تفرض نفسها علي في هذه الحالة، بحيث لا يكون لي دخل حقيقي في الموضوع. قل لي ما هي الأفعال الإرادية التي حققتها طوال حياتك، وأنا أستطيع - يقينا - أن أقول لك أي نمط من الناس أنت. لكنك لو ذكرت لي ما أصدرته من أحكام طوال حياتك لكان من الصعب علي أن أغوص في شخصيتك لكي أكشف عن الجوانب الخبيئة منها. ومن هنا فإن حياة القديس تكشف عن الفرد أكثر مما تكشف عنه نظريات عالم الرياضة. ففي استطاعتك أن تعرف من خلال دراستك لنسق رياضي إلى أي حد أصاب عالم الرياضة أو أخطأ في هذا النسق، لكنك لن تستطيع أبدا أن تعرف هل كان خيرا أم شرا.
الإرادة هي إذن الانتباه إلى فكرة التغير حتى يظهر التغير المطلوب فعلا إلى الوجود بنشاط الفاعل المنتبه إلى الفكرة، وبشرط أن يشعر الفاعل أن ذاته قد تحققت في هذا الفعل: لكن ما الذي يجعل الفرد ينتبه إلى هذه الفكرة؟ لقد بينا في الفصل السابق أن الفاعل السيكوفيزيقي يكون نشطا إيجابيا في حالة الانتباه، وهو حين يأخذ بهذه الفكرة أو تلك، إنما ينتقي ويختار، وهذا الاختيار تحدده طبيعته الخاصة. والتمسنا في الخبرة تأييدا لهذه النظرية، وسوف نقدم في الفصول الثلاثة القادمة مزيدا من الدعم والتأييد، ونحاول أن نبين أن النظرية المعارضة - وأعني بها المذهب الجبري - لا تقوم على أساس متين.
Page inconnue